خواطر من الكون المجاور..الخاطرة 107 : تمثال أبو الهول (الجزء 2)

في الجزء اﻷول من مقالة (التعبير الروحي في تمثال أبو الهول ) تحدثنا عن حلم فرعون ( تحتمس الرابع) والذي جعله يزيل الرمال التي غمرت جزءاً كبيرا من تمثال أبو الهول ليحرره كما رأى في حلمه. هذه الحادثة حصلت في عهد العائلة الحاكمة التي تحمل رقم 18 ، علماء التاريخ نظروا إلى هذه الحادثة نظرة سطحية ولم يربطوها مع مضمون المعنى الروحي لتمثال أبو الهول ، فما حصل في تلك الفترة هو أن هذا الحلم لم يكن صدفة كما يعتقد علماء التاريخ ، ﻷن أهم أحداث تاريخ مصر القديمة والتي لعبت الدور اﻷول في تطورها الروحي والمادي كانت نتيجة أحلام رآها حكامها ، فليس من الصدفة أن يوسف عليه السلام أصبح وزيرا ليدير جميع شؤون بلاد مصر وشعبها لكونه إستطاع تفسير حلم حاكم مصر ، فإذا تمعنا جيدا في رموز الحضارة المصرية سنجد أن هذه الفترة الزمنية تمثل فترة الرضاعة في تاريخ اﻹنسانية لذلك تحمل هذه الحضارة طريقة تعبيرية تختلف كثيرا عن الحضارات التي أتت بعدها ، فالطفل الرضيع له طريقته الخاصة في التعبير ، هذه الطريقة في التعبير عند الطفل الرضيع لم تأتي من تقليد أحد ولكن هي من عند الله مباشرة ، لذلك الحضارة المصرية تبدو وكأنها ظهرت فجأة من اللاشيء بدون أية سوابق. لذلك كانت أيضا مليئة باﻷلغاز التي عجز علماء التاريخ واﻵثار من تفسيرها ، ولكن من يفهم طبيعة التكوين الروحي للطفل الرضيع سيجد أن طريقة التعبير الروحي عنده مشابهة كثيرا لطريقة التعبير التي إستخدمها كبار حكماء وفنانين مصر القديمة.

حلم الفرعون تحتمس الرابع كان عبارة عن علامة لها معنى عودة سيطرة روح الخير مرة ثانية على اﻷمور في مصر ، فبعد سنوات قليلة من وفاة هذا الفرعون نجد ظهور حركة ثورية قلبت اﻷمور رأسا على عقب في أحوال بلاد مصر وشعبها حيث تم إلغاء جميع الديانات التقليدية ووضع بدلا منها ديانة توحيدية واحدة معروفة بإسم ( ديانة أتون ) التي إعتمدت على عبادة إله واحد وهو إله النور ( أتون والذي يمثل الشمس ) ، علماء التاريخ يسمون هذه الثورة " ثورة أخناتون " ﻷن الفرعون الحاكم في ذلك الوقت كان اسمه أخناتون ، فحسب إعتقادهم أن أخناتون هذا هو الذي قام بهذه الثورة ، ولكن هذا خطأ ، ﻷن هذا اﻹعتقاد يعتبر نظرة سطحية للأمور،فمن يتابع تطور مضمون اﻷحداث سيجد أن زوجة أخناتون " الملكة نفرتيتي " هي التي كانت وراء هذه الثورة ، فتمثالها الرأسي ( الصورة ) والتي تظهر به بعين واحدة فقط ( العين اليمنى ) هو تعبير روحي يرمز إلى الرؤية الروحية ، فهذه الثورة التوحيدية حدثت بسبب تلك الرؤية الروحية التي تملكها الملكة نفرتيتي ، فهي التي إستغلت نفوذ زوجها الفرعون أخناتون لتقوم بتلك التغييرات الجذرية الروحية في بلاد مصر في فترة حكمها، ومن يتمعن جيدا في الوثائق اﻷثرية التي حصل عليها علماء اﻵثار لتلك الفترة التاريخية التي حكم فيها الفرعون أخناتون سيجد أن مكانة زوجته نفرتيتي كانت عالية جدا حيث تبدو وكأنها هي الحاكمة الحقيقية لبلاد مصر ،فدورها في الحكم يشبه تماما دور يوسف عندما أصبح وزيرا فجميع أمور الدولة كانت تحت سيطرته مثلما تذكر الكتب المقدسة .

كثير من علماء التاريخ الذين درسوا طبيعة ديانة إله النور " أتون " التي أتت بها نفرتيتي لتكون الديانة الرسمية للشعب المصري القديم ، وجدوا أن فيها شبه كبير مع مبادئ الديانة اليهودية ، لذلك كثير منهم يعتقد أن موسى عليه السلام كان من أتباع هذه الديانة قبل خروجه من مصر.

ما نريد قوله بعد هذه التوضيحات هو أن الملكة نفرتيتي هي التي كانت تمثل رأس أبو الهول ( الحكمة ) ، فقوم موسى مع خروجهم من مصر حملوا معهم هذا القسم من تمثال أبو الهول ، والذي رمزه ( العين اليمنى ) أي البصيرة ، تلك الرؤية التي ترى روح اﻷشياء واﻷحداث ، والتي على مبادئها كتبت الكتب المقدسة.

قد يعتقد الكثير بأن هذه اﻷدلة لا تكفي على إعتبار أن نفرتيتي هي رمز رأس أبو الهول. ولكن إذا نظرنا إلى تطور اﻹنسانية بأكملها كرواية واحدة سنجد أن الحكمة اﻹلهية في الخلق تركت علامات تؤكد على صحة هذه الفكرة ، فكما ذكرنا في الجزء اﻷول أن القسم اﻷسفل ﻷبو الهول ( اﻷسد ) كرمز روحي ذهب إلى الشعب اليوناني القديم ، وكما هو معروف فأشهر شخصية عسكرية عرفها التاريخ هي شخصية إسكندر المقدوني ، والذي تم ذكره في سورة الكهف (ذي القرنين ) كدليل إلهي يوضح لنا علاقة هذا الترابط الذي نتحدث عنه، فوالد إسكندر الملك ( فيلبوس ) كما يظهر من خلال الوثائق التاريخية بأنه كان بعين واحدة فقط ( العين اليسرى ) . وهذا ليس صدفة ولكن دليل إلهي يؤكد على أن القسم المادي من تمثال أبو الهول قد ذهب إلى اليونان ليكون دوره تنمية اﻹدراك المادي لتصبح شعوب القارة اﻷوربية مسؤولة عن تحقيق التطور المادي للإنسانية.

كما ذكرنا في مقالات سابقة بأن عين الروح المسؤولة عن اﻹدراك الروحي ( رمزها العين اليمنى ) هي رمز عين المرأة ، وعين المادة المسؤولة عن اﻹدراك المادي ( رمزها العين اليسرى ) هي رمز عين الرجل. وكما ذكرنا في مقالات ماضية أن الشكل ( Λ ) هو رمز المرأة ، فظهور هذا الشكل في مصر على شكل هرم ﻷول مرة في تاريخ اﻹنسانية ، كان علامة إلهية تنبئ عن وصول اﻹدراك الروحي إلى تلك المرحلة المطلوبة في الملكة نفرتيتي لينفصل عن اﻹدراك المادي وليذهب إلى آسيا مع قوم موسى لتكون الديانة اليهودية بكتبها المقدسة بداية لمرحلة روحية جديدة في آسيا وليتطور هناك على مراحل ، حيث مع ظهور الدين اﻹسلامي كآخر ديانة سماوية ، والذي كانت نتيجته الحضارة اﻹسلامية التي أخذت العلوم الغربية وأضافت عليها الطابع الروحي لتعود مرة أخرى إلى أوروبا بفضل الفيلسوف العربي إبن رشد والذي كانت جميع آراءه تعتمد فكرة أن الروح تنقسم إلى قسمين : روح فردية وروح عالمية ، الروح العالمية هي فقط الروح الخالدة ﻷنها مرتبطة بالروح اﻹلهية، أما الروح الفردية فهي روح فانية ، فكل إنسان سلوكه يعتمد على تحقيق حاجات الروح الفردية فقط تصبح روحه غير خالدة ، بمعنى أن كل إنسان ينظر إلى تحقيق مصالحه ،أو مصالح شعبه أو دينه فقط ، ويحاول فصل نفسه وشعبه ودينه عن بقية الشعوب والديانات فإن روحه تصبح غير خالدة.

هذا المبدأ الذي يعتبر القاعدة التي بني عليها عصر النهضة الأوروبية ، هو في الحقيقة ليس إلا عبارة عن إعادة توحيد رأس أبو الهول ( رمز اﻹدراك الروحي ) مع جسده (رمز اﻹدراك المادي ) ثانية ليعملا جنبا إلى جنب للوصول إلى اﻹدراك الشامل. هذه النوعية الجديدة من اﻹدراك حاول مؤسسي عصر النهضة اﻹعتماد عليها في أبحاثهم العلمية ، ليطوروا العلوم والفنون بمختلف فروعهم ، فإستطاعت أوروبا أن تبدد ظلمات العصور الوسطى لتبدأ بحضارة جديدة سماها الغرب ( الولادة المجددة ) ولكن العرب أعطته اﻹسم الذي يعبر عن المضمون الحقيقي لهذه الحضارة ( عصر النهضة ) . والمقصود بها هو نهضة القسم السفلي (اﻷسد) من تمثال أبو الهول ، أي تحرير اﻷيدي لتأخذ دورها في اﻷعمال اﻹبداعية التي ستجعل من اﻹنسانية عالم مترابط .

ليوناردو دافينشي الذي يعتبر من أكبر مؤسسي عصر النهضة جميع أعماله ليست إلا توضيح لهذه الفكرة التي شرحناها ، فمن يتمعن في لوحات ليوناردوا دافينشي سيجد أن تعبير اليد واﻷصابع ( صورة ) يأخذ مكانة خاصة في مواضيع لوحاته ، فبهذا الإسلوب الفني يحاول ليوناردو دافينشي أن يعطي لوحاته أحاسيس ومشاعر تعبر عن تحرر المرأة من قيود روح السوء ( الشيطان ) الموجودة في أولئك الرجال الذين لا يريدون من المرأة أن تأخذ دورها الحقيقي في المساعدة لتطوير المجتمع تطوير شاملا يسمح للإنسانية الوصول إلى الكمال الروحي والمادي.

تمثال أبو الهول والذي يرمز - كما ذكرنا - إلى الحكمة والقوة ، والذي تطور بشكل منفصل ، حيث الرأس تطور فظهر على شكل تمثال رأس نفرتيتي، وجسم اﻷسد تطور فظهر على شكل التماثيل اليونانية ، في عصر النهضة نجده يتطور مرة آخر فتمثال رأس نفرتيتي يتحول إلى لوحة موناليزا بإبتسامتها المحيرة ، أما القسم اﻷسفل منه والذي تحول إلى تماثيل يونانية فيأخذ هذه المرة نوعية أخرى من التطور ، فيتحول هنا إلى مجرد إسم فقط وهو إسم الفنان الذي رسم لوحة موناليزا ، فمعنى إسم ليوناردو في اللغة اﻹيطالية يعني ( أسد ) وإسم دافينشي تعني ( النصر ) فليوناردو دافينشي هنا هو نفسه رمز للقسم السفلي من تمثال أبو الهول . فولادة ليوناردو دافينشي الذي صمم هذه اللوحة في إيطاليا لم تكن صدفة ولكن علامة روحية لها معنى اﻹنتصار على تلك الذئبة - كما تقول الأسطورة - التي أرضعت التوأمين رومولوس وريموس اللذان أسسا مدينة روما والتي منها أخذ الشعب اﻹيطالي إسمه المعروف ( الرومان ) ، فشكل خريطة إيطاليا مقلوبة لها شكل ذئبة تعبر عن تلك الذئبة في اﻷسطورة ( الصورة ). حيث ظهور عصر النهصة في إيطاليا وولادة ليوناردو دافينشي هناك ليلعب دور كبير في تنمية هذا العصر ، هو علامة روحية تعبر عن توبة حواء وتصحيحها لتلك الخطيئة التي إرتكبتها وكانت سببا في طرد اﻹنسان من الجنة. لذلك تحول شكل خريطة إيطاليا في فكر الناس من ( ذئبة ) إلى قدم إنسان كما هو معروف اليوم عند معظم الناس. فقدم اﻹنسان هي رمز للعلوم المادية التي تحقق الحاجات المادية للإنسان. فهنا نجد أن إسم ليوناردو دافينشي والذي له معنى ( اﻷسد - النصر ) يعبر تماما عن نوعية التطور في التعبير الروحي لتمثال أبو الهول ، فبدلا من أن يتحول اﻷسد ( القسم السفلي ) إلى كائن مفترس ، كما فعل قابيل الذي قتل أخاه هابيل ، وكذلك كما فعل رمولوس الذي قتل أخاه ريموس كما تذكر اﻹسطورة ، نجد أن ليوناردو يساهم في تطوير الفنون والعلوم ليرفع مكانة المرأة ( الكائن المسالم ) لتأخذ مكانتها في المجتمع لتؤدي دورها في تنمية اﻹدراك الروحي ليسيطر على اﻹدراك المادي ليعملا جنبا إلى جنب في دفع اﻹنسانية نحو الكمال الشامل الروحي والمادي.

منذ بداية عصر الأهرامات وظهور تمثال أبو الهول وحتى نهاية القرن الثامن عشر ، سار تطور اﻹنسانية بشكله الصحيح ، قد يكون بخطوات بطيئة و ربما بطيئة جدا ولكن هذه الخطوات كانت تتم بطريقة تسمح للإنسانية إكتشاف أعماق أسرار تلك الروح اﻹلهية التي تكمن في داخلها لتستطيع التخلص من جميع الشوائب التي دخلتها من روح السوء العالمية والتي سببت في طرد اﻹنسان من الجنة ، ولكن الذي حصل في القرن التاسع عشر هو أن روح السوء في أولئك الرجال الذين لا يريدون من المرأة أن تأخذ دورها في تنمية اﻹدراك الروحي في اﻹنسان إستغلوا لهفة النساء في أن تشعر بأنها قد تحررت من قيود روح السوء ، فاستخدموا أخبث خدعة حيث ساعدوها لتخرج إلى المجتمع ولتذهب إلى المدارس ولكن بشكل يجعل من مساهمة المرأة يؤدي إلى نتيجة عكسية تماما.( للمزيد عن أسباب تدهور اﻹنسانية في العصر الحديث يرجى العودة إلى الخاطرة 28 : خدعة القرن التاسع عشر)

من يبحث اﻵن في نوعية اﻷعمال الفنية واﻷدبية التي تسيطر على كافة نواحي الأنشطة الفنية ، سينما ،أغاني ،موسيقى ،روايات. .. سيجد أن معظمها ليست إلا تعبير روح السوء ( الكائن السفلي ) في اﻹنسان فجميع مواضيعها تعتمد على الجنس والعنف . . ..المجتمعات اﻹنسانية في معظم مناطق العالم مع مرور الزمن بدأت تتحول إلى مجتمعات تسيطر عليها الغرائز الحيوانية حيث لا مكان فيها للمبادئ السامية واﻷخلاق الحميدة. العالم بأكمله يتحول شيء فشيء إلى مجتمعات يحكمها قانون الغاب ( إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب ) ..... جميع الديانات بدلا من أن تنفتح على الديانات اﻷخرى ليحدث بينها تعاون لمواجهة روح السوء العالمية التي أخذت تسيطر على كل كبيرة وصغيرة ، أصبحت هذه الديانات تنغلق على نفسها أكثر فأكثر لتتحول إلى مجرد أفكار سطحية ضررها أكثر من نفعها ..... غياب اﻹدراك الروحي في منهج البحث العلمي حول اﻹيمان بالله إلى إيمان ببغائي لا معنى له فأدى إلى تنمية التعصب اﻷعمى في أتباع هذه الديانات . ... الشعور بروح الله في أعماق اﻹنسان أصبح يختفي منذ الطفولة... الجريمة دخلت عالم اﻷطفال ﻷول مرة في تاريخ البشرية. ..اﻹنسان المعاصر أصبح يرى ما حوله بعين مجرم ( عين قابيل وعين رمولوس إبن الذئبة ) . .. صفات اﻷنبياء السامية واﻷخلاق الحميدة عند اﻷطفال أصبحت تعبر عن الضعف والتمسك بها أصبح يدعو إلى سخرية الجميع. ....نظرية دارون وصلت كشعور روحي إلى أعماق اﻷطفال. ..المجتمع اﻹنساني يتحول بالتدريج إلى مجتمع قردة ...... القوى الخفية (المعجزات ) التي كانت تعبر عن وجود روح الله في اﻹنسان تحولت إلى خرافات وظهرت بدلا منها قوى مادية خارقة (القنابل الذرية واﻷسلحة الفتاكة ) التي بإمكانها أن تسبب فقط الكوارث والدمار..... المشاكل التي تعاني منها المجتمعات الحديثة أصبح مستواها أعلى بكثير من مقدرات عقول البشرية. ... اﻹنسانية وصلت إلى طريق مسدود ﻷنها وصلت إلى القاع. .... النتيجة هي أقوى إثبات علمي. ..اﻹنسان بدون الله لا شيء كل الذي يستطيع أن يفعله هو تدمير نفسه واﻵخرين معه لا أكثر.

للأسف القسم السفلي ( اﻷسد ) في تمثال أبو الهول الذي كان دوره حماية القسم العلوي (الرأس) ليجعل من اﻹنسان كائن خارق ﻷنه يحوي في داخله جزء من روح الله ، تحول اليوم إلى ذئب متوحش يدمر كل شيء حضاري صنعته روح الله. ...ولكن الله موجود وهو يمهل ولا يهمل.

وسوم: العدد 692