بعض من ذكرياتي (2)

د عثمان قدري مكانسي

بعض من ذكرياتي (2)

بقلم : د عثمان قدري مكانسي

لم يكن والدي – رحمه الله تعالى – متعلماً بمفهوم العلم في هذا العصر الذي لا يعترف إلا بالشهادات.. والشهادات الجامعية وحدها... وأقصد بالشهادات الجامعية تلك التي اختص أصحابها بألقاب  " البروفيسور " و " الأستاذ الكبير " . وقد يحوز أحدهم على ألقاب فخمة ك " المربي الكبير " و " أستاذ الجيل " و " العالم الجليل " ....

      أنا لا أنكر أن هناك علماء عاملين، وجهابذة رائعين، بل أقر بفضلهم ، وأتعلم منهم، فالعلم يكتسب ، ولا يولد المرء عالماً... ومن تكبر على العلم كان جاهلاً....

      لكن أرى كثيرا من أولائك حملوا ألقاباً ناءوا بها، واتسموا بسمات هم بعيدون عنها بعد الزمهرير عن حر الصيف القائظ. وكلما رأيت واحداً منهم – أو مجموعة  فهم يُرَون زرافاتٍ ووحداناً – تذكرت قول الشاعر :

           مما يزهدني في أرض أندلـس        أسمـاء معتضد فيهـا ومعتمـد

           ألقاب مملكة في غير موضعها         كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد

      كان والدي يربينا، و "نا " هذه عائدة على أبنائه وإخوته ، فقد توفي جدي رحمه الله ، ووالدي أكبر إخوته، وهم صغار... فعلمهم ، وزوّجهم، وكان في مقام والدهم... وكثيرا ما رأيتهم حين كانوا صغاراً ، ويوم صاروا كباراًيقبلون يده ، ويفسحون له المجلس، ويستشيرونه في أمورهم، فيكون قوله الفصل، ورأيه الحكم. ومراراً كنت أراه يقطع من أساسيات حاجاتنا ليؤدي واجبه نحوهم، فهم " أيتام " و " أرحام " .

     ولم يكن ما يفعله – رحمه الله – يوغر صدورنا ، بل إنه علمني – وأنا أكبر إخوتي – أن أتأسى طريقه ، وأحذو حذوه. فحبب إليّ إخوتي عمليا، دون أن يأمرني بذلك ... فالعمل خير من القول.. ولا أنسى قول أحد الحكماء : < حال رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل >

     كان يربينا ميدانيا ، فلا يغيب عن الأذهان ما يروم.

     انطلقت مرة بصحبته - وأنا فتى - إلى دار جدتي في حي المغاير في مدينتنا حلب بعد أن أغلق دكانه قبيل المغرب، فجزنا جامع " البهرمية " في قلب المدينة العريقة إلى باب أنطاكية دون أن نخرج منه ، لنخرج من زقاق يكاد يكون ضيقاً ، إلى الشارع الرئيسي المؤدي إلى حي " الكلاسة " العريق ، تقاطع هذا الزقاق  مع الشارع في منطقة تدعى " خراق الجلوم " وهناك بيت المنشد قديما – المغني – حديثاً صاحب الطربوش المشهور ، الذي يحركه يمنة ويسرة  الأستاذ " صبري مدلل " وقد بلغ هذا الرجل من العمر ما ينوف على التسعين، وما يزال صوته جوهرة الأصوات ، ونغمه ميزان الأنغام ، ... لم تكن أدوات الطرب تصاحب إنشاده ، لكنه منذ سنين حاد عن هذا الطريق ، وبدأ صوته يعاقر الأدوات الموسيقية . في الحفلات الصاخبة المختلطة ، نسأل الله تعالى له ولنا حسن الختام.

     ما إن وصلنا قريبا من بيت المنشد ، في مكان يضيق حتى أشار والدي إلى زاوية بين جدارين ، ووقف يتعوذ من سوء المنقلب ، وعاقبة العقوق ، ثم قال :

     في هذا المكان- قبل سنتين – رأيت شابا في الثلاثين، يضرب شيخا في الستين من عمره .. كان الشيخ يجلس القرفصاء، يسند ظهره إلى زاوية الجدارين، واضعاً مرفقيه على ركبتيه، ويحمي رأسه ووجهه براحتيه، يتلقى الصفعات الصفيقة والركلات اللئيمة الموزعة على أنحاء جسمه دون أن ينبس ببنت شفة، ومن غير أن تصدر عنه تأوهات تنبىء عن ألمه وجزعه.

     أمسكت بالشاب أبعده عن الشيخ ، فلم يستجب لي، شددته فقاومني، وأسمعني قارص الكلام... بل سبني سباً قبيحاً، وعاد إلى الشيخ يرمحه ويضربه..... لم أتمالك نفسي – وكان والدي شديد البأس متين العريكة – أن طرحته أرضاًوجثمت فوقه ، وصدري يتأجج غضباً ، أريد عقابه...

     لم يلبث الشيخ أن انتبه ونادى بصوت جريح : دعه يا بني ... دعه يابني... هذا قضاء الله العادل ... وعقابه الذي يمهله ، ولا يهمله.... أنا لست أشعر بالألم ، ولم أكن أحس ضرباته وركلاته.... لأنني لم أكن أفكر إلا بشيء واحد ... إلا بشيء واحد... وبدأ الشيخ ينتحب ويصيح : يا ويلي .. يا ويلي.. يا رب ’ ما أعدلك! قاصصتني في هذه الدنيا ! وفي هذا المكان نفسه؟! بعد ثلاثين سنة من جريمتي ؟ وبالأسلوب ذاته؟! رحماك يارب ،.. رحماك يارب... يقتص ابني لجده بعد ثلاثين سنة؟!

    وأمسك والدي بيدي برفق وتابعنا المسير وسألني :

أرأيت عاقبة العقوق يا عثمان ؟! أعرفت ما يفعل الله تعالى بمن يعق والده في الدنيا قبل الآخرة؟ لم أشعر إلا ويداي تحوطانه، ثم أخِرُّ إلى قدميه أقبلهما وأقول له : نفسي فداك يا أبي، فيرفعني إليه و يقبلني ، و يقول :مات جدك وهو عني راض،وأنا أتوسم الخيرفيك ، وعنك راض..

     لا أدري لم تدمع عيناي،  وتشهق نفسي حين أخلو بنفسي  كلما تذكرت كلماته هذه ، وكثيرا ما أكون بين الآخرين فأتجلد ، إلا أن عينيّ تحمران فتفضحان خبيئتي. ..  ما أعظم الوالد في عين ولده ؟ وما أكبر مكانته حين يكون مربيا عمليا ناجحاً ، يدله على الخير ويجعل نفسه القدوة الحية لأبنائه؟

    ولقد رآه إخوته- أعمامي حفظهم الله تعالى – يكرم أمهم فاحتذوه ، فكانوا مرضيين ، سعداء الدنيا والآخرة إن شاء الله ،

    زرت عمي أبا عصام أطال الله عمره وحسّن عمله، كان يسكن  الدار التي ولدت فيها، وتركناها بعد أن ضاقت على الأسرة الكبيرة، إلى وسط المدينة ... زرته ظهراً ، والوقت وقت الغداء ، وكانت حالته المادية ضعيفة.. رأيتهم متحلقين حول سفرة الطعام ، هو وزوجته وأولاده الثلاثة الأوَل ، ولم تكن بقيتهم زارت الدنيا بعد . كان الغداء حساء العدس المطحون ، بحمض ملح الليمون ، يفت فيه بقايا الخبز المكسر اليابس، وجلست معهم ، أشاركهم غداءهم .... ولكن جدتي لم تكن معنا ...... أين جدتي يا عم؟! قال : في غرفتها يا ابن أخي . لم لا تأكل معنا؟! وداخلني أن امرأة عمي أزعجتها فأبت الجلوس معهم. ...لا أكتمكم أن هذا أول ماخامرني... قال عمي : اشتهت جدتك اللحم المشوي ، ولست أملك أن أطعمهم اللحم جميعا، وأبناء عمك صغار يشتهونه ، فإذا جئت بما يكفيها وجلست معنا على السفرة تأكله ولا يأكلون فلن يصبروا ... وتستطيع أن تتصور يا ولدي ما يكون . فأخذتُ اللحم خلسة إليها ، ورجوتها أن تتغدى وحدها اليوم .... وبهذا يمضي نهارنا هادئا!!!

   أسعدك الله يا عماه في الدارين ، هذا والله البر ، ولن يضيعك الله تعالى أبدا ... ولم يضيعه سبحانه، فقد تحسنت حاله، وعاش كريما بين أولاده  يردون إليه البر في حياته ، وبين الناس محترما محبوبا ،وما الإكرام في الأولى إلا البشرى لما يكون في الآخرة .... وكان لي معلما واقعيا أقتدي به ، وأتأسّاه ، فقد كان درسه العملي ناجحا ،دخل سويداء فلبي .

    غاب الولدان رحمهما الله تعالى عن حلب أربع سنوات كاملة بدءا من أيلول عام ثمانين وتسع مئة وألف للميلاد إلى آب عام ثلاثة وثمانين ، خرجا هاربين من ظلم الظالمين الذين أرادوا في الثمانين أن يعتقلوا أبناءهم " الخارجين على قانون الظلم والإرهاب " فلما نجا الأبناء قرر الظالمون الانتقام من الآباء ، وهذا عين العدل وقمة الأمان!!! في نظام يقوم على التسلط والإرهاب، وما يزال هذا النظام الدموي يتباهى أمام المجتمع الدولي البائس بسبقه إلى الولوغ في دماء الأمة كلما سنحت له الفرصة  وأراد أن يتقرب إلى أسياده اليهود والأمريكيين ، وقد صرح مئات المرات دون حياء ولا خجل أنه يتعامل مع كل الشياطين في سبيل وأد الأمة واستباحة أعراضها.

قتل النظام المجرم في حلب وحدها عشرات الآباء البسطاء ، فاضطر الوالدان أن يخرجا ... فلما هدأت الأمور قليلا، و سقط الجواد المطهم سقيما، وأقسم أن يدفن في ثرى الوطن ، وعادا إلى سورية جوا  استقبلهما العم أبو عصام والعم أبو حسام ، استقبال الولدين البارين لوالديهما .

تقول الوالدة رحمها الله : لم يستطع والدك في السنة الأخيرة أن يخدم نفسه ، وأولاده بعضهم مغرّب وبعضهم معتقل ، فكان أخواه الكريمان نعم الولدين البارين ، نذرا نفسيهما لخدمته ، فما كانا يتركانه إلا لماماً حتى توفاه الله تعالى... رباهما صغيرين فبرّاه شيخا .

             من يفعل الخير لا يعدم جوازِيَه       لا يذهب العرفُ بين الله والناس

      فهنيئا لكما – عميّ الكريمين – الخير فيكما ، وأجزل المثوبة لكما في الدنيا والآخرة

                                                      ابن أخيكما  المقر بفضلكما :عثمان