طاحون الشياطين(1)

رواية

طاحون الشياطين

شريف الراس

على مفترق الطرق

توقفت سيارة الباص العتيقة، من غير أن يتوقف هدير محركها المزعج، والتفت السائق السمين إلى رجل أنيق كان يجلس إلى جانبه على المقعد الأمامي المنفرد، وقال له:

- تفضل انزل.. هذا مفترق الطرق إلى مزرعة الطاحون.

الرجل الأنيق لم يسمع شيئاً من كلام السائق، بسبب صوت هدير المحرّك الذي يمكن تصنيفه في خانة "الجعير".. وكان ذيل الغبار الكثيف الذي أثاره الباص خلفه قد لحق بالباص المتوقف فدخل من النوافذ المفتوحة واندسّ في الأنوف والحلوق والتصق بالوجوه المبللة بالعَرَق، وتغلغل إلى الصدور وإلى كل شيء، بحيث أن الرجل الأنيق لو نظر إلى المرآة آنذاك لرأى وجهاً آخر غير وجه الدكتور أحمد الفشاش أحد أشهر الأطباء في ألمانيا، الأمر الذي زاد من مضاعفات ما حلّ به من قلق واضطراب. لقد فوجئ تماماً، لأنه لم يكن يتصور أن يكون المكان هكذا.. وشعر بأنه قد وقع في فخ عجيب..

قال السائق السمين الذي يلهث، وقد رفع صوته عالياً:

- مالك يا أستاذ؟.. انزل ودعنا نكمل طريقنا، هذا طريق طاحون الشياطين الذي طلبت النزول عنده.

وعندما كان الدكتور أحمد يحاول أن يفتح باب الباص، الأشد قساوة من باب دبابة، سمع المعلومة الهامة التالية:

- المعاون سوف يرمي لك الحقيبة من فوق السطح.. عدم المؤاخذة يا محترم.. باصنا لا يليق بالمقام ولكنه الباص الوحيد الذي يأتي إلى هذه المنطقة وبمواعيد منتظمة تماماً.

نزل الدكتور أحمد الفشاش من الباص، وفي اللحظة ذاتها تلقّف حقيبته التي قذف بها إليه شاب من فوق، وكان هذا "الفوق" مثل "التحت" يغصّ بالركاب والأكياس والصناديق والسلال، وكان هؤلاء الركاب جميعاً من البدو والفلاحين، أو هم بدو بدأوا محاولة تقليد حياة الفلاحين في هذه المنطقة النائية من البادية. ولاحظ الدكتور أحمد أن نوافذ الباص كانت مليئة بالعيون المحدقة التي تتساءل: "ما الذي جاء بهذا الأفندي الأنيق إلى هذه المنطقة النائية؟".

انطلق الباص من جديد فأثار خلفه ذيلاً طويلاً من الغبار الكثيف الذي حجب النوافذ والعيون وكل شيء.. ثم ما لبث الباص أن غاب هو وذيله الغباري الطويل وراء تلك التلال البعيدة.

وقف الدكتور أحمد وحيداً ينظر إلى هذا الفضاء اللانهائي من الأراضي المنبسطة الممتدة حتى خط الأفق البعيد.. وكان ثمة "قبَّرة" تنظر إليه –باستغراب.. ربما- ولكنه لم يشعر بوجودها رغم أنها كانت تتقافز طائرة حوله وهي تغرّد بنشيد المساء، غير أنه لم يسمع في أذنيه إلا الوشيش المتبقي من صوت جعير محرّك السيارة.

نفض الغبار عن ثيابه، ثم مسّد شعره بيده وهو ينظر إلى حقيبته الكبيرة، ووجد نفسه –وهو في هذه الحال من الحيرة والقلق والشعور بالوحدة- يبتسم ويقول:

- سامحك الله يا حاج رضوان.. ما هذه الورطة؟

ونظر حوله من جديد، ثم حمل حقيبته الثقيلة ومشى على الدرب الفرعي.. "وأين أنتِ يا مزرعة الطاحون؟.. ثم.. من بين كل الأسماء التي في الدنيا لم يجد أخي الحاج رضوان اسماً لمزرعته غير هذا الاسم العجيب؟ كيف تجتمع المزرعة والطاحون معاً؟.. وماذا تطحن هنا حيث لا شيء غير التراب والغبار!!".

كانت الحقيبة ثقيلة إلى حدّ مؤلم، غير أنه من المستحيل تركها هنا، وقد لا تكون المزرعة بعيدة، إذ ربما كانت خلف تلك التلة، أول تلة، فالحاج رضوان ذكر في رسالته أن الطريق لن تستغرق، مشياً على الأقدام، أكثر من شرب سيكارة.

- لكنك تعرف يا أخي بأنني، مثلك، ما دخنت سيكارة قطّ.

توقّف وهو يلهث. وضع الحقيبة على الأرض ثم تحسس عضلة ذراعه التي تؤلمه.. ونظر إلى أصابع يديه النحيلة، ليس من الضروري للجرّاح الماهر أن تكون له عضلات مصارع، لكن من المهم أن تكون له أنامل عازف بيانو، وهذه موجودة ولكنها هنا لا تنفع، ثم سأل نفسه وهو يهز رأسه مبتسماً بحرارة:

- بل ماذا تنفع الموسيقى كلها في مثل ما نحن فيه الآن؟.. إننا لسنا في فيسبادن.

جمع الرجل النحيل كل قواه فرفع الحقيبة الثقيلة إلى أن حملها على كتفه ومشى. صارت القبّرة قُبّرات كثيرة تطير وتحط وتقفز وهي تغرّد فتبهج الجو بمشاعر جميلة تحيي ذكريات الطفولة، وكان في الجو أيضاً، مع نُسيمات المساء، أريج أزهار الختمية البرية التي ظلت صامدة بعد يباس أعشاب الربيع. كانت نبتات الختمية الباسقة، ذات الأوراق الكبيرة والخشنة، شاخصة مبعثرة هنا وهناك، تقول للأطفال: "تعالوا اقطفوا أزهاري العطرة والمنعشة، واملأوا حروجكم بهذه الأوراق الحريرية اللامعة، وخذوها هدية لأمهاتكم حتى يصنعوا منها أفضل دواء للسعال".. لكن أين الأطفال؟.. وأين زمن الأطفال؟.. لقد ذهب كل شيء منذ ثلاثين سنة وأكثر، والشاب النحيل الذي غصب نفسه على التهرب من كل ما يذكّر بالماضي الجميل كان يتألم من وطأة الحقيبة الثقيلة على كتفه، فرفعها وحملها فوق رأسه، وراح يصعد التلة وهو يجرّ ساقيه بصعوبة مع الطريق الترابية التي تصعد تلك التلة. وكان يلهث حانقاً ويقسم بأعظم الأيمان بأنه ما إن يبلغ أعلى التلة حتى يقذف بالحقيبة كيفما كان، ويرمي بنفسه متمدداً على الأرض ويفرد ذراعيه ويظل ينظر إلى اللاشيء في السماء.

كان واثقاً من أنه إن فعل ذلك، وهو يتأمل تلوّنات السماء وقت المغيب، فسوف يصفو ذهنه ويستريح، وقد يجد الجواب الذي طالما طرحه على نفسه: لماذا أوصاني أخي الحاج رضوان، في رسالته، بأن آتي من المطار إلى المزرعة مباشرة؟.. ولماذا ألحّ عليّ بأن لا أزور المدينة أبداً؟.. ثم لماذا لم يذكر في رسالته أية كلمة عن أختنا خديجة؟.. ولماذا ألحّ عليَّ كل هذا الإلحاح بأن آتي من ألمانيا بأسرع ما يمكن، مع أنه كان خلال السنوات العشر الماضية يوصيني بأن لا أقترب من "حيطان الوطن" حسب تعبيره؟

كان الطبيب النحيل يحثّ الخُطى صاعداً، ولكنه عندما وصل إلى أعلى التلة شعر بأنه يكتشف الدنيا فجأة، لقد رأى المزرعة.

كانت الطريق تنحدر ثانية إلى أن تضيع في منبسط أخضر تحيط به أربع تلال. وفي وسط هذه البقعة الخضراء المتميزة عن كل ما حولها بيت ومروحة كبيرة تدور في أعلى برج من مضلّعات الحديد، إنها مضخة الماء.

وقال أحمد لنفسه وهو يبتسم: هذه إحدى اختراعات الحاج رضوان.

ورمى الحقيبة عن رأسه، وفتح ذراعيه على اتساعهما، وصرخ بأعلى صوته: يا حاج رضوان يا حاج رضوان..

وشعر بأن صوته قد هزّ الدنيا ووصل إلى المريخ.

كانت المزرعة بعيدة تحت مرمى بصره، لذلك فإنه لم يسمع نباح الكلب، ولم يلاحظ أن ثمة أربعة أطفال كانوا يلعبون أمام باب البيت، ما إن سمعوا صوته حتى فرّوا مذعورين واختبأوا في الداخل.

 

الفصل الأول

عزيزتي هيلدا

إنك لن تصدّقي ما سوف أخبرك به عن أخي الحاج رضوان، ذلك الإنسان الرائع الذي كنت تقولين عنه إنه أعظم رجل عرفته في حياتك.. هل تذكرين وصف صديقاتك له عندما كان في زيارتنا بفيسبادن قبل خمس سنوات؟.. أنت التي نقلت إليّ بأنهن شبّهنه بقدّيس محارب خرج لتوّه من إطار أيقونة تاريخية قديمة. طويل، عريض متين البنية، وضّاح، يتدفق النور من وجهه المتفائل البسّام.. ومن لحيته الجميلة تشعّ كل إيحاءات الرجولة الرصينة ومتانة الإنسان المتجذّر في الأرض.

لم يبق شيء من ذلك يا هيلدا.

حتى إنني، عند أول لقاء، لم أعرفه.

لكن دعيني أخبرك أولاً كيف وصلت إلى المزرعة.

جاءتني من المزرعة سيارة صغيرة، مكشوفة، عتيقة جداً بل شبه محطمة، كانت تثير خلفها زوبعة من الغبار الكثيف. وكان صوت هدير محركها يسبقها. ولقد أدهشني حقاً أن أراها تستطيع الصعود إلى أعلى التلة حيث كنتُ واقفاً أنتظر.

نزل السائق، وحمل حقيبتي ووضعها في السيارة:

- تفضّل عمي..

إنه بدوي ملثّم، وقد عرفت فيما بعد أنه يظل ملثماً باستمرار لأنه يخجل من أن يرى أحد شفته العليا المشرومة، وأسنانه السفلى السوداء، وسنّاً واحدة في واجهة الفك العلوي كبيرة أكثر مما ينبغي، وكانت تحت عينه اليسرى بقعة سوداء وزرقاء، لم أستطع أن أعرف ما هي أو ما أصلها. وكان هذا الشاب القوي خجولاً جداً.

قلت له: أنا الدكتور أحمد.. فمن أنت؟

قال: اسمي زاكي.

سألته: وما هذه السيارة العجيبة؟

أجاب: هذه هيئة الأمم.. عمي الحاج رضوان سمّاها هكذا.

قال ذلك وهو يبتسم، وقد عرفت ذلك من يده التي غطى بها فمه، كأنه يخشى أن أرى ابتسامته من تحت اللثام.

وراح يقود السيارة بمهارة وإتقان.

سألته: لماذا سمّاها هيئة الأمم؟

قال: لأنه ليس فيها قطعتان من بلد واحد.. كل قطعة حديد في هذه السيارة وردت من بلد،وعمي اشتراها ميتةً من مقبرة السيارات،وهو الذي عمّرها حتى صارت هكذا تمشي وتركض،وصوت منبّهها يصل إلى آخر الدنيا.

- وعمك موجود في المزرعة؟

- ها قد وصلنا.. وستعرف الآن كل شيء.

 

سحرني منظر المزرعة الخضراء في وسط هذه المنطقة القاحلة التي لا تقع العين فيها على غير المنبسطات الترابية الممتدة على مرمى البصر، تغطيها قشرة من بقايا الأعشاب القصيرة اليابسة التي تتناثر بينها أنواع من الحصى الصغيرة المسطحة.

وكانت حُمرة مغيب الشمس، وألوان المساء الصفراء والبرتقالية، قد زادت من جمال هذا الكون الصافي الواسع. ورأيت في المزرعة – على صغر مساحتها – صفوفاً من الأشجار المثمرة، وحقولاً خضراء من نبات البرسيم، تحيط بها سياجات من نباتات الذرة، وكان ثمة بركة ماء صغيرة ظننتها مسبحاً، ثم عرفت فيما بعد أنها حوض لتربية الأسماك. (متى انقلب الحاج رضوان من مصلح مضخات كهربائية إلى خبير زراعي؟). وكانت المزرعة مسيّجة بسور من أشجار الزيزفون الشوكية، فيه فتحة واحدة لا تتسع لمرور أكثر من شخصين. وقد لاحظت على يمين فتحة المدخل رحى طاحون ضخمة جداً من الصخر المنحوت ربما كان عمرها مئات السنين.

هنا ينتهي الدرب وتتوقف السيارة وننزل لنمشي إلى البيت الذي يتوسط المزرعة..

حمل زاكي الحقيبة ومشى أمامي. وعندما صرنا أمام الباب أسرع فأمسك بالكلب الذي كان ينبح بوجهي غاضباً متوعداً. ولكنني، في اللحظة ذاتها، فوجئت بزوجة أخي (هل تتذكرين أُمَّنا شفيقة التي لوجهها شفافية نور وجوه الملائكة؟) تأتي نحوي مسرعة ملهوفة وهي تقول:

- تعال يا أحمد.. أسرع.. إنها تموت.

- من هي التي تموت؟

- سلوى بنت أختك خديجة.

ودخلت البيت مسرعاً. كانت الأشياء في الداخل غير واضحة مع بداية عتمة المساء، غير أنني استطعت أن أرى رجلاً ضخماً جالساً على فراش ممدود على الأرض، وهو يحتضن طفلة صغيرة ويبكي بأنين خافت لكنه يمزّق القلب. كان يضم رأسها إلى صدره وينود بها وهو يبكي صامتاً. لم أعرف ذلك الرجل. كان حليق اللحية.

قلت: أشعلوا مصباحاً. ألا يوجد عندكم كهرباء؟

قال ذلك الرجل: لقد جئت في الوقت المناسب يا أحمد.. أنقِذها.

بُهِتُّ.. عرفتُه من صوته.. مستحيل أن يكون هذا هو الحاج رضوان الفَشاش. أين ذهبت لحيتك؟.. ثم.. لا يمكنني أبداً أن أتصور أن عملاقاً مثلك يبكي وينود مثل أمٍ ثكلى.. يا حاج رضوان.. هل هذا أنت؟

جلبت (أمنا شفيقة) مصباح نفط. فرأيت على نوره وجه أخي المبلل بالدموع ورأيت ذقنه بلا لحية لأول مرة في حياتي. وأخذت الطفلة من حضنه لأفحصها. كانت محمومة غائبة عن الوعي وهي غارقة بعرقها.

قال لي بلهجة استفزازية:

- افحصها جيداً واجعلها تشفى.. إذا ماتت فإنني أبصق على شهاداتك.

قلت له بأعصاب هادئة:

- لا تخف.. معها شيء من الحمى.. ربما بسبب التهاب في الأمعاء.. ومعي أدوية ممتازة في الحقيبة.

ووجدت نفسي أبتسم، يغمرني شعور بأنني أنا الأخ الأكبر القوي هذه المرة، وقلت له معاتباً:

- أهكذا تستقبلني يا رجل؟.. أين الأشواق التي احتقنت في القلب خمس سنوات؟

فرمى بنفسه عليّ، وعانقني بشدة، وراح يقبلني وهو يمسح دموعه ويقول:

- الحمد لله على سلامتك يا أحمد. لا تؤاخذني يا أخي.. فهذه الطفلة هي كل ما بقي لي من رائحة أختنا خديجة.

سألته بلوعة:

-          خديجة؟.. مالها خديجة؟.. أين خديجة؟

كفكف دموعه وهو يقول:

- ستعرف كل شيء في الوقت المناسب.. عليك الآن أن تعالج الطفلة.. ضع كل جهدك وفنك في شفائها.

فقلت محتجاً:

- بل إن من حقي أن أعرف الآن وفي الحال.. فأنت، في كل رسائلك، لم تخبرني شيئاً أكثر من أن زوج خديجة قد قُتل اغتيالاً على باب بيته أثناء المذبحة ..إذن أين خديجة؟

نهض الحاج رضوان واقفاً وهو يقول لي بلهجة آمرة:

- لا ترفع صوتك بوجهي.. أمرتك بأن تنتظر إذن عليك أن تنتظر.. لا تنس أنني أخوك الأكبر وأنني..

     ثم يبس الكلام في حلقه، فارتجفت شفتاه، وصمت، وتركنا وخرج.. وبعد لحظات سمعت صوته يدوّي من فوق سطح البيت: (الله أكبر الله أكبر).

     كان يرفع أذان المغرب.. لكن.. إذا كان يدعو الناس (حيَّ على الصلاة) فأين هم الناس في هذه البادية القفراء الخالية؟

     وكنت قد فتحت الحقيبة وأعطيت الطفلة المحمومة حبتين من دواء مناسب. وكان يقف حول الحقيبة المفتوحة أربعة أطفال. كانوا ينظرون إلى محتويات الحقيبة بعيون فضولية متسائلة.

كانوا ولدين وبنتين.

ولو أنني علمت أن في المزرعة مثل هذه المفاجأة لجلبت معي كل ما في فيسبادن من شوكولا   وألعاب وهدايا مفرحة.

قال واحد من الأطفال للآخرين هامساً بحذر:

- ليس معه بارودة (بندقية).

وظلت عيونهم شاخصة إلى أغراض حقيبتي المفتوحة. كأنهم يريدون التأكد من أمرٍ معين يشغل بالهم... فقلت لهم متأسفاً:

- ليس معي بارودة.. لماذا البارودة؟

فسألتني طفلة:

- يعني.. أنت لن تذبحنا؟

فجعني هذا السؤال المروع.. قلت لها:

- لا يا حبيبتي.. أنا أحبكم.. أنا أدافع عنكم.

فقالت الطفلة:

- يعني أنت مثل بابا رضوان؟

بابا رضوان؟.. التفتُّ إلى أمنا شفيقة التي جبلٍها الله من أوراق الورد والشرف والورع والحنان والعطاء والشهامة والنبل.. التفتُّ إليها بنظرات متسائلة..

قالت: هؤلاء أولادنا.. الحاج رضوان استدعاك لتعرف هذا.

فسألتها باستغراب أشد:

- أولادكم؟.. طول عمري لا أعرف إلا أنكم لم تنجبوا أي طفل. ولذلك عاملتموني أنا وخديجة معاملة ولدين، وأنت أمنا والحاج رضوان أبونا الذي سخَّر كل حياته لتربيتنا.. ما هي القضية أرجوك؟. خبريني.

ظلت شفيقة صامتة.. وحملت الطفلة ونقلتها إلى فراش آخر كانت قد أعدّته في ركن منعزل بالقاعة، وغطت الطفلة النائمة بلحاف، ثم عادت وهي تقول:

- سلمت يدك يا أحمد.. البنت يبدو عليها أنها استراحت وغفت في نوم هادئ عميق.. هل تأكل لقمة أم تشرب القهوة وتنتظر لتتعشى مع أخيك؟

- ومتى يتعشى؟

- لن ينزل عن السطح إلا بعد رفع أذان العشاء.. هذه عادته.. إذا صعد لأذان المغرب فلن ينزل قبل أن يصلّي العشاء.. مع أنه، في بعض الأحيان، يمر أسبوع أو عشرة أيام لا يؤذن فيها ولا يصلّي.

ثم التفتت نحو الزاكي وقالت:

- قم ورتّب أمور العشاء يا زاكي.. الدكتور أحمد يحب الدجاج المشوي بالتنور..

وقالت للأولاد:

- هيا يا أولادي.. اذهبوا وعاونوه في نتف الريش. حافظوا على الريش نظيفاً حتى نحشو به المخدّات.

فسألتها: وأنا؟

مدّت يدها بحنان لتأخذ بيدي قائلة: أنت تعال معي إلى الحنفية حتى تغسل وجهك.. فأنا لا أحب أن أقبّل وجنات كلها غبار.. قم معي..

نهضت ومشيت معها. ولا أدري لماذا انتابتني في تلك اللحظة حالة من الارتياح العجيب.بل إنني كنت كمن يكاد يطير من الفرح. وهو فرح غامض يشبه حالة من يشعر بأنه قد وصل فعلاً إلى برّ الأمان..

لكن أي أمان هذا المليء بالتساؤلات المخيفة والغامضة؟

قلت لها:

- كل هذا ولم تخبريني.. متى ولدتم كل هؤلاء الأطفال.

قالت:

- إنهم أولادنا قطعاً. وقد ولدوا من خاصرة المذبحة.

-  كلامك يزداد غموضاً.

- أخوك أقدر مني على إيضاح مثل هذه الأمور.

- متى؟

- عندما ينزل من على السطح.

قلت: ولم لا أصعد أنا إليه؟.

غسلت وجهي وخرجت.

صار منظر المزرعة أكثر جمالاً. والأولاد أشعلوا النار في التنور تحت الدرج.كانوا سعداء بلعبة نتف ريش الدجاج، وإلقام نار التنور بالأحطاب.. أما الدرج ذاته فإن الصعود عليه متعة بحالها.. إنه ألواح صخرية منحوتة بشكل بدائي، وبارزة من الجدار.. وحين وصلت إلى السطح سألني الحاج رضوان، الذي كان جالساً مثل تمثال:

- ما هي أخبار سلوى؟

قلت: استراحت.. وسوف تشفى بسرعة إن شاء الله.

قال: أحسنت.. طول عمري وأنا أقول إنك طبيب ماهر.. تعال اجلس هنا بجانبي.

جلست.. وقعدنا ساكتين.

ما أكبر قبة السماء.

ما أعظم أن تشعر بأنك واسع سعة هذه الدنيا الصافية، الهادئة، المتلألئة بالنجوم.

جلسنا إلى جانب بعضنا صامتين. صرنا تمثالين.. هو يفكر صامتاً وعيناه مسافرتان إلى البعيد البعيد، وأنا أفكر وعيناي مسافرتان إلى البعيد البعيد.. على أنه كان بين قلبينا خيط اتصال قَلِق نشعر به ولا نشعر.

ولم أسمع إلا صوته عندما صعد الكلب ومد رأسه من فوق نهاية الدرج، فصاح به (هشت) فلوى الكلب ذيله وغاب.

ثم مدّ يده إلى عبه وأخرج علبة سكاير، وقدم لي سيكارة:

- خذ..

- شكراً.. تعرف أنني لا أدخن.

فأشعل سيكارة وظل صامتاً.

قلت له: كنت أظنك لن تدخن طول حياتك.

قال: عندما كنت أعيش حياتي أنا، وفيت بالتزامي فلم أدخن قطّ.

- ما هذا الكلام؟.. إذن حياة من تعيش الآن؟

- لا أعرف.. إنني أعيش أي شيء إلا حياتي. أنا يا أحمد انتهيت في شهر المذبحة. صدقني إنني أحسد أولئك الشهداء الضحايا على أن الواحد منهم قُتل مرةً واحدة واستراح.. أما أنا فإنني قُتلت أربعين ألف مرة.. كلما ذبح الأوغاد بريئاً أعزل من أبناء مدينتنا كانوا يقتلونني أنا. ثم ينهض الشهيد منتصباً مثل إعصار من لهب مقدس فأنهض معه.. إنني أكاد أجن يا أحمد.. فهم مسكونون في محاجر عينيّ.. مغروسون في نخاع عظامي.. إن صورهم مرسومة على جدران جمجمتي من الداخل.. وهكذا فكيفما التفت دماغي فإنه يرى أسماءهم محفورة على جدران الجمجمة.

صمت لحظات، وهو يدخن بشراهة ثم قال:

- أليس عجيباً أنني لم أفقد عقلي حتى الآن؟.. إنني ما عدت أحتمل يا أحمد..

فوجدت الفرصة المناسبة لأن أقول له:

- وبين تلك الصور الكثيرة.. أين موقع أختنا خديجة؟

- لا أعرف.

- لكن معلوماتي أنها نجت من المذبحة.

- هذا صحيح.. في اليوم الأخير من ذلك الشهر الدامي الرهيب انتهت المذبحة الهمجية.. ثم دارت سيارات الخنازير المصفحة تتجول بين ركام المدينة القتيلة، والأوغاد ينادون بمكبرات الصوت داعين الأهالي للخروج من بيوتهم والتوجه إلى أعمالهم.. المسكينة خديجة أطاعت الأوامر فخرجت من بيتها لتفقد صيدليتها.. أتدري يا أحمد؟؟ أحياناً أقول لنفسي أن خديجة كانت أشجع منا جميعاً. فقد ظلت ثمانية أيام تحاول أن تخرج إلى الشارع لتسحب جثة زوجها الذي اغتالوه أمام الباب. وظلت تحاول وتعرض حياتها للخطر إلى أن استطاعت في اليوم الثامن أن تصل إليه وتسحبه بأظافرها وبأسنانها.. من أين جاءتها كل تلك القوة والشجاعة والجلَد؟.. ثم حفرت في فناء البيت ضريحاً ودفنت زوجها فيه.

- وبعد ذلك؟.. ماذا حدث عندما خرجت لتتفقد صيدليتها؟

- لا أعرف.. إن ما يقلقني فعلاً أنني لم أكن عندهم في تلك الساعة. فربما كنت نصحتها بأن لا تخرج.. لكنها خرجت.

- وبعد ذلك؟

- خرجت ولم تعد.. أين صارت؟.. لا أحد يعرف.. فهناك مثلها أكثر من سبعة آلاف مفقود خطفوهم في يوم واحد ولا يعرف مصيرهم إلا الله.

وأطرق برهة ثم قال: رحمة الله عليك يا خديجة.

وعدنا إلى الصمت.

كانت عتمة الليل في هذه الدنيا الواسعة، وهدوء كل شيء، ووميض النجوم البعيدة، حالة تجعل الأعصاب تنساب على شريط حريري ناعم، مريح، نظيف، نقي.. لذلك فقد كانت الأسئلة الصامتة أكثر إيلاماً. وقررت أن أتوقف عند هذا الحد من الأسئلة.. وعند هذا القرار شعرت كأنني كنت سائراً في نومي وأفقت. وهاهي مروحة مضخة الماء. في أعلى برج المضلعات الحديدية، تبدو أمامي مثل شبح كبير، وها إنني أسمع صوت زقزقة دورانها بوضوح. كيف لم أنتبه لهذا الصوت قبل الآن؟.. زيق.. زيق.. زيق..

ثم فوجئت بأخي يقول:

- بالمناسب كيف حال بناتك؟

قلت:

- ثلاثتهن بخير..وقد بعثن إليك بمجموعة من صورهن مع القبلات الحارة. إنك لا تفارق خيالهن أبداً.. ولا حديث لهيلدا معهن إلا عنك.. هيلدا مصممة على أن تجعلك مَثَلهنّ الأعلى.

- هيلدا بنت أصل.. أتدري متى حكمت قطعياً بأنها بنت أصل؟.. من يوم أن وجدتها توافق     على تسمية ابنتك البكر باسم عائشة.

قلت: عائشة وسكينة وخولة.. وهيلدا تثني أيضاً على ما يرد في رسائلك من ضرورة تعليمهن الصلاة.

- آ.. صحيح.. أنا لم أسألك عن هذا.

- اشتريت لهن أسطوانات فيها تلاوات من القرآن الكريم.

- هذا جيد.. ولكنه لا يكفي.

ثم نهض ونادى:

- يا زاكي هات إبريق الماء لأتوضأ.

فقلت بحماسة: أنا سأفعل ذلك.

وأسرعت فنزلت، مدفوعاً بفرح طفولي عجيب، وجلبت الإبريق، وانحنيت أسكب الماء على يديه ليتوضأ.. ثم إنه جفف وجهه ويديه بكوفيته، ثم وقف فرفع أذان العشاء، ثم أدى الصلاة وبقيت أنا أتأمله ساكناً.

كنت أنظر إليه.. وأستمع إلى تلاوة القرآن الكريم، وأرى كلمات القرآن تخرج من فمه فتصل إلى النجوم.. فقد تحول الكون بكامله إلى عالم من الخشوع الرائع الجليل.

هل من الضروري أن يكون الإنسان مسحوقاً، مظلوماً، مذبوحاً، حتى يسمو إلى مصاف أهل المعجزات والخوارق؟

كنت أرى أخي وهو واقف يصلي ويتلو القرآن، يطول، يعلو، يسمو، يكبر، يكبر، يكبر، حتى صار رأسه عند النجوم، وصارت شفتاه عند غيوم الملائكة تماماً، وصار صوته هناك درباً أثيرياً متماوجاً بنعومته، تمشي عليه بتمهّل أصوات أربعين ألف ضحية قتلهم الطاغية أثناء المذبحة. كانوا يقولون له، وعظام أيديهم ممدودة نحوه: لا تنس  يا حاج رضوان. ابق معنا.. ظلّ معنا.. نحن أنت..

ثم صحوت على صوته يقول لي مداعباً:

- وصلت رائحة الخبز الشهية من التنور. ألا ننزل للعشاء؟..

*        *       *

ارتديت بيجامتي وجلست معهم على الأرض، يغمرني شعور بالارتياح والسعادة والبهجة كأنني عندما خلعت ثيابي وارتديت البيجاما صرت إنساناً جديداً. كأنني خلعت عن جسدي كل متاعب السفر. وكدت أقول لأخي بحماسة: سوف أسهر معك الليلة حتى الصباح.

وكان أخي قد جلس على طُرّاحته الأثيرة. وهي فراش من الإسفنج ممدود في مكان معين من القاعة، منه يستطيع أخي، وهو متكىء على الوسائد، أن يمد يده فيفتح النافذة "فيرى العالم كله" حسب تعبيره. على هذه الطّراحة كان أخي يجلس ويأكل، وينام، ويشرب القهوة، ويقعد ساعات طويلة متكئاً على وسائده الثلاثة. إنها الطراحة المقدّسة.

ووضعوا أمامه طبق القش الذي سرعان ما امتلأ بالخبز الطازج، والدجاج المشوي، وصحون اللبن، ورؤوس البصل والطماطمة، وماعوناً كبيراً مليئاً بسلطة خضار رائعة.

وجلس حول هذه المائدة الشهية الأطفال الأربعة وشفيقة. أما الزاكي فقد أُعطي نصيبه ليتعشّى هناك وحده، في ركن منعزل، لأنه يرفض أن يراه أحد أثناء تناول الطعام.

ومن باب التكريم الخاص، فقد دعاني أخي لأن أجلس معه على الطرّاحة المقدسة.

- هيا يا أولاد.. كلوا باسم الله.

ثم قال لي ناصحاً:

- أنت لا تأكل الآن.. لأنك إذا أكلت يذهب الدم من الدماغ إلى المعدة فتنعس وتنام، وأنا أريد أن أسهر معك الليلة حتى الصباح.

فأطعته، رغم أنني كنت جائعاً جداً، واكتفيت بأن أخذت من رغيف شبه محروق قطعة خبز محمّصة كانت ألذّ من أي كعك يمكن أن يتذوقه إنسان، وكنت أمضغ لقيماتها الهشّة على مهل وأنا أتأمل السعادة الغامرة على وجه أخي الذي يحثّ الأطفال على الطعام ويلقمهم لحم الدجاج بيده وهو يقول لهم مسروراً:

- كلوا يا أولادي.. ألف صحة وعافية على قلوبكم..

ثم يلتفت إليّ قائلاً:

- علّم بناتك أن يأكلن هكذا.. مثل العجول.

وكأن كلمة "العجول" ذكّرته بشيء ما، فالتفت نحو الزاكي وسأله:

- هل عشيتَ حفيظة؟

فأجابه الزاكي من مكانه المنعزل:

- نعم عمي.. عشّيت حفيظة وملأت معلفها بالبرسيم.. وقطّاش أيضاً سوف يشبع من هذه العظام.. ملعون الوالدين.. يقرقش العظام وكأنه يقرقش قضامة..

وهكذا أدركت أن "قطّاش" هو اسم كلب المزرعة المخيف.. لكن من هي حفيظة؟

أخبرني الولد الأول وهو يأكل: عندنا بقرة كبيرة اسمها حفيظة..

وقالت إحدى البنتين: وعندنا أرانب كثيرة.. كثيرة جداً ولكنها بلا أسماء.

وأخبرتني البنت الثانية: وعندنا أسماك كثيرة أيضاً.

وقال الولد الثاني: وعندنا قط مدلل اسمه شحادة.

- أين شحادة يا زاكي؟.. كأنني لم أره اليوم.

فقال الزاكي:

- لا تخف عليه عمي.. تراه شرد للبحث عن قطة.. إنه يريد أن يتزوج.

ضحك الأولاد لهذه الخبرية الطريفة. أما الحاج رضوان فقد قال للزاكي:

- عقلك مأخوذ دائماً بأمنية الزواج يا ملعون.

- عمّي.. ألم تعدني بأن تدبّر لي عروساً؟

- وأنا ما زلت عند وعدي.. سوف أزوجك حتى لو بعت ثيابي.. لكن، ألا تخبرني يا محروق الباط أية فتاة هذه التي تقبل بأن تتزوج شاباً يخجل من وجهه؟

فانفجر الجميع ضاحكين..

ووجدت نفسي أقول للزاكي:

- لا تحمل همّاً يا زاكي.. إن كانت هذه هي العقبة التي تعرقل زواجك فأنا مستعد لأن أُجري لك عملية تجميل.

فسألني بابتهاج غامر: صحيح؟..

أجابه الحاج رضوان: طبعاً صحيح.. ألا تعرف أن الدكتور أحمد من أشهر أطباء الجراحة في ألمانيا؟

فسألني الزاكي: هل تأخذني معك إلى ألمانيا؟

- بل نعالجك هنا.. سأتفق مع أحد المشافي في العاصمة وأُجري لك عملية لتجميل الشفة. كن واثقاً من أنها ستعود شفة سليمة وطبيعية تماماً.

- والأسنان؟

- وأسنانك أيضاً.. يجب أن نجد لها حلاً..

- وهذه البقعة السوداء تحت عيني.

فضحك أخي وقال له:

- ما أشد طمعك يا زاكي.. مع أنني كنت أتصور أنك لن تجرؤ على دخول مستشفى بعد الذي جرى لك..

والتفت نحوي وروى لي القصة:

- التهبت عنده الزائدة الدودية، فأجرينا له عملية استئصال في مستشفى حكومي، ولكنه بدلاً من أن يشفى استفحل به المرض حتى أشرف على الهلاك. أتدري ماذا تبيّن بعد ذلك؟.. لقد نسوا المقصّ في بطنه.

قال الزاكي مصحّحاً:

- بل نسوا الخرطوم عمي..

فضحك الأولاد من جديد.. بينما تابع أخي سرد القصة:

- المهم أننا اضطررنا لإجراء عملية جراحية ثانية كلّفتني قيمة بقرة جحا.. لكن الزاكي يستأهل.. إنه عزيز على قلبي.

- وأنا خادمك عمي..

- بل أنت ولدي يا زاكي.. أما حذّرتك ألف مرة من أن تلفظ كلمة "خادم" أمامي؟.. يا زاكي أنت مثل هؤلاء الأقمار الجالسين حولي، ابني وقرة عيني.. وإنني مستعد لأن أحملكم على كتفي وأمضي بكم إلى آخر الدنيا.. المهم أن تشعروا بالأمان.. المهم أن لا تشعروا بأي خوف أبداً..

*        *       *

نبح الكلب في الخارج، فنهض الزاكي وفتح الباب وغاب لحظة ثم عاد مبتسماً وهو يحمل القط "شحادة" على صدره. وتقدم فوضعه في حضن الحاج رضوان الذي فرح بذلك "فرحاً حقيقياً" حسب تعبيره.

نظرت إليه وهو يمسّد شعر القط النائم هانئاً في حضنه، وقلت لنفسي: ما أجمل الدنيا..

سألته: هل تحبه يا أخي؟

قال: ليست مسألة حب. وإنما من الممتع للإنسان أن يشعر بأنه ما زال في الدنيا مخلوق يعتمد عليه ويطمئن إليه. هذا القط أنا أعطف عليه عطفاً حقيقياً، وهو يثق بي ثقة حقيقية..

ثم التفت إلى زوجته وسألها:

- هل نام الأولاد؟

- نعم.. ناموا..

- وسلوى؟

- تحسنت كثيراً.. وأظنها تتماثل للشفاء بسرعة..

قال: إذن ما دمنا بقينا وحدنا، أنا وأخي، هاتِ العرق.. أريد أن أحتفل بوصول أخي..

نزلت كلمة "عرق" نزول الصاعقة على رأسي.

كيف؟..

مستحيل..

سألته باستغراب شديد: عرق يا حاج رضوان؟

أجابني وهو يبتسم: أعرف أن كل أهل ألمانيا عجزوا عن إقناعك لشرب أي مسكر حتى ولا البيرة.. لكنك لو عشت هنا عندنا فسوف تجد الأجوبة على كل تساؤلاتك.

وأطرق صامتاً ثم سأل نفسه: "عرق"؟ وأجاب نفسه: "نعم وهو عرق حقيقي ومن صنع يديّ أيضاً"..

ثم قام فصنع من بقايا المآكل القديمة مآكل جديدة تماماً ولذيذة جداً..

جلب صحن اللبن فأضاف إليه ثوماً مسحوقاً، وملحاً، ونعناعاً، وكثيراً من الخيار المثروم.

جلب صحن السلاطة فأضاف إليه الخل والبصل والزيت.

جلب بقايا الدجاج المشوي وراح يجرّد اللحم عن العظم، وهو يشم كل قطعة بمتعة ونشوة ويقول: هذه أكل منها خالد.. وهذه رائحة فردوس.. وهذه القطعة مجّدتها باللمس أنامل وداد.. وهذه قضم منها عبد الفتاح الذي رائحته أزكى من رائحة التفاح..

وبذلك عرفت أسماء الأولاد..

وسألت نفسي: من أين جاءت هذه الشاعرية لأخي؟

غير أنني فرضت على ذهني، منذ بداية السهرة، أن لا أهدر الوقت بالتساؤلات السخيفة.

سألني الحاج رضوان: أين الأمانة؟

- أيّة أمانة؟

- ألم تخبرني بأن بناتك أرسلن إليّ صورهن؟

قلت: "دع ذلك إلى الصباح، فالنور الآن ضعيف"..

وأشرت بيدي إلى المصباح.

كان مصباح نفط عادياً، موضوعاً على الأرض في وسط طبق القش كأحسن زينة بين صحون المآكل والمقبلات. وكان مصباحاً زجاجياً نظيفاً شفافاً ومتألقاً، تشتعل نهاية فتيله بنور هادئ وناعم وأنيس جداً بحيث تظل الإضاءة الخافتة في هذه القاعة الواسعة لطيفة وشاعرية وموحية، بل إن نور هذا المصباح البسيط كان يفعل في تحريك الخيال فعلاً عجيباً، خصوصاً عندما كان أخي يقوم ويتحرك ليجلب صحن خيار أو ملعقة مثلاً، وخلال ذلك تسنّى لي أن أكوّن تصوّراً دقيقاً عن هذه القاعة التي يبدو لي أنها كل البيت، أو هي مركز الثقل فيه. فالباب الخشبي الكبير يصلها بالعالم الخارجي مباشرة، وفي الجدار المقابل توجد النافذة التي ما إن يفتحها أخي، ويفتح الباب، حتى يرى كل العالم وهو جالس على طراحته الوطيدة.

ويوجد قرب الطرّاحة أيضاً موقد كبير في قلب الجدار، يستغله الحاج رضوان في ليالي الشتاء، بأن يشوي اللحم على الجمر فيه دون أن يتزحزح عن طراحته، فهو ما إن يجلس ويتكئ على وسائده الثلاث حتى يعجز عن القيام أبداً. غير أنه خرق القاعدة هذه الليلة لأن أمّنا شفيقة تأنف من أن تخدم مائدة سكارى، أو هكذا فهمت..

وتنتهي المدفأة، في أعلاها، بلوح رخامي بارز من الجدار، توجد عليه شمعتان، وربما كان هذا اللوح هو قطعة الرخام الوحيدة في البيت كله، فالجدران مبنية بكتل صخرية غير متناسقة، وفي هذه الجدران نرى بابين متقابلين يوصلان إلى غرفتين لم أدخلهما بعد، ونافذة أخرى، وكوّة هنا فيها آنية أزهار، وكوة هناك فيها كتب صفراء قديمة، وكوة ثالثة فيها حنفية المغسلة.. وفي ركن القاعة قنطرة جميلة مغطاة بستارة من القماش الملون، وربما كانت خلفها قناطر أخرى توصل إلى المطبخ وإلى الأسرار المكانية الأخرى. فأنا أحببت أن أخبئ لحظات التعرف على معالم هذا البيت إلى مواعيد متفاوتة حتى أستمتع بلذة "اكتشاف الأسرار" وسأبدأ غداً بأن أصعد هذا الدرج الداخلي، المبني مع الجدار، والموصل إلى باب عليّة، هي الغرفة الوحيدة فوق السطح، أما ما تحت الدرج فهو قنطرة كبيرة وضعوا فيها أكداس الفرش..

وعلى حوافّ أرض القاعة –هي مبلّطة بالحجر المنحوت الصقيل- بُنيت مصطبة منخفضة تمتد مع نهايات الجدران الأربعة. وهي مصطبة عريضة تصلح للجلوس نهاراً، ويمكنك أن تتمدد عليها فتنام ليلاً. وهذا ما فعله الزاكي الذي نام منذ زمن.

ولم يكن يزيّن الجدران أي عمل فني إلا صورة لإحدى نواعير مديتنا..

سألني أخي بلهجة فيها الكثير من الاعتزاز: إنك لم تخبرني.. ما رأيك بهذا العرق؟

فقلت ممازحاً: وهل هذا سؤال؟.. إنه عرق حقيقي وتقدمي وحضاري أيضاً..

فضحك أخي بسعادة حقيقية وقال لي:

- إذن قم وتفقّد أحوال سلوى قبل أن تسكر.

ففوجئنا بصوت أمنا شفيقة وهي تخاطبنا من خلف باب تلك الغرفة:

- طمّنوا بالكم.. البنت بخير.. حرارتها طبيعية وتنفّسها عادي.. وأظنها قادرة على أن تأكل.

فنهض أخي، وحمل صحناً كان قد جمع فيه قطعاً معينة من لحم صدر الدجاج، وأوصله إلى تلك الغرفة ورجع.

قال وهو يجلس:

- الآن تأكل هذا اللحم الأبيض فتشبع.

ثم عاد إلى صمته.

وهكذا بقينا أنا وهو وحيدين.

قلت له ونحن نشرب ونأكل:

- أريد أن أسألك بعض الأسئلة.

قال:

- أريدك أن تسألني أولاً لماذا أرسلت بطلبك بكل هذا الإلحاح.. انتظر.. لا تقاطعني.. سوف تظن أنني استدعيتك من ألمانيا لأثير معك همّي القديم، وهو أن تحلف لي على المصحف الشريف بأن لا تزوّج أياً من بناتك من إنسان من غير جلدتنا وديننا.. هذا صحيح.. فأنا والله أكاد أجنّ ويطير عقلي من رأسي حين أتصور أن واحدة من بناتنا، ومن آل الفشاش، قد تزوجت مخلوقاً ليس عربياً أو ليس مسلماً.. إياك ثم إياك أن تفرّط بشرفنا يا أحمد.. إن عظامي، وأنا في قبري، سوف تهتز لو حدث هذا.. أعوذ بالله.

انتهى كلامه يا هيلدا..

ومن العجيب فعلاً أن أسجّل هنا نص كلامه الحرفي تقريباً مع أنني خلال حديثه كنت مشغولاً بتأمل حركات شفتيه. كنت أنظر إلى وجهه وكأنني أرى إنساناً جديداً لأول مرة. كانت شفتاه تتحركان، وكنت أنظر إلى خديه، إلى عينيه، إلى حاجبيه، إلى حركة جوزة حلقه. كان وجهه قد تحلّل أمام عيني إلى عوالم كثيرة شعرت بأنني –حيالها- رسام من أولئك الفنانين الذين "قبضوا" على سر الوجود من خلال لمحات معينة أو ومضات لا نقدر على الإمساك بها نحن الناس العاديين.

تسألينني: ماذا أجبته؟

لقد قلت نفس الكلام الذي وعدته به عندما زارنا في فيسبادن آخر مرة قبل خمس سنين.. هل تذكرين؟ قلت له: كن مطمئناً من هذه الناحية.. ولكن مالك شردت عن الموضوع الأساسي.. أنت تريدني أن أسألك عن سبب إلحاحك على مجيئي من ألمانيا لماذا دعوتني؟

قال....

لم يقل شيئاً.. ففي تلك اللحظة سمعنا نباح "قطاش" خارج البيت. كان ينبح غاضباً منزعجاً.

فتح أخي درفة النافذة فرأى في العتمة مصباحي سيارة شاحنة كبيرة.. وأمامها سيارة عسكرية..

كانوا قد وصلوا إلى مدخل سياج المزرعة..

قال أخي حانقاً: أعوذ بالله.. طارت السكرة. ماذا يريد هؤلاء الخنازير؟..

ثم التفت إليّ وأوصاني بأن أضغط على أعصابي إلى أقصى حد، وأن لا أتكلم إلا أقل الكلام، وباختصار. قال:

- من المهم جداً أن تظلّ هادئاً رصيناً.. إياك ثم إياك أن يستفزّوك.. لعنة الله على الخنازير..

يتبع