امرأة في ظل الإسلام (3)

امرأة في ظل الإسلام (3)

رواية: ابتسام الكيلاني

اللقاء السابع

حدود طاعة الزوج. ضرب الزوجات. الإسلام نظّم ولم يكبت

اتفقت مع زينب أن يكون هذا اللقاء في المشفى الخاص، الذي تعمل فيه مع زوجها ونخبة من الأطباء والعاملين ذوي الكفاءة المبنية على الإيمان والتقوى، وقد سمعتُ عن هذا المشفى كثيراً، وأن فيه دواء للنفوس والأبدان، وراحة للمرضى واعتدالاً ورحمة في التكاليف، وأحببتُ أن أزوره وأرى بعيني ما فيه، ووافقت زينب على أن تنتظرني في فترة راحتها، وحددت لي وقتاً معيناً..

وذهبت في الوقت المحدد، ولفت نظري نظافة ظاهرة شملت كل شيء، وحركة منظمة تسود المكان، وشدتني ابتسامة صادقة تعلو الوجوه المنصرفة لأداء عملها بإحسان طالبنا به المولى عز وجل.

واستقبلتني زينب في حجرتها وحالة من الرضى تحيط بالوجه المؤمن.

وقالت: أهلاً وسهلاً.. وأشارت إلى شاب يقف إلى جانبها –أعرفك بابني الدكتور محمود.

قلت: يسعدني أن أتعرف أخيراً على إحدى الثمرات في بستانك الغني ولكن زيديني معرفة بابنك العزيز.

وكان قد حيّانا وانصرف.

قالت: إنه أخصائي أشعة، ويعمل معنا في المشفى، وقد تزوج من فتاة إيطالية مسلمة، أحبت الإسلام ورغبت في العيش في أجوائه، ولاقت معارضة من ذويها، ولكن عندما تعرفوا على محمود واقتربوا منه أحبوه وأحاطوه برعايتهم، وقد أمضى السنة الأخيرة من دراسته في ضيافتهم في إيطاليا، يراقبون تصرفاته ويرون كيف يتعامل المسلم مع زوجته، ويتعرفون من خلاله على الإسلام، وقد زارونا هنا.. الأم والأب وأخبرتني الأم أنها تؤمن بكل ما جاء به الإسلام من معتقدات من وحدانية الله إلى نبوة عيسى ونبوة محمد عليهما السلام، وأنها بدأت تقرأ كتباًُ عن الإسلام، لتتعرف عليه من مصادره.

قلت: الحمد لله.. هذا عن محمود وماذا عن إسراء وطارق؟

قالت: إسراء تخصصت بمادة الرياضيات وهي تهوى التدريس، ومنذ صغرها أحبت أن تمثل دور المدرسة في لعبها مع رفيقاتها، كنت أراقبها وأحلم أنها ستكون مدرّسة ناجحة محبوبة.

قلت: وهل عملت بهذه المهنة الشاقة؟

قالت: نعم لقد عملت بهذا الميدان ونجحت، ولكنها شعرت بثقله، وبالأعباء الكثيرة التي تحملها المدرسة، ومع ذلك أحبته، واعتبرته جهاداً في ميدان العقول والأفكار، وأصرت على العمل بعد الزواج، حتى جاءها الأولاد متتابعين، بنتان وصبي ليس بين الواحد والآخر إلا سنة أو أقل من سنة واستحال الاستمرار.

قلت: ولماذا لم تنظم الأمر.

قالت زينب: كان زوجها يعتقد أن تنظيم النسل حرام، وحجته أن الرسول الكريم دعا إلى التكاثر وأنه سيباهي بنا الأمم يوم القيامة.

قلت: لعل تحديد النسل حرام، كما تفعل بعض الأسر بأن تحدد العدد بواحد أو اثنين، أو كما تفعل بعض الدول مثل الصين. أما تنظيم الأمر بما يتناسب مع مصلحة الأم والطفل فأظن أنه لا حرمة فيه. فالطفل يجب أن ينال حقه من الرعاية، وكذلك الأم يجب أن تُمنح الوقت الكافي للتربية والتوجيه، وما فائدة الكثرة إذا كانت غثاءً كغثاء السيل.

قالت زينب: فعلاً الأمر يحتاج إلى طاقة بدنية ونفسية واجتماعية، حتى يكون الناتج جيداً ويباهي به الرسول الكريم الأمم يوم القيامة، ويحضرني نموذج لتلك الأسر المرهقة من الكثرة، إحدى المترددات على مشفانا، تزوجت صغيرة من شاب متدين يعتقد أن هدف الزواج الوحيد الإنجاب دون توقف، وكل توقف حرام، وخلال فترة قصيرة كان العدد اثني عشر ولداً من الذكور والإناث، الأم مرهقة مريضة، والأب لا يعجبه شيء، وكل اللوم على الزوجة المسكينة المطيعة، والتي لا يمنعها إلا العجز عن تنفيذ كل ما يطلب، والأولاد لا يجدون الرعاية الكافية.. فاليوم جيء بأحدهم وقد سقط إناء زجاجي فوق رأسه وشقَّ وجهه وسالت دماؤه، وبالأمس سقط الابن الرضيع من يد أخته وأصيب بارتجاج والله أعلم ما النتيجة، والفوضى تعم البيت وكل فرد يشعر أنه مظلوم.

قلت: إنه فهم خاطئ للدين، فالإسلام دين يسر ورحمة، والكيف أهم من الكم في ميزانه.. والنظام في كل شيء سمة من سماته، وكيف يصبّ اللوم على زوجته وهو المسؤول الأول عما حدث.. كما أنه المسؤول الأول عن رعاية النبتات الصغيرة وإمدادها بروح الإسلام لتنشأ نشأة سليمة وينال كل فرد في الأسرة حقه من الرعاية.. وتظلل الجميع مشاعر الود والرحمة.

وكيف تصرفت إسراء مع مشكلتها؟

قالت زينب: لقد شكت لي بأن زوجها يتمسك بشدة بأمور هي من الفروع الاجتهادية التي اختلفت حولها آراء العلماء، وأنها تسايره فيما تقتنع به وسألتني النصيحة، فوافقتها على أسلوبها وأخبرتها أن طاعة الزوج واجبة.. ولكن ضمن حدود، فـ "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"(2) ولا للطاعة العمياء، فالله سبحانه آمنّا به بناء على العقل.. فلا إكراه في الدين ولا طاعة مع الإكراه "وإنما الطاعة في المعروف" ويخطئ من يطالب الزوجة بطاعة عمياء.. فيتحدى عقلها ومشاعرها وكرامتها.. وسيخسرها حتماً وإن قالت نعمْ لك ما تريد.

قلت: هذا جيد وكيف حلت مشكلتها مع الإنجاب المتوالي؟

قالت زينب: أعلنت التوقف والتنظيم، وتعاونا جميعاً على إقناع زوجها بأن التنظيم هو الأقرب لروح الإسلام، وقد كان بعض الصحابة ينظم بعلم رسول الله كما أن الله سبحانه لم يحرم ذلك.. بل القرآن يدعو إلى منح الوليد حقه من الرعاية فيعين حداً للرضاعة والعناية.. قال تعالى: )والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة..( البقرة 233.

وقد استجاب واقتنع.. والجيد فيه أنه يحاول فهم دينه وينفذ عملياً ما يفهم..

قلت: الحمد لله وماذا عن الصغير طارق؟

قالت زينب: لقد أصبح شاباً هو الآخر.. وهو في السنة النهائية، وقد تخصص في علوم الكمبيوتر وينوي أن يكمل دراسته وينال الدكتوراه، ولكنه يؤكد أنه لن يسافر للخارج إلا ومعه زوجة يختارها هو أو نختارها له.

هذا موجز عن أسرتي الصغيرة، وكما ترين: العدد قليل وكنت أتمنى أن يكون أكثر، ولكن هذا ما قسمه الله لنا.. ومع ذلك فأنا راضية عن إنتاجي وأرجو أن أكون قد أحسنت التربية.. وكثرت المسلمين بغرسات مثمرات إن شاء الله وليست غثاء كغثاء السيل بإذن الله تعالى.

واستدعيت زينب أثناء حديثها لمعالجة امرأة تعرضت للضرب.. وجلست أفكر:

ترى من ضربها؟ ولماذا؟

وعندما عادت زينب سألتها عن المرأة وما قصتها؟

قالت: يا عزيزتي إنها امرأة أمريكية تعمل في شركة خاصة، وقد ضربت بوحشية فوجهها شبه مشوه عدا عن أنحاء أخرى من جسدها.

قلت: من الذي ضربها؟ ولماذا؟

قالت زينب: من تظنين؟ إنه زوجها.. لقد سمعت كثيراً عن مشكلة ضرب الزوجات في الغرب، وكنت أشك في الأمر، وهذه أول حالة أراها بعيني لتؤكد لي ما كنت أسمع، ولا أدري كيف يحدث هذا في بلاد تدعي الحضارة وتتبنى حقوق الإنسان!

قلت: وأنا مثلك قد قرأت كثيراً عن الظلم الذي يقع على الزوجات في الغرب، ومنهن من يصبن بعاهات وينقلن إلى المشافي، أو تنتهي حياتهن بالموت، وقد سمعت من مصادر مختلفة مثل هذا الكلام كما قرأت إحصائيات تثبت ذلك. وقد شاهدت منذ فترة فلماً أمريكياً يرسم صورة رهيبة للطريقة التي تعامل بها بعض النساء هناك، حيث تشل أيدي الجميع عن تقديم أي عون لها.. تضرب بوحشية وتسيل دماؤها وتغتال كافة حقوقها.. والكل عاجز عن تقديم العون.. القانون.. والقضاء.. والأهل والجيران.. وتضطر للهرب وتغيير المأوى والاسم وحتى الشكل.. لتنجو بنفسها وطفلها.. وقلت في نفسي.. لو ضرب رجل مسلم زوجته أو ظلمها لوجدت الكل إلى جانبها.. القانون.. والقضاء.. والأهل.. والجيران.. وشتان بين هذه النظرة وتلك.. لقد كان حفيدي الذي لم يتجاوز السنوات الثلاث من عمره معي وأنا أشاهد ذلك الفلم المفزع عندما هجم الرجل على زوجته يضربها بوحشية عجيبة.. فرأيت طفلي يثور ويهجم على التلفاز ويكيل الضربات للرجل.

قالت زينب: إنها المروءة والنخوة التي قتلوها بحضارتهم الخاوية من القيم والمبادئ.. ونسمع بندوات تقام ومؤتمرات تعقد، ولا يجدون مظلوماً ينتصرون له إلا المرأة في بلادنا.

قلت: فليطمئنوا.. إننا في أحسن حال.. وقانون السماء يحمينا نحن النساء.. والجنة تحت أقدامنا.. وما أكرمنا إلا كريم وما أهاننا إلا لئيم وتوفي رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو يوصي بنا: "استوصوا بالنساء خيراً".

قالت زينب: وقد علم خالق المرأة والرجل أن الرجل قد يحتد بحكم طبيعته فيضرب ويؤذي.. فنظم الأمر بحكمة.. وذلك بالنسبة لامرأة متعالية متكبرة لا ترى إلا نفسها.. مما يثير العنف في داخل الرجل.. ومع ذلك فعليه أن يتروى، ففي البداية يكون النصح، فإن لم ينفع فالهجر.. فإن تمادت في غيها وشذوذها.. يأتي دور العلاج المر..

قلت: ومع ذلك فقد نظم قانون السماء الضرب.. إنه يؤذي ولا يترك أثراً.. إنه موجه للمرأة ليضعها في حالة نفسية معينة تعيدها إلى الواقع.. إنه علاج نفسي لامرأة متعالية.. قد ينفع فتصان الأسرة من الدمار.. وتعود تلك المرأة إلى رشدها فتدرك أن حق الأسرة مقدم.. ويجب أن يصل كل فرد فيها إلى حقه.. والرجال الملتزمون بدينهم يفهمون هذا ويقفون عند حدود الله.. وأما الذين تجردوا من القيم.. فهؤلاء يتحكم فيهم وحش القوة ويدفعهم إلى تجاوز الحدود.

قالت زينب: ورسولنا نبه إلى عدم تجاوز الحد فقال:

"لا تحقر.. ولا تضرب الوجه.."

ومع ذلك فقد نبه أيضاً إلى أن الصالحين لا يستعملون هذه الوسيلة..

"ليس خيركم الذين يضربون".

وهو صلى الله عليه وسلم لم يضرب زوجة أو مملوكاً.. أو خادماً قط.. كما أنه ليس بين النماذج التي نقتدي بها في تاريخنا أو واقعنا من ضرب زوجته، ذلك لأن ضرب المرأة مسبة في وجه من يفعل ذلك في قيمنا..

قلت: لا يسعني إلا أن أقول: أين هذا مما يحدث هناك في ظل الحضارة، من ملاحقات وإرهاب وملاجئ ومخابئ للسيدات.. وأرقام هواتف للاتصال السريع وطلب النجدة. فلتطمئن المرأة فالكل في نجدتها هنا.. الأهل.. والجيران.. والقضاء.. وحتى الأطفال من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

والآن لقد أخذنا الحديث بعيداً فلنعد.. وأخبريني عن الأسباب التي جاءت بكم إلى هذه البلاد.

قالت زينب: لقد كان فكرة زوجي، وكثيراً ما عرضها علي فأبيت.. حتى حدث ما جعلني أفضل الهجرة والرحيل، وسأذكر لك هذه الدوافع، وأولها وفاة أبي رحمه الله، فقد كنت متعلقة به وكان متعلقاً بي ووجدت أن رحيلي سيثقل عليه ويحزنه، وسيحرمه من بعض الرعاية التي كانت تسمح بها ظروفي، حيث أسعى لأكون معه وبجانبه، وقد احترم زوجي رغبتي هذه وأيدني فيها، فهو أيضاً حريص على صلة الرحم والإحسان لأبويه، فليس من الدين أن يدفعني إلى قطع ما أمر الله به أن يوصل، وأن يرجني عن دائرة الأمر الإلهي..

)وقضى ربك ألا تعبدوا إلى إياه وبالوالدين إحساناً( الإسراء 23.

قلت: أذكر بهذه المناسبة حديثاً ينسبه بعض الدعاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"أن امرأة مرض أبوها مرض الموت فاستأذنت زوجها لتعوده فأبى، فلما مات استأذنته أن تشهد الوفاة وتكون مع الأهل عند خروج الجنازة فأبى، فلما ذكرت ذلك لرسول الله قال لها: إن الله غفر لأبيك لأنك أطعت زوجك".. وفي نفسي تساؤلات كثيرة حول هذا الحديث، فأين البر بالوالدين؟ وأين صلة الرحم؟.. وأين الإحسان إلى الوالدين الذي قرنه الله سبحانه وتعالى بعبادته في أربع سور من القرآن الكريم: البقرة والنساء والأنعام والإسراء. فقد تكرر في تلك السور معنى الآية الكريم:

)وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياها وبالوالدين إحساناً( الإسراء 23.

أين كل هذا؟ إنني أشعر بالحيرة كلما سمعت هذا الكلام.

قالت زينب: لقد كان هذا الحديث يحيرني كما حيرك حتى قرأت كلمات للشيخ الغزالي رحمه الله في كتابه "السنة بين أهل الحديث وأهل الفقه" فأحسست بالراحة. قال رحمه الله:

"هذا الحديث لا يعرفه رواة الصحاح، وهو يقطع ما أمر الله به أن يوصل، ويرخص الوفاء بحق الوالدين، وهدفه ألا تخرج المرأة من البيت أبداً، وهو هدف ينكره الإسلام، وفي الحديث الصحيح:

"إن الله أذن لكُنَّ أن تخرجن في حوائجكن"(3).

قلت: الحمد لله لقد أرحتني فالله سبحانه لم يفرض سجناً على المرأة، وكيف تستقيم حياة المرأة في بيت يسوسه مثل ذلك الرجل، وأين حقوق الوالدين التي ركز القرآن الكريم عليها، وهل المرأة حجر أصم حتى تلغى مشاعرها وعواطفها ورغباتها؟ إنه فهم خاطئ وتشويه لدين أعلن لأول مرة في التاريخ أن المرأة إنسان كامل، ولها كافة الحقوق، والرجل الزوج مسؤول عن حماية هذه الحقوق وصيانتها، كما تسأل الزوجة عن القيام بحق الزوج.

قالت زينب: ولقد ذكر القرآن هذه الحقيقة دون لبس:

)ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة( البقرة 228.

وهذه الدرجة هي مسؤولية الرجل في بيته وأسرته، عليه أن يحسن القيام بها ويحقق جو المودة والرحمة، الذي بدونه تختل أركان البيت، لا أن يكسر الضلع الذي جعل الله فيه اعوجاجاً ليحمي أعز ما تملكه الأسرة.. بل أغلى ما تملكه البشرية.. الأجيال.. وقد سألتني مرة أم زوجة ابني وهي إيطالية كما تعلمين: هل حقاً الإسلام يظلم المرأة في تعاليمه؟ ولا أدري كيف حضرت في ذاكرتي فوراً الآية الكريمة من سورة الأحزاب فتلوتها لها مترجمة:

)إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً.. (الأحزاب 35.

فدهشت وقالت: هل ورد هذا في قرآنكم؟..

قلت: نعمْ، ولقد وردت آيات كثيرة تشير إلى نفس المعنى وهو أن المرأة في عطائها وإنسانيتها مساوية للرجل..

قالت: رائع وهذا يكفيني.

كما ذكرت لها أن الله سبحانه سمع قول امرأة كانت تجادل رسول الله في أمر زوجها.. سمعها سبحانه من فوق سبع سموات وحل مشكلتها ولبى طلبها وأنزل فيها قرآناً يتلى، كما أنزل سورة خاصة بالنساء وهي من طوال السور.. وقد وعدتني أن تدرس القرآن، ولعل الله سبحانه يهديها للإسلام فهي كاتبة صحفية ولها نشاطها. ثم ما لبثت أن أسلمت والحمد لله تعالى.

قلت: اسمعي يا زينب نحن وإن كنا لا نريد شهادة من أحد على عدل الإسلام ورحمته بنا لأننا نعيش في ظل أحكامه ونلمس ما فيها من عدل ورحمة، مع ذلك فشهادة الآخرين تؤكد لنا باستمرار أن شريعة الله نعمة كبرى أنعم بها سبحانه على الإنسان.

زينب: نعم هي نعمة كبرى ومع ذلك يرفضها الجاحدون.. المغرورون.. التائهون..

والآن أعود بك إلى الدافع الثاني الذي جعل زوجي يفكر في المجيء إلى هنا، إنه الغزو الفكري والتقليد الأعمى الذي راح يجرف كل شيء في طريقه.. ووجدت أيد مسيطرة أيدته وركزت عليه، كالاختلاط غير المدروس الذي عم كل المجالات وخاصة بالنسبة للشباب، وأولادنا قد دنوا من تلك الفترة الحرجة من حياتهم، وكالتقليد لكل ما هو غربي واعتباره قمة الحضارة. مع أن أيديهم لم تمتد إلا إلى قشورها ونفاياتها.. فحشمة المرأة وابتعادها عن الميوعة والأجواء المنحرفة يعتبرونه كبتاً يدفع إلى الانحراف.. وهكذا..

قلت: أذكر هذه الموجة التي ما تزال تتحرك وتتقدم في مجتمعات إسلامية كثيرة.. تدفع الشباب دفعاً وخاصة المرأة إلى الهاوية.. لأنها هي الخاسر الأكبر من هذه التقدمية المزيفة.. هي التي لعبوا بها حتى حولوها إلى مجرد متعة للرجل..

بالأمس قرأت في إحدى المجلات عن انتشار فوضى الأمومة بلا زواج لمن لا يحسن القيام بها.. ففي أمريكا عدد كبير من الأمهات اللواتي لا تتجاوز سنُّ الواحدة منهن الحادية عشرة أو الثانية عشرة.. وهناك عدد أكبر من الأطفال الذين فقدوا صدر الأم وآوتهم الملاجئ والمحاضن.. وبعد أن كان لتلك الغريزة هدف سام هو تكوين الأسرة واستمرار البشرية.. أصبح الهدف مجرد الشهوة والمتعة.. وأصبحت المرأة متاعاً رخيصاً تتناوله الأيدي والأعين في كل مكان.. وانهارت الأسرة واختلت الروابط.

قالت زينب: ولا تنسي البلاء الأعظم وهو الشذوذ الجنسي بين الرجال والنساء حتى أصبح للشاذين والشاذات كنائس ترعى أمورهم وتعقد لهم عقود الزواج.. وأصاب شخصيات كبيرة في تلك البلاد..

قلت: نعم.. نعم.. وكيف أنسى ولطالما ردد مدعو الحضارة والرقي أن الشذوذ سببه الكبت وغلق الأبواب.. والفصل بين النساء والرجال.. وأن مثل هذه الأمور لا توجد في المجتمعات المنفتحة.. وإذا كان الكبت هو سبب الشذوذ كما يدعون.. فلماذا انتشر بينهم الشذوذ الجنسي بأنواعه وهم المتحررون.. المنفتحون.. كما يزعمون؟

قالت زينب: تباً لهم لقد نسي هؤلاء أن الإسلام لم يكبت ولكنه نظم.. واعترف بكل نوازع الإنسان وغرائزه ثم وضع ضوابط لها لئلا تطغى وتتجاوز الحدود.. وتدمر كل شيء. لقد اعترف بالغريزة الجنسية ودعا إلى إشباعها عن طريق الزواج.. وحض على الزواج وسما بدوافعه.. وها هي الأيام تكشف لهم الحقائق التي كانت خافية في يوم ما.

وهكذا كان زوجي حريصاً على حماية أبنائنا من منزلقات خطرة إذا ولجوا مرحلة المراهقة. وفكر أن نأتي إلى بلد لا يزال محافظاً إلى حد ما على وصايا ومقومات السلامة، ومع ذلك كنت أشعر أنه يستعجل الأمور وأن ترك الأهل والأوطان ليس بالأمر السهل.. وإن بدأت أميل إلى رأيه.

وفي اللقاء القادم إن شاء الله سأحدثك عن الدافع الثالث والأخير الذي أتى بنا إلى هنا.. فقد حانت ساعة الانصراف الآن.

قلت: حسناً أستودعك الله وإلى اللقاء بإذن الله تعالى..

 

اللقاء الثامن

لماذا التعدد؟

وهل تعدد الزوجات حق مطلق للرجل؟

والتقينا في الموعد المحدد وبعد التحية بادرتني زينب قائلة:

- ما سأحدثك به اليوم سر لا يعلمه أحد إلا أنا وزوجي، وسأرويه لك بعد أن مرت السنون، وأصبح ذكرى، اختلط فيها الألم بالرحمة، والشعور بالمسؤولية بالدهشة والحيرة والعذاب.

كنت أخبرتك أن زوجي طبيب جراح، وكان يقوم ببعض العمليات الجراحية في عيادته الخاصة ولا بد له من ممرضة، وقد عرض عليه أحدهم فتاة مختصة متوفاة الأم وبحاجة للمساعدة، فقبلها لتعمل معه إلى جانب شخص آخر كان يقوم بمساعدته، أخبرني بذلك فلم أعر الأمر اهتماماً، فزوجي رجل مؤمن ومهتم بي وبأسرته، ولن أخشى عليه من فتاة تلازمه في عمله.

قلت لزينب: ألم تسأليه عن صفاتها، عن دينها.. عن أخلاقها.. عن سنها؟

قالت: لا بل اكتفيت بأنها فتاة فقيرة محتاجة للعمل، ربما كان هذا جهلاً مني بما تستطيع أن تفعله المرأة بالرجل إذا أرادت، كما غابت عني تلك الحقيقة وهي أن اختلاط النساء بالرجال إذا لم تصاحبه ضوابط مادية ومعنوية، أدى إلى ما لا تحمد عقباه.. وكان هذا لأمر يريده الله. ومرت الأيام بل الشهور.. وبدأت ألحظ بعض التغيرات في تصرفات زوجي، فهو دائم التفكير، يجلس معنا لكنه بعيد عنا.. همه الأول في العيادة، بعد أن كان همه الأول البيت والأولاد، وطالت مدة مكوثه في العيادة.. وفي إحدى المرات جاء مساعد زوجي إلى البيت يطلب بعض الحوائج، وخطر لي أن أسأله عن أخبار الممرضة، فأجابني: إنها فتاة فقيرة مسكينة، ولكنها دائمة الشكوى، تعرف كيف تصل إلى ما تريد، وكثيراً ما رأيتها تذرف الدموع أمام الطبيب، وتعرض عليه معاناتها من زوجة أبيها، وقد أنكرت عليها ذلك ولكن دون فائدة.

وبدأت تهاجمني الشكوك، وربطت بين تصرفات زوجي وما سمعت. وأثارت اهتمامي عبارة (تعرف كيف تصل إلى ما تريد).

قلت: ألم يخطر ببالك أن تذهبي إلى العيادة وتتعرفي بنفسك على ما يحدث هناك؟

زينب: خطر لي أن أفعل ذلك مراراً، ولكن فضلت أن أتروى ولجأت إلى ربي أسأله أن يهديني إلى ما أفعل، فزوجي متدين ومحال أن يرتكب حراماً.

وفي أحد الأيام جاء زوجي مبكراً، فسألته عن سبب مجيئه هكذا مبكراً، وفي داخلي خوف مما سيقوله، فقد لمحت في وجهه تعابير هزتني من أعماقي، وجاء الجواب بعد صمت:

- تعلمين أنك وأولادي أغلى ما أملك في هذه الدنيا، وأنا أثق بدينك وعقلك، ولذلك سأعرض عليك مكنون صدري.. فقد تعبت وقررت.

قلت (وقد أحسست بالدماء تغلي في عروقي): ممَّ تعبت؟ وماذا قررت؟

وقد شعرت أنني أغوص في هاوية لا نهاية لها..

قال دون أن ينظر إلي: تعبت مما أحمل من ميل نحو تلك الفتاة التي تساعدني، العاطفة في صدري تعذبني، ولا حل إلا باتباع الطريق الذي أحله الله تعالى..

قلت وأنا أحترق: ماذا تقصد بالطريق الذي أحله الله تعالى؟

قال ببرود استفزني: الزواج منها.. وهل يوجد غير هذا الطريق؟

وأحسست أن الدماء قد سحبت من جسدي. وأنني أهوي إلى قاع لا نهاية له ولم أنبس ببنت شفة وخرجت من الغرفة حتى أتمالك نفسي، وسألني ابني وكان جالساً في الصالة:

- ماذا بك؟ لماذا اصفر وجهك هكذا؟ ماذا بكما أنت وأبي؟ إن هناك شيئاً يحدث بينكما منذ مدة لماذا لا تخبراننا به؟

قلت: لا شأن لك بما يحدث واهتم بأمورك..

وانصرفت إلى المطبخ وأنا لا أدري ماذا أفعل.. أمسكت بسكين ولم أجد أمامي إلا بصلاً أفرمه متظاهرة بتحضير شيء للعشاء، وانسابت أفكاري مع دموعي متظاهرة أنها من البصل.. وعجبت من تماسك أحسسته في أعماقي.. لن أنهزم.. سأدافع عن بيتي وكياني.. مستعينة بربي راضية بما يرضاه لي سبحانه.. وقررت أن لا أخبر أحداً وخاصة أولادي، يجب أن يكونوا بعيدين عن خبر استسلام أبيهم للهوى، إنه مثلهم الأعلى، لن أجعله يتهاوى في نفوسهم بين يوم وليلة، ولم أنم تلك الليلة، وبدأت أرتب أفكاري بهدوء، ماذا سأفعل وكيف سأتصرف؟!

قلت: لله درك يا زينب، ما أثقله من حمل؟ قررت أن تنفردي به لتحافظي على البيت والأسرة، لا شك أنها مشاعل الإيمان تنير الطريق لحامليها من المؤمنين عند الحاجة لها.

وتابعت زينب حديثها: وفي الصباح بادرني وقد خلا البيت من الأولاد بسؤاله:

"لم أسمع منك رداً على ما قلت، لك المكانة الأولى في حياتي وفي نفسي لا شك في ذلك، ولكن هذا أمر حل بي وتسلل خلسة إلى داخلي ولا بد من حل يرضي الله تعالى.

قلت: كان يجب أن تفكر بحل يرضي الله تعالى منذ البداية لا الآن.

قال: ماذا تقصدين؟

قلت: ما أقصده أن تجعل بينك وبين هذه الفتاة حجاباً معنوياً.. أن يكون وجودها معك ضمن حدود العمل، أن تبتعد بحواسك عن منطقة الخطر التي حذر الرسول الكريم منها عندما أخبرنا أن العين تزني.. واليد تزني.. واللسان يزني..

قال: لا أدري كيف حدث لي ذلك..؟ لا أدري..

قلت: كان يجب أن تبعدها قبل أن تهزم بهذا الشكل، لقد نبهكم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى أن ناقصات العقل والدين يستطعن السيطرة عليكم إذا أردن.. ويسلبنكم العقل والحكمة. فلم تتعظوا ولم تعوا هذه الحقيقة.. واعتبرتم كلمات رسول الله حطاً من قيمة المرأة، وهو ما لم يرده الرسول الكريم.

قال: ما فائدة هذا الكلام الآن؟ لقد حدث ما حدث.. وانتهى الأمر..

وغلت الدماء في عروقي ولم أدر ماذا أقول، إلى هذا الحد يضعف الرجل؟ صدق رسول الله. لقد وعظ الرجال فلم يلتفتوا إلى مغزى كلماته، وهو أن المرأة التي تسبق عاطفتها عقلها غالباً لحكمة أرادها الله تعالى. تستطيع أن تلغي عقل الرجل وتفكيره عندما تريد.

ترى لو أصابني ما أصاب زوجي هل كنت أتهاوى هكذا وأتخلى عن كل مسؤولياتي ومبادئي؟ لا.. لا يمكن.. هذا مستحيل..

قلت: سأقف معك وسأساعدك لتنجو من كارثة، ستصيب الأسرة التي تعبت في بنائها..

قال: لماذا تسمين ما أحله الله كارثة؟

قلت: إن الله حدد العدد، ولم يبحه إباحة مطلقة، لقد كان تعدد الزوجات سائداً فللرجل ما شاء، وما شاءت له شهواته.. فمنهم من جمع خمساً ومنهم من جمع عشراً، ومنهم من جمع أكثر كما ورد في كتب الحديث.. ونزلت الآية الكريمة، فأمر النبي صلوات الله عليه من زاد على الأربع أن يسرح ما زاد تسريحاً بالمعروف، فالإسلام لم ينشئ التعدد وإنما حدده، ولم يأمر به ولكنه رخص فيه وقيده.

قال: هذا يكفي لقد رخص فيه وأباحه.

قلت: لقد قيد الله سبحانه التعدد بشرط، وهذا الشرط صعب جداً، وهو العدل، ويندر من يستطيعه، ولذلك على الرجل المسلم أن يوازن بين حاجته إلى أخرى وبين التزامه بشرط مولاه.

قال: إنني سألتزم بهذا الشرط.. أعدك بذلك.

قلت: كلهم يقولون سأعدل ثم لا يستطيعون، خاصة أولئك الذين يكون دافعهم إلى التعدد الشهوة والهوى، حتى فلذات الأكباد تداس حقوقهم ويظلمون، والنماذج لا تحصى، لقد أباح الله التعدد وحدده ليكون حلاً لضرورات فطرية واجتماعية، مثلاً الزوجة لا تنجب، أو هي مريضة أو لا ترغب في الوظيفة الجنسية وهو شبق، أو أن عدد النساء أكثر من عدد الرجال في مجتمع ما بسبب الحروب والكوارث، فهذه الرخصة تحمي المجتمع من الانحلال تحت ضغط الضرورات الفطرية والواقعية.

قال: وكيف أعالج ما أنا فيه.. إنني أتعذب.. إنها عاطفة غلابة أقوى مني.. أليست هذه ضرورة؟

قلت: لا إنها مجرد شهوة وهوى.. وراءهما الشيطان.. أين الإرادة؟.. أين القوة؟ وأذكرك بأن الله تعالى لم يبح للزوج أن يعرض نفسه لعواطف الحب والهوى ثم يعلن عجزه ويستسلم، كما أنه تعالى لم يبح التعدد من أجل إشباع نزوة شيطانية طارئة، وإنما أباحه في أحوال خاصة من أجل سلامة المجتمع، فعند الزوجة ما يلبي الرغبة الفطرية التي اعترف بها ديننا وأمر بتلبيتها، أما تلك التي تشعر بها فقد كان يجب أن تسكتها منذ البداية.

قال: كيف أسكتها؟

قلت: أن تبعد تلك الفتاة، أو أن تلتزم وإياها بحدود الله تعالى.. فلا نظرة.. ولا لمسة ولا شكوى.. ولا تباكي.. كل هذا حرام إذا كان وراءه الشيطان..

قال: أرجوك.. كفى..

قلت: نعم كفى.. هذا ما عندي قلته لك، وعليك أن تتصرف، ولتعلم أنه امتحان إلهي، وعليك إذا كنت مرتبطاً بربك حقاً أن تفوز بهذا الامتحان، وأدعو الله أن يعينك ويريحك من عذاب تشكو منه كما أنه امتحان لي، وأرجو الله أن يمنحني الصبر والحكمة في مواجهة ما لا تحتمله مشاعري..

قال: لماذا لا تحتملين أمراً أباحه الله سبحانه وفعله الصحابة؟

قلت: أباحه الله مراعاة لفطرة الإنسان وحاجته، وقيده بشرط مهم، وفعله الصحابة لأنه كانت لهم ظروفهم الخاصة، فعدد المسلمين كان قليلاً بالنسبة لعدد الأعداء الذين يحيطون بهم من كل جانب، وكان شهداء المسلمين الذين يقتلون في الحروب يخلفون وراءهم أرامل لا سند لهن ولا معين، فكانوا يتزوجونهن لكي يكفوهن مؤونة العيش الكريم، ثم اذكر لي اسم صحابي واحد أحب وعشق على امرأته وتزوج الثانية بسبب الحب، إنك لن تستطيع، وحاشا الصحابة أن يفعلوا ذلك لأنه لا يليق بالمؤمنين الصادقين، ثم إن كان في ما يدعوك إلى استبدالي بغيري فافعل ولا اعتراض لي على ذلك، أما بالنسبة لمشاعري فهذا فوق طاقتي ووسعي والله سبحانه لا يكلفني شيئاً فوقهما.

قال: هل تعنين بذلك أنك ستتخلين عني إن أقدمت على الزواج بالأخرى؟

قلت: نعم ولك أن تختار.

قال: ألا تظنين أن في تصرفك هذا تجاوزاً لحدود الله تعالى؟

قلت: لا أظن ذلك فهذه حدود طاقتي والله سبحانه لا يكلفني فوق ما أطيق حتى في عبادته سبحانه، ومع ذلك فهناك سند لي في هذا الأمر، وهو ما فعله رسول الله صلوات الله عليه وسلامه عندما فكر علي رضي الله عنه أن يتزوج وعنده فاطمة الزهراء رضي الله عنها.

قال: ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قلت: رفض أن يتزوج سيدنا علي رضي الله عنه بامرأة أخرى على ابنته فاطمة، وخيره بين أن يحتفظ بابنته زوجة له وبين أن يطلقها إذا أراد أن يأتي بضرة لها، والقصة مسجلة في كل كتب السيرة منذ قرون وإن أغفلتها بعض الكتابات الحديثة.

قال: ولكن الرسول صلوات الله عليه فعلها وتزوج على ابنة أبي بكر..

قلت: الرسول صلى الله عليه وسلم فعلها لمصلحة الإسلام والمسلمين لا لحاجة في نفسه، فقد أمضى صلى الله عليه وسلم سني شبابه وفي صحبته زوجة هي أكبر منه سناً، والناس من حوله يعددون الزوجات، وهو قد اكتفى بمن أمنت له المودة والرحمة وأمن لها أسمى ما تنتظره الزوجة من زوجها.. ثم أي امرأة مؤمنة تتمنى أن تكون ولو العدد المئة في بيت رسول الله، تستقي من معينه صلى الله عليه وسلم، لتنشر ما سمعت وما وعت، ولتكون أما للمؤمنين، ليت عددهن كان أكثر، إنني أحس بالغصة كلما تذكرت أنه صلى الله عليه وسلم قد تزوج تسعاً أو عشراً فقط. وكل همه مصالح الأمة واتساع الدعوة وامتداد الأثر.. وقد كان له ذلك فلا يقيسن أحد نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فابتسم وتركني ومضى.

قلت لزينب: وأنت ماذا فعلت؟

قالت: لم أفعل شيئاً.. وحاولت أن أكون طبيعية وأن لا يعلم أحد بمشكلتي.. وخاصة أولادي وكنت أشعر بالصراع الذي يجري في أعماق زوجي، فأحس بالإشفاق عليه.. وأتمنى أن ينتصر على شهوته وهواه.

قلت: الإسلام دين واقعي.. لذلك أباح التعدد وحدده ووضع له قيداً.. وأباح الطلاق ونظمه مراعياً مصلحة المجتمع والأسرة وفطرة الإنسان وواقعه، وبذلك جنَّب مجتمعاتنا من التطرف الذي هوت إليه المجتمعات الأخرى، عندما فرضت عليها آراء من حرفوا الدين، فاعتبروا المرأة رجساً ونجساً.. والعلاقة الجنسية انحداراً وسقوطاً.. وشرعوا الرهبانية، وحرموا الزواج بأكثر من واحدة.. وحرموا الطلاق.. فكان أن سقطوا في هوة الفوضى والانحلال، وبدأنا نسمع صراخهم من تزايد نسبة الطلاق لأنهم اضطروا إلى إباحته دون ضوابط.. وانتشر تعدد الخليلات.. والحمل بين الصغيرات.. لأنهم لم ينظموا أمر الغريزة كما نظمها الخالق سبحانه، بل فتحوا الباب على مصراعيه، بحجة أن الكبت ضار ومفسد، ولم ينتبهوا إلى أن الإسلام لم يكبت ولكنه نظم ونظف الوسائل وحدد الأهداف.

قالت زينب: وأكثر من ذلك لقد بدأنا نسمع بالزواج بين أفراد الجنس الواحد. وفي هذا ما فيه من دمار للأسر وضياع للأجيال، كما قرأت في إحدى المجلات أن نسبة تعدد الخليلات في أمريكا قد بلغ 48% بينما تعدد الزوجات في مصر لا يتجاوز 2%.

قلت: الحقيقة أن الإسلام استوعب كل حاجات الإنسان الفطرية والواقعية ونظمها، بذلك حمى الإنسان من الفوضى.. ومن العبودية للشهوات والغرائز.. إنه لم يكبت ولكنه نظم وحدد كما قلت.

وماذا حدث بعد ذلك في مشكلتك وكيف انتهت؟

قالت زينب: خطر لي أن أتصل بتلك الفتاة وأطلب منها أن تبتعد عن زوجي، أو أن أتصل بأحد العلماء الذين يطمئن زوجي إليهم وأطلب منه النصيحة لي ولزوجي، ولكني لم أفعل وتوجهت إلى ربي واعتمدت على إحساسي، إنني لن أحتمل زواجه بأخرى، سأبتعد عن طريقه وليفعل ما يشاء. وجاءني بعد عدة أيام ليقول لي: إنه وجد لتلك الفتاة عملاً عند أحد أصدقائه الأطباء، وأنه سيبتعد عنها، وسيحاول أن ينسى ولا يدري هل يستطيع ذلك أم لا، وأن علي أن أساعده.

قلت لزينب: وبماذا أجبت؟

قالت: قلت له: إنني معك.. وإلى جانبك وأظن أنك تستطيع الصبر، ولو ابتليت أنا المرأة الضعيفة بمثل ما ابتليت أنت به لاستطعت أن أتغلب عليه ولأوقفت الأمر من بدايته، بدافع إيماني بأن في نوع من النظر زنى، وفي نوع من الكلام زنى، وفي نوع من اللمس زنى.. والإنسان قد يفقد أعز الناس عليه بالموت فيصبر وتستمر الحياة وهذا مثل ذاك، وسأدعو الله وأسأله أن يكون في عونك وعوني.

واستمر الأمر على هذا الحال عدة أسابيع، يحيط به أولاده، يذهب ابنه الأكبر معه إلى العيادة، وأنا أرعاه كأم وزوجة، نزور أصدقاءنا وذوي قربانا. وأخيراً عرض علي أن نترك البلد فقد جاءه عرض من بلد عربي ويفضل السفر، فوافقت وإن عز علي فراق الأهل والوطن، وضاق الأولاد بهذه الغربة، فأفهمتهم أن أباهم يريد ذلك ففي البلد أمور تضايقه، وقد أحسوا بذلك من خلال اكتئابه في الفترة الأخيرة وابتعاده عنهم فاستسلموا لما قررنا. وها نحن الآن نتابع الحياة.. ولا شك أن النسيان قد غطى ما مر ولكن في الذاكرة آثاراً لا تمحى لتكون موعظة وعبرة، فكثيراً ما رأيت في عيني زوجي نظرة الامتنان، وكثيراً ما قالها لي في كلمات تملؤني تقديراً وحباً له.

والآن ها أنت قد عرفت أهم ما مر بي وأنا في ظل الدين الحق، الذي أحس أنه أعظم نعمة أنعمها الله علي فالحمد لله على نعمة الإسلام خاصة وكفى بها من نعمة.

قلت: نعم كفى بها من نعمة وأرجو أن نستمر في هذا الطريق.. حتى نلقاه سبحانه، فنكون إن شاء الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. ولكن لي طلب أخير؛ هل تأذنين لي بنشر تلك الأحداث التي مرت بك، والتي تعطي الصورة الحقيقية لحياة امرأة تعيش في ظل الإسلام.

فابتسمت زينب وقالت: لا مانع عندي وأتمنى لك التوفيق.

الخاتمة

وبعد.. إنها أحداث واقعية عرضتها كما هي، وأردت أن أظهر من خلالها الوجه الحقيقي للدين القيم الذي وقف إلى جانب المرأة، كما وقف إلى جانب الرجل..

كما أنها ورقات ضمت اعترافات صادقة، من امرأة التزمت بمنهج الله، فتحقق لها ما أرادت من العدل والكرامة والرضى..

وإنها لصرخة في وجوه الذين يزعمون أن الإسلام ظلم المرأة وأهانها، ويتنادون إلى نصرتها والأخذ بيدها. فإذا بهم يختزلون رسالتها السامية، ويمسخون إنسانيتها.. ويستغلونها أبشع استغلال.. ينتزعون من المرأة كل صلاحيتها، ولا يبقون لها إلا دوراً واحداً.. أن تظهر للعيان وقد غطتها الزينة من رأسها إلى أخمص قدميها وأضاعت ساعات وساعات في سبيل ذلك.. لماذا؟ إن هدفهم واضح، حتى تتمتع بها الأعين وتستثار الغرائز وينتشر التلوث الذي عم الكرة الأرضية، تلوث الأخلاق الذي أدى إلى تلوث البيئة. ويلهم، أليس بالمرأة شيء آخر تصان من أجله؟ أين دور الأم؟ أين دور الزوجة؟ أين دور المجاهدة؟ أين دور المربية؟

وبعد.. لا شك أن الأحداث والمواقف التي خططتها على الورق هي جزء من واقع عايشته خلال الزمن الذي مر من حياتي، ثم سجلتها، لعلها تكون شعاعاً من نور في طريق الباحثات عن الحقيقة..

(تمت)