طاحون الشياطين(2)

رواية

طاحون الشياطين (2)

شريف الراس

الفصل الثاني

حدث كل شيء بسرعة عجيبة.

بسرعة عجيبة أفاق الزاكي وتلثّم وفتح الباب وخرج لاستقبال هؤلاء الزوار الغامضين. أما "أمنا شفيقة" فلا أدري من أين طلعت ومن أين جلبت صورة كبيرة لرئيس الدولة محاطة بإطار من الخشب المذهّب، ووضعتها فوق حافة الموقد البارزة من الجدار، وأشعلت أمامها الشمعتين.. ثم عادت فاختفت في غرفتها من جديد.. وأنا خلال كل ذلك لا أفهم شيئاً مما يجري حولي.

دخل الرجال..

كانوا خمسة رجال مسلحين.. ثيابهم عسكرية لكن سحناتهم تذكّر الإنسان بأبطال أفلام العصابات والقراصنة. انتشروا في أنحاء القاعة وهم يتلفتون حولهم بنظرات تفقّدية مضحكة يغلب عليها طابع الحركات التمثيلية التي تمتاز بها أفلام ترينتي ورينغو.. وبعد ذلك دخل الرجل السمين الذي يظل يلهث دائماً. إنه سائق الباص. ابتسم حين رآني والتفت نحو الباب ليقول بافتخار المنتصرين:

- إنه هنا يا حضرة الملازم.. هو بعينه..

دخل "حضرة الملازم" دخول الفاتحين، وبندقيته الرشاشة في يده، ونظر إليَّ لحظة ثم ما لبث أن تراخت العقدة التي بين حاجبيه، واستراحت أساريره عندما رأى الصورة الكبيرة المضاءة بشمعتين، ورأى كؤوس العرق.. ها قد انفرجت أساريره تماماً، فقال أخي: تفضل يا حضرة الملازم..

ثم التفت إليّ وقال: أعرّفك بحضرة الملازم وسّاف بوجَقَل.. مسؤول الأمن عن هذه الديرة كلها..

ثم قال للملازم: أعرّفك بأخي أحمد.. طبيب..

فسألني: يعني أنت عربي؟

فوجدت نفسي أسأله: إذن ماذا تراني؟.. ياباني؟..

فضجّت القاعة بالضحك. ولاحظت باب غرفة أمنا شفيقة ينفتح قليلاً، وبحذر شديد، وتطلّ من خلال الشق الرفيع عينان وَجلتان.

أمر الملازم الشاب رجاله بأن يخرجوا، فقال واحد منهم:

- لكننا سيدي لم نفتش حقيبته بعد. والسائق يقول إنها حقيبة ثقيلة جداً، وربما كانت مليئة بالمنشورات المعادية.

فقال الملازم ساخراً:

- وعلى من يوزع المنشورات في هذا المقطع؟.. على الرمال والتلال والحصى؟

فقال مسلّح آخر:

- لكن ربما كان في البيت أسلحة يا سيدي..

فنهره الملازم وهو يقول غاضباً:

- اخرس أنت.. أنت بالذات تخرس تماماً.. لقد أكدت لي أنهم أعداء للنظام.. وها هم يزينون بيتهم بصورة للسيد الرئيس لا يوجد مثلها في بيتك أنت.. هيا اخرجوا جميعاً..

وجلس معنا وهو يقول بلهجة اعتذار، ويتناول كأس العرق:

- عجيبة هذه الدنيا.. عجيبة حقاً.. فهذا الرجل بالذات أكّد لي أنكم حوّلتم المزرعة إلى وكر للصلاة.. وما أجمله من وكر نجد فيه هذا العرق اللذيذ.

وشرب جرعة عرق ثم تلمظ ولعق شفتيه مسروراً.

فقال له أخي:

- إن كان عرقنا قد أعجبك فستأخذ معك الليلة قنينتين اثنتين.. لكن ما دامت القلوب قد انفتحت على بعضها فاسمح لي بأن أوصيك يا حضرة الملازم بأن تصدّق أي مخبر ينقل إليك وشاية مؤداها أنني أؤذّن فوق سطح هذا البيت.. فتلك حقيقة وليست وشاية..

انقبض قلبي على الفور.. ماذا يفعل أخي؟.. أليس هو الذي أوصاني بالرصانة وتماسك الأعصاب؟.. إذن ماله ينقلب فجأة هكذا إلى موقع الاستفزاز المثير؟..

غير أن الملازم، هذا الشاب الغر، انفجر ضاحكاً وقال متسائلاً باستغراب وببلاهة مطلقة:

- تؤذّن؟.. تؤذّن وتنادي بأعلى صوتك: الله أكبر.. الله أكبر؟.. من تنادي؟

فأجابه الحاج رضوان بكلمات من نار أحرقت كل شيء تماماً.. قال وهو يضغط على كل كلمة كأنه يريدها أن تخرج مثل الطلقة القاتلة:

- أنادي الرياح.. الأرض.. السماء.. الأشجار.. النجوم.. الحصى.. الرمال.. الأجداد الذين ماتوا قبل ألف سنة.. الأحفاد الذين سيأتون بعد ألف سنة.. الزلازل.. البراكين.. الصواعق.. أشعر بأنهم جميعاً يسمعونني ويلبّون ندائي ويأتون إليّ وقد اشتعلت الدنيا بنار الغضب الذي سوف يطهّر كل شيء..

وحمل كأس العرق فقذف به إلى العتمة الخارجية من خلال النافذة.

أصلحك الله يا حاج رضوان.. ماذا فعلت بنا؟.. كيف ورّطتنا هذه الورطة القاتلة؟.. آنذاك نظر الملازم إلى صورة النواعير، المعلقة على الجدار، ثم أطرق برهة.. ثم سألني بصوت هادئ:

- ألا تعتقد يا دكتور أن أخاك يعاني من مرض نفسي يتطلب العلاج؟.. وبالمناسبة أنت لم تخبرني.. أين عيادتك؟

- في ألمانيا..

قلت ذلك بجلافة أدهشتني أنا نفسي.. كيف أُصبت بالعدوى فانحرفت 180 درجة من الملاينة إلى الاستفزاز والتحدي؟

فقال الملازم:

- إذن فنحن لم نكن مخطئين بالمجيء إلى هنا.. أليس من المريب أن تأتي إلى هذه المزرعة النائية بدلاً من أن تنزل في أحسن فندق بالعاصمة؟.. وماذا جلبت معك من ألمانيا؟.. وقبل كل ذلك: ماذا جئت تفعل في هذه البلاد؟.. لماذا جئت إلى هذه البلاد؟

أجبته: هذه بلادي.

- أعرف ذلك.. فالحاج رضوان ذكر أنك أخوه.. لكن حتى لو افترضنا أن ذلك صحيح, وأنك مواطن، فليست أبواب البلد مفتوحة لكل إنسان.. يجب أن نحمي الشعب من الخونة والمتآمرين.. يجب أن نعرف عنك كل شيء..

في تلك اللحظة قُرع الباب ودخل عسكري مسلّح وقال:

- سيدي.. لقد أنجزنا مهمة إحصاء موجودات المزرعة.. عندهم حظيرة دجاج بيّاض فيها حوالي مئتا دجاجة من النوع الممتاز.. وعندهم حوض أسماك، وهناك أيضاً مدجنة لتربية طيور الفرّي التي تحبونها على العشاء سيدي..

فالتفت الحاج رضوان نحو الباب ونادى بأعلى صوته، وكأنه عاد إلى طبيعته الأولى:

- يا زاكي رتّب للشباب عشاءً من طيور الفرّي..

ثم سأل الملازم:

- هل تحبونه مشوياً أو مقلياً؟

فأطرق الملازم مفكراً لحظات ثم قال:

- يا حاج رضوان.. أنت رجل طيب.. وأنا هنا في هذه الديرة منذ ثلاثة أشهر ولم يأتني من طرفك أي إزعاج.. إذن فمن واجبي أن أساعدك.. سنعفيك من كل العقوبات ومن مشاكل الجرجرة في المحاكم. فأنت تعرف أن هناك جهات حكومية لا يرضيها أن تفعلوا كل هذه الأشياء بلا ترخيص رسمي.. يعني.. أنتم تعرفون مخاطر انتشار الأوبئة التي قد تفتك بالثروة الحيوانية الوطنية.. كما أن هناك مشكلة تلويث البيئة.. سنفترض أنك لم تقم بتربية أي شيء من هذه الحيوانات..

- يعني؟

- يعني نساعدك بأن نخفي كل الدجاج والفرّي والأسماك.. وبذلك ينتهي كل شيء ولا عين تشوف ولا قلب يحزن.

نكّس أخي رأسه، وامتصّ نفساً عميقاً من سيكارته، وصارت عضلة فكه تتوتر بإيقاع منتظم.. يبدو أنه يضغط على أسنانه بعنف حتى لا يتكلم.. وإذا تكلم فماذا يقول؟.. لقد ضاعت كل ثروته.. إنها عملية نهب صريح تتم بمنتهى اللؤم والخسة وأنت لا حول لك ولا طول..

ونحن في هذه الحال المتوترة دخل الزاكي ليخبرنا بلوعة:

- البقرة.. إنهم يأخذون البقرة..

فخرجت الأم شفيقة من غرفتها مسرعة كالصاروخ، وهي تندب بأعلى صوتها وتضرب بيديها على رأسها وتصرخ غاضبة:

- لا والله لن يأخذوا حفيظة.. خذوني أنا ولا تأخذوا حفيظة..

فضحك الملازم وهو يقول:

- إلى أين نأخذك وماذا نفعل بك أيتها الحيزبون؟.. هل يمكنك أن تنقلي عدوى مرض الجمرة الخبيثة الذي يفتك بثروتنا الحيوانية الوطنية؟.. ما يدريني أن بقرتكم مصابة بالجمرة الخبيثة؟

والتفت إلى ذلك الجندي الإحصائي وأمره:

- خذوا البقرة أيضاً..

آنذاك رفعت رأسي نحوه وقلت بهدوء عجيب:

- أنصحك بأن لا تأخذ أي شيء على الإطلاق.. إياكم ثم إياكم أن تمسّ يدكم أي شيء..

هذا إذا شئت أن لا تُطرد من الوظيفة وأنت ما تزال في البداية بنجمة واحدة.

ثم وجهت حديثي لذلك الجندي الإحصائي وأمرته بأن يخرج ليرصد السماء جيداً، هو ورفاقه، لأنني أنتظر وصول طائرة هيلوكبتر خاصة، "لأن جعفر الضاوي آت الليلة للسلام عليَّ".

وقع اسم جعفر الضاوي وقوع الصاعقة.. وتجمدت نظرات الجميع، فواصلت الهجوم العجيب بأن قلت للجنديين بلهجة زاجرة:

- أما زلتما واقفين مثل الألواح؟ هيا اخرجا وانتظرا الطائرة..

فخرج الجنديان مضطرين.. أما الملازم فقد غدا كمن سُكب عليه سطل ماء بارد، اصفرَّ وجهه، وراح يبلع ريقه ويلتفت مضطرباً، فسألته:

- هل تعرف جعفر الضاوي؟

- فأجاب متلعثماً:

- إنني أسمع به طبعاً يا سيدي.. ولكنني، عفواً، لم أكن أدري بأنك نعرفه.

- أنا لست من معارفه فحسب، بل أنا صاحب فضل كبير عليه.. وحين يصل الآن ترى بنفسك كيف يتوسّل إليَّ بأن أطلب منه أية خدمة.

فقال بصوت متهدج:

- إذن تصبحون علي خير يا سيدي..

وخرج مسرعاً.. فناديت خلفه:

- ولمَ العجلة.. ظلوا عندنا إلى أن يصل جعفر..

لكن حضرة الملازم ورجاله المسلحين فرّوا مذعورين. ركبوا سيارتيهم وانطلقوا مسرعين مضطربين لا يعرفون دربهم..

وكان أخي ما يزال غاضباً، فبصق خلفهم من النافذة وهو يقول:

- لعنة الله عليه.. الوغد.. طيّر السكرة من رأسي..

تقدمت أمنا شفيقة مني وقبلتني من جبيني وهي تقول بفرح:

- الحمد لله.. أنا لم أصدّق بأن حفيظة نجت من أيديهم.. ألف الحمد لله رب العالمين..

أما الحاج رضوان فقد قال، وهو ما يزال منساقاً مع توترات الغضب:

- اللصوص الخنازير.. ملازم صغير بنجمة واحدة مستعجل على نهب الدنيا كلها منذ الآن.. ماذا سيفعل بهذه الأمة المنكوبة إذن لو صار برتبة لواء مثلاً؟

وتقدم الزاكي نحوي وقال لي:

- عمي.. ما دمت قوياً إلى هذا الحد فمعنى هذا أنك تستطيع أن تدبّر مسألة زواجي..

فانفجرنا بالضحك، وقال له أخي وهو يشير إلى صورة الطاغية فوق حافة المدفأة:

- بدلاً من هذا الكلام الذي لا طعم له، خذ صورة هذا الخنزير من أمامي وأرجعها إلى مخبئها.. لعنة الله عليه وعلى كل الخنازير..

فاعترضت الأم شفيقة قائلة:

- كيف ترفعون صورة الخنزير الآن؟.. اتركوها ريثما يصل هذا الغول الذي ذكره أحمد..

فسألتها مبتسماً:

- وأنت أيضاً صدّقت الكلام؟

فضحكنا من جديد.. وتمدّد أخي على طرّاحته، وسوّى وضع الوسائد تحت رأسه، وأمر بأن يجلبوا له لحافاً.. وكانت آخر أوامره قبل أن ينام:

- هاتوا لحافاً لأحمد لينام أينما شاء على المصطبة..

وأطفئت الشمعتان، وأطفئ المصباح، ولم يبق إلا العتمة والنوم وصوت الليل. كان من الواضح أن أخي قرّر تأجيل كل الأسئلة إلى وقت آخر..

يتبع