رمضان .. الوجه الآخر

وهل لرمضان وجوه؟ أي نعم، فهذا وجه التوبة، وذاك وجه الاجتهاد، وذلكم وجه الاقتصاد. لكن الجهل والهوى صنعا له وجوها كالحة، فها هنا تبذير، وهناك كسل، وثمةَ مشاجرة. أما التبذير فما امتنع عنه الصائمون نهارا التهموه ليلا أضعافا مضاعفة. تمتلئ الموائد عند المغرب أطباقا من كل صنف، ما تَآلف منها وما اختلف، نشويات على سكريات على بروتينات، فواكه وأسماك وحلويات وخضر ولحوم ومشروبات. فلا غرابة أن يزيد وزن الأَكَلة الجهَلة. ولأن المعدة لا تَسَع تلك الخلطات العجيبة كلها فلا مفرّ من أن تَسَعها حاويات القمامة. ثم لا عجب أن تَسقم الأجسام وتعتريها الأمراض ما ظهر منها وما بطن. كذلك الحال، "صوموا تَسقموا"! فمن ذا يزعم أن الصيام صحة وشفاء؟! ولا تخلو الأسواق من حركة وجلَبة طوال الشهر الكريم، يبحث الجائعون -أقصد الصائمين- عن أي شيء يُلتهم، بل إن الطلب لَيفوق العرضَ في مواد مخصوصة.

وأما الكسل فبادٍ على وجوه الناس، لكنه استوطن الإدارات والمكاتب. ولئن كان الكسل مما قضت به سنن القوم على مدار السنة، فإن له طَعما خاصا في رمضان، ذلك أنه كسل مشروع، فلا غرابة أن يجيبك موظف إذا ما استنكرتَ تَماطُله: "نحن صائمون" أو "هذا رمضان" (إوَا هَادَا رمْضان). فلا تجد بُدّا من قول: "تقبل الله صيامكم.. وكسلكم". ثم تنصرف وقد أفدتَ أنّ من الكسل ما يجوز وما لا يجوز. ثم وأنت سائر في شوارع المدينة ترى أقواما هرعوا إلى المقاهي ساعات قبل الغروب، ينتظرون الفرج. فمنهم مُنهمك في لعب الشطرنج، ومنهم لاعِبو ورق، ومنهم من ينتظر.

وفي رمضان مشاجرة وفسوق نظيرَ ما فيه من صيام وقيام. وذلك ديْدنُ عُتاة الصائمين، أولئك الغلاظ الشداد الذين يقولون بلسان الحال: "إما هذا الحال وإما نُفطر". فتراهم في صخب وخصام طوال النهار، يتقربون إلى الله بالفظاظة وفحش الكلام، ويتذرّعون بأوهن الذرائع لأجل الرفث والسّباب. رأيتُ مبتاعا يقول لأحد هذه الكائنات: "اللهم إني صائم"، فرد عليه المخلوق العجيب: "ما بك؟ غِي انْتَ الِّلي صَايَمْ" (وهل وحدك الصائم؟). بيدَ أني عجبتُ أنْ سمعتُه ذات يوم يعظ كائنا من جنسه أنّ النوم في نهار رمضان يُبطل الصيام، فما لبث مستمع أن قال: "وكذلك المشاجرة والخصام". فحدَجه الواعظ بنظرة تُنْبئ أنه على وشك أن يُعجّل فِطره. ولولا أن صاحبه ثبّته لأفطر على الرجل ولبطل صيامه. قال له صاحبه وكأنه استشعر وخزةَ ضمير: "إن كانت اليقظة كيقظَتِك فإن النوم من فضائل الأعمال". أكبرتُ قولَ الحكيم ثم دعوت الله أن يُنيمَ هؤلاء طوال رمضان فلا يقظة إلا يوم العيد.

ذلكم هو رمضان عند أقوام، وذلك مبلغهم من الصيام. وكل عام أنتم بخير.

وسوم: العدد 827