هذيان

لبابة  أبو صالح

" هي النهاية .. لا أذكر البداية .. لكنها صور ومشاهد تومض من حين إلى حين .. يصحبها صراخ ونحيب يأتيني من بعيد .. وكأنه من بئر عميقة ماؤها آجن آسن .. ما يلبث إلا ويرتفع شيئا فشيئا ليصم أذني .. تتراءى لي دوامة بألوان فاقعة تمتزج وتمتزج حتى تصير لونا واحدا .. أظنه رمادياً .. نعم بلون ما يخلِّفُه الحريق .. أجل هو الرمادي .. يدوِّخ الألُم رأسي .. أرى عِصابَــةً 

بيضاء تقترب مني .. تمد بها يدٌ خشنة كأنها يد عجوزٍ ساقطة .. وأظفارها طويلة ملونة بالدم .. ستلطـِّخُ العِصَابَةَ بالدم .. تقترب أكثر .. ترمي بها في وجهي .. ولا شيء سوى صفحة بيضاء .. أشعر بي أتصبب عرقا .. من بعيد صوت هادئ .. لا .. بل مخيف .. والصمت يغلِّفه .. :"وداعا .. وداعا " أصرخ وأنا أرتعش : إلى أين ؟؟" .. يجيبني الصوت نفسه .. بعد ضحكة متقطعة .. ساخطة .. :" حيث لا أحد " ويعود للضحك .. يا إلهي .. أهذي بتلك الجملة :" لا أحد .. لا أحد " .. أظن أن روحي تكاد تفارقني .. أمد ذراعي وما زالت تلك العِصَابَةُ تحجب الرؤية .. أحاول أن أدني كفي من وجهي فأنزع عنها تلك الخرقة الملوثة برائحة الدم .. رائحةٌ كريهةٌ .. لماذا لا أستطيع نزعها ؟! ..هل التصقت بوجهي ؟! .. أصرخ :" النجدة " وأشعر بذبذبات صوتي ترتد إلي بعد أن تصطدم بشيء .. لكنها تعود بشكل آخر .. تعود بصوت كصوت تلك الضحكة .. هستيريا .. حالة خوف .. أزمة .. سالم .. سالم .. سالم .... ثم و..قـ..ــو..ع ..

 غريب .. لا ألم ..

هل مت ؟؟ "

_ هي الآن في غيبوبة .. ربما تصحو بعد قليل .. سقوطها كان سيودي بحياتها .. فلتحمد الله أنها تعَدتْ مرحلة الخطر ..

( قالها الطبيب ليطمئنني )..

أجبته بابتسامة امتزجت ببعض الراحة لكلامه .. صافحني .. استأذن وذهب ..

بقيت أمام غرفة الإنعاش أنتظر الفرج .. دموعي لم تفارق مقلتي ّ.. يجب أن أمسحها .. كيف لرجل أن يبكي .. ماذا لو مرَّ أحد ورآني أنتحب كالنساء .. ربما سيقطب حاجبيه .. لكنه ما أن ينتهي إلى آخر الرواق .. سيضحك لشكلي .. سأذكِّره عندها بزوجته ودموعها الكاذبة ..

_ هل صيرتني الدموع امرأة !!

 وقفت ثم مشيت إلى دورة المياه .. نظرت في المرآة .. ها هو شاربي يزهو أسفل أنفي .. قلت بغباء :" ما زلت سالماً .. نعم ما زلت رجلا " ..

التفتُّ  أهم بالخروج من دورة المياه .. نظرت لأرى عاملا آسيويا قد وقف بالباب يراقبني وأنا أحدث نفسي .. وقفت هنيهة أستوعب الأمر .. أتخيل كيف كان شكلي .. قطبت حاجبَّي أحاول استرداد شخصيتي .. و رحت أخطو خطوات لأهرب من أمامه .. قلت بحنق وأنا أتأفف .. " إما مجنون أو امرأة .. ألا يمكن أن أكون سالماً ".

 خرجت من أفكاري الغبية  التي كنت أقطع بها الوقت .. لتعود نظرة " بغداد " تجتاح مخيلتي ..

كان يسألني أصدقائي ما اسم زوجتك .. فأجيبهم :                  

   - " بغداد " ..

فيظنون أنني أريد الحديث عن الحرب .. يعيدون السؤال لأقص لهم قصة هذا الاسم الشامخ .." ألا يسمي أهل فلسطين بناتهم جنين و بيسان .. ها هم أهل العراق يسمون بغداد .. لمَ العحب ؟؟ ".

 خرج أحد الممرضين من غرفة الإنعاش يبشرني بأن بغداد بدأت تخرج من الغيبوبة ..

دخلت إليها .. كانت تحرك رأسها يمنة ويسرة تحاول الاستيقاظ .. وهي تقول كلمات مبهمة ..   

" سالم , هستيريا , لا أحد .. " .. أمسكت يدها .. فتحتْ عينيها .. نظرتْ حولها .. قالت بوهن :

" ألم أمت ؟!" ..

ماذا ؟؟

والدوامة .. والخرقة .. والدم ..

كنت تهذين عزيزتي ..

الحمد لله ..