أين الحقيقة(1)

أين الحقيقة؟؟

(1)

رواية: ابتسام الكيلاني

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً. وبعد:

إنهم مجموع من الشباب والفتيات يبحثون عن الحقيقة..

ترى هل سيهتدون إليها؟..

إنهم يعيشون في الأعماق ويرفضون الزبد..

يستعملون عقولهم... ويقاومون الغفلة...

تأسرهم آيات الكون.. ويأبون الأوهام..

يسعون إلى الحرية.. ويأبون العبودية..

لا شك أن للحياة حقيقة..

ترى ما هي؟.. وأين هي؟

هل الحياة دار تتحقق فيها الرغبات والشهوات؟.. ولا شيء غير ذلك؟

هل الحياة كفاح متواصل لملء البطون والجيوب ثم ينتهي الأمر بالفناء؟..

أم للحياة معنى آخر يبحث عنه هؤلاء الشباب؟

سنرافقهم في رحلتهم.. ونتعرف على ما وصلوا إليه..

ترى هل ستتحقق طموحاتهم ويصلون إلى الحقيقة؟ أم يعودون خائبين لينغمسوا في غثاء الحياة مع المنغمسين؟..

ابتسام الكيلاني

 

الفصل الأول

في بلاد الحضارة

هل الإنسان بحاجة إلى الدين؟

وهل يكفي أن يرث الإنسان ديناً؟

أسندت أم عمر رأسها بيدها، وراحت وراء الماضي والذكريات..

هاهي الفرحة تعم البيت، إنه أول مولود ذكر يطل على الأسرة.

ثلاثة إخوة: الأكبر رزق بأربع بنات ولم يأت الصبي، والأوسط رزق بثلاث بنات، والأصغر كان الاستفتاح ببنت أيضاً، ولكن هاهو الحال يتغير ويطل الصبي وتعم الفرحة الجميع، إنهم يعتزون بأبيهم ويودون أن ينجب أحدهم ولداً يسمى على اسم جده، وشاء الله سبحانه أن يكون هذا المولود من نصيب الأخ الأصغر..

جاءه عمر بعد أن استفتح برغداء ابنته البكر.

وتمر الأيام والليالي والصبي موضع اهتمام الجميع، يوجه ليكون صورة أخرى عن جده في الدين والعلم والأخلاق، لقد اختيرت له أفضل المدارس، وأفضل المدرسين، وبعد أن أنهى دراسته الجامعية، أرسلوه ليكمل دراسته في فرنسا، بالرغم من صعوبة ذلك.

ترى أين هو الآن؟

هاهو... إنه يعيش وسط هذا البحر المتلاطم من القيم والعادات التي تخالف ما نشأ عليه، وما غرس في أعماقه من مبادئ، لقد جلس على حافة فراشه، بينما انطلقت أفكاره بعيداً إلى أرض الوطن؛ إلى أمه.. وأبيه وإخوته.. إلى المدرسة والشارع.. إلى رفاقه وأساتذته.

وأخرجه من أفكاره صوت رفيقه سامي:

- إنك لم تجبني، هل ستذهب معي لنسجل في الدورة الصيفية لإتقان الفرنسية؟

- نعم.. نعم.. سأذهب، فأنا بحاجة لهذه التقوية.

- إذن هيا بنا ودع عنك ما تفكر فيه، أنت الآن في فرنسا، وعليك أن تجاري الظروف وإلا فشلت وعدت كما جئت.

- كيف أتخلى عن هويتي وأخلاقي؟.. كيف تريدني أن أرمي وراء ظهري ما حملته من احترام للمرأة؟.. وأن تتحول المرأة في نظري ببساطة إلى مجرد متعة وملهاة؟.. كيف؟.. قل لي بربك؟..

- سيضطرك الواقع إلى ذلك.

- سأهزم هذا الواقع إن شاء الله.

- الغد آت وسنرى.

- هداك الله وهداني.. سأرتدي ثيابي ونذهب قبل أن يفوت الوقت.

وخرجا مسرعين إلى الحافلة التي أقلتهما إلى المكان الذي تنظم فيه تلك الدورات لتقوية اللغة الفرنسية. ويتجمع في تلك الدورات شباب وشابات من مختلف دول العالم، وأجريت الاختبارات بعد تسجيل الأسماء، وحددت المستويات، ووجد عمر نفسه مع مجموعة من الفتيات الجميلات، إلى جانب عدد من الشباب، والجنسيات مختلفة، ويبدو أن الجميع يدينون بالنصرانية، ولفتت نظره سيدة ربما كانت مسلمة، ففي احتشامها واتزان تصرفاتها ما يوحي بذلك، لا شك أنها مسلمة، فقد توج رأسها الحجاب، كما جلست بجانبه فتاة شقراء حيته بلطف وأخبرته أن اسمها آن وهي من النرويج، ولفت نظره خلو وجهها من الزينة، وحركاتها من الميوعة، ولباسها من التبذل، مما أذهب عنه بعض ما شعر به من الغربة.

واعتلى المشرف المنصة معرفاً بنفسه:

- اسمي جون.. اختصاصي علم الأحياء.. أهوى اللغات وخاصة لغة بلدي، ومن أجل إتقان اللغة، سنناقش في هذه الدورة موضوعات متعددة.. مثل الدين والعلم.. والدين والجنس.. والمرأة والعمل..

ووجد عمر نفسه يستعيذ بالله، فقد أحس أنه وحيد وقد يهزم، ماذا يفعل؟ وكيف سيتصرف؟ ولكن كيف ينسى أن الله معه ولن يتخلى عنه؟

وشعر بنظرات الفتيات تلاحقه، فقد كان في سمرته وعنفوانه جاذبية، ربما شدت إليه نظرات الفتيات الجميلات.. آه لو يعلمن مدى حرمانه، وكم يقاوم وهو في فورة شبابه وقد وضعت أمامه كل هذه المغريات، ومع ذلك ففي أعماقه مبادئ ومثل تمنعه من أن يمد يده، ولكن إلى متى؟..

واستعاذ بالله مرة أخرى.. وانتهت الجلسة.

وذهب عمر إلى مقر إقامته وهو يفكر فيما يخبئه له الغد، ونام وفي أحلامه اختلطت الأمور، ورأى أيدي الفتيات تمتد إليه، كل منهن تريد منه شيئاً، واستيقظ منهوك القوى، لم يصلّ الصبح وقد فات الوقت، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إن سامي يستعجله ليذهبا إلى الجامعة، وقد بدا سعيداً منشرحاً، وراح يقص على عمر أحداث البارحة، والزميلة التي سعد بصحبتها، وتواعد معها على لقاءات مستقبلية، وتمتم عمر:

- اتق الله يا رجل.

بينما انصرف بأفكاره بعيداً حيث الفتيات الجميلات هناك في مقر الدورة، يبدو أن هذه الدورة ستكون القاضية على ما تبقى من مقاومة في كيانه المستهدف للإغراء والاستثارة في حله وترحاله، وتمتم:

أين النجاة ولا مفر؟..

ثم استدرك:

إليك ربي سأفر، اللهم امنحني الحماية والثبات.

ثم علا صوته موجهاً الكلام لسامي:

- يبدو أنه من الخطأ أن يأتي الإنسان إلى هذه البلاد قبل أن يتمم نصف دينه ويتزوج.

رد سامي:

- يا أخي تمتع قليلاً.. قبل أن تسجن وراء أسوار الزواج.

- أعوذ بالله من الشيطان الذي تسهل له طريق الإيقاع بك.

- آه. إن الأمر صعب.. صعب جداً.. وأنت لا تدعني لسعادتي أبداً..

- إنها سعادة لحظات، تذهب ويأتي الندم، ولات ساعة مندم، فكم من متعة ذهبت لذتها وبقيت تبعتها.

ومرت الأيام وجاء موعد الدورة، إنهم يتناقشون في موضوع المرأة والعمل، فلنر ماذا سيقولون، وفكر.. قد يشارك ويدلي بدلوه، فهو متحدث بارع، وله رأيه في هذا الموضوع. وبدأت الندوة وانبرت للحديث فتاة إنكليزية، قالت:

- إن المرأة كالرجل تملك كثيراً من الخبرة والذكاء ويجب أن تمارس العمل خارج البيت لتثبت شخصيتها وتؤكد وجودها.

وأيدتها فتاة هولندية فيما ذهبت إليه وقالت:

- إنها تشعر بالأسف والحزن لما آل إليه وضع المرأة وخاصة في العالم الثالث، حيث تتعرض في كثير من الأحيان لاختزال آدميتها، بحيث تنتهي في بعض الأماكن إلى مجرد حاضنة للأولاد، أو أداة للإنجاب.

وتكلمت سيدة بريطانية معترضة وقالت:

- إنني أعمل في بيتي منذ عشر سنوات، ولا أشعر بضجر ولا اختزال لشخصيتي، وليس العمل خارج البيت شرطاً للمعرفة، فالمعرفة باب مفتوح للجميع، إنني أستقيها من ينابيعها وأقدمها لأطفالي وزوجي، إنني أجد آدميتي وإنسانيتي في بيتي، فالأسرة السليمة أساس الوجود البشري، وأساس الحضارة، والمرأة تصنع هذا الأساس.

قالت سيدة أمريكية:

- هذا الكلام فيه كثير من الخيال والبعد عن الواقع، وأظن أنك تمثلين عنصراً غريباً في المجتمع المتحضر، إن حرية المرأة واستقلالها لن يتحققا إلا من خلال عملها خارج البيت واستغنائها عن مساعدة الزوج.

وعندئذ نهضت تلك السيدة المحتشمة قائلة:

- لا داعي لأن يأسف البعض لأننا نحن نساء العالم الثالث محرومات من ممارسة كثير من الأعمال التي يمارسها الرجال، إننا نحن النساء أحرى بالحزن والأسف والندم، لأننا خدعنا عندما حملنا حملين ثقيلين في يد واحدة، وقيل لنا هذا هو التقدم، ومن هنا الرقي، فأجهدنا الحمل وفقدنا السيطرة عليه، وكان ما كان، لقد أبعدنا عن رسالتنا السامية والتي هي بناء الإنسان، أهملنا البيت والأسرة، فكان نصيبنا الشقاء والخسران، لقد غرروا بنا، نعم، هذا هو شعور كل امرأة عاملة، وما سمعته خلال سنوات كنت فيها أعمل خارج بيتي، مملكتي، يثبت ذلك. أنا أم أنشئ من يبنون المستقبل، فلماذا يستهان بعملي وجهدي؟.. لماذا يدفعون بي لمزاحمة الرجال؟

- وتلا ذلك لحظة صمت.. ثم انبرت فتاة هولندية تدعى سلفا تعرض من جسدها أكثر مما تستر، انبرت قائلة:

- هذا كلام غريب، أنت تسيرين في عكس التيار تماماً، وأنا أرثي لحالك، أنت ضد حركات التحرر في العالم.

ونهضت النرويجية التي تجلس بجانب عمر قائلة:

- لا داعي للرثاء إنها على حق، وليست وحدها، وستجد كثيرات يشاركنها هذا التيار وهن مطمئنات، لقد قرأت كتاباً للكاتبة الأمريكية "دانيال كرايتندل" حول هذا الموضوع وإنها تنتقد حركة تحرير المرأة وتدعو المرأة للعودة للبيت وممارسة وظيفتها كزوجة وأم، وعندئذ ستتخلص من القلق والاكتئاب والإحباط، كما تدعو المرأة إلى الزواج المبكر والمكوث في المنزل مع الأطفال حتى دخولهم المدارس على الأقل، ليت كل النساء الهائمات وراء السراب يقرأن هذا الكتاب ليتحررن من الخديعة الكبرى "حركة تحرير المرأة".

وسألت السيدة البريطانية:

- ما اسم هذا الكتاب؟ إنني أود أن أطلع عليه.

قالت النرويجية آن:

- اسمه "ما لم تخبرنا به أمهاتنا".

وطلب مدير الجلسة أن يشارك الشباب في النقاش أيضاً، فتكلم شاب من السويد، وآخر من ألمانيا، وأيدا ما ذهبت إليه الفتاة الهولندية سلفا والأخرى الإنكليزية سارة.

وتأكد عمر أن تلك السيدة المحتشمة عربية مسلمة، وقد شدته جرأتها فنهض قائلاً:

- إنني أؤيد السيدتين اللتين أيدتا رسالة المرأة التي خصّها الله بها وهي الأمومة وبناء الأسرة السليمة، لقد أمر كتابنا السماوي المرأة بالاستقرار في البيت فقال سبحانه "وقرن في بيوتكن" أي أن يكون البيت مجالها الأساسي، فيه تطمئن، ومنه تعطي بقدر ما تستطيع، لا أن تكون كالكرة تارة في المرمى وتارة خارج المرمى، يلفها القلق وينهكها العمل، ولا يلتفت أحد لشكواها.

وانبرت الفتاة الهولندية سيلفا قائلة:

- هل معنى ذلك أن الخروج من البيت محرم على المرأة في دينكم؟ إنه السجن كما يبدو لي..

قال عمر:

- لا، أبداً.. للمرأة أن تستمتع بكل نعم الله، كما يستمتع الرجل، ودون تجاوز لأوامره سبحانه، ولها أن تمارس أي عمل مشروع إن كانت لها الرغبة ولديها الوقت، أو اضطرتها الظروف، على أن تؤمن أن عطاءها الأساسي في البيت، فهو ميدانها الخاص لا يشاركها فيه أحد.

وعندما جلس قالت له الفتاة النرويجية التي تجلس بجانبه:

- أحسنت فيما قلت، أرجو أن أطلع على دينكم من خلالك.

إنني منذ زمن أبحث عن ترجمة موثوقة لكتابكم المقدس، أو أي كتاب يعطيني فكرة صحيحة عن الإسلام.

سألها عمر عن اختصاصها قالت:

- أتابع تخصصي في مقارنة الأديان، وأتابع بحثي عن الحقيقة، وأنت ما اختصاصك؟ هل أنت عربي؟..

قال عمر:

- إنني أتابع دراستي في الطب وأنا عربي، ولكن عن أي حقيقة تبحثين؟..

قالت آن:

- أبحث عن عقيدة أؤمن بها وأجد فيها جواباً لأسئلة كثيرة تحاصرني وتقتلني.

- ألست مسيحية؟.

- بلى. إنني مسيحية بالوراثة، وأريد أن أختار عقيدتي عن علم ومعرفة واقتناع، ولذلك اخترت هذا الاختصاص.. وأنت.. ألست مسلماً؟.

- بلى.. ولكن يبدو أنني مثلك أخذت الدين بالوراثة وإن كنت أعرف أموراً كثيرة عن ديني وأنا مقتنع بها.

وانتهت الندوة وسار عمر في طريق العودة، وفي ذهنه تتصارع الأفكار، ولكنه كان يشعر بالراحة، لقد عبر عن رأيه، ولم يأبه لنظرات الاستنكار من بعض الشباب وبعض الفتيات، وشعر براحة غريبة عندما تذكر الفتاة النرويجية التي كادت تجلس بجانبه، وتبحث عن الحقيقة، وسيحاول أن يتعرف عليها أكثر في الجلسات القادمة، إنها مختلفة عن البقية في أمور كثيرة، وتذكر عبارتها "إنني أتابع بحثي عن الحقيقة".

ترى هل يعلم هو الحقيقة؟..

لقد تلقى دينه وقيمه عن والديه، وهو مقتنع بكل ما تلقاه، ولكنه لا يستطيع أن يدعي أنه يعلم كل شيء، وربما كان يجهل أكثر مما يعلم.. سيحاول أن يبحث معها.

ونقلته الحافلة إلى البيت، والتقى صاحبة البيت، إنها في عمر والدته، ويتعامل معها بكل احترام، وإن كانت تبدو في قمة المادية أحياناً، ولا تذكر الله أبداً، ولها ولد شاب، وزوجها رجل وقور وهادئ، ولكنه ضال مع الضالين.

وبادرته قائلة: يبدو أن النوادي الليلية لم تسرقك بعد.

قال: ولن تسرقني إن شاء الله.

قالت: أنت نوع فريد لم يصادفني من قبل.

قال: هذا حسن!

حياها ودخل إلى غرفته، فلديه أمور كثيرة يجب أن يقوم بها قبل أن يأوي إلى فراشه، وليبدأ بالصلاة، وبعد أن توضأ سأل الله أن ينير قلبه ويعينه على الثبات حتى النهاية، وأدى صلاة المغرب والعشاء جمعاً، ودعا الله أن يتقبل منه، ويكون عوناً له على متابعة المسيرة، بعيداً عن المغريات القاتلة التي تحيط به من كل جانب، وانبعثت في ذاكرته كلمات لرسول الله صلى الله عليه وسلم حفظها من والده:

"حفت النار بالشهوات.. وحفت الجنة بالمكاره.." رواه مسلم "رياض الصالحين رقم 103".

وتمتم: شتان بين الجنة والنار...

ثم أوى إلى فراشه وقد عزم أن يتدارس قضايا الدين مع تلك الفتاة النرويجية الهادئة التي تبحث عن الحقيقة، ومن خلال ذلك قد يعمق معرفته بدينه، وسيتعرف على معتقدات أخرى ألبسوها ثوب الحقيقة ولا يدري عنها إلا القليل..

وصحا في اليوم التالي على ضوضاء خارج غرفته، أطل من النافذة فرأى شاباً لا يعرفه، يتحدث مع صاحبة المنزل، وأمتعته بجانبه، يبدو أنه مستأجر جديد، يتكلم الفرنسية، لونه الضارب في السمرة يشير إلى أنه من إفريقيا، ترى من أي بلد هو؟..

رأى مدام فيوليت تتجه نحو غرفته وتطرق الباب، فتح الباب ورد التحية، وسألته:

- أومر (أي عمر)، هل تقبل هذا الشاب ضيفاً عندك لعدة ليال ريثما أجد له غرفة أخرى.

وتكلمت المروءة بداخله:

- نعم لا مانع.. أهلاً وسهلاً..

وانفرجت أسارير الشاب بعد أن غطاها اليأس ممزوجاً بالرجاء، وتوجه إلى عمر شاكراً معرفاً بنفسه:

- اسمي أحمد، آت من جنوب إفريقيا.. أتكلم العربية بصعوبة.

ورحب عمر به وشعر بالراحة، وزال ما اعتراه من التوتر الذي شعر به عندما قال: نعم لاستضافة غريب لا يعلم عنه شيئاً.. إن اسمه أحمد يتكلم العربية الفصحى وإن كان بصعوبة، وجه ضارب في السمرة من الوجوه التي يألفها عمر، بل يشعر بنوع من البهجة عندما يراها، لا يدري ما السبب وما التعليل، فمنذ صغره لازمته هذه المشاعر، إنه يحب السود، لعله الإسلام زرع في نفسه هذا الميل، أن تستوعب أعماقه جميع الأجناس والألوان، وخاصة من ظلمهم الطغيان، وحاصرتهم العنصرية، يحبهم كما أحب بلالاً وياسراً وعماراً وسمية، ويرجو أن يجتمع بهم في ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.

وجرت أحاديث فيما بعد بينه وبين أحمد، أخبره عن نشأته في تلك البلاد التي تسود فيها الديانة المسيحية، وأنه تعرض في مستهل شبابه لضغوط من قبل المبشرين المنتشرين في تلك البلاد، وقد أسست لهم جامعات ومعاهد لتأهيلهم وتدريبهم للقيام بهذه المهمة، كانوا يوجهون الانتقادات لنبيه ودينه فلا يستطيع الرد، فقد أخذ دينه وراثة عن أبيه، يصلي.... ويصوم... لا يشرب الخمر ولا يقارب الزنا... ومع ذلك يعجز عن مناقشتهم والرد عليهم، مما حفزه على الدراسة والاطلاع، وكثيراً ما كانوا يظهرون الشفقة عليه لأنه لن يستطيع أن ينجو ويدخل في ملكوت الرب مهما قدم من عمل صالح.

قال عمر: عجباً لهم إذا كان العمل الصالح لا ينجي الإنسان؛ فما الذي ينجيه؟..

قال أحمد: حسب عقيدتهم. المخلص هو شيء واحد، هو الإيمان بأن المسيح عليه السلام عذب وصلب وقبل ليخلص المؤمنين به من خطيئة أبيهم آدم ومن كل خطيئة يرتكبونها.

قال عمر: عجباً لهم، هل العمل ليس له قيمة؟! أعمل ما أشاء ثم أؤمن بما يريدون فأنجو ولو كان عملي سيئاً؟..

قال أحمد: نعم، هذه عقيدتهم التي يبرزونها للناس ويناضلون بها، مع أن ربنا سبحانه يخبرنا بغير هذا في القرآن الكريم:

)وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى( النجم 39-40.

)وكل امرئ بما كسب رهين( الطور21.

ومن أجل هذا جئت إلى هنا لإكمال دراستي في مقارنة الأديان وقد تأثرت بالداعية أحمد ديدات.

وأسعد عمر ما سمع، لا بد أن هذا الزميل سيساعده على التماسك والمقاومة، وعرض عليه أن يشترك معهم في تلك الدورة لتقوية لغته فوافق، وقال له عمر:

- سأعرفك على أخ يشاركنا العيش هنا اسمه سامي. قال أحمد:

أرحب بهذا يساعدني أن أتعرف على زملاء من العرب، فهذا يسعدني على تقوية لغتي العربية لغة القرآن الكريم.

- أراك تتكلم الفصحى، وهذا هو الصواب.

- نعم لقد درست اللغة العربية في معهد أقامه أحد الصالحين في بلادنا، وكان استيعابي لها بدافع من عقيدتي، وحرصي على فهم كتاب الله.

- هذا جيد.. أشعر بانفراج غريب في داخلي.. شعور من كاد يغرق فمدت يد لإنقاذه..

-  أنا أكثر انشراحاً منك.. إنه وعد الله للمتقين:

)ومن يتق الله يجعل له مخرجاً..( الطلاق2.

وسارا معاً باتجاه غرفة سامي..

الفصل الثاني

تطابق بين كتب الهندوس وأناجيل النصارى مع الباحثة عن الحقيقة

جلست آن في غرفتها تاركة العنان لأفكارها، في داخلها خوف وقلق يلازمها منذ الطفولة، إنها لا تنسى أبداً إحساسها بالخوف عندما كان يغادر والدها البيت منطلقاً إلى عمله، إنه خوف لم تكن تستطيع التعبير عنه، بل لا يوجد من يستمع لها، اهتمامات أمها موزعة بين أولادها الثلاثة، هذا عدا العمل الذي ينتظرها خارج البيت أيضاً، لذلك كانت تلجأ إلى صدر جدتها، فتجد بعض الراحة، وهكذا سارت بها الأيام بين القلق والخوف، في داخلها إحساس قوي بالضعف وبحاجتها لسند قوي تركن إليه، ولكن أين هو؟.. وتذكرت كلمات جدتها:

"المسيح مخلصنا من كل الشدائد والأهوال.. آمني به واذكريه، إنه الابن البار والإله المخلص لكل المؤمنين به، صلب وعذب من أجلنا وليكون فداءنا.. آمني به ورددي اسمه إنه الأب والابن والروح القدس.. إلهنا الواحد.."

ترى أين الحقيقة في هذه الكلمات؟..

لم تكن تطمئن للثلاثة التي تساوي واحداً، ومع ذلك كانت ترتاح عندما تلج أبواب الكنيسة برفقة جدتها، تشعر بشيء من الأمان والراحة، تهرب من ضوضاء الخارج، ومن متغيرات الحياة التي لا تهدأ، ولا تثبت على حال... وطرق باب غرفتها فانتبهت، وعادت إلى واقعها وتساءلت:

- من بالباب؟..

وجاء الجواب:

- أنديرا.. هل أدخل يا آن؟

- آه نعم.. نعم تفضلي يا أنديرا.. ماذا تريدين؟

ودخلت الفتاة الهندية تحمل في يدها وعاء فيه شيء من الطعام قائلة:

- إنها أكلة هندية حضرتها والدتي، نتناولها في الصباح، أرجو أن تعجبك، وهذه الورقات من والدي لتقرئي ما فيها.

- شكراً لك ولوالدك ولوالدتك.

- اليوم الأحد... هل ستذهبين معنا إلى الكنيسة؟..

- لا يا عزيزتي.. عندي مهمات كثيرة سوف أؤديها هذا اليوم.. صلّوا من أجلي.. لا تنسوني.

- سنفعل وإن كنا نحب ذهابك معنا... طاب يومك وإلى اللقاء.

وعادت آن مرة أخرى إلى التفكير: لقد يسر الله لها السكنى في كنف هذه العائلة الهندية، فخففوا عنها بعض ما تشعر به من غربة. وهي عائلة صغيرة مكونة من الأب الذي يعمل في أحد المصانع، والأم والابنة، وولد لا يزال طفلاً، وقد هاجروا إلى فرنسا سعياً وراء الرزق، ووفقهم الله، وقد تنصروا قبل هجرتهم هرباً من ذل عاشوه في زمرة المنبوذين، والأب يتمتع بذكاء جعله ناجحاً في عمله ومحبوباً من رؤسائه.

وبرز تساؤل في داخلها:

ترى ما أسس الهندوسية التي فروا منها؟..

وهل يمكن أن يكون فيها بعض الحقيقة؟..

ولكن لو كان فيها حقائق لماذا هرب منها هؤلاء؟..

ومع ذلك فقد يغير بعض الناس دينهم سعياً وراء مصلحة ما.. تريد أن تعرف الحقيقة، ستطلب من سانج بعض الكتب التي تتحدث عن الهندوسية وغيرها من أديان الهند.

لقد أخبروها أنهم نفروا من الطبقية الظالمة التي تسود المجتمع الهندوسي والتي هي جزء من الدين. وقد كانوا من طبقة المنبوذين فنفروا من الذل والظلم، وجاءت إحدى المؤسسات التبشيرية وانتشلتهم.

وفطنت للورقات التي أرسلها له سانج، وبدأت تقرأ ما جاء فيها:

الهندوسية ديانة وثنية قديمة، يقال إنها بدأت من القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وخلال هذا الزمن الطويل أضيف لها ما أضيف، كتبها كثيرة وصعبة الفهم، منها: الويدا ويتألف من أربعة كتب، وقوانين مينو وهو شرح للويدات الأربعة، وهناك كتب أخرى كثيرة. وهم يعبدون آلهة متعددة، فلكل ظاهرة أو عمل إله، فإله الماء وإله الهواء، وإله الجبال، وأحياناً لكل منطقة إله، ويتقربون إلى آلهتهم بالقرابين والعبادة، وهم يعبدون الطبيعة والأجداد، ويقدسون البقرة. ويتكون المجتمع الهندوسي من أربع طبقات:

الطبقة الأولى: الذين خلقوا من فم الإله براهما، وهم البراهمة، ومنهم المعلم والكاهن والقاضي.

الطبقة الثانية: الكاشتر وخُلقوا من ذراعي الإله براهما يتعلمون ويحملون السلاح.

الطبقة الثالثة: الويش: وخُلقوا من فخذ براهما وهم زراع وتجار ويملكون المال.

الطبقة الرابعة: الشودر: وخُلقوا من قدمي براهما، ويشكلون طبقة المنبوذين، وليس لهم عمل إلا خدمة الطوائف الثلاث الآنفة الذكر، وعملهم مقصور على المهن الحقيرة والقذرة، وهم الفئة المظلومة.

والمنبوذون أحط من البهائم وأذل من الكلاب، حسب ما ورد في قانون مينو، والمنبوذ المحظوظ هو الذي يحظى بخدمة البرهمي دون أجر أو ثواب.

وختمت الوريقات بهذه العبارات:

"هذا قليل من كثير مما يعانيه المنبوذون في ذلك المجتمع، وقد حاول غاندي التخفيف من معاناتهم ولكنه فشل."

وبعضهم يفرون إلى معتقدات أخرى وخاصة النصرانية بواسطة المبشرين المنتشرين في كل أنحاء الهند، إذ يمدونهم بالعون ويفتحون لهم سبل الخلاص، وبعضهم تغزوه الشيوعية أو الاشتراكية، فينضوون تحت لوائها، وبعضهم يختار الإسلام ويجد فيه العدالة.

وعندما انتهت آن من قراءة الورقات.. وضعتها جانباً.. وتنهدت وهي تتمتم:

أين الحقيقة؟.. وأين العدالة؟ أليس لها مكان في هذه الأرض؟.. إلى متى يأكل القوي الضعيف؟.. ويستغل الكبير الصغير؟.. تماماً كما تفعل الطبقات الظالمة مع المنبوذين.. حروب وجوع وخوف في العالم الثالث.. وتخمة وطغيان في الدول المسيطرة.. مع أن معظم الطعام يأتي من العالم الثالث.. أين العدالة في هذا العالم المختل؟.. هل العدالة في الشيوعية والاشتراكية؟..

لقد جربتها بعض الشعوب، فتحولت إلى قطيع يساق بعصا الإرهاب لينتج ويعمل ثم لا يجد ما يملأ بطنه.

آن تود أن تناقش ما بداخلها مع أي إنسان، ستنتظر حتى تعود الأسرة الهندية من الكنيسة، وستفتح حديثاً مع الأب، فهو ذكي جداً.. ويبدو أنه يبحث عن الحقيقة مثلها.. لعله لم يجد في المسيحية إلا السراب.. كما وجدت.. على كلٍ فهي تجد أمامها عدة أبواب:

الباب الأول: عند الشاب المسلم عمر الذي التقته في الدورة.

والباب الثاني: هذه الأسرة التي ستطّلع من خلالها على معلومات كانت غامضة..

والباب الثالث: تلك السيدة التي تحدثت في الدورة فشدتها بحديثها، وعندما ذهبت إليها لتبدي إعجابها بما سمعت دعتها تلك السيدة.. بل هي دكتورة في الشريعة الإسلامية، واسمها سماح، دعتها لزيارتها في المؤسسة التي تشرف على إدارتها وتتبنى التعريف بالإسلام، وتعليم اللغة العربية للراغبين والراغبات.

والآن.. الباب الثاني في متناول يدها، وهاهم قد عادوا من الكنيسة، ستخرج إليهم وتلقي ما تحمله من تساؤلات، الأب ذكي ومثقف، ولابد أن تجد عنده شيئاً.

نهضت وخرجت من غرفتها لتنفذ ما عزمت عليه، واستقبلوها بالترحاب وشكرتهم على اهتمامهم بها وبدأت حديثها مع سانج.. بينما ذهبت الأم لبعض أعمالها، وجلست أنديرا مصغية للنقاش، فهي طالبة جامعية وتهتم بهذه الأمور وقد ورثت الذكاء وحب المعرفة عن والدها. قالت آن:

- أشكرك يا سيد سانج على المعلومات التي أرسلتها إليّ عن الهندوسية، ولكن لديّ بعض الأسئلة، وأود أن أطرحها عليك.

قال سانج: تفضلي وسأجيبك، ولعلني بحاجة لمثل هذه الأحاديث.

- هل اخترت النصرانية لأنك اقتنعت بما فيها من قيم وعقائد؟.. أم فراراً من ظلم المجتمع الهندوسي؟

- سأكون صريحاً وأقول الحقيقة.. كلا، لم تقنعني تعاليم المسيحية.. ولم أرتح لنظامها الكنسي.. ورضيت بها فراراً من بطش الهندوسية وتعاليمها الجائرة.. وإن كان يوجد بعض التشابه بين المسيحية والهندوسية.

قالت آن: كيف؟.. أستغرب هذا.. الهندوسية تقوم على تعدد الآلهة، وإنهم يعتقدون أن لكل ظاهرة طبيعية إلهاً يعبد، فللماء إله.. وللهواء إله.. وللأنهار.. والجبال.. إلخ..

قال: هذا صحيح ولكن تم في القرن التاسع قبل الميلاد جمع الآلهة في ثلاثة هم:

براهما: الموجد، فشنو: الحافظ، سيفا: المهلك.

ومن يعبد أحد الآلهة الثلاثة فقد عبدها جميعاً، وهذه الآلهة تنضم لتكوّن إلهاً واحداً.

قالت آن: هذا شبيه إلى حد بعيد بالنصرانية.. الأب والابن والروح القدس إله واحد.

قال سانج: نعم.. ويعتقد الهندوسي بأن آلتهم قد حلت كذلك في إنسان، أو ظهرت على شكل إنسان اسمه كراشنا.. كما يقول المسيحيون قد حلّ اللاهوت في الناسوت (أي حل الإله في الإنسان).

قالت آن: فعلاً هذا أمر عجيب، ولعل المسيحية أخذت عقيدة التثليت هذه عن الهندوسية، فالهندوسية أقدم بكثير..

- نعم هذا ما يخطر لي دائماً، وقد سألتني في البداية لماذا اخترت النصرانية؟ وهل اقتنعت بما فيها من عقائد؟.. وسأجيبك: لقد اخترت النصرانية لأنها اليد التي امتدت لتنتشلني مما كنت فيه، وربما يجرني هذا إلى الحديث عن نفسي وقد يطول الحديث وتملين الجلوس.

قالت: لا.. لا.. أبداً.. يسعدني ذلك وأود أن أسمع، إذا لم يكن لديك مانع، فأنت مثقف ومتكلم، وهذا يتنافى مع ما أخبرتني به عن طبقة المنبوذين.

قالت أنديرا: وأنا يا أبي أود أن أسمع، ولعل ما يشغلك يشغلني.

قال: حسناً، سأوجز لكما قصة حياتي:

كان أبي رحمه الله إنساناً بسيطاً يعمل عند رجل من (الويش) وكان تاجراً غنياً، وفي داخله مشاعر إنسانية قلّ أن تجديها عند أمثاله من الطبقات العليا في المجتمع الهندوسي، ولم يرزق بأولاد، وعندما ولدت فرح بولادتي وأخبر أبي أنه سيشرف على تربيتي ويساعد في تعليمي، وكان متأثراً بتعاليم غاندي، ولقد لقيت تصرفاته هذه معارضة كبيرة من أقربائه وأصدقائه، ولكن الله ألقى محبتي في قلبه، وأصر على موقفه حتى أنهيت دراستي، وسلمني إحدى مؤسساته، واختار لي الزوجة، ومنحني مسكناً، وكان يجالسني ويتحدث معي، ولعلك لا تعلمين أن عقوبة المنبوذ الذي يجالس أو يتحدث مع من هم أعلى منه، أن يُكوى أُسته وينفى من البلاد، وقد يسقى زيتاً مقلياً.

صاحت آن: هذا فظيع.. فظيع جداً.. إنه ظلم لا حدود له.. إنني أبحث عن العدالة.. رباه أين أجدها؟.

قال سانج: ولكن ظهر بعض التحسن البسيط في أوضاع المنبوذين أخيراً، خوفاً من أن تتخطفهم الشيوعية أو النصرانية التي تغزو بلادنا دون هوادة.

قالت آن: لقد أثار اهتمامي ما ذكرته عن التشابه بين الهندوسية والمسيحية، وهذه ملاحظة جيدة، وأظن أن قلة ينتبهون إلى مثل هذه الأمور.

قال سانج: لعلني أبحث مثلك عن الحقيقة، فأنا ألاحقها في كل مجال، وقد لفت نظري كتاب مع أحد العمال المسلمين في المؤسسة التي أعمل فيها يبحث في مقارنة الأديان، فاستأذنت في قراءته، ولمست فيه حقائق كثيرة، وسأطلعك عليه إذا أردت ذلك، وهو كتاب موثق.

قالت آن: طبعاً أود أن أطلع عليه، فهو يدور في مجال اختصاصي، خاصة إذا كان موثقاً، لأن كثيراً ممن يكتبون عن الأديان مغرضون، ولهم أهدافهم الخاصة، والآن أكمل ما بدأت به من عرضك الموجز لقصة حياتك.

قال سانج: لقد عاجل الموت السيد الكريم الذي كنت عنده، وبدأ أقرباؤه ينفذون ما أرادوه لي من شر وأذى، ولم أجد أمامي إلا الفرار مع زوجتي وابنتي، وسمعت عن مؤسسة تبشيرية يمكن أن أجد في كنفها الأمن والكفاية فتنصّرت مع عائلتي، ثم غادرت البلاد ومعي توصية منهم إلى المؤسسة التي أعمل فيها هنا وفي هذه البلاد أبحث عن حقيقة الدين الذي انتقلت إليه دون اقتناع، فهناك أمور كثيرة تثير الأسئلة في أعماقي.

آن: هل قرأت الكتاب المقدس؟ وفي أي النواحي سارت أسئلتك؟

قال سانج: سأحدثك أولاً عن أمر صدمني، هو تعرض السيد المسيح للصلب والتعذيب دون ذنب جناه.

يعذب لأن غيره ارتكب أخطاء، ولن تمحى أخطاؤهم إلا إذا عُذّب البريء!.. ويبكي.. ويصلي.. ويتوسل إلى الله أن ينقذه ولكن دون جدوى.. أين العدالة؟.. بل أين العقل والمنطق؟.. هل أنا مخطئ؟.. صححي لي خطئي.

آن: لا، لست مخطئاً.. أي عاقل سيصدمه هذا الأمر.

سانج: ثم كيف يتحول الإله إلى إنسان؟ فيأكل الطعام، ويعرض له كل ما يعرض للبشر من نوم ويقظة وحزن وغضب.. وخوف.. وبكاء.. و.. و.. أليس هذا غريباً؟.. الله في خاطري هو مالك الكون بما فيه، وقادر على كل شيء، فما الذي يدعوه أن يهبط من عليائه؟.. ويُظلم.. ويُقهر.. ويخاف.. إنه أمر غير مفهوم ولا يتقبله العقل.

آن: صدقت.. ويقال لنا أننا لن ننجو مهما فعلنا من خير في هذه الدنيا، إلا إذا آمنا أن المسيح ضحّى من أجلنا.

سانج: الذي أفهمه أن المسيح لم يضح ولكنه أكره على ذلك، وإليك هذا النص من إنجيل متّى (26):

"وابتدأ يحزن، ويكتئب وقال لهم: نفسي حزينة جداً حتى الموت، ثم تقدم قليلاً وخرّ على وجهه، وكان يصلي قائلاً: يا أبتاه، إن أمكن فلتبعد معي عني هذه الكأس ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت.."

إنه يخاطب ربه يخاطب الله كإنسان ضعيف، ولاحظت أن كلمة أب ترمز في الكتاب المقدس إلى الله سبحانه، وإنها أبوة رمزية وصاحبت أكثر أنبياء الكتاب المقدس.

آن: نعم هذا صحيح وبالنسبة لإنسانية المسيح أذكر ما ورد في إنجيل لوقا (22) في وصف حالة المسيح:

"وإذا كان في جهاد كان يصلي بأشد الحاجة، وصار عرق كقطرات دم نازلة على الأرض..".

بل أكثر من هذا فقد أمر أعوانه أن يستعدوا للمقاومة ويشتروا السيوف وإليك ما ورد في لوقا (22، 35 – 36):

"يقول المسيح لأتباعه: حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية هل أعوزكم شيء؟ فقالوا: لا، قال لهم: لكن الآن من له كيس فليأخذه ومزود كذلك ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفاً".

قال سانج: عجباً لإله يصلي ويستنجد ويضطرب ويخاف!.. وعجباً لمن يدعون أنه قدم نفسه للصلب والعذاب ليخلصهم.. مع أنه أمرهم أن يستعملوا السيوف للدفاع عنه!.. من يقرأ الإنجيل بعقله يعلم أن الصلب كان عدواناً واغتيالاً وليس تضحية.

قالت انديرا: كفى يا أبي، إنكما تثيران في نفسي شكوكاً فوق شكوكي، وإنني معكما أودّ أن أصل إلى الحقيقة فهناك أمور كثيرة تؤرقني.

قالت آن: أظن أنه يكفي ما تناولناه لهذه الجلسة، فنحن بحاجة للطعام والراحة، ولكن أعطني ذلك الكتاب الذي تحدثت عنه.

وتناولت آن الكتاب وحيّتهم وذهبت إلى غرفتها وفي داخلها شوق لمعرفة ما حواه من مقارنة بين الهندوسية والمسيحية.

ولجت غرفتها وأغلقت الباب، إنها لا ترغب في الطعام الآن، إن ما تناولته في الصباح من تلك الأكلة الهندية لم يهضم بعد، تناولت الكتيب واستلقت على السرير وبدأت بالقراءة، لقد عرض الكاتب الديانة الهندوسية تاريخياً وعقائدياً، وذكر أن البراهمة يحيطون كراشنا الإنسان الذي حل فيه الإله بأساطير تشبه إلى حد بعيد ما جاء في الأناجيل عن المسيح، وقلبت الصفحات بحثاً عما يثبت ذلك.. لقد أثبت الكاتب مقارنة موثقة بين ما جاء عن المسيح في الأناجيل، وما أورده كتاب البراهمة عن كريشنا.

وراحت تقرأ ما ورد:

- آمن الناس بكريشنا واعترفوا بلاهوته وقدّموا هدايا من صندل وطيب (الديانات الشرقية ص 500).

- وآمن الناس بيسوع وقالوا بلاهوته وأعطوه هدايا من طيب ومر (متّى: الإصحاح الثاني العدد 2).

- كريشنا صُلب ومات على الصليب ولما مات حدثت مصائب وعلامات شر عظيم /كتاب ترقي التصورات مجلد1 ص17.

- يسوع صُلب ومات على الصليب ولما مات حدثت مصائب جمة متنوعة / إنجيل متى: الإصحاح22 وإنجيل لوقا.

- ومات كريشنا ثم قام من بين الأموات، وصعد كريشنا بجسده إلى السماء وكثيرون شاهدوه صاعداً /دوان ص282.

- ومات يسوع ثم قام من بين الأموات وصعد يسوع إلى السماء وكثيرون شاهدوه صاعداً /إنجيل متّى: الإصحاح 28و24.

- يسوع الألف والياء وهو الأول والوسط وآخر كل شيء. /سفر الرؤية الإصحاح الأول العدد 8.

- كريشنا هو براهما العظيم القدوس وظهوره بالناسوت سر من أسراره العظيمة الإلهية. /فشنوبودانا ص492.

- يسوع هو يهوى (الإله) العظيم القدوس وظهوره في الناسوت سر من أسراره العظيمة الإلهية. /رسالة ثيموثاوس الإصحاح3.

- كريشنا الأقنوم الثاني من الثالوث المقدس عند الهنود الوثنيين القائلين بألوهيتة. /كتاب القصائد لمورس وليمس.

- يسوع الأقنوم الثاني من الثالوث المقدس عند النصارى. /كافة الرسائل والأناجيل.

- قال كريشنا: أنا علة وجود الكائنات، فيّ كانت، وفيّ تحل، وعليّ جميع ما في الكون يتكل. /ديانة الثنود موريس وليمس 212.

- من يسوع وفي يسوع وليسوع كل شيء، كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان. /يوحنا الإصحاح الأول عدد31.

- قال كريشنا: أنا صلاح الصالح، وأنا الابتداء والوسط والأخير والأبدي وخالق كل شيء، وأنا فناؤه ومهلكه. /موريس وليم ديانة الهنود.

- وقال يسوع: أنا هو الأول والآخر ولي مفاتيح الهاوية والموت. /رؤيا الإصحاح الأول 17-18.

وضعت آن الكتاب بجانبها.. وهي تفكر.. ما أكثر نقاط التلاقي بين العقيدتين.. إنه أمر عجيب، ترى ما السر وراء ذلك، هل استعان كُتّاب الإنجيل الكثر بالديانة الهندوسية عندما خطّوا ما خطّوا بعد غياب عيسى عليه السلام فالإنجيل لم يمله عيسى عليه السلام.. بل كتب بعد عصره بسنوات طويلة.. وتمتمت آن:

شيء محير وشكوك لا تهدأ في أعماقي، إلى متى؟"..

وتذكرت عمر.. والسيدة سماح.. ترى هل ستجد في الإٍسلام شيئاً يريحها؟

إن الكتب التي قرأتها عنه مملوءة بما ينفر، فهي تظهر هذا الدين في قمة المادية والسعي وراء الشهوات.. ستتابع طريقها حتى تصل إلى الحقيقة.

وتذكرت أن الندوة القادمة ستكون عن الجنس والدين.. الأمر هام، سترى ماذا سيقولون.. وأحست بالنعاس واستلقت على سريرها.. بينما الأفكار تصطخب في داخلها.. ستنام قليلاً ثم تعود لمتابعة طريقها الذي عزمت على السير فيه حتى النهاية.. وحتى تجد الجواب لكل الأسئلة التي تموج في أعماقها منذ بدأت تعي الحياة.. عندما شاهدت جدتها تتهاوى تحت وطأة الموت.. لا تزال النيران تشتعل في أعماقها كلما تذكرت الموت.. هل هو النهاية والفناء والتراب؟..

وغلبها النوم وفي أحلامها رأت أباً يقتل ابنه، ثم يلتفت إلى مجموعة من الناس كانت تقف بينهم ويقول:

"هذا ولدي لقد ضحيت به تكفيراً لأخطائكم وآثامكم.. فاسجدوا له واعبدوه.. إنه يستحق ذلك.."

ووجدت نفسها تصرخ:

- هذا ظلم.. هذا جنون..

واستيقظت وهي تردد:

- أين العدالة؟..

أين الحقيقة؟..

يتبع...