"أقبية الموت".. في قلب الشبكة المظلمة للسجون المصرية

داخل المقر المعروف لوكالة المخابرات المركزية الأميركية في قاعدة بغرام الجوية في أفغانستان، يجري استجواب رجل أربعيني تم اعتقاله للتو أثناء محاولته "الهروب" من أفغانستان عبر الحدود الباكستانية.

لا يبدو المعتقل الجديد عاديا بحال، أو على الأقل فإن هذا ما توحي به الأجواء هنا، حيث يبدو أن الوافد الجديد نجح في خطف اهتمام أكبر وكالتين أمنيتين في الولايات المتحدة - وربما في العالم كله- وهما وكالة المخابرات المركزية (سي آي ايه) ومكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي)، حيث سارعت كل وكالة لإرسال أبرز محققيها من أجل محاولة انتزاع المعلومات من القادم الجديد.

اسمه محمد عبد العزيز الفاخري، ويعرفه الجميع اليوم في ليس بأفغانستان وحدها، أو حتى في موطنه  بليبيا، ولكن في واشنطن نفسها، باسم "ابن الشيخ الليبي"، أما الزمان فهو شهر نوفمبر /تشرين الثاني من عام 2001 بعد مرور أٌقل من شهرين على أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، حيث كان الليبي هو أول جهادي من رتبة مرموقة تعتقله الولايات المتحدة بعد الأحداث، وكانت تعتقد أنه قيادي بارز في تنظيم القاعدة، غير أن المؤكد هو أن الليبي كان مسؤولا عن معسكرات تدريب الأفغان العرب في خلدن وصدى لخمس سنوات كاملة، حيث تولى هذه المسؤولية بعد فترة وجيزة من وصوله إلى أفغانستان قادما من المملكة العربية السعودية بعد رحلة شملت محطات أخرى عديدة.

أسندت عملية استجواب "الليبي" لفريق من عملاء المباحث الفيدرالية الأميركية بقيادة عميلين من مكتب نيويورك هما "جاك كلونان" و"راسل فينشر"، وبينما تابع جاك التحقيق من نيويورك وأشرف عليه هاتفيًا، أدار "راسل" التحقيق بشكل عملي في قاعدة بجرام، وطور صلة مباشرة بالليبي، ولأن راسل كان مسيحيًا محافظًا فقد اتبع تكتيكًا غير مألوف لاستجواب الهدف عالي الأهمية، حيث صلّى بجانبه وأدار معه نقاشات مطولة حول الأديان، إلى أن حصل على معلومات هامة بالفعل بدأ الليبي بقولها تباعًا وببطء، ليؤكد فينشر على نجاح أسلوبه.

في إحدى جلسات الاستجواب، وبعد صراع عنيف شهدته أروقة واشنطن بين مديري المباحث الفيدرالية الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية، اقتحم أحد عملاء السي آي إيه الجلسة يدعى ألبرت "اسم مستعار"، وأخبر فينشر أن البيت الأبيض أمر بنقل الليبي لقبضة السي آي إيه، وعنى ذلك بالضرورة ذهاب الليبي للجحيم، وهو ما تأكد بعدها بلحظات عندما همس ألبرت لليبي بأنه على وشك الذهاب للقاهرة في رحلة بلا عودة، وأكمل ضابط الاستخبارات قائلًا "وأثناء وجودك هناك سأبحث عن والدتك، وسأجدها وسأقوم باغتصابها"، ولم تمض بضع ساعات قبل أن يجد الليبي نفسه مكبلا في إحدى طائرات الشبح الشهيرة التي تستخدمها الوكالة والتي حطت رحالها بعد بضع ساعات هناك في قلب القاهرة، العاصمة المصرية.

لعدة أشهر، انقطعت أخبار الليبي في مصر تماما. 

ومع ذلك، كان من الواضح لاحقا أنه لعب دورا أساسيا وحاسما في خطاب وزير الخارجية الأميركي كولن باول الهام أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في فبراير / شباط 2003، الذي جادل فيه عن حتمية شن حرب وقائية ضد العراق.

ورغم أن باول لم يشر في كلمته إلى الليبي بالاسم لكنه أعلن للعالم أن "أحد كبار المسؤولين في العمليات الإرهابية"، والذي "كان مسؤولا عن أحد معسكرات تدريب القاعدة في أفغانستان" أبلغ السلطات الأمريكية أن صدام حسين عرض تدريب اثنين من عناصر القاعدة على استخدام "الأسلحة الكيميائية أو البيولوجية". 

في وقت لاحق، أكدت صحيفة نيوزويك الأميركية أن الليبي كان هو مصدر الادعاء الذي ذكره باول، وأن الاعتراف قد تم انتزاعه بمعرفة المحققين في جهاز المخابرات العامة في مصر، غير أنه بحلول ذلك الوقت، كانت الذكرى الأولى للغزو الأمريكي للعراق قد مرت، وأعلنت لجنة 11 سبتمبر أنه لا يوجد دليل معروف على وجود علاقة عمل بين صدام والقاعدة. 

أًصبح من الواضح أن المعلومات التي تم انتزاعها من الليبي في القاهرة كانت مضللة تماما، وبدأ الجميع يعير انتباهه للمرة الأولى إلى تلك الطريقة التي يتم بها انتزاع المعلومات في أقبية التحقيق في القاهرة، والأهم من ذلك إلى الدور "المشبوه" الذي لعبته أجهزة الأمن المصرية كوكيل للاحتجاز والتعذيب بالوكالة، وطبيعة مؤهلاتها وتاريخها الدموي التي جعلتها على رأس الأجهزة المرشحة للعب دور الوسيط العالمي لشؤون العمليات"القذرة" للعديد من الأجهزة الأمنية حول العالم.

*تريد أن يختفي .. أرسله إلى مصر* 

*"إذا ما أردت استجوابا رصينا لسجين فأرسله إلى الأردن وإذا أردت أن تعذبه فأرسله إلى سوريا، أما إذا كنت تريد أن يختفي تماما فأرسله إلى مصر"*

(الاستخباراتي الأمريكي الأسبق روبرت باير)

أدرك الليبي بعد وقت قصير من وصول طائرته إلى القاهرة أن "الجحيم" كان وصفا مستحقا تماما، وأنه لا يحمل أدنى قدر من المبالغة، خاصة حين تم حبسه في صندوق لا يزيد طوله عن 20 بوصة (حوالي 50 سم) لمدة 80 ساعة كاملة قبل أن يتم إخراجه ليتعرض مباشرة لـ"حفلة" من الضرب المتواصل بالأيدي والأقدام والآلات الحادة كان الليبي بعدها مستعدا للاعتراف بأي شيء، ليس فقط الاعترافات التي أدلى بها فعليا كعضويته في المجلس التنفيذي لتنظيم القاعدة ووجود مخطط لتفجير السفارة المصرية في اليمن، وحتى قيام صدام حسين، الرئيس العراقي آنذاك، بعرض تدريب مسلحي القاعدة على استخدام الأسلحة الكيماوية، بل ربما لم يكن ليتوانى عن الاعتراف أنه صدام حسين نفسه إذا لزم الأمر.

لم يكن الليبي مصريا، ولم يسبق له حتى أن قدم إلى مصر قبلا وفق سجل تحركاته المعروف، لذا كان من المستغرب أن يتم إرساله للتحقيق في مصر بشكل خاص. 

ربما لم تكن كل تلك المفارقات لتجذب الانتباه بحال لولا أن المعلومات التي قدمها الليبي والتي قدمت كمسوغ رئيسي لأحد أطول الحروب الأميركية وأكثرها كلفة ثبت أنها مضللة بشكل لا يصدق، وهو الخيط الذي كشف تباعا تفاصيل الدور الخاص الذي لعبته مصر بالوكالة في أكبر برنامج للتعذيب والاستجواب أدارته المخابرات الأميركية منذ تأسيسها.        

في عام 1993، حين نجحت مجموعة "رمزي يوسف" في اختراق التحصينات الأمنية في قلب نيويورك، وتفجير شاحنة رايدر صفراء في مبنى مركز التجارة العالمي في قلب التفاحة الأمريكية، مما أسفر عن ستة قتلى بالإضافة إلى ألف مصاب، وعلى مدار عدة سنوات تالية، فشلت أجهزة الاستخبارات الأمريكية في تقديم لوائح اتهام معتبرة ضد المتورطين أمام المحاكم المحلية، خاصة مع شروط صارمة تفرضها القوانين الأمريكية على إجراءات توجيه الاتهام والشفافية، وهي إجراءات حتمية للكشف عن مصادر الاتهامات وكيفية انتزاع الاعترافات، عنى ذلك بالتبعية أن على المخابرات الأمريكية "CIA" البحث عن طرف ثالث، لديه الحد الأدنى من القيود والقوانين المفروضة، للقيام ببعض العمليات نيابة عنها.

في يونيو/ حزيران من عام 1995، وقع الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون مرسوما يسمح للسي آي إيه بإرسال "إرهابيين" أو مشتبه بهم لدول أجنبية للخضوع للاستجوابات والتحقيقات المطلوبة، 

ومباشرة، برزت مصر للواجهة كأكبر مستفيد من المساعدات الخارجية الأمريكية بعد إسرائيل، والحليف الاستراتيجي الرئيس لواشنطن في الشرق الأوسط بعدها، وصنفت كمرشح بارز لاستضافة الجزء الأكبر من أنشطة ما صار يعرف باسم "برنامج التسليم الاستثنائي" للمشتبه بهم في قضايا "الإرهاب"، 

وساعدها في ذلك سمعة وحشية تمتعت بها أجهزتها الأمنية وخاصة جهاز المخابرات العامة تحت إدارة رجل مصر القوي عمر سليمان في ذلك الوقت. 

ورغم أن نظام حسني مبارك سبق وأن تعرض لانتقادات متتالية من قبل وزارة الخارجية الأمريكية بشأن ملف حقوق الإنسان منذ قدومه للسلطة عام 1981، عقب اغتيال الرئيس السابق أنور السادات، بسبب نهجه المتشدد في محاربة الإسلاميين بعد الاغتيال مما أدى إلى فرار المئات منهم والانضمام لتنظيم القاعدة، وعلى رأسهم الطبيب أيمن الظواهري من أصبح لاحقا نائب زعيم التنظيم كاملًا، (رغم كل ذلك) فإن ذلك النهج المتشدد مثل عين ما يبحث عنه الأمريكيون في ذلك التوقيت.            

بخلاف سمعتها الوحشية في تقنيات التعذيب وانتزاع المعلومات، وعلاقاتها الوثيقة بالاستخبارات الأمريكية، كانت أجهزة الأمن المصرية تتمتع بالبنية التحتية اللازمة لاستضافة الشق الأكبر والأكثر ظلمة ودموية لـ "برنامج التسليم الاستثنائي"، بما في ذلك أسطول الطائرات اللازم لنقل المتهمين عبر البحار. 

وعلى الجانب الآخر، فإن مصر رأت في العرض الأمريكي فرصة جذابة للغاية للمطاردة العابرة للحدود لأعضاء تنظيم القاعدة من المصريين الذين فروا خارج البلاد، وكان ذلك يعني أن الصفقة الجديدة خدمت الهدف الأمريكي بإلقاء القبض على هؤلاء الأشخاص، والأغراض المصرية بإعادتهم للاستجواب داخل البلاد.

            

كانت تلك الاتفاقية السرية منتصف عام 1995 إيذانا بتدشين سلسلة غير مسبوقة من عمليات الاختطاف والتسليم السرية العابرة للحدود، بدأت في 13 (سبتمبر/أيلول) من العام نفسه، حين اختطفت أجهزة المخابرات الكرواتية بناء على طلب "لانجلي" طلعت فؤاد قاسم، المعروف بـ "أبي طلال القاسمي" أحد أهم المطلوبين للقاهرة في ذلك التوقيت، أثناء مروره بكرواتيا، وتسلمته المباحث الفيدرالية الأمريكية ثم سلمته للقاهرة في غضون أيام قليلة. 

كان قاسم أحد من هربوا لأوروبا على خلفية قضية اغتيال السادات، ثم حكم عليه بالإعدام غيابيا، وبعد أن تسلمه الأمريكيون استجوبوه على متن السفينة "إم إس جونسون" في البحر الأدرياتيكي قبل أن تتم إعادته إلى مصر حيث اختفى وانقطعت أخباره تماما.

بعد ثلاث سنوات من تلك الواقعة، وتحديدا في تيرانا بألبانيا، وقعت العملية الأكثر تفصيلا وتعقيدا، حيث قام وكلاء السي آي ايه بتزويد جهاز المخابرات الألبانية بمعدات لمراقبة هواتف مشتبه بهم ذوي تسليح غير مدني، وحين تمت ترجمة بعض هذه المحادثات للغة الإنجليزية، اكتشفت السي آي إيه أنها تضمنت مناقشات مطولة لبعضهم مع أيمن الظواهري.

وفي الحال طلبت واشنطن مساعدة أجهزة الأمن المصرية، لتصدر الأخيرة أمرا بالقبض على شوقي سلامة عطية، ليتم اعتقاله بصحبة أربعة آخرين من قبل القوات الألبانية وبمساعدة عملاء السي آي إيه، وتم اقتيادهم معصوبي العينين إلى قاعدة جوية مهجورة، ثم نقلوا جوا للقاهرة لاستجوابهم. وفي وقت لاحق ادعى عطية أنه تعرض للتعذيب عبر صدمات كهربائية لعضوه التناسلي، وعلق من أطرافه، وأبقى في زنزانة مملوءة بماء قذر حتى ركبتيه.        

على كل حال، لم تكن مصر هي الوجهة الوحيدة لبرنامج التسليم الاستثنائي(5) الأمريكي، ولكنه ضم عشرات الدول بما في ذلك بلدان أوروبية ودول أخرى شرق أوسطية مثل سوريا والأردن والمغرب، إلا أن القاهرة ظلت الوجهة المفضلة والأكثر شيوعا لواشنطن، حيث كان بإمكان الأمريكيين إعطاء الأسئلة للمحققين المصريين في الصباح والحصول على الأجوبة من المحتجزين في المساء وفق شهادات نصية للمحققين الأمريكيين. 

وقد تعززت(6) هذه المكانة الخاصة للأجهزة المصرية مع وقوع أحداث 11 (سبتمبر/أيلول) لعام 2001، وتوجه إدارة بوش وتشيني بأنه لا مانع من استخدام بعض الأساليب المظلمة لوكالات الاستخبارات طالما أنها ستكون ناجعة. 

كانت إدارة بوش ترى أن الوضع الجديد يتطلب قواعد جديدة أكثر مرونة لجميع العمليات الخارجية بداية من قواعد الاشتباك إلى تقنيات التحقيق وانتزاع المعلومات.      

تم استئناف سلسلة "المهام القذرة" في ثوبها الجديد في18 (ديسمبر /كانون الأول)، بعد أشهر قليلة من أحداث 11 (سبتمبر/أيلول)، وتحديدا في مطار بروما بالعاصمة السويدية ستوكهولم، حين قام مقنعون باختطاف اثنين من طالبي اللجوء المصريين هما محمد الزيري وأحمد عجيزة، واقتادوهما لمكتب فارغ حيث تم تمزيق ملابسهما عبر مقص، وأجبروا قسرا على تناول المهدئات، ثم تم إلباسهما حفاضات وملابس برتقالية قبل أن يتم اقتيادهما معصوبي العينين ومكبلي اليدين والقدمين للقاهرة على متن إحدى الطائرات الشبح الشهيرة. 

وفي القاهرة تعرضا للتعذيب الشديد بما في ذلك إجبارهما على الاستلقاء على سرير مكهرب. 

وفي الشهر التالي، تم القبض على ممدوح حبيب، وهو مواطن مصري من مواليد أستراليا، في باكستان حيث كان يخطط للانتقال بأسرته، وتم استجوابه لمدة ثلاثة أسابيع قبل أن يتم شحنه على متن طائرة خاصة للقاهرة، حيث تعرض للتعذيب عبر الصعق بالكهرباء والضرب بأدوات حادة والتعليق في السقف وحتى الحقن بالمخدرات، وصولا إلى تهديده بالاغتصاب من قبل كلاب شيبرد مدربة بشكل خاص إذا لم يعترف بانتمائه لتنظيم القاعدة.

كان معظم هذه العمليات يتم(7) بمتابعة شخصية من اللواء عمر سليمان منذ توليه رئاسة الجهاز الأمني واسع النفوذ في مصر عام 1993، ونجح سليمان سريعا في كسب ثقة الأمريكيين، وسرعان ما تحول إلى وسيط بين واشنطن والنظام المصري، فيما لم يقف تعاون عمر سليمان مع الأمريكيين عند حدود برنامج التسليم الاستثنائي، حيث تظهر برقية(8) لويكيلكس تعاون سليمان بشكل وثيق مع واشنطن نحو تهميش حركة حماس الفلسطينية، في وقت كان النظام المصري يرى فيه أن الحركة الممثلة لامتداد لجماعة الإخوان المسلمين المصرية هي تهديد محتمل له.

    

*الاستثمار في القمع* 

*"كل من يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه ولا ترهيبه ولا إكراهه ولا إيذاؤه بدنيًّا أو معنويًّا، ولا يكون حجزه أو حبسه إلا في أماكن مخصصة لذلك ولائقة إنسانيًّا وصحيًّا.. وتخضع السجون وأماكن الاحتجاز للإشراف القضائي، ويحظر فيها كل ما ينافي كرامة الإنسان أو يعرض صحته للخطر"*

(المادتان 55 و56 من الدستور المصري)

في كتابه ذائع الصيت، الصادر عام 2006 والمعنون بـ "عقيدة الواحد في المائة"، يلقب الصحافي الأمريكي الشهير رون سوسكيند اللواء عمر سليمان بـ "الرجل المطرقة"، ويدافع سوسكيند عن استخدامه لهذا الوصف بزعمه أن المخابرات الأمريكية حين اشتبهت في قيامها بقتل القيادي بتنظيم القاعدة آنذاك أيمن الظواهري، فإنها طلبت من السلطات المصرية الحصول على عينة من الحمض النووي من شقيقه المحتجز في مصر، غير أن سليمان عرض إرسال ذراع الشقيق كاملا عوضا عن ذلك، قبل أن يخبره المحققون الأمريكيون أن قارورة واحدة من الدماء ستكون أكثر من كافية.

كان عصر عمر سليمان علامة بارزة(9) في تحويل المعتقلات والسجون المصرية إلى أقبية للموت والاختفاء حرفيا لا مجازا، محييا ومطورا بذلك إرث نظام سجون مصري يعود تاريخه الدموي لفترة طويلة احتلت فيها بريطانيا البلاد. 

ففي قلب السجن البريطاني في المعسكر الكبير بحي المعادي، وأثناء الحرب العالمية الثانية، تم تطوير أساليب التعذيب المستخدمة من قبل المخابرات وأجهزة الأمن المصرية لليوم، بداية من أقدم أساليب التعذيب البشري "الضرب"، ومرورا بحقن السجناء بمواد تسبب الهلوسة مثل الثايروكسين، ووصولا لكسرهم نفسيًا عن طريق إجبارهم على حفر قبورهم، 

كما أسس البريطانيون جهاز البوليس السياسي لمطاردة خصومهم، وهو جهاز تطور أيضًا عبر مراحل متعددة ليصبح جهاز أمن الدولة في حقبة الرئيس المخلوع مبارك.  

غير أن عملية القمع والتعذيب في السجون المصرية خلال حقبة ما قبل مبارك، وحتى في العهد الناصري، ظلت في أغلب الأحيان مقصورة على "المواطن السياسي" إن جاز التعبير، 

في حين ظل رجل الشارع العادي في مأمن منها في معظم الأحوال، إلا أن العقدين الأخيرين في عهد مبارك شهدا توسعا شديدا في نطاق القمع وأدواته، وتزامن مع ذلك قيام الدولة المصرية بتطوير شبكة عملاقة من السجون المحلية الأكثر قسوة، على رأسها سجون وادي النطرون وأبو زعبل وليمان طرة ذائعة الصيت، وهو ثلاثي يعتقد أنه استخدم في نفس الوقت كسجون سرية تابعة لبرنامج التسليم الاستثنائي بالشراكة مع المخابرات الأمريكية.

مع نهاية عصر مبارك، كان عدد السجون المصرية العمومية المعروفة رسميا قد بلغ 43 من السجون العمومية والليمانات، والأخيرة تستخدم لتنفيذ أحكام السجن المشدد، إضافة إلى أكثر من 120 سجنا مركزيا تستخدم لتنفيذ أحكام السجن البسيط، فضلا(10) عن عشرات من أماكن أخرى تم تقنين الاحتجاز بها وفق قرارات خاصة صدرت من رئيس الجمهورية أو وزير الداخلية، كما نصت قوانين السجون المصرية، مشكلة بذلك شبكة سجون عملاقة قادرة على استيعاب الآلاف من السجناء في أدنى الأحوال.

لم تنجح الثورة المصرية في فرض الرقابة الكاملة على البنية التحتية لشبكة السجون المصرية، وهي شبكة أصبحت مكتظة بساكنيها على وجه الخصوص مع وقوع الانقلاب العسكري في مصر، يوليو/تموز عام 2013، وما تلاه من أحداث دفعت هذه الشبكة للعمل بكامل طاقتها لاستيعاب عشرات الآلاف من المعارضين الحقيقيين والمحتملين للنظام في مصر.

في تلك الفترة، شهدت مصر زيادة في أعداد المواطنين المحتجزين بدرجة لم تشهدها في تاريخها.

ففي بداية عام 2013، كان عدد نزلاء السجون الرسمي قرابة 40 ألف سجين. 

وبحسب أرقام وزارة الداخلية، فإن هناك 16 ألف شخص اعتقلوا في التسعة أشهر التي تبعت الإطاحة بالرئيس المعزول "محمد مرسي" في يوليو/تموز، فيما تقدر جهات مستقلة أعداد السجناء في مصر مع نهاية عام 2016 بأكثر من 106 آلاف سجين، بينهم 16 ألف معتقل سياسي على الأقل.  

مع هذا التزايد الهائل في أعداد السجناء والمحتجزين، لم يكن من المستغرب أن يستثمر نظام ما بعد 3 يوليو كثيرا في تعزيز شبكاته من السجون وأماكن الاحتجاز بتكلفة حقيقية تقدر بمليارات الجنيهات، ورغم ذلك فإن نظام الرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي" يتمسك بأرقام توثقها الجهات المستقلة والأجنبية لأعداد السجناء في بلاده، محتجا بأن السجون المصرية بطاقتها القصوى، وحتى مع إدخال السجون الجديدة للعمل، لا تبدو الشبكة العملاقة كافية الآن لاستيعاب هذا العدد الضخم من السجناء.

يبدو السيسي محقا في ادعائه الأخير، على الأقل من وجهة نظر الصحفي البريطاني توم ستيفسون والتي أبداها في تحقيق(11) مطول حول السجون المصرية نشره في لندن ريفيو أوف بوكس قبل عامين، واتفق خلاله مع السيسي على أن السجون الرسمية على اتساعها لا تتسع لكل هذا القدر من المعتقلين، لافتا النظر في تحقيقه لوجود شبكة من السجون غير الرسمية، لا تعترف بها الدولة في معظم الأحيان. 

وخلص ستيفنسون إلى أن حالات الاحتجاز خارج السجون المصرية اليوم لا تمثل مجرد استثناء بقدر ما تؤصل لحالة جديدة، يرصدها الجميع في مصر اليوم، وهي وجود نظام احتجاز مواز للنظام الرسمي لا يقل ضخامة وتشعبا وإن كان أقل مركزية وأكثر وحشية، وليس من الممكن فرض الرقابة عليه، فضلًا عن أن الدولة لا تعترف بوجوده من الأساس ولا توجد سجلات رسمية للوافدين إليه، ما يجعله أشبه بالثقوب السوداء يبتلع كل من يدخل فيه ويمحو هويته وأثره تماما، غير أن الفارق في حالتنا هو أن تلك الثقوب السوداء المصرية تقع تحت الأرض وليس في الفضاء كما الثقوب السوداء التقليدية.

      

*الثقوب السوداء* 

يبدو مصير كل من يتم اقتياده لتلك الشبكة الضخمة غير الرسمية من أماكن الاحتجاز في مصر معلقا بما يشبه لعبة نرد تدور في الخفاء، حيث لا يضمن أحد أن يخرج سالما من تلك الشبكة حالما ابتعلته، بل إنه لا يكاد يأمل في الخروج منها على الإطلاق. ولا يقتصر الأمر هنا على الظروف السيئة فحسب، لكن تبقى(12) الخطورة الأكبر كون المعتقل أو المختطف غير موجود بالأساس من وجهة النظر الرسمية.

تتكشف الأمور شيئا فشيئا مع الاقتراب من حدود المعسكر مترامي الأطراف التابع للجيش المصري، والواقع على بعد 63 ميلا تقريبا شمال شرقي القاهرة. 

هنا تم اعتقال أيمن "اسم مستعار"، وهو رجل في منتصف العمر، في الدور الثالث لأحد المباني المعزولة في نطاق المعسكر، ضمن أكثر من 400 معتقل تم احتجازهم بشكل غير قانوني خارج إطار نظام الاحتجاز الرسمي، ودون أي رقابة تذكر في الطابق الثالث من المبنى الشهير الذي يعرفه الجميع اليوم في مصر باسم سجن العزولي.

يقع(13) سجن العازولي داخل مقر الجلاء العسكري، وهو المقر الرسمي للجيش الثاني الميداني أول الجيوش المصرية المتمركزة في منطقة القناة وسيناء، وكان يستخدم بشكل تقليدي لاحتجاز العسكريين المدانين في القضايا العسكرية، ولم يتم توثيق استخدامه بشكل موسع لاحتجاز المدنيين قبل عام 2013. 

يصف أيمن في شهادته تفاصيل التعذيب في العزولي من الضرب إلى الصعق بالكهرباء، في حين يصف نفسه بأنه كان محظوظا للنجاة من هناك معلقا بالقول: "رسميا أنت لست هناك، إذا قتلت في العزولي فلن يعرف أحد".

يستيقظ السجناء في العزولي بين الثالثة والسادسة صباحا، وتُعطى كل زنزانة، فيها 23 إنسانا، خمس دقائق لاستخدام حمام يحتوي على أربعة مراحيض وأربعة أحواض، ما يعني أنه يترك لكل سجين أقل من دقيقة واحدة لاستخدام المرحاض، وإذا استغرق أحدهم وقتا طويلا فإنه يتعرض للضرب الوحشي. أما داخل الزنازين، فهناك دلو للبول وعدد قليل من البطانيات لأكثر من 20 معتقلا ليتشاركوا فيه.  

يتكون العزولي من ثلاثة طوابق، ويستخدم الطابقان في الأسفل عادة قديما لاحتجاز الجنود الخاضعين لمحاكم عسكرية، لكن السجن بدأ في استضافة المدنيين بشكل منتظم وممنهج منذ انقلاب يوليو/تموز حيث تم تخصيص الطابق الثالث للمعتقلين السياسيين، وهو مكون من نحو عشرة زنازين، كانت تحتوي كل منها على ما بين 23 و28 سجينا، بما يعني أن سعته الكلية تصل إلى 300 سجين على الأغلب.

في عام 2015، جرت عملية توسعة لسجن العزولي عبر تخصيص مبنى جديد لا يقل في قبضته الحديدية عرف باسم سجن المحطة، ويعرفه المعتقلون السابقون والحقوقيون باسم سجن "العزولي الجديد"، في حين يعتقد أن عمليات التعذيب الأكثر وحشية تتم أثناء عمليات التحقيق الجارية في مبنى سرية رقم 1، وهو مبنى تشير إليه صحيفة الغارديان البريطانية باسم "S1"، ويخضع لسيطرة الشرطة العسكرية ومهمتها إجراء تحقيق مبدئي شديد القسوة لتحديد المشتبه بهم الأكثر أهمية ومن سيتم نقلهم إلى سرية 8 للتحقيق معهم من قبل محققي جهاز المخابرات الحربية.

داخل الحجرات القاسية الكامنة في الدور الأرضي لمبنى سرية 1 لا يبدو أن هناك أي محظورات على الإطلاق. 

وداخل ساحة الانتظار في المبني يمكث السجناء لأوقات غير محددة معصوبي الأعين، قبل أن يتم اقتيادهم واحدا تلو الآخر لغرف التحقيق المجاورة، حيث يجردون من ملابسهم ويصعقون بالكهرباء في أكثر أماكن الجسم حساسية في الشفاه وخلف الأذنين وتحت الإبطين، قبل أن يتم تعليقهم في أوضاع تسبب آلاما مبرحة لفترات طويلة.  

ورغم توثيق سجن أكثر من ألف شخص لفترات متفاوتة في سجون العزولي خلال الفترة بين عامي 2014 و2016، لا تزال السلطات المصرية ترفض الاعتراف بوجود السجن بشكل رسمي. 

ورغم أنه يصنف كأحد السجون العسكرية التابعة للجيش، فمن المرجح أنه يتم نقل السجناء المستجوبين داخله لمكاتب أمن الدولة لتأكيد اعترافاتهم أمام النيابة، قبل أن يتم نقلهم في وقت لاحق لسجون مدنية إذا ما أكدوا اعترافاتهم، أو إعادتهم إلى العزولي من جديد إن تراجعوا عن هذه الاعترافات.

رغم كون العزولي أكثر السجون غير الرسمية في مصر شهرة وأغناها صيتا، إلا أنه لا يعدو(14) كونه حلقة واحدة ضمن شبكة موازية ضخمة من أماكن الاحتجاز غير الرسمية المصرية، شبكة تم الاستثمار فيها بكثافة من قبل نظام ما بعد 3 يوليو العسكري كما ذكرنا. 

وعلى عكس شبكة السجون التقليدية التي تم توسيعها بإضافة منشآت وبنى تحتية جديدة، قامت شبكة السجون السرية على إعادة توظيف واستغلال بنى تحتية قائمة بالفعل لم تكن تستخدم بشكل تقليدي، كمقار عسكرية للاحتجاز والاستجواب وعلى رأسها المعسكرات العسكرية مثل معسكر الجلاء الذي يستضيف سجن العزولي. 

وأحد أهم هذه المعسكرات وأشهرها هو معسكر عجرود العسكري بالسويس، الذي يستضيف المقر الرسمي للجيش الثالث الميداني، وهو يستضيف سجنا سريا آخر يعرف في الأوساط الإعلامية باسم سجن السرداب العسكري.

تم الكشف عن وجود سجن السرداب لأول مرة منتصف عام 2013 في تقرير(15) لصحيفة الوطن المصرية، زعمت خلاله أن السجن استخدم لاحتجاز بعض الناجين من حادثة غرق عبارة السلام الشهيرة عام 1998 لإخفاء شهاداتهم. 

ويعود وجود سجن السرداب للستينيات، ويرجح أنه تتم إدارته من قبل جهاز المخابرات العسكرية، ويعتقد أنه تم تطويره بشكل خاص من قبل الولايات المتحدة ضمن برنامج الاحتجاز الاستثنائي لاستضافة معتقلين مصريين وغير مصريين وأعيد افتتاحه عام 1996. 

وقد زعمت صحيفة الوطن أن السجن استضاف بعض السجناء خلال حقبة المجلس العسكري وأبرزهم ضباط حركة 8 أبريل.

من جانبها، تنفي السلطات المصرية بشدة وجود أي سجون سرية في معسكر عجرود العسكري، كما تنفي استخدامها سجن الكتيبة 101 سيء السمعة الكائن داخل أسوار الكتيبة 101 الحاوية مقرا لقيادة الجيش الثاني الميداني، والتي تم استهدافها بهجمات تنظيم "ولاية سيناء" المسلح مطلع عام 2015. 

وفي حين بدا النظام المصري حريصا على نفي وجود سجون سرية يديرها الجيش في معسكراته، والتي قدرتها(16) صحيفة فايننشال تايمز بـ "دستة" كاملة من المعسكرات والسجون السرية، فإنه بدا عاجزا عن نفي وجود السجون البديلة التي تديرها وزارة الداخلية المصرية في أكثر من ثلاثين معسكرا للأمن المركزي تنتشر في ربوع مصر.

منذ 3 يوليو/تموز عام 2013 وإلى اليوم تم توثيق احتجاز المعتقلين في معظم معسكرات الأمن المنتشرة من شمال مصر إلى جنوبها، لدرجة أن عددا منها قد ذاع صيته لمستوى دفع لإصدار قرار بتحويله إلى سجن رسمي، مثل سجن معسكر قوات الأمن بالجيزة المشتهر إعلاميا باسم سجن الكيلو 10 ونصف، والذي استخدم لاحتجاز الشباب المقبوض عليهم في التظاهرات المناهضة للنظام المصري، وهو سجن سري يتم استخدامه منذ التسعينيات. 

واشتهر هذا السجن بأنه موطن للعديد من الشباب المختفين قسريا الذين تم تعذيبهم لمدد طويلة متصلة وصلت(17) إلى خمسين يوما في بعض الشهادات.

لا يختلف الحال كثيرا في معسكرات الأمن المركزي الأخرى بالقاهرة في كرداسة والسلام والمقطم وطره، وحتى خارج القاهرة في بنها والزقازيق ودمنهور والإسماعيلية وبورسعيد، وجميعها تم توثيق احتجاز عشرات المعتقلين بها لمدد متفاوتة، فضلا عن استعادة مقرات جهاز الأمن الوطني، مباحث أمن الدولة سابقا، لدورها القديم كأقبية للاحتجاز والتعذيب، وتنتشر هذه المقرات بدورها بالعشرات في محافظات ومراكز مصر، وفي مقدمتها مقر الجهاز الرئيس سيء السمعة الكائن بضاحية لاظوغلي القاهرية، وفرع الجهاز في محافظة الجيزة الواقع في شارع جابر بن حيان.

سمحت المنظومة التشريعية المصرية "المهترئة" للنظام بتقنين أو إخفاء شبكته الجديدة من الثقوب السوداء، معتمدا في ذلك على قانون السجون الصادر عام 1956 وتعديلاته، وهو قانون سمح بإنشاء عدد غير محدود من "السجون الخاصة" بموجب مرسوم من رئيس الجمهورية ووزير الداخلية، ثم استخدمت لحبس عشرات الآلاف من المعارضين منذ عهد عبد الناصر، وفي غياب أي سجلات معلنة للسجون الخاصة، يعتبر كل من يرسَل إليها في عداد المفقودين، وتذهب كافة طلبات الاستفسار عنها أدراج الرياح، وغالبا ما يلتزم الأهالي الصمت خوفا من التنكيل بذويهم حال جهروا بالشكوى.  

غير أن القمع في مصر أثبت عبر تاريخه أنه لا يحتاج إلى تشريعات لتقنينه، كما أن أي تشريعات لم تكن قادرة على سبر أغوار تلك الأوديسا المظلمة التي صممت بشكل خاص لإخضاع البشر تماما، وربما لابتلاعهم دون رجعة إذا لزم الأمر، تماما كما حدث مع طلعت فؤاد قاسم الذي يبقى مصيره الرسمي مجهولا حتى الآن رغم مرور أكثر من عقدين على اعتقاله في كرواتيا، وهو مصير يبدو أنه ينتظر المئات وربما الآلاف ممن ألقى بهم حظهم العاثر في قلب تلك الشبكة المظلمة، وممن لا يعرفهم الاستخباراتي الأمريكي باير على كل حال، إلا أنه كان يقرأ طالعهم في مصائر أسلافهم قبل أكثر من عقدين من الزمان.

وسوم: العدد 762