خواطر من الكون المجاور.. 13

خواطر من الكون المجاور..

الخاطرة 13 : أحداث من الكون المجاور 2

ز.سانا

في المقالة السابقة ذكرت أحداثا تبدو للوهلة اﻷولى وكأنها من سيناريو لفيلم سينمائي ولكن كونها أحداث واقعية حقيقية فهي تبدو أشبه بمعجزة صغيرة ، صغيرة جدا ﻷن حدوثها يتطلب تدخل قوانين روحية لا يؤمن علماء العصر الحديث بوجودها، ولكن كون هذه اﻷحداث حقيقية ويمكن التأكد من حقيقتها هذا يعني أن هذه القوانين التي تتحكم في مجرى اﻷحداث هي قوانين موجودة سواء شاء علماء العصر الحديث أم أبوا ، واﻵن في هذه المقالة سأتابع ذكر أحداث أخرى لها شكل معجزة صغيرة، لأؤكد على أن هذه القوانين موجودة وتتحكم في مجرى تطور اﻹنسان والكون بأكمله.

وأطلب من القارئ أن يتمعن جيدا في عناصر اﻷحداث. فحدوث معجزة ليس إلا عبارة عن إتحادات بين عناصر مختلفة كما يحدث تماما في اﻹتحادات الفيزيائية أو الكيمائية والتي ينتج عنها مركبات جديدة، ولكن هنا العناصر المتحدة هي أشياء روحية قد تكون أسماء أو معاني أو أرقام أو ألوان أو ...إلخ، وما ينتج عنها يمكن اﻹحساس به بشكل أقوى من الإحساسات المادية فقد تغير مجرى حياة إنسان أو مجتمع أو دولة أو الكرة اﻷرضية أو ربما الكون بأكمله!

بعد تخرجي من كلية الزراعة وبينما كان اﻵخرين يبحثون عن واسطة تساعدهم في تمضية الخدمة اﻹلزامية العسكرية في مكان مريح وقريب من مكان سكنهم ، كنت أنا أبحث عن عمل أمضي تلك اﻷسابيع الباقية حتى موعد الخدمة العسكرية ﻷجمع مبلغا من المال يساعدني في مصاريف الخدمة اﻹلزامية ، والحمد لله وجدت عملا في إحدى المحلات التي تتعامل مع صوت آسيا لبيع اشرطة التسجيل وكاسيتات الفيديو، ويبدو أن ما حدث مع صديقي عبد النور وكذلك مع الملازم أول يعقوب عندما شاهداني ﻷول مرة، حدث مع صاحب المحل أيضا ولكن بطريقة أخرى، فمن العادة أن صاحب المحل كان يخشى من أن يسرقه الموظف الجديد ﻷن عملية السرقة هنا سهلة جدا فأثناء غياب صاحب المحل قد يبيع الموظف مثلا 10 كاسيتات ويدعي أنه باع فقط 9 ويضع في جيبه قيمة الكاسيت العاشر المباع دون أن يستطيع صاحب المحل أن يشعر بهذه السرقة. لذلك كان عادة لا يترك الموظف وحده في المحل. ولكن اﻷمر معي كان بالعكس تماما. فكان كلما تركني لوحدي كان عند عودته يرى الخزنة مليئة بالفلوس بسبب كثرة المبيعات التي تحدث أثناء غيابه ، والغريب في اﻷمر أنه أثناء وجوده هو في المحل كان وضع البيع يعود على ما كان عليه في السابق. لذلك كان يعتبر عملي عنده قد جلب الخير على المحل ، وفي كثيرا من اﻷحيان كان يغيب عن المحل بشكل متقصد لتزداد نسبة المبيعات، وكان دوما يأتي ويرى الخزنة مليئة بالفلوس حتى أنه إقتنع تماما بان وجودي بمفردي في المحل يجلب الحظ ويزيد نسبة الربح، وهذا طبعا ما جعله يثق بي ثقة عمياء في كل شيء فكان يتركني أثناء وجوده أيضا أتصرف مع الزبائن وكأنني أنا صاحب المحل فقد رأى أن جميع الزبائن كانوا يثقون بي ويحترموني وكثير منهم قد أصبحوا وكأنهم أصدقائي.

وهكذا مرت الأسابيع بسرعة وجاء موعد الخدمة اﻹلزامية ، فذهبت إلى مركز التجنيد لأستعلم منهم عن الكلية الحربية التي سأقضي فيها القسم اﻷول من الخدمة اﻹلزامية وطبعا رغم أني كنت راضيا بكل ما يكتبه الله لي ولكن شيئا من الشعور بالقلق كان ينتابني بين فترة وأخرى ، والسبب هو وجود ذلك التناقض الكبير بين نوعية الهدف اﻷكبر في حياتي ( تحقيق السلام) ونوعية هذه الخدمة (تعلم إستخدام اﻷسلحة الحربية ) التي أنا مجبر على خدمتها.

اﻹنسان المؤمن أو بمعنى آخر اﻹنسان الراقي أو الحضاري هو اﻹنسان الذي يشعر بأن الحياة ليست هو فقط ولكن اﻹنسانية بأكملها وكذلك بأنها ليست لحظة أو ساعة أو يوم أو شهر أو سنة ولكنها أبدية لذلك فهو يتقبل الأمور والظروف التي يمر فيها بصدر رحب مهما كانت قساوتها ويتوكل على الله ويفعل ما عليه ويحاول تجاوزها بصبر وثقة تامة بروح الله. أما اﻹنسان الذي يشتم ويلعن حظه التعس كلما مر به ظرف قاسي، فهذا التصرف لا يدل سوى على إنخفاض في مستوى اﻹدراك الروحي والذي يجعل من اﻹنسان شخصية أنانية لا يفكر سوى بمصلحته الشخصية وبمتعة اللحظة التي سيعيشها، وشخص كهذا عادة هو أكثر الناس تقبلا للرشوة سواء كراشي أو مرتشي. ومثل هؤلاء هم أساس كل دمار يحدث في المجتمع ﻷن الرشوة وإستخدام الواسطة لتأمين المصالح الشخصية يعتبر نوع من عرقلة التدخل اﻹلهي لمنع تكوين مجتمع متوازن ومتناسق يعتمد على القانون الذي يقول ( الشيء المناسب في المكان المناسب) . لذلك كان من أهم مبادئ حياتي هو اﻹبتعاد عن تقبل إي نوع من إستخدام الرشاوي أوالبحث عن واسطات تساعدني في تدبير مصالحي بطريقة غير مشروعة، فكنت أتقبل الظروف مهما كانت قساوتها بصدر رحب وبقناعة كاملة بأنها إبتلاء من الله عز وجل من أجل خير الجميع وعلى هذه القناعة كنت أتابع حياتي.

بعد عودتي من شعبة التجنيد و بمجرد دخولي البيت بدأوا أهلي يسألونني بقلق عن مكان خدمتي العسكرية، فطلبت منهم أن يأتوا معي وخرجت من البيت متجها إلى سطح البناية فإستغرب اﻷهل ولكن طلبت منهم ثانية أن يتبعوني. وفي السطح سألتهم عن أقرب جامع من بيتنا فأشارت أمي إلى أقرب جامع فقلت لهم هناك سأخدم الدورة العسكرية، فسألتني بإستغراب عما سأفعل في الجامع، فأخبرتها بأن أمام الجامع يوجد كلية حربية إختصاصها الشؤون الإدارية . وأنه في هذه الكلية سأعمل القسم اﻷول من الخدمة العسكرية.

كانت فرحة اﻷهل لا توصف ليس فقط ﻷنني سأخدم العسكرية في هذه المنطقة التي لا تبعد عن بيتنا أكثر من ربع ساعة مشيا على اﻷقدام ولكن كان سبب فرحتهم أيضا هو تأكيد القدر على أن إبنهم فعلا محظوظ ومعنى هذه الصفة كان بالنسبة لهم أن إبنهم كان في حماية ورعاية الله نفسه. هذا الشعور كان أيضا ما يشعر به فؤادي في تلك اﻷيام ، فإختيار القدر هذه الكلية الحربية بالذات ﻷخدم فيها لم يكن فقط ﻷنها قريبة من بيتي ولكن ﻷنها أيضا كانت كلية الشؤون الإدارية والنقل، فهي كإختصاص لا علاقة له بالتدريب على اﻷسلحة الحربية المستخدمة كالمدفعية أو الدبابات والمدرعات. .الخ ولكن كانت شؤون إدارية مناسبة تماما لإنسان مثلي يؤمن تماما بأن إستخدام السلاح والمشاركة في المعارك و الحروب في عصرنا الحاضر لا يمكن أن يجلب إلا الدمار المادي والروحي ﻷهل البلد المشارك في هذه الحروب.

في اﻷيام اﻷولى من وجودي في الكلية الحربية وعندما علم الطلاب اﻵخرين أن بيتي يقع على بعد دقائق سيرا على اﻷقدام من الكلية الحربية. راح الجميع يسألني عن الواسطة وعن تكلفتها. فلم يصدق أحد أن وجودي في هذه الكلية كان مسألة حظ، وخاصة أولئك الذين يقيمون في نفس المدينة فجميعهم كما أعلموني كانوا قد دفعوا مبلغا كبيرا من المال حتى إستطاعوا الحصول على مكان في هذه الكلية. وهكذا إنتشر بين الزملاء هذه المعلومة بأن بيتي على بعد أمتار قليلة من الكلية فظن الجميع أنني شخص مدعوم، مدعوم جدا.

وحدث ذات يوم ان أجلس مع بعض الزملاء في ساحة الكلية وبينما كان الزملاء يتحدثون في مواضيع مختلفة سرح فكري في منظر الساحة كان على جانبها الخلفي مساحة كبيرة ترابية ويبدوا أنها كانت مهيئة لتتحول إلى حديقة خضراء فعلى بعد كل عدة أمتار كان يوجد تلة من التراب اﻷحمر الذي أتوا به من مكان بعيد لهذا الغرض ولكن لسبب ما توقف العمل وبقي كل شيء على ما هو ومع مرور الزمن بدأت اﻷعشاب البرية تنموا بشكل عشوائي في أماكن مختلفة ومع جفافها وإصفرارها أصبح شكل الساحة وكأنها منطقة مهجورة يجعلك تشعر وكأنها خالية من الروح فرغم وجود حركة الطلاب فيها ولكن لون لباسهم الفضي أيضا جعل ذلك اﻹحساس بغياب الروح أقوى.

وبينما كنت سارحا في شكل هذه الساحة الكئيب ،فجأة بدأ آذان العصر من الجامع القريب وسمعت عبارة (....حي على الفلاح...) فلاح من الفلاحة إي إصلاح أراضي البور وتحويلها إلى أرض زراعية تنتج محاصيل مفيدة للإنسان، وتذكرت فجأة أنه عندما كنت في كلية الزراعة بالإضافة إلى الملازم أول يعقوب الذي رفع مكانتي بين طلاب كلية الزراعة كانت هناك أيضا معيدة في الدرس العملي لمادة اصلاح اﻷراضي ،فهي أيضا عندما رأتني ﻷول المرة شعرت بما شعر به الملازم أول يعقوب لذلك راحت هي أيضا ورفعت مكانتي بين الطلاب فكانت تمزح معي بإستمرار وكاني أخوها الصغير المدلل. وكانت عند بداية كل درس وبمجرد دخولها الصف تبدأ بالبحث عني فإذا كان مكاني بعيدا عنها كانت تطلب مني ان أتقدم إلى المقاعد اﻷولى ﻷكون قريبا منها فتستطيع التواصل معي، وكان معروفا عند طلاب الصف أن وجودي في الصف كان يبعث البهجة في روح هذه المعيدة ويجعل طريقة إلقائها للدرس ممتعة حيث تمر الدقائق وكأنها ثواني ،أما أثناء غيابي فكانت اﻷمور تنقلب رأسا على عقب فتختفي البسمة من شفتيها وتتوقف عن المزاح وتتحول إلى إمرأة أخرى إمرأة خالية من الروح لا تنطق بكلمة واحدة خارج معلومات الدرس ويتحول مناخ الصف إلى مناخ مليء بالجفاء والكآبة والثواني تمر وكأنها ساعات. لذلك كان طلاب الصف دوما يلحون علي ألا أغيب عن درس هذه المعيدة ﻷن غيابي كان يجعل الدرس لا يطاق.

سلوك هذه المعيدة التي كانت مسؤولة عن تدريس القسم العملي لمادة إصلاح اﻷراضي والتي جعلتني أشعر وكأنني روح الصف بأكمله ، كان بالنسبة لي بمثابة إشارة من الله عز وجل أن واجبي هو تحويل هذه المنطقة الترابية في الكلية الحربية إلى حديقة خضراء تنعش روح طلاب لتجعلها تشعر من خلال رؤية النباتات الخضراء وألوان الزهور اﻷخرى أنه هناك عاطفة تدعى عاطفة السلام تعارض غريزة العنف والقتل التي يتم تقويتها في مثل هذه اﻷماكن العسكرية ، وأن هذه العاطفة - عاطفة السلام - هي التي حولت الكرة اﻷرضية من كتلة ملتهبة إلى كتلة معتدلة بمناخها لتسمح بظهور الحياة وتساعد الكائنات الحية في النمو والتطور لتصل إلى ما عليه اﻵن.

في صباح اليوم التالي وبمجرد إنتهاء إجتماع تحية العلم أخبرت عريف الصف بأنني لن أذهب معهم لحضور الدروس ﻷنه لدي مهمة زراعة الحديقة.فسألني من أعطاني هذه المهمة فأشرت له إلى اﻷعلى وقلت له (من فوق) .لا أدري ماذا فهم من هذه اﻹشارة وهذه العبارة وكل الذي فعل هو أن يهز رأسه ويعطي إيعازات ليتوجه الطلاب نحو قاعة التدريس والتي كانت من الجهة الخلفية للكلية.

مباشرة ذهبت إلى مكتب الخدمات وأخبرت المساعد اﻷول المسؤول هناك بأنني مهندس زراعي وعندي مهمة بزراعة الحديقة وطلبت منه أن يريني كل ما لديه من أدوات تساعد في هذه المهمة، فأخذت عربة ومجرفة وقزمة ومقص أعشاب وعدت إلى الحديقة وبدأت بالعمل ورحت أقوم بتوزيع التربة وتسويتها لتكون صالحة للزراعة.

وبينما كنت منهمكا في عملي رأيت النقيب المسؤول عن الطلاب الجامعيين يأتي من بعيد بإتجاهي، عرفت أنه قد ذهب إلى صفي ليرى كيف تسير اﻷمور كما كان يفعل كل صباح وأنه علم بغيابي ويبدو من طريقة مشيته وهو قادم نحوي ان ذلك قد أزعجه ﻷنني لم أطلب إذنه ولم أخبره بشيء عن هذه المهمة. تابعت عملي وكأن كل شيء على مايرام وراح فكري يبحث بسرعة الصاروخ عن حجة أقدمها له لأبرر له موقفي وسبب إستلامي مهمة زراعة الحديقة بدل حضور دروس الصف. ولكن كان عقلي في تلك اللحظات وكأنه قد توقف عن العمل فشعوري أن النقيب يقترب أكثر فأكثر وأنه خلال ثواني سيكون بقربي وسيسألني بملامح وجهه الصارمة (من الذي أعطاك هذه المهمة لتتوقف عن حضور الدروس مثل بقية الطلاب؟). طبعا لم يكن بإستطاعتي أن أشرح له العمق الروحي للسبب الحقيقي الذي دفعني لهذا التصرف ،ولكن أيضا فإن ذكر السبب بشكل سطحي سيجعله يظن بأنني طالب كسول أناني يريد أن يضيع وقته بالتسلية واللعب بدلا من حضور الدروس والتعلم. هذا سيكون رأيه عني بشكل مؤكد لذلك فذكر السبب الحقيقي بشكل سطحي كان أمر مرفوض و وجب علي أن أبحث عن مبرر آخر، ولكن عقلي في تلك اللحظات كان عاجزا عن إيجاد حل لهذه المشكلة. ورأيت نفسي بدلا من البحث عن مبرر أن أسلم أمري لله أفضل لتسير اﻷمور على مشيئته فإذا كان تفكيري بما خططت له صحيح فالله سيساعدني في تحقيقه حتى ولو عارض الجميع وأما إذا كان تفكيري فقط عبارة عن سيناريو من تأليفي لتحقيق شيئا ما في داخلي لا أعلم ما هو عندها سأعود ثانية إلى مقعد الصف بعد معاقبتي ربما بكم يوم سجن.

وفجأة وبدلا من أسمع صوت النقيب وهو يعاتبني كما كنت أتصور، سمعت صوتا آخر بنبرة لطيفة (صباح الخير) إلتفتٌ خلفي فرأيت اللواء مدير الكلية ومعه شخص آخر لا أعرفه برتبة عميد. توقفت مباشرة عن العمل وقدمت له التحية العسكرية، ويبدو أن طريقة تسوية التربة بشكل مائل قد جذبت إهتمامه فسألني عن سبب هذه الطريقة ،فأخبرته بأن هذه الطريقة ستساعد على زيادة المساحة الخضراء في نظر المشاهد ورحت أشرح له بأنه إذا كان مستوى إرتفاع التربة واحد وبسبب وجود سور حجري بإرتفاع نصف متر ، فإن المشاهد القريب من الحديقة هو فقط الذي سيرى مرجها اﻷخضر بينما عندما يكون إرتفاع التربة في الخلف أعلى من إرتفاعها في اﻷمام فإن السطح اﻷخضر المائل للحديقة يمكن رؤيته من جميع نقاط الساحة مهما كان المشاهد بعيدا عن الحديقة. وتابعت كلامي مع اللواء والعميد شارحا لهما بعض اﻷشياء عن أماكن توضع الزهور وأنواعها وتنسيقها ووصفت لهما الشكل العام الذي ستأخذه الحديقة بعد إنتهاء العمل بها. ويبدوا أن شكلها كما وصفته كان يختلف كثيرا عن الشكل الذي كان يتصوره اللواء في كل صباح وهو يرى التربة الحمراء تتحول إلى حديقة. فهز رأسه وقال للعميد ( لا يكفي أن يكون اﻹنسان لديه معرفة علمية بالزراعة ولكن يحتاج أيضا نظرة فنية لتأخذ الحديقة شكلا جميلا) ثم هنأني بهذه النظرة الفنية وطلب مني أن أتابع عملي وإذا إحتجت ﻷي شيء أن أخبره ليقدم لي كل المعونات. ثم إبتعد هو العميد وراح يتابع سيره ذهابا وإيابا في الساحة كعادته في كل صباح.

بالنسبة للنقيب فبمجرد أن رأى اللواء يقترب مني ويتحدث معي غير جهة سيره ودخل مكتب أحد الضباط وغاب هناك. وبعد قليل وبدون أن أشعر بقدومه رأيته واقفا بقربي ينظر ما أفعله فتوقفت عن العمل وقدمت له التحية فهز رأسه وكأنه يطلب مني أن أستمر بعملي وبعد لحظات تركني وعاد إلى إلى مكتبه.

سبحان الله كيف إنقلبت اﻷمور هكذا رأسا على عقب؟ وكيف كان شعوري بالضعف وأنا أبحث عن مبرر أستطيع به إقناع النقيب بضرورة زراعة الحديقة عندما رأيته يأتي نحوي ، وكيف في ثوان قليلة من حيث لا يدري اﻹنسان أتى الحل لهذه المشكلة بشكل أفضل من أي مبرر يمكن أن يفكر به أذكى عقل على سطح اﻷرض. فكل توقعاتي لذلك الموقف وأنا أتخيل النقيب وهو يسألني ولساني قد أصابه الشلل أمامه، كانت مجرد وهم، فبدلا أن يصاب لساني بالشلل أمام رتبة نقيب رأيت لساني يأخذ مجده أمام رتبة لواء فرحت أشرح له عن الحديقة وكأنني أشرح لوحة فنية بحيث دفعه هذا الشرح إلى تقديم قوته كلواء مدير الكلية في مساعدتي للإستمرار بمتابعة عملي، بينما النقيب نفسه وأمام هذه القوة التي رأها فيني فجأة شعر هو بشلل في لسانه لذلك كل الذي إستطاع أن يفعله هو أن ينظر إلي صامتا ثم يذهب وكأنه لا علاقة له أبدا بما أفعله .

منذ تلك اللحظة أصبح عملي في الحديقة وكأنه مهمة رسمية بأمر من مدير الكلية نفسه. وبما أن الجميع كان يعلم أن بيتي يقع على بعد بضع دقائق من الكلية أصبحت مكانتي بالنسبة للجميع مثلما كانت تماما مع الملازم أول يعقوب، الطالب المدلل في الكلية والذي له صلاحيات أن يفعل كل ما يحلو له. وفعلا فبعد تسوية تربة الحديقة طلبت من مدير الكلية مبلغ من ميزانية الكلية لشراء بذور المرج اﻷخضر ونباتات الزينة الضرورية للحديقة،فذهبت مع مساعد المسؤول عن الخدمات العامة وإشترينا كل ما نحتاجه. وبدأت بزراعة الحديقة وأصبح شكل المنطقة شيئا فشيء يأخذ شكل حديقة لها ديكور جميل ومتناسق ، ومن اﻷيام اﻷولى من إستلامي العمل في الحديقة جعلت الجميع يعلم بأن وجودي في هذه الكلية سيكون فقط في تنسيق الحديقة وكأنني أنتمي مباشرة إلى إدارة الكلية وليس إلى قسم الطلاب المجندين. هذا اﻹحساس إنتقل ليس بين الطلاب ولكن إلى الضباط المسؤولين أيضا.لذلك كنت بعد إنتهاء دوام الضباط اليومي ظهرا أترك العمل في الحديقة وأعود إلى البيت كما يفعل بقية الضباط والموظفين الذين يعملون فيها، وعندما علم صاحب المحل الذي كنت أعمل لديه أنني أعود إلى البيت يوميا ألح علي أن أتابع العمل في محله بعد الظهر .وهكذا حصل ،فبينما كان زملائي الطلاب يتابعون الدروس صباحا والتمارين الرياضية عصرا، كنت أنا أعمل صباحا في حديقة الكلية ومن بعد الظهر أتابع عملي في محل صوت آسيا.

أصدقائي في الحي والذين كانوا يعلمون حقيقة ما يحصل، كانوا ينظرون إلي ليس فقط كإنسان له حظ عظيم ولكن أيضا كإنسان له عقل داهية ،إستطاع أن يسير أمور الكلية الحربية من أولها إلى آخرها كما يريد ، ولكن اﻷمور لم تكن هكذا بمثل هذه النظرة السطحية فما حدث في تلك الفترة لم يكن إلا كلمات إلهية تشرح ما يجب أن أبحث فيه لكي يكون الله معي وليسخر لي ما أحتاجه في هذه الطريق، فمعركتي في هذه الحياة لم تكن إلا إصلاح ما أفسده علماء العصر الحديث الذين حولوا اﻹنسانية إلى كتلة بدون روح تتألف من شق حيواني يعشق العنف والقتل ( اللون اﻷحمر ) لذلك كان مهمتي في الكلية الحربية هي تقوية الشق النباتي (اللون اﻷخضر ) والذي يحول غاز أوكسيد الكربون في السماء (الدخان اﻷسود) إلى غاز اﻷوكسجين الذي يعطي السماء لونها اﻷزرق. وجميع هذه التغييرات لا يمكن أن تحصل إلا بتحويل القاعدة الثقافية من مادية (صوت أوربا) إلى قاعدة علمية روحية (صوت آسيا)، فقدومي إلى هذه الكلية بالذات (الشؤون اﻹدارية والنقل) وليكون إختصاصي ( نقل ) لم يكن صدفة ولكن إشارة لعملية النقل التي يجب أن تحدث في نوعية القاعدة الثقافية التي تسيطر على المنهج العلمي المستخدم في دور التعليم لتستطيع اﻹنسانية أن تنتهي من عصر اﻹنحطاط الذي تعيشه وتنتقل إلى حضارة جديدة . لذلك سخر الله كل شيء في الكلية من أجل أن تسير اﻷمور على هذا المجرى. و أعتقد أن حتى وجودي في هذه الكلية بالذات لم تكن مسألة حظ ولكن مكافأة لي ﻷني كنت الطالب اﻷول في مادة التدريب العسكري ولجميع السنوات في كلية الزراعة، وهذا يعني أن سبب وجودي في هذه الكلية الحربية لم يكن حظ ولكن سببه كان الملازم أول يعقوب الذي إختارني ﻷكون عريف الصف ،وهذا يعني أن السبب أﻷسبق هو صديقي عبد النور ﻷنه بتعليقاته المرحة هو الذي لفت إنتباه الملازم يعقوب بوجودي.وإذا تابعنا الخيط إلى السبب اﻹسبق من زميلي عبد النور وإستمرينا هكذا سنجد أن كل شيء في هذا العالم مرتبط بعضه ببعض بشكل متناهي في التناسق بحيث يجعل الكون بأكمله يسير على خطة متناهية في الدقة.

ما حدث في الستة أشهر التي قضيتها في كلية الشؤون اﻹدارية من أحداث يحتاج ذكرها وشرحها إلى صفحات طويلة ، ولكن سأذكر فقط ما يهمنا في موضوعنا هنا ،كان النقيب المسؤول عن قسم الطلاب المجندين دوما عندما يراني يلقي علي نظرة وكأنه يتمنى لو إستطاع إن يعاقبني على هذه الحرية التي سمحت لي أن أفعل ما أشاء دون أن يستطيع هو منعي من أي شيء. لذلك كان كلما رآني من قريب يهز رأسه لي مهددا وقائلا (عندما تأتي اﻹمتحانات سأرى من سيكتب عنك اﻷجوبة....لن أساعدك ولا في علامة واحدة وسأرى إن كانت هذه الحديقة ستساعدك في النجاح في الفحص لتستطيع وضع نجمة ضابط على كتفك ) . وجاء موعد اﻹمتحانات ورأيته يأتي بنفسه إلى القاعة التي أنا فيها ﻷكون تحت نظره مباشرة ليمنع أي شخص من مساعدتي ،وكان كلما وقع بصره علي هز رأسه وكأنه يقول لي ( اﻵن أريني ما تستطيع واسطتك أن تفعل لك ). بعد نصف ساعة من بدء اﻹمتحان نهضت من مكاني ﻷعطيه ورقة اﻷجوبة فسألني مستغربا (لماذا كل هذه العجلة ؟) فأجبته بأنني إنتهيت من كتابة اﻷجوبة فلم يصدق وأخذ من يدي الورقة وراح يقرأ اﻷجوبة وكانت دهشته أكبر ﻷن اﻷجوبة جميعها تقريبا كانت صحيحة .فسألني من أين أعلم هذه المعلومات فأخبرته أن في كلية الزراعة هناك مادة إسمها ميكانيك آلات زراعية درسنا فيها نفس المعلومات التي تدرس هنا على ميكانيك عربات النقل ،اما المعلومات العسكرية فلنا أربع سنوات ندرسها في مادة التدريب العسكري في الجامعة، فإستغرب وسألني لماذا الطلاب اﻵخرين لم ينتهوا من اﻹجابة طالما أنهم درسوها أيضا في الجامعة،فأجبته (من أين لي أن أعلم. .إسألهم هم) فالتفت إليهم وقال لهم بصوت مليء بالغيظ ( ألا تخجلون من أنفسكم زميلكم لم يحضر درس واحد وإجاب على جميع اﻷسئلة وأنتم لا تزالون تكتبون وتسرقون اﻹجابات من بعض بعضكم البعض) .

في إمتحان الرياضة واللياقة البدنية كانت دهشة النقيب أكبر عندما رأى أن مستوى لياقتي البدنية كانت بدرجة إمتياز، فهو لم يعلم بأنني كنت الطالب اﻷول في فريق الجمباز في المرحلة اﻹبتدائية وكذلك لاعب في فريق كرة القدم في المرحلة اﻹعدادية والثانوية. وعندها علم النقيب بأنني فعلا لم اكن بحاجة لحضور الدروس العسكرية والتمارين الرياضية ﻷن مستواي بها كان أعلى بكثير من مستوى بقية الطلاب.وأن عملي في الحديقة كان أهم بكثير من هذه الدروس .

جميع الطلاب والضباط في هذه الكلية كانوا يتسآلون من هي تلك الواسطة التي كانت ورائي ومدتني بالقوة والجرأة ﻷفعل ما أريده في هذه الكلية دون خوف أو حساب. فما فعلته فيها فعلا لا يمكن ﻷحد أن يصدق أن هذه اﻷمور يمكن أن تحصل في كلية حربية أو حتى في أي قطعة عسكرية أخرى.فمثلا مرة أعطيت نفسي إجازة إسبوعين ﻷن صاحب محل (صوت أسيا) الذي أعمل فيه أراد أن يذهب إجازة لمدة إسبوعين ولم يكن يريد إغلاق المحل صباحا طوال هذه المدة. فطلبت منه أن يذهب ويترك هذا اﻷمر لي.فأعطيت لنفسي إجازة ولم أذهب إلى الكلية الحربية ، وبعد إسبوعين عندما عدت لم يسألني أحد أين كنت ومن هو الذي أعطاني هذه الإجازة، وكأن الله قد حذف وجودي من عقول الضباط والطلاب لمدة إسبوعين.وشيئا آخر أن من يرى كيف كان دوامي في هذه الكلية سيظن أنني كنت موظفا فيها كمهندس زراعي وليس طالبا يدرس فيها ليصبح ضابط.ومع ذلك كنت من الطلاب اﻷوائل، وفي إجازة التخرج منحني مدير الكلية ثلاثة أيام إجازة علاوة على الإجازة الرسمية التي منحت لجميع الطلاب، مكافأة لي لعملي في الحديقة.

قد تبدو أحداث هذه المقالة وكأنها أحداث بسيطة ويمكن تبرير حدوثها هو إجتماع حسن الحظ والدهاء العقلي في نفس الشخص الذي تدور حوله اﻷحداث، ولكن هذا غير صحيح فمن يدرس بشكل مفصل طريقة ترابط هذه اﻷحداث مع بعضها البعص ومع المبادئ التي يعتمد عليها فكر هذا الشخص ( تحقيق السلام) سيجد أن عناصر اﻷحداث تم ترابطها بحسب قوانين معينة تحمل معنى واحد في داخلها وهو وجود نوع من أنواع التدخل اﻹلهي وراء هذه اﻷحداث.

وهذا ما أحاول إثباته وشرحه بشكل مفصل أكثر. .....يتبع.....