امرأة في ظل الإسلام (1)

امرأة في ظل الإسلام (1)

رواية: ابتسام الكيلاني

 المقدمة

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد:

ترى كيف كانت حياة المرأة في ظل الإسلام؟

أهي الظلم؟.. أم العدل؟

أهي السجن؟.. أم الحرية؟

أهي الذل؟.. أم الكرامة؟

أهي حياة في ظل الاستبداد والتسلط؟

أم في ظل المودة والرحمة؟

أهي حياة الذل والهوان؟.. أم الكرامة والعزة؟

أهي حياة التنازل عن كل الحقوق؟ أم حياة تُحترم وتُصان فيها الحقوق؟

سنحكم من خلال سرد زينب لمراحل حياتها، أمام الرفيقة العزيزة التي التقتها على غير موعد، بعد أن أصبحت أماً وجدّة، وقررت أن تفتح أمامها سجل الذكريات، وتعرض الأحداث حلوها ومرّها في لقاءات تجمعهما بعد طول افتراق.

الحقيقة أنني لم أقصد كتابة قصة.. وإنما قصدت عرضاً واقعياً لحياة امرأة عاشت في ظل الإسلام، وفي حياتها مواعظ وعبر وأحداث، قد يكون في عرضها فائدة لمن يقرأ.. ويستوعب، وهي أحداث واقعية، شاهدتها بنفسي على مسرح الحياة، ولم أضف إليها من عندي إلا القليل ابتغاءً لتسلسل الأحداث، ولوضع الحلول لها من خلال المنهج الذي سنّه من خلق الإنسان وعرف حقيقته، وما يصلح له من تشريعات ونظم.

ابتسام أشرف الكيلاني

اللقاء الأول

ذكريات الطفولة

التقيتها بعد فراق دام سنين طويلة، منذ كنا في المدرسة الابتدائية أعز رفيقتين، بل أعز أختين.

كانت صداقتنا أكبر من سنّنا، عميقة وقوية، وانتهت المرحلة الابتدائية، وكنا فيها متفوقتين، كنت لا أعلم عن خصوصياتها الكثير، غير أنها وحيدة بين عدة إخوة لها، ومتوفاة الأم. عندها عاطفة دينية تدفعها للبحث عن كل ما يُقرّبها من الخالق، ويحميها من غضبه، تسحرها قصص الصالحين.. وتحاول أن تتخذ منهم قدوة ومثلاً أعلى. وكنت مثلها، لي نفس تطلعاتها، وهذا ما قرّبها مني وقرّبني منها.

وقد تزوج أبوها بعد وفاة أمها من خالتها التي احتضنت الأولاد، وتعاملت معهم بعاطفة الأمومة، فالخالة لم تُرزق بأولاد فانصرفت بعاطفتها نحوهم جميعاً. وكثيراً ما حدثتني عن تقوى خالتها، وكيفية صلاتها، والأدعية التي ترددها، وأنها عندما تكبر ستكون مثلها لعلها تفوز بالجنة، وكانت الجنة في أحلامنا الطفولية، نتحدث عنها ونحلم بها.

وانتهت المرحلة الابتدائية، وحملت كلّ منّا معها شهادة بالتفوق، وتواعدنا أن نلتقي معاً في المدرسة الإعدادية، ولكننا لم نلتق، ومرت الأيام وتتابعت السنون، والتقيتها فجأة في ذلك البلد البعيد.. في دبي.. بعد تلك السنين الطويلة، التقت الأعين.. وتجاوبت الأرواح، ورأيت فيها الصورة التي تخيّلتها دائماً مُسلمة في مظهرها، مؤمنة في تصرّفها.. وفيّة محبة.. عناق طويل جمعنا بعد فرقة في دار غربة.. لهفة وشوق لمعرفة كل ما مضى.

على مقعد في حديقة جميلة جلسنا متجاورتين، تبثّ كل منّا للأخرى ما تحمله من مشاعر، ونتلهف لمعرفة أخبار السنين التي مرّت، وما جرى فيها من أحداث، تفاعلت معها كل منا حسب ظروفها. ووعدتني أن نلتقي كل أسبوع لتقصّ عليّ جزءاً مما مرّ معها، بعد أن طلبت منها هذا بإلحاح، إذ وردت على لسانها عبارة مختصرة عبّرت عما تحمله في داخلها من كنوز، يجب أن تُكتشف قالت:

- خمسون عاماً في ظل الإسلام.. في ظل العدل والرحمة.. في ظل الكرامة والألفة في ظل لا إله إلا الله.. في بعضها كان الظل قريباً دانياً، وفي بعضها كان بعيداً فسعيتُ إليه واحتميت به، إنني أسعد امرأة في العالم.. إنني امرأة عاشت في ظل الإسلام.

وهكذا انتهى لقاؤنا الأول، وكان لقاءً عارضاً وقصيراً، على أن نلتقي كما وعدت زينب كل أسبوع لأسمع منها التفاصيل التي ترسم الصورة الصحيحة لامرأة عاشت في ظل الإسلام.

 

اللقاء الثاني

المرحلة الإعدادية

في مواجهة التبشير

وكان اللقاء الثاني في بيت صديقتي زينب، في الموعد المحدد كنتُ أطرق الباب، واستقبلتني زينب بكل الحب والمودة، ولفتت نظري بساطة البيت وجماله بكل ما فيه، نظام.. ونظافة.. وجمال، وبدأت زينب الحديث قائلة:

- لم تخبريني شيئاً عن أحوالك.

- قلت: سأعطيك ملخصاً عن حالي، وربما جاء دوري فيما بعد لأتحدث عن نفسي، إنني زوجة وأم، وأعمل في ميدان التدريس، وأعيش مثلك في ظل الإسلام.

قالت: أما أنا فأبدأ من حيث افترقنا في ذلك اليوم الذي أنهينا فيه مرحلة من حياتنا، كنا فيها كأختين، نحلم ونتخيّل ولا ندري ماذا يُخبئ لنا الغد، وكانت فرحة أبي بنجاحي وتفوقي كبيرة وكذلك خالتي، وأخبرني أبي أنه يرسم لي مستقبلاً زاهراً، فأنا ابنته الوحيدة بين ثلاثة أبناء، وأنا الصغيرة، حيث جئت بعد شوق طال لمجيئي، ففي رعاية البنت وتنشئتها ثواب عظيم عند الله تعالى، وكان والدي يتمنى أن ينال هذا الثواب. إنه غرس الإسلام الذي أبدل بكراهية الأنثى محبتها والابتهاج بمجيئها، بعد أن كانوا في الجاهلية يسودّ وجه أحدهم إذا أُخبر بمجيئها، أيتركها على هون أم يدسّها في التراب.

ومضى الصيف بين الترحال والنزهات، وفوجئت بأبي يسمي لي المدرسة الإعدادية التي سألتحق بها لأكمل دراستي، لقد اختار لي مدرسة خاصة، كنت أسمع عنها وعن أنها تستوعب بنات الأسر الغنية والعريقة، وأن التعليم فيها جيد وخاصة اللغة الإنكليزية التي أصبحت بنداً مهماً في كل مجالات الدراسة والعمل، ولا توجد في بلدنا مدرسة أخرى تضاهيها في ذلك.

وتذكرت الوعد الذي بيننا للقاء في المدرسة الإعدادية الحكومية الوحيدة في بلدتنا، وحاولت أن أرفض، ولكن والدي أنكر عليّ ذلك، وأخبرني أن تسجيلي قد تم وهو أعلم بمصلحتي، اقتنعت وسلّمت بالأمر، وحلمت أننا لابد أن نلتقي ولكن كيف؟ أنا لا أعرف الكثير عنك، أين يقع البيت الذي تقيمين فيه، في أي جهة من جهات المدينة؟ وأنا الصغيرة التي تجهل مثل هذه الأمور. ولم تكن الهواتف متوفرة في كل بيت. ولكن ظل الحلم يراودني زمناً طويلاً.

وابتدأ العام الدراسي، وفاجأني جو المدرسة، كان يشرف على المدرسة مجموعة من الراهبات بزيّهن المعروف وصلبانهن المتدلية، لا يوجد في المدرسة أي مظهر من مظاهر الإسلام، سوى عدد قليل من الطالبات كنّ يضعن الحجاب وهنَّ خجلات منه، ويرفعنه عند دخولهن المدرسة، بل كانت هناك حرب خفية ضد الإسلام، أحسست بذلك في أعماقي، ربما كنتُ مؤمنة بالفطرة، بل كل منا مؤمن بالفطرة لا شك في ذلك، ولكن هناك ما دعّم إيماني، توجيهات تلقيّتها عبر السنوات التي مرت من أمي وأبي وخالتي، ثم المدرسة، الابتدائية، ولا أنسى صحبتنا وأحلامنا أن نرتع غداً في رياض الجنة، ونقلت مشاعري عن المدرسة لخالتي وأبي، لقد استنكرت خالتي اختيار أبي لمدرسة كهذه وقالت:

"هذه المدرسة يجب أن تغلق، لماذا نحارب في بلدنا؟"

أما أبي فقد تمسك برأيه وقال:

"إن على المؤمن أن يصبر ويقاوم، وليكن نوراً يضيء في الظلمات أينما ذهب، المهم أن تتمسكي بما آمنت به، وتنمّي معرفتك بهذا الدين الذي تنتسبين إليه. فالعواطف وحدها لا تكفي ولا بد من العلم والعمل."

ولا تزال كلماته -رحمه الله- ترن في أذني حتى الآن، إنها معركة بدأتها مبكرة.

وأكثر ما كان يزعجني تلك الحصة الصباحية التي تقام فيها طقوس دينية، لا علاقة لنا بها نحن المسلمات ومع هذا يجب أن نحضرها، إنه النظام، كلمات تقال تخالف تماماً عقيدتي في وحدانية الله تعالى، موسيقى ترافق الكلمات، حركات لا أفهمها، قصص تُروى لنا تحاول شدّنا بعيداً عن دين المسلمين.

كنت أشعر بالغربة، كما أشعر بالاعتزاز بما استقر في يقيني عن ربي. طبعاً لم يكن يجرؤ أحد على المعارضة أو المناقشة. قالت لي إحدى الطالبات عندما حاولت أن أستفهم عن إله له أولاد وزوجات وكيف تساوي الثلاثة واحداً، قالت لي:

"إن قضايا الدين لا تخضع للعقل، ويجب أن نؤمن بها هكذا دون مناقشة"

وعجبتُ وسألت نفسي: هل في الإسلام ما يتنافى مع العقل؟..

ومرت بذاكرتي قصة ذلك الأعرابي الذي هداه عقله وتأمله في الكون إلى وجود الله وأنه سبحانه العليم الخبير عندما قال:

"أسماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، وبحارٌ ذات أمواج، أفلا يدل ذلك على العلي القدير؟.."

وأحسست بالراحة وشفتاي ترددان:

"قل هو الله أحد* الله الصمد* لم يلد ولم يولد* ولم يكن له كفواً أحد".

نعمْ لم يلد ولم يولد، ولا يمكن أن يكون مكوناً من أجزاء. هذه الراحة التي كنت أشعر بها كلما ضايقني أمر، فأذكر الله، وألجأ إليه، إنه شعور لازمني طوال حياتي، إنه الإسلام معي في كل الجولات التي خضتها في خضَمِّ الحياة الواسعِ، كما أن أبي وإخوتي وخالتي كانوا معي دائماً.

قلت لزينب: وهل كنت تحدثينهم عما يجري في المدرسة؟..

قالت: نعم كنت أحدث خالتي في كل شيء، فهي قريبة مني، وحنانها كان يدفعني للحديث، فكنت أجد في كلماتها راحة وطمأنينة.

قلت: وهل كنت تخبرين والدك بما يجري؟

قالت: عندما يسألني، وكان يمنحني نصائحه التي تزيدني فهماً وعلماً بديني، فعندما سألته عن عقيدة التثليث وكيف يمكن أن يساوي الثلاثة واحداً؟ وكيف يمكن أن يتقبل العقل مثل هذا الكلام؟

قال: إنها من التحريف الذي حلَّ برسالة عيسى عليه السلام وتَقبَّلَها الناس إما بالوراثة، وإما بسبب الحاجة والفقر. أما أن يتقبلها العقل فلا.

وقصّ علي حكاية طريفة سمعها في إحدى رحلاته إلى إفريقيا قال:

"إنهم يستغلون حاجة الفقير للغذاء، وحاجة المريض للدواء، وحاجة الجاهل للعلم، ولقاء سدِّ حاجات ضرورية يتقبل بعضُهم عقيدةً يحكم العقل ببطلانها، وكثيرون يرفضون ذلك، أما الحكاية فقد جيء بأحد فقراء المسلمين ليلتقي بأحد رجال الدين فيلقنه تعاليم النصرانية فإذا تقبلها ضمنت له حياة كريمة.

 قال له رجل الدين:

- إن عليك أن تؤمن بالأب والابن وروح القدس وأن هذه الأقانيم الثلاثة هي إله واحد.

قال الرجل: كيف؟ إن هذا غير معقول؟!

قال رجل الدين:

- القضية بسيطة جداً.

"وأخذ بطرف ثوبه وثناه ثلاث ثنيات وقال: هذا الأب وهذا الابن وهذا روح القدس أليسوا ثلاث ثنيات؟ افتح هذه الثنيات فيعود القماش كما كان قطعة واحدة أي إلهاً واحداً.

ففكر الرجل الفقير قليلاً ثم قال:

- دع لي إلهي الواحد.. هنيئاً لكم إلهكم المثلث وسأفعل كل ما تريدون مني."

قلت لزينب: إنها من نعم الله العظيمة أن يحاط الإنسان برعاية واهتمام والدين يفهمان الإسلام فهماً صحيحاً ويثقان بتعاليمه ومبادئه.

قالت: نعمْ فللأبوين تأثير كبير في تنشئة الأولاد وصدَقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أبلغنا أن الأبوين هما اللذان ينميان نبتة الإيمان في القلوب عندما قال:

"كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يُنصِّرانه أو يهوِّدانه أو يمجِّسانه".

ولولا تلك الرعاية التي أُحطتُ بها لتحولت إلى أحد أمرين: إما النصرانية، وإما الفراغ الكامل من العقيدة والدين.

ولقد كانت تصادفني نماذج عجيبة في تلك المدرسة التي أمضيت فيها أربع سنوات، فقد فاجأتني إحدى الطالبات مرة بأنها تستحيي أن تقول إنها مُسلمة، وكأنما صفعتني كلماتُها، وبدأت أتقربُ منها وأحاول أن أفهم دوافع هذا الشعور، وهكذا أحسست أن عليَّ مهمة، ولكن لن أستطيع أن أقوم بها دون الاستعانة بأبي وخالتي.

قلت لزينب:

- أشعر أن اجتماعنا قد طال، والوقت قد تأخر، وعليَّ أن أعود إلى البيت، بالرغم من شوقي لسماع المزيد عن تلك الفتاة التي تستحيي من دينٍ جاء من لَدُن عليم خبير وحوى الخير للإنسانية جمعاء.

وَدَّعتُهَا وتواعدنا على اللقاء في بيتي في الأسبوع القادم.

 

اللقاء الثالث

حرب خفية في المدرسة التبشيرية

قوامة الرجل أهي تسلط واستعباد؟

وحلَّ الموعد وجاءت زينب لتُسمعَني ما أشتاقُ إلى سماعه من ذكريات امرأة تقول إنها عاشت في ظل الإسلام، وإنها أسعد امرأة في العالم بالرغم مما مرّ بها من أحداث، بعضها حلو وبعضها مُرّ كما هي حال الدنيا.

جاءت إلى بيتي المتواضع المغروس بين شجرات النخيل.

وعلّقت زينب على البيت قائلة:

- بيتك يبعث الراحة في النفس.. خاصة أن حراساً أشداء محيطون به.. ما أروعهم من حراس!. ترى ماذا توحي إليك شجرات النخيل هذه؟.

قلت: إنها تذكرني باستمرار أنني فرع من شجرة انغرست جذورها هنا في أعماق الأرض.. أرض الجزيرة العربية، أجدادي كانوا هنا تضمهم الأرض نفسها.. وتظللهم السماء نفسها.. وترافقهم دائماً شجرة النخيل.

قالت: جميل جداً أن يعرف الإنسان من هو.. وإلى من ينتمي.. ويعتز بانتمائه..

قلت: والآن خَبِّريني عن تلك الفتاة التي تستحيي من انتسابها، إلى الإسلام.

قالت: لقد كانت جارتي، تقاسمني المقعد، واسمها فاطمة.

قلت: اسمها فاطمة وتستحيي من الإسلام؟ ما أغرب هذا!!

قالت: لا تعجبي.. لقد وَجهتُ لها نفس الاعتراض.

فقالت: كيف لا أستحيي من الإسلام وأنا لا أسمع عنه في هذه المدرسة إلا ما يعيب؟

قلت: وأين والداك من كل ذلك؟

قالت فاطمة: والداي؟ كل منهما له شأنه الذي يُغنيه، وإذا اجتمعا فخصام دائم، والدتي دائمة الصراخ، وإذا افترقا عاب كلّ منهما الآخر، لا وقت عند أحدهما لتوجيهنا وإرشادنا، والدي مشغول بعمله في الصباح والمساء، ووالدتي مشغولة بزياراتها وزينتها وتتصرف تصرفات عجيبة، تميس طرباً إذا جاملها إنسان باطراد جمالها أو شبابها أو زينتها، يُخيّل إليّ أنها لا ترى إلا نفسها، أما نحن أولادها ففي المرتبة الثانية أو الثالثة، وأحياناً لا تشعر بوجودنا.

أحسست بالشفقة نحو فاطمة وقررت أن تكون صديقتي، فهي بحاجة إلي، ربما كان عندي بعض الخير الذي هي بحاجة إليه، والعناية الإلهية وضعتها في طريقي، ووضعتني في طريقها، وهي طيبة ولطيفة، إنها نبتة جميلة غُرست ثم أُهملت، فأصابها الضعف.. وتكاد تذوي.

قلت: فعلاً وما أكثر الغرسات المهملات في أسر شغلتها المادة.. ولفّتها دوامة الحياة.

قالت زينب: هذا صحيح.

ومع ذلك أحسست أنها قريبة مني عندما قالت:

- لا تظني أنني أكره الإسلام.. لا.. ولكن ربما لا أعرفه، إنه يعرض علينا في هذه المدرسة بطريقة مُنَفِّرة، بينما يلبسون معتقداتهم ثوباً محبباً.

وبدأت رحلتي معها يساندني أبي وخالتي والجو الذي نشأت فيه.

وكانت فاطمة تروي لي بعض ما يقلقها من سهام وُجّهَتْ للإسلام ورجاله، وقد تراكمت في أعماقها خلال الفترة التي قضتها في المدرسة الإعدادية.

قلت لها:

- ستدركين عند فهمك للحقيقة أن تلك السهام التي تُوَجَّهُ لشرع الله كلها زائفة، وستمتلكين، إن شاء الله تعالى، سهاماً حقيقية توجهينها إلى عقائد ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان.

قالت: من الأمور التي تشغلني زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من إحدى عشرة زوجة. فكثيراً ما سمعتهم يهمزون ويلمزون حول هذا الموضوع.

قلت: إنه رسول الله تعالى الذي سعدت المرأة في كنفه، فليس من العدل أن تحظى برعايته وقربه امرأة واحدة فقط.. إن أية امرأة تتمنى أن تكون بين زوجاته صلى الله عليه وسلم. هذا ما أحسه في أعماقي كامرأة مسلمة يشدها الأسلوب الذي تعامل به رسول الله صلوات الله عليه مع نساء بيته، بل مع النساء كافة. وهناك نواح أخرى كثيرة؛ منها أن حكمة المولى عز وجل اقتضت أن يضم بيت رسول الله عدداً من الزوجات تتولى كل منهن وصف ناحية من نواحي حياته الغنية بالحكمة والرحمة، وبذلك يتسع بيت النبوة لينتشر نور الرسالة بواسطة نساء حكيمات مؤمنات، وهذه خصوصية جعلها الله سبحانه له وحده من دون سائر المسلمين، وبفضل أمهات المؤمنين ضمت كتب السيرة كل صغيرة وكبيرة عن حياته صلى الله عليه وسلم، ومن خلالهن رضي الله عنهن عرف الجميع كيف كان يتعامل الرسول الكريم مع المرأة.. الزوجة.. والبنت.. والقريبة.. والبعيدة..

قالت فاطمة:

- أرجو أن توضحي لي بقية الجوانب في قضية زواجه صلى الله عليه وسلم.. والتي بها سوف أواجه شبهاتهم وهمزهم ولمزهم، وإن كان ما قلته قد أراحني..

قلت: سوف أفعل بقدر استطاعتي.. سجلي عندك يا عزيزتي ما يلي:

1- لقد كان تعدد الزوجات سائداً في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لعددهن حد معين.

2- ومع ذلك فقد اكتفى الرسول الكريم بزوجة واحدة وهو في عز شبابه وهي أكبر منه بخمس عشرة سنة وبقي معها حتى توفيت، ورافقته ذكراها حتى آخر حياته.. إنها السيدة العظيمة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.

3- زواجه من الأخريات تم في الفترة الأخيرة من حياته، أي بعدما تقدمت به السن، وجميع زوجاته ثيبات (أرامل) وكبيرات في السن ما عدا السيدة عائشة رضي الله عنها.

4- كان زواجه منهن لمصلحة الدعوة الإسلامية.. وشملت حكماً كثيرة منها التعليمية.. والتشريعية والاجتماعية والسياسية.

قالت فاطمة: هل يمكن أن تذكري لي بعض الأمثلة؟

قلت: نعم لك ذلك، فمن الناحية التعليمية: كان لأمهات المؤمنين الفضل الأكبر في نقل أخباره وأفعاله صلى الله عليه وسلم في المنزل. وقد عرف علماء المسلمين لهن هذا الفضل، فها هو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول:

"ما أشكل علينا - أصحاب رسول الله - حديثٌ قطُّ فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً".

وأما من الناحية الاجتماعية: فقد تزوج صلى الله عليه وسلم بابنة الصديق أبي بكر وزيره الأول، ثم بابنة وزيره الثاني الفاروق عمر رضي الله عنه، وفي هذه المصاهرة تقوية للصلات الاجتماعية كما فيها اعتراف بفضل الصاحبين الأكرمين.

وأما من الناحية السياسية: فزواجه صلى الله عليه وسلم من سودة بنت زمعة بعد وفاة السيدة خديجة وكانت رضي الله عنها أكبر منه سناً توفي زوجها وتركها بلا عائل.. وكان أهلها بنو عبد شمس أعداء لبني هاشم ولرسول الله، وكان الهدف تأليف القلوب، ولو كان هدفه صلى الله عليه وسلم المتعة لتزوج من العذارى من بنات قريش المؤمنات.. ومثل سودة.. رملة بنت أبي سفيان حامل لواء قريش وأمها هند بنت عتبة وكانا من ألد أعداء الدعوة الإسلامية، وكان في هذا الزواج حكمة بالغة وسياسة حكيمة، ولما بلغ أبا سفيان الخبر افتخر برسول الله وقال: "هو الفحل لا يُجدع أنفه".. وفيما بعد أعلن إسلامه.. وقد دخل الهلاليون في دين الله أفواجاً عندما تزوج الرسول الكريم من ميمونة بنت الحارث الهلالية.. كما أعلن بنو المصطلق إسلامهم عندما تزوج النبي الكريم من ابنة سيدهم جويرية بنت الحارث التي أسرها المسلمون وأعتقها الرسول الحكيم وتزوجها، فالمصاهرة كان لها أثرها الكبير في دمج القبائل وتآلفها وهذا ما سعى إليه الرسول الكريم بحكمة عندما عدَّدَ الزوجات.

قالت فاطمة: لم تذكري لي شيئاً عن الحكمة التشريعية.

قلت: الحكمة التشريعية كانت في زواجه صلى الله عليه وسلم بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها، بعد أن طلقها زيد بن حارثة وكان الرسول الكريم قد تبناه، وكان العرب يعتبرون المتبنّى ابناً حقيقياً، له أحكام الابن من النسب تماماً. فأبطل الإسلام ذلك عملياً من خلال زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مطلقة زيد، وكان هذا الزواج بأمر من الله تعالى:

)فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً( الأحزاب 37

قالت فاطمة: جزاك الله خيراً، هذا يكفيني، وسوف أحاول الاطلاع والقراءة لأتعرّف على حقيقة الدين الذي أحمله بالوراثة.. وأجهل عنه الكثير.. ولكن عندي إشكالاً آخر.

قلت: ما هو؟

قالت فاطمة:

لماذا أباح الإسلام للرجال أن يتزوجوا أكثر من واحدة؟ ألا يكفي الرجل زوجة واحد؟ أليس في هذا ظلم للمرأة؟

قلت: تأكدي أنه ليس في شريعة الله ظلم لأحد.. لقد اشترط سبحانه العدل عند تعدد الزوجات، العدل في كل شيء إلا ميل القلب لأن القلوب بيد الله تعالى.

قالت: أليس في هذا التعدد استهتار بمشاعر المرأة؟ وهل تقبلين أنت بذلك؟

قلت: قد أقبل وقد لا أقبل.

قالت: كيف؟ وضحي لي ذلك.

قلت: لن أقبل إذا لم يكن هناك ما يدعو إلى هذا التعدد، وسأقبل لو وجد ما يدعو إلى زوجة أخرى، فهنالك أسباب تدفع الرجل إلى الزواج، منها أن تكون الزوجة عقيماً لا تُنجب، ومنها أن تصاب بمرض ما، ومنها أن يزيد عدد النساء على عدد الرجال كما في الحروب والأزمات، فيؤدي هذا إلى انتشار الفساد، وحمايةُ المجتمع مقدّمة على أي شيء آخر.

قلت لزينب: إن تعدد الزوجات من جهة أخرى تصنعه النساء، فالمرأة بملء إرادتها تقبل أن تكون الزوجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة، إنه إحساس المرأة الذي يدفعها للقبول، فهي بحاجة لبيت وأسرة، وليكن من خلال التعدد، كما أن الزوجة الأولى بإمكانها أن ترفض وتنسحب من حياة ذلك الزوج الذي تزوج بأخرى.. والإسلام لم يفرض التعدد وإنما أباحه وشرط له، ولن يوجد التعدد الظالم إلا في ظل البعد عن الإسلام، وفي حالة انحسار الإسلام عن القلوب، ثم أيهما أفضل للمرأة والإنسانية: أن يؤمّن لها التعدد بيتاً وأسرة، أم أن تكون مجرد متعة يلتقي بها الرجل ثم يلقي بها في سلة المهملات هي وما حملت في أحشائها، ثم تُلقي هي ما في أحشائها للمحاضن، وتنشأ أجيال لا تعرف لها أسرة ولا بيتاً؟ إنه انفلات يؤدي إلى دمار المجتمع إذا استمر ولم يواجه بنظام دقيق حكيم.

قالت زينب: والأهم من كل هذا أن واضع هذا النظام هو أحكم الحاكمين وهو أعلم بما يصلح لمخلوقاته، ولكن هذه الحقيقة غائبة عن قلوب غفلت عن أنه سبحانه هو الخالق وهو الرب المدبر.

وهكذا بدأت فاطمة تدرك شيئاً فشيئاً حقيقة هذا الدين، الذي كانت تستحيي من الانتساب إليه. وكثيراً ما وقفت بجانبي وتصدت لأباطيل تثار حول الإسلام، وهكذا تمتنت علاقتي بها وزارتني وزرتها، والتقيت والدتها وأحسست أنها مرتاحة جداً لصحبتنا، وكثيراً ما كانت تشاركنا مناقشاتنا، وفي إحدى الجلسات أبدت رفضاً لسيادة الرجل على الأسرة، وكنت قد سمعت من والدي كلاماً حول هذا الموضوع، كما قرأت عنه في كتاب كان له أثر كبير في حياتي، وهو كتاب "شبهات حول الإسلام".

وبماذا أجبت امرأة تعترض على سيادة الرجل على الأسرة؟

أجبت أن المرأة أيضاً سيدة في بيتها، وأسرتها، حسب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها"(1)

قالت أم فاطمة: لكن الذي يمارس السيادة هو الرجل.

قلت: وأنت ألا تشاركينه؟ ألا تناقشينه؟ ألا تبدين رأيك؟ لقد كان رسول الله صلوات الله عليه يناقش زوجاته ويستشيرهنّ حتى في الأمور العامة. إن سيادة الرجل ليست دكتاتورية وتسلطاً وإنما هي مسؤولية وتكليف، ولأنه الأقدر على تحمّل أعبائها، فهو الذي عليه أن يواجه العالم الخارجي وهو الذي عليه أن يعمل، وهو الذي عليه أن يُنفق، وهو الأدرى بما يكتنف الحياة الخارجية من مخاطر.

قالت أم فاطمة: أنتِ مع الرجل كما يبدو لي.

قلت: لست مع الرجل ولست ضده، أنا مع واقع الحياة، مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ثم على أساسها نظّمت شريعته الأمور.

قالت: عجباً إنك صغيرة جداً على مثل هذا الكلام.

قلت: لا.. إنني أستقيه من أسرتي من نموذج أعيشه فعلاً، إنني لا أستطيع أن أتخيل أسرة بلا مسؤول عنها.. إنها الفوضى والدمار، كما لا أقبل أن أكون أنا المسؤولة مع وجود رجل في الأسرة، فهذا واجبه وهو الأقدر، ولا يمكن أن أعيش مع رجل من النوع الذي يتخلى عن مسؤوليته وواجبه.

قالت: كلامك جميل، لكن ليت الرجال يفهمون حدود دورهم هذا ويتخلون عن دور السيد المطاع.

قلت: إن للمرأة العاقلة الحكيمة دوراً في هذا الشأن، فهي تستطيع أن تؤثر في الرجل وتساعده ليكون راعياً صالحاً في أسرته، على المرأة أن تحاول ولابد أن تنجح.

قالت: يُقنعني كلامك وأشعر أنك أكبر مني سناً، إنك تفتحين في داخلي نوافذ كانت مغلقة ولم تمتد إليها يد لتفتحها شكراً لك..

وهكذا استمرت لقاءاتنا وبدأت الأمور تتغير ضمن أسرة فاطمة، ولفت نظر الأب هذا التغير، وطلبتُ من أبي أن يزوره وقال أبي:

- كان يجب أن يحدث هذا منذ زمن، منذ أن سكنوا إلى جوارنا، ولكن مشاغلي الكثيرة حالت دون ذلك. وسأفعل إن شاء الله.

وتُبودلت الزيارات، وأخبرني أبي عن حوارات كثيرة دارت بينهما وجلّها حول مكانة المرأة ودورها وطبيعتها.

وطلبت من زينب أن تذكر لي مثالاً مما دار بين الوالدين.

قالت زينب: تصوري أنه كان يعتقد أن المرأة لا شيء، مجرد كائن ناقص العقل وناقص الدين، وأنها مجرد ضلع أعوج لا قيمة له، وأن عليها أن تطيع الرجل طاعة عمياء دون اعتراض.

وأفهمه أبي أن الضلع الذي ضربه الرسول الكريم مثالاً للمرأة له دور هام جداً في جسد الإنسان، فالأضلاع هي التي تحفظ أهم الأجهزة في جسد الكائن البشري، إنها تحفظ القلب والرئتين، واعوجاج الضلع ليس عيباً فيه وإنما هو أمر أساسي، ولا قيمة للأضلاع ولن تستطيع أن تقوم بمهمتها إلا إذا كانت معوجّة من أعلاها، كما أنه لا قيمة للمرأة إذا فقدت فطرتها وعاطفتها، وتخلت عن مشاعر الحب والرحمة. إن المرأة تُكمّل الرجل الذي يتصرف من خلال عقله ومصالحه مبعداً مشاعره الأخرى عن ميدان عمله، بينما المرأة الطبيعية تسبق مشاعرها جلّ تصرفاتها وخاصة من خلال الأمومة وسهر الليل وتحمل المشاق والمبادرة السريعة والعفوية لحماية طفلها من كل سوء.

قلت: والحقيقة أن للمرأة مهمة عظيمة أعدّها الله سبحانه لها وهي احتضان الأجيال، كما تحتضن الأضلاع المعوجّة أهم أجهزة الجسد، إنها المهمة التي لا يستطيع الرجل القيام بها، والتي من أجلها وُضعت الجنة تحت قدميها.

قالت زينب: ومع ذلك فلن تعجز المرأة عن القيام بأية مهمة تجد أن الأمة بحاجة إليها، وإن كانت المرأة تفضل أن تكون أماً وزوجة على أية مهمة أخرى.

قلت: ما أسعدني وأنت تعيدين على مسامعي تلك الذكريات.. وما أجمل أن يتولى المسلمون بعضهم بعضاً بالنصيحة دون مراء ولا شحناء وإنما بالتي هي أحسن كما أمرنا الله سبحانه.

قالت: كنا حريصين جميعاً على التي هي أحسن، وكشف طريق الحق يجب أن يكون بتؤدة وشيئاً فشيئاً دون ملل ولا يأس. فطريق الحق لا ينكشف للبصائر دفعة واحدة، وإنما لابد من التكرار والتدرج لتتحرك الفطرة التي غطّاها الباطل وقد يأخذ الأمر سنوات.

قلت: نعم صدقتِ هذا ما يجب على حملة الحق أن يفعلوه.

قالت: فعلاً أحداث كثيرة من هذا النوع حدثت أمامي ومعي خلال السنوات التي مرّتْ من حياتي، وأنا أسعى ليرى الجميع الطريق السويّ الذي أراه، وسأذكر لك قصة رفيقة لي اسمها مريانا تدين بالنصرانية.

أتخيلها الآن يوم التقينا لأول مرة: فتاة في مثل سني تحمل حقيبتها خارجة من باب المنزل الذي في جوارنا وقد سُكِنَ حديثاً ولم نتعرف على سكانه بعد، وكنت في طريقي إلى المدرسة التي لم تكن بعيدة عن بيتنا، حييتها وقد أحسست بنوع من البهجة لمرآها ، فتاة في مثل سني جميلة المحيا تضع على رأسها وشاحاً جميلاً وإن كانت خصلات من شعرها تتدلى من خلاله، وردّت التحية بابتسامة. سألتها عن اسمها قالت: مريانا عبد الله.

وخطر في ذهني خاطر: إنها نصرانية إذن.. اسمها يدل على ذلك.

قلت: إلى أي مدرسة أنت ذاهبة؟

قالت: مدرسة الراهبات التي في حيّنا هنا، وهذا أول يوم أتوجّه فيه إلى هذه المدرسة هنا في مدينتكم.

قلت: ،من أين أنتِ؟

فذكرت ناحية قريبة وتأكد لي أنها نصرانية، فالقرية التي ذكرتها يسكنها النصارى.

قلت: أهلاً وسهلاً بكم في حيّنا ومدينتنا وسأرافقك إلى مدرسة الراهبات فهي مدرستي أيضاً وأنا في الصف الثالث الإعدادي.

قالت: هذا حسن وأنا في الصف الثالث كذلك..

وسرنا جنباً إلى جنب.

وتمتّنت بيننا أواصر الصداقة وجرت زيارات بيننا وبينهم، ولاحظت أن عاداتهم قريبة جداً من عاداتنا، نساؤهم محتشمات وفي اجتماعاتهم لا يوجد اختلاط بين النساء والرجال إلا في حدود ضيقة وبعيدة عن مجرد التسلية والاستمتاع.

وأصبحت مريانا من رفيقاتي المقربات، وكثيراً ما كانت تسألني عن أمور تتعلق بالدين، وكنت أشعر أن بعض الأمور في الإسلام تشغل تفكيرها وتدفعها إلى المقارنة والاستنتاج، وكانت ذكية جداً ومنافسة خطيرة لي، وانتهى ذلك العام . وحملت كلّ منّا شهادتها وفي مخيلتها صورة لحياة جديدة في المرحلة الثانوية، وأمل أن يجمعنا صف واحد ومدرسة واحدة، وانتهى اللقاء علىأن نبدأ الحديث عن المرحلة الثانوية في لقاء جديد هو في علم الغيب.