الكنـز (4)

الكنـز (4)

(رواية للفتيان والفتيات)

ضرغام فاضل

[email protected]

المكان :بيت عبدالرحمن

الزمان : التاسعة صباحا

وقف متّكئا ًعلى سور لحديقة أحد البيوت,مفتعلاً قراءة الجريدة.. ومن غبائه راح يقلّب صفحاتها الكبيرة من دونما أيّ اهتمام بماتحتويه ..بحيث إن أيّ شخص مهما كان بسيطاً..إذا أراد أن يراقبه فسيكتشف من اللحظة الأولى أنّ من يمسك بهذه الجريدة.. غايته المراقبة أو الانتظار,ليس إلا.كان يتلفّت يمنيناً ويساراً,كمن يبحث عن شيء ما..بعد دقائق قليلة اقترب منه بخطوات سريعة شخص بملابس بعيدة كلّ البعد عن الذوق ,بحيث إن ألوانها غير منسجمة مع بعضها البعض,ويضع قبّعة سوداء على رأسه.. ودار بينهما الحوار التالي:

-     متأخّر كعادتك يامرهون .

أجابه مرهون :

-     أنت الذي أخبرتني أن الموعد في التاسعة صباحاً ياعاصي ..

ثار غضب عاصي ..فوبّخ صديقه قائلاً :

-     كم من مرّة قلت لك إنني أكره اسم عاصي هذا..نادني ((ابو الليل)) ..

وضع مرهون سبّابته وإبهامه على فمه..وراح يداعب شفته العليا..وهو يتمتم :

-     صحيح ..أبو الليل ..نسيت ذلك ..

استأنف أبو الليل كلامه قائلاً:

-     أنا أحبّ الليل كثيراً ..لأنه ستروغطاء ..

ضحك مرهون ضحكة ساخرة وهو يقول :

-     ستر وغطاء على أفعالنا التي غالباً ماننفّذها في الليل ..

ثم أطلق ضحكة عالية ..ممّا دعى عاصي أن يضع يده على فم مرهون ليغلق فمه,ويسكته عن قهقهاته السخيفة ..قائلاً:

-     اخرس أيها المعتوه لئلا تفضحنا ..

تنحنح مرهون قليلاً..ثم عدّل من ياقة قميصه ..وهو يقول :

-     بصراحة ياأبا الليل..ولاتزعل مني,مازلت مصرّاً على ما أخبرتك به للتوّ,فإن كل أعمالنا نفّذناها في الليل..لذلك لم أتعود أن أصحو مبكّراً,فأرجو أن تعذرني ..

-     ولكن هذه المرّة غيركل مرة..فالمسألة ليست مسألة خردوات,أو بضعة دنانير سرعان ماتتبخّر..إنه كنز ياغبي..كنز..ألاتفهم ؟؟ ثم ماهذا الذي تلبسه؟؟!.. تبدو كأنّك مهرّج في سيرك ..

أجاب مرهون :

-     ألم تطلب مني أن أتنكّركي لايعرفونا ؟!

ردّ أبو الليل :

-     وهل تسمي هذا تنكّرا ً..إنّه تهريج..

ثم تفحّص مرهون شكل صديقه الذي يسخر منه..وراح يضحك قائلاً:

-     انظر إلى نفسك أوّلاً..نظّارات حمراء صغيرة,ربطة عنق خضراء ..

ظلّ يضحك بعمق,حتى توقّف فجأة ليتفحّص شيئاً في وجه صديقه..وليقول :

-     أظنّني رأيت هذه الأشياء من قبل..ها..تذكّرت,إنها من محلّ لعب الأطفال الذي سطونا عليه في الأسبوع الماضي..

ثم عاد ليقهقه بصوت عالٍ.لم يسكت حتى لطمه أبو الليل على فمه,بعد أن شعر بالحرج والخجل, وليقول له:

- اخرس..كفاك ثرثرة أيها الغبيّ ..تبدو كالقرد عندما تقهقه بسفاهة .

ثم أمسك أبو الليل بمرهون من ياقته التي انتهى من تعديلها قبل لحظات..وسحبه إليه وهو يقول له :

- أنا المخطيء لأنّني أحاول أن أفيدك وأنت لاتستحقّ قشر بصلة .

سحب مرهون ياقته من بين يد أبي الليل بشدّة,وغيّر من نبرة صوته ليقول له بجدية :

-     اسمع إن لم تغيّر أسلوبك الجارح هذا معي..فإنّني منسحب من هذه اللحظة..

ابتسم أبو الليل ..وراح يداعب صاحبه ..وهو يضرب على صدره قائلاً باستهزاء:

-     ياه ..صرت حسّاساً..جرحت كرامتك ؟؟ أم أهنت كبرياءك؟؟ مرهون..أنسيت من أنا ؟؟ أنا أبو الليل الذي لاتستغني عنه..صرت تتضايق من ممازحاتي ..

ثم سحب نفساً عميقاً,وهو يزيح النظّارات الصغيرة من عينيه,والربطة من حول عنقه , وتمتم قائلاً :

-     أردنا أن نوفّر قليلاً .ولكن يبدو أنّ لامناص من شراءملابس تخفي ملامحنا..

ثم نظر إلى مرهون الذي مايزال ساكتاً لاينبس بكلمة..وخاطبه بجدّية :

-     على أي حال..سأغيّر من تصرّفاتي معك .ولن أمازحك أبداً,يبدو أنّك تنزعج من مداعباتي .

اقترب مرهون من أبو الليل وخفّف من حدّة نبرته ليقول له :

-     هل زعلت مني ياأباالليل ؟؟ أعتذر,لم أكن أقصد ذلك..يبدو أنني  لم آخذكفايتي من النوم..لذلك سرعان ما تثار أعصابي.

ثم دنى منه وقبّله من جبينه,ونظر في عينيه وقال:

-     ها؟؟ هل رضيت عني ؟؟

هزّ أبو الليل رأسه بنعم .ثم وضع يده على كتف مرهون وقال له هامسا ً:

-     مرهون هذه المرة ستكون الحصيلة كنزاً من المال والذهب..وعلينا أن نبذل جهودا ًاستثنائية في سبيل أن نحصل عليه..أتفهم ؟

-     نعم

أجابه مرهون..ثم فجاة غطّى أبو الليل وجهه بالجريدة..ومن جديد راح يفتعل قراءتها..وهو يهمس في إذن مرهون .

-     تعال بسرعة إلى جانبي كي لايرونا .

انضمّ مرهون إلى عاصي أو (( أبو الليل ))كما يحلو له أن يسمّى.وسأل:

-     لقد خرجوا من البييت للتوّ .

أجاب أبو الليل :

-     نعم..ولحسن حظّنا أنهم تأخّروا عن موعد انطلاقهم مايقرب من النصف ساعة.وإلا كنت تركتك ولحقتهم وحدي .

من خلال الحوار السابق يتبيّن أن هذين الشخصين ,كانا يتحدثان عن الكنز,الذي خرج عبدالرحمن بصحبة أصدقائه الثلاثة: (سامي وبدر وصهيب) ليبحثوا عنه في القرية التي كانوا يسكنونها قبل وفاة والد عبدالرحمن ,وجدّه,وبيعهم للأرض التي كانوا يملكونها هناك.

* * *

وقف عبدالرحمن عند باب بيته الخارجي, وبقربه وقف الأصدقاء الثلاثة سامي وبدر وصهيب ,كلّ منهم يحمل حقيبة صغيرة ,وضع فيها احتياجاته الشخصية,من ملابس وبعض المعلّبات الخفيفة,تحسّباً لأيّ ظرف يواجهونه ,فهم لايعرفون ماينتظرهم في رحلتهم هذه إلى القرية .قال عبدالرحمن موجّهاً كلامه للجميع :

- سنركب سيارة أجرة صغيرة تقلّنا للساحة,ومن هناك سننطلق إن شاء الله بالباص .

سأل سامي :

- ألم تقل لنا إن الساحة التي تقف فيها الباصات قريبة من بيتكم؟

أجاب عبدالرحمن :

- نعم ..هذا صحيح.

فعاد سامي ليسأل:

- لماذا لانتمشّى إليها على الأقدام ؟ففيها فائدتان :الأولى توفير للأجرة ,والثانية رياضة بدنية صباحية.

نظر صهيب إلى بدر ليقول له ممازحاً :

- رياضة بدنية ممكن..أما التوفير فلاينبغي عليك التحدّث به وأنت ترافق المليونيرعبدالرحمن .

ثم انبرى الأربعة يضحكون بعمق ..قال عبدالرحمن وهو مايزال يضحك:

-     لا..لاهذه ولاتلك..من الصعب جداً أن نمشي على الأقدام,حتى لو كانت المسافة قصيرة,لأن حقائبكم خفيفة الحمل.

ثمّ مدّ يده ليمسك بيد حقيبته وهو يقول:

-     أمّا حقيبتي فلا..

استغرب الأصدقاء,فسأله صهيب :

-     ماذا تقصد ؟

ثم سأل بدر :

-     إنها صغيرة مثل حقائبنا .

فابتسم عبدالرحمن,وأجاب:

-     صغيرة هذا صحيح..لكنّها ثقيلة جداً ..

سأله سامي :

-     لماذا ؟؟ماذا عبّأتها؟

هزّ عبدالرحمن رأسه بمكر,وكأنه يريد أن يقول لهم: ((فاتكم شيء لم يفُتني))..وقال:

-     ستعرفون هذا في حينه .

في هذه الأثناء مرّت سيارة أجرة صغيرة,أشار عبدالرحمن لسائقها بالتوقّف.توقّفت السيارة ونزل سائقها ليفتح الصندوق الخلفي,وليضع الأصدقاء حقائبهم فيه.بعدها انطلقت السيارة باتجاه ساحة وقوف باصات النقل الخارجي .

الكنـز.. لمن يصل إليه أولاً 

في الباص الكبير..جلس عبدالرحمن إلى ناحية الشباك وإلى يساره جلس سامي,وخلفهما بالضبط جلس بدر وصهيب.أما أبو الليل ومرهون فقد اختارا مقعدين بموازاة عبدالرحمن وسامي,ليسترقا السمع ,ويراقبا تحرّكاتهما عن كثب.كانا قد ارتديا قبّعات اشترياها من الساحة..ونظّارات شمسية سوداء.نظر أبو الليل وتطلّع في وجه صديقه وقال له موبّخا ً:

- ألم تشغل مخّك قليلاً ؟؟كان عليك أن تختار لوناً آخرغيرلون قبّعتي..وحتى النظّارة التي ترتديها, هي نفس شكل نظارتي .

سأل مرهون بسذاجة:

- وماذا في هذا؟

أجاب أبو الليل مشمئزّاً:

-     ياأخي نبدو كفرقة استعراضية..أو..أو لاأدري..المهمّ إنه شيء مضحك .

إلى يمينهما كان عبدالرحمن منشغلاً بإفهام أصدقائه الثلاثة ماينبغي عليهم فعله,مستعيناً بمخطّط صغير رسمته والدته بشكل بسيط,وحسب تذكّرها للطريق, الذي ماعاودت الرجوع فيه منذ مايقرب من الثماني سنوات مضت.

-     بعد أريع ساعات من الآن سنصل إلى المدينة إن شاء الله..ومن هناك سنركب سيّارة صغيرة باتجاه القرية..وعندما نصل إليها سنتتبّع الطريق بواسطة هذه الخريطة .

كان عبدالرحمن حريصاً على عدم رفع صوته,بالكاد كان أصدقاؤه يفهمون كلامه,ومع هذا استطاع أبو الليل أن يلتقط بعض الكلمات..فهمس في أذن صاحبه قائلاً بسخرية:

-     مساكين..يظنون أن الكنز سيكون من نصيبهم..أين أنتم من أبي الليل..

ثم توقّف فجأة عن قهقهاته الخبيثة,ليرى مرهون وهو يحدّق فيه مليّاً..فسأل:

-     لماذا تنظر إليّ هكذا !؟.

أجاب مرهون بصوت خافت وبيأس :

-     أخشى أن تغدر بي كعادتك..فهذه المرة ليست كبقية المرات..إنه كنز..يعني مال.. وذهب ..وجواهر,وأنت ضعيف أمام هذه الأشياء.تنسى كل اتفاقاتك مع أول بريق لها. 

مدّ أبو الليل وقرص مرهون من رجله القريبة منه بخبث,وقال له والكلمات تخرج من بين أسنانه المصطكّة غضباً:

-     أنت دائماً هكذا..تظنّ بي الظنون السيئة..ولاأدري سبب إصراري على صداقتك..ربّما قلبي الطيّب هو السبب..ولكن ربمّا من حقّك أن تقول: ((أخشى أن تكون حصّتك أكبر من حصتي)) ..وهذا ماسيحصل بالطبع..لأنني أنا من خّطط ودبّر,وعرّض نفسه للمخاطر..أما أنت فتأتيك اللقمة  سائغة لفمك .

انتهز أبو الليل فرصةارتفاع صوت هدير محرّك السيارة,التي انطلقت بهم قبل دقائق قليلة,ليحاول ترضية صديقه,الذي انزعج من فكرة أن تكون حصة صديقه أكبر من حصته,بعد أن كان قد وعده قبل يوم واحد أن الكنز سيتقاسمانه مناصفة,ولكن يبدو أن كلام الليل يمحوه النهار كما يقال.اقترب منه ليهمس في أذنه:

- لو كنت أنت مكاني يامرهون.كنت ترضى أن تكون حصّتك بقدرحصّتي..لوكنت قد خطّطت وعرّضت نفسك للمخاطرة والتعب الذي تعرّضت أنا إليه..ثم إننا منذ البداية اتفقنا..أن تكون حصّة من يجمع المعلومات,ويدبّر المخطّطات,أكبر من حصّة الآخر..أليس كذلك؟

خزر مرهون صديقه بعينيه وقال له:

- منذ أن بدأنا العمل ولحد الآن وأنت تأخذ حصّة تكاد تكون أكثر من ضعف حصّتي..حتى في المهمّات التي أكون أنا من جمع المعلومات عنها ودبّر وخطّط لها..فجأة أجد نفسي أتلقّى التعليمات منك ..وفي النهاية تنقلب الأمور إلى جانبك,وتصبح أنت المخطِّط لها,كيف لاأدري ..

وضع أبو الليل يده على ركبة مرهون وقال له مبتسماً:

- أنت حاقد عليّ إذن ؟؟ لاعليك..هذه المرة ستكون راضياً عن حصّتك,المهم لاتدعنا نخسر ثروة كبيرة بسبب زعلك,كما يفعل الأطفال,هيا ..هياابتسم.. تبتسم لك الدنيا..هيا

ماكان من مرهون إلا أن يرضخ لإلحاح صديقه,الذي تفنّن كثيراً في إرضائه ..

بعد أربع ساعات من انطلاقه وصل الباص إلى مدينة مزدحمة بالناس والسيارات,توقّف الباص في ساحة كبيرة خصّصت لهذا الغرض,لينزل الركّاب منه,أما عبدالرحمن وأصدقاؤه فراحوا يبحثون عن سيارة أجرة صغبرة تقلّهم إلى قرية مجاورة, تبعد زهاء النصف ساعة عن المدينة هذه,وماكان من أبي الليل وصاحبه مرهون إلا أن يحذوا حذو عبدالرحمن وأصدقائه .

جلس عبدالرحمن في المقعد الأمامي للسيارة,وفي المقعد الخلفي جلس الأصدقاءالثلاثة:سامي وبدر وصهيب.وانطلقت السيارة متوجّهة للقرية,التي كان يسكنها عبدالرحمن عندما كان صغيراً,تتبعهم سيارة أخرى تقلّ أبا الليل وصاحبه مرهون.

فتح عبدالرحمن الورقة التي خطّطتها له والدته,ليستدلّ بها على المكان الذي يقصدونه,ثم وضعها على حجره,انتبه إليه السائق ذو السحنة السمراء,فابتسم..بعد أن لاحظ عبدالرحمن أن السائق يرمقه بنظراته..بادله الابتسامات...فقال السائق وهو يوزّع نظراته بين عبدالرحمن الجالس قربه,وبين الأصدقاء الذين يراهم من خلال المرآة الأمامية:

- حمداً لله على سلامتكم..

أجاب عبدالرحمن :

- الحمد لله .

 كان حريصاً كما اتفقوا جميعاً على أن يحاولوا عدم إعطاء أي معلومة,حول المهمّة التي من أجلها جاؤوا للقرية.لذلك كان يكتفي بأن يعطي جواباً على قدر السؤال.

لاحظ السائق أن الأصدقاء الأربعة يتلفّتون يميناً ويساراً,مبهوتين بما يحيط بهم من جمال وطبيعة,ممّا يدلّ على أنهم غرباء عن المدينة..والقرية أيضاً,كما لاحظ أنهم لاينبسون بكلمة واحدة,ممّا أثار فضوله ليسألهم :

-     هل من خدمة أستطيع أن أقدّمها لكم؟ لأنّني أعتقد إن لم أكن مخطئاً..أنكم تزورون هذه القرية للمرة الأولى .

لم يجد عبدالرحمن مايجيب به السائق إلا الحقيقة,فالذي اكتشفه السائق من السهل على أيّ شخص معرفته,لذلك أجاب بعد تفكير قصير:

-     نعم ياعم,نحن فعلاً غرباء عن هنا,لكنّنا..أقصد أنا بالذات..كنت أسكن هذه القرية منذ زمن بعيد ,ثم انتقلت للعيش في مدينة بعيدة,وجئت لزيارة بعض الأقارب لي ..

ضحك السائق بعد أن سمع من عبدالرحمن ماسمع..فاستغرب عبدالرحمن ردّة فعل السائق..فسأله:

-     عفواً ياعمي,هل لي أن أسأل عمّا يضحكك في كلامي ؟؟

ابتسم السائق وهو يوزّع تركيز نظره مابين الطريق وبين عبدالرحمن إلى يمينه,ليقول والابتسامة المرحة لاتفارق وجهه:

-     أضحك لسببين..أولهما لأنك تقول:إنك كنت تسكن في القرية منذ زمان بعيد وأنت..عفواً يعني ..ماتزال صغيراً ..

ابتسم عبدالرحمن هو الآخر قائلاً:

-     كنت أقصد أنني كنت صغبيراً جداً..يعني قبل حوالي سبع سنوات أو ربما ثمانية..

ثم تابع ليقول:

-     السبب الأول عرفناه..والثاني ؟؟

أجاب السائق :

-     السبب الثاني لأن من حسن حظّكم أنني من السكّان الأصلاء في هذه القرية,التي نتوجّه إليها,فأنا أصلاً ولدت فيها قبل أكثر من أربعين سنة تقريباً .

لم يجد الأصدقاء مناصاً للهرب من الحقيقة التي أمامهم..وشعر عبدالرحمن بالحرج والارتباك.إذ ِبم سيجيب السائق إذا ماسأله ((من هم أقرباؤك لأوصلك إليهم ؟؟))..وهل هذه الصدفة ستنفعهم في المهمّة.. أم جاءت لتعترض كلّ ماخطّطوا له ؟

نظر بدر إلى صهيب الجالس قربه وتبادلاالنظرات..وكأنهما يريدان أن يقولا لبعضهما..((هل من بين عشرات السائقين الذين اصطفّوا في ساحةوقوف الباصات الكبيرة ..جئنا لهذا السائق ليكون من سكّان القرية التي نقصدها ؟!! ماهذا الحظ !!)).

وماكان خائفاً منه عبدالرحمن قد حصل فعلاً..فهاهو السائق يسأله :

 - من هم أقرباؤك يا..صحيح نسينا أن نتعارف..خصوصاً بعد أن اكتشفنا أننا من منطقة واحدة ..فمحسوبكم سالم ..عمّكم سالم..أو أبو ماجد ..فولدي ماجد بمثل أعماركم..لكنّه للأسف لم يدخل المدرسة بسبب بعض الظروف ..

وجد عبدالرحمن أنها فرصة للتملّص من الإجابة عن السؤال الأول,فراح يعرّف بنفسه وبأصدقائه الجالسين خلفه..فقال:

- تشرّفنا بمعرفتك ياعمّي..أما أنا فاسمي عبدالرحمن..وهؤلاء أصدقائي سامي وبدر وصهيب .

هزّ العم سالم رأسه وهو ينظر للأصدقاء من خلال المرآة .وقال:

- أنا سعيد بالتعرّف عليكم .

 مدّ بدر يده ليخز عبدالرحمن من كتفه الأيمن خلسة.وعندما أحسّ عبدالرحمن بوخزةصديقه, التفت إليه .قرّب بدر رأسه من أذن عبدالرحمن وراح يهمس له:

- يبدو رجلاً طيباً,وقد بعثه الله لنا ليساعدنا في مسعانا.وسيختصر علينا عناء البحث عن بيت جدّك ..فتصرّف .

ظنّ العمّ سالم أن الأصدقاء ربما يكونون في مأزق ما ,فسألهم:

- هل من شيء أساعدكم فيه ؟؟أضعتم نقودكم مثلاً ؟؟أم نسيتم بعض الحاجات في الباص ؟؟أنا حاضر لأيّ شيء,حتى لو اضطررنا للعودة للساحة ..ولاتقلقوا لن أزيد الأجرة ..

ثم ضحك..وضحك معه الأصدقاء ..وقال صهيب :

-     جزاك الله خيراً يا عمّي..أنتم دائماً هكذا ياسكّان القرية والريف,تتميّزون بالطيبةوالنخوة والضيافة ..أكثر منا نحن سكان المدينة ..

وردّ سامي"

-     شكراً يا عمّي..رحلتنا كانت سهلة وموفّقة والحمد لله ..ولقد تكلّلت بالتعرّف عليك..وهذا أحسن شيء فيها لحد هذه اللحظة .

خجل العمّ سالم من هذا الإطراء .فقال خجلاً:

-     شكراً يا أولاد ..ها ..كيف لي أن أساعدكم؟؟أو بالأحرى كيف يمكنني أن أقوم بالواجب تجاهكم؟ .

تشجّع سامي ليقول:

- قلت لنا قبل قليل إنك من سكّان القرية منذ أن ولدت..وهذا يعني أنك على علم بكل سكّانها القدامى..أليس كذلك ؟

أجاب السائق :

- بلى ..

تابع هبد الرحمن ليسأل:

- وهذا يعني أنك تعرف عائلتي التي رحلت من القرية قبل سنوات ..

أجاب السائق :

- إن شاء الله ..

سأل عبدالرحمن:

-     أنا ابن أحمد.ووالده _ يعني جدي _ كان معلّماً,ثم تقاعد عن العمل,واسمه راشد..كنّا نملك أرضاً زراعية..ثم بسبب  بعض الظروف بعناها لننتقل إلى المدينة..بعد وفاة والدي وجدّي .

وضع العم سالم ّسبّابته على شفته العليا يداعبهاوهو يتمتم مستذكراً :

-     رحمة الله عليهما وعلى موتانا وموتاكم..أحمد ..ابن راشد ..أحمد...

أما عبدالرحمن فقد راح ينتظر بشغف ماستسعفه ذاكرة العمّ سالم..فراح يستعجله بالقول:

-     راشد أبو أحمد..حاول أن تتذكّر جيداً ياعمّي ..

انتقلت يد العمّ سالم من غير شعور منه, لتداعب هذه المرة جبينه, في محاولةللاستذكار..وهو مايزال يتمتم مع نفسه ببعض الكلمات:

-     أبو أحمد..الأستاذ راشد ..ها..الأستاذ راشد..

وفجأة تغيّرت ملامح العمّ سالم السائق,وكأنه قد تذكّر شيئاً مهماً ..فقال:

-     نعم ..إنه الأستاذ راشد..كيف لاأعرفه ..إنه معلّم اللغة العربية في المدرسة التي مررنا بجانبها عندما كنّا في المدينة قبل قليل..لقد درّسني العربية عندما كنت تلميذاً فيها..بالمناسبة حتى أبوك كان تلميذاً في المدرسة نفسها ..

انتابت عبدالرحمن مشاعر غريبة,تجمع مابين الفرح والحزن,ودمعت عيناه بعد ماسمعه من العمّ سالم ,وكأنه عثر على واحد من أقربائه,ممّن عايشوا الأحداث التي مرّت بها عائلته منذ زمن بعيد بالنسبة إليه .ثم واصل العم سالم حديثه قائلاً:

- ياه..لقد ذكّرتموني بسنوات مضت..رحمك الله ياأستاذ راشد..كان معلّماً نزيهاً, تعلّمنا منه كل شيء ..المثابرة,والأمانة,والحرص على أداء الواجبات ..

ثم نظر إلى عبدالرحمن..وهز سبّابته..وهو يقول:

-     نحبّه رغم أنه كان قاسياً علينا في حينها..لكن بصراحة..كان معه الحق .لأننّا لولا قسوته ماكنا تعلّمنا شيئاً أبداً ..

ثم ضحك ضحكة خفيفة..أتبعها بحسرة طويلة,وكأنه يستذكرأياماً أصبحت تاريخاً ماضياً لن يعود..بعدها التفت إلى يمينه حيث يجلس عبدالرحمن..وقال:

-     أهلاً وسهلاً بك وبمن معك..أنتم ضيوفي منذ الآن..ولن أقبل أي عذر للتملّص من هذا..ما رأيكم ؟

نظر عبدالرحمن إلى أصدقائه خلفه..وتلعثم وهو يقول:

-     بصراحة..يعني ..

قاطعه العمّ سالم :

-     لا أقبل أي عذر..مفهوم؟؟

يتبع إن شاء الله...