ولكن لا يشعرون..

زهير سالم*

[email protected]

الشعور ملكة من ملكات الإدراك ، و حالة من حالاته ، وآلية من آلياته ، ورتبة من مراتبه ، يتفاوت فيها الناس كما يتفاتون في قدراتهم الإدراكية كافة الحسية منها والذهنية والنفسية .

وربما مما يضير الشعور وعالمه أن نصفه بإنه ( إحساس ) طالما أن الأحاسيس ارتبطت بعالم المدركات الحسية منها على اختلاف معطياتها الفيزيائية ؛ ولكن قصر ( الإحساس ) على عالم المدركات الحسية الفيزيائية ، المرئية والمسموعة والمشمومة والمطعومة .... فيه ظلم غير محدود لآفاق الإحساس المطلقة غير المحدودة . ولاسيما ونحن نعايش يوميا أحاسيسنا الروحية والنفسية الإيجابي منها والسلبي المنير الشفاف منها والمعتم الكتيم ...

الشعور الإنساني بالمتصورات والمتوقعات ، بالأحداث والأشياء ، بالمحسوس والمتخيل ، بالأشخاص المضيء منهم والكتيم ؛ مختلف متفاوت ، فهو عند بعض الناس مرهف وحاد إلى درجة أنهم لا يستطيعون استقبال وارداته ، ولفظ ( واردات ) مقتبس عن السادة الصوفية للدلالة على الجرعات الشعورية التي قد تفرض نفسها على الإنسان فتنقله من حال إلى حال وربما من حال إلى مقام . فبينما يستطيع الجزار أن يذبح عشرات الخراف في ساعة واحدة يُغمى على بعض البشرلرؤية قطرة دم تسيل من أصبع مجروح . والمثل هنا يمكن أن تعممه على كل المدركات التي تفرض نفسها على وجود الإنسان : روحه وعقله وقلبه ونفسه ..

لقد أطلق العرب على ( الإنسان ) الأكثر قدرة على الإدراك وإعادة الصياغة في نوع من الخلق الأدنى جديد ( الشاعر ) . ولا أحد يستطيع أن يحدد بالضبط ماهية آليات إدراك الشاعر وإن كنا نقف معجبين بوسائل تعبيره سواء كانت كلمات أو أصواتا أو خطوطا وألوانا أو صخرا يتحول تحت مطرقته وإزميله إلى شكل من أشكال التعبير عن المرهف الذي لا يكاد يبين . كل المشتغلين على إعادة التعبير عما استقبلوا من جماليات الوجود ( شاعر ) ، سواء كان تعبيره عن جماليات الوجود الراضية أو الساخطة ، الإيجابية أو السلبية ..

(الشاعر) بالمعنى المتعالي للوصف وحده هو الذي يشعر بالقبح الجميل ، وبالجمال القبيح . هو الذي يستطيع أن يقتنص المطلق من المحدود ، أو أن يتبت المحدود في المطلق . الشاعر هو الذي يرى القوة في الضعف والحياة في الموت ويرى في الوقت نفسه الضعف في القوة والموت في الحياة . الشاعر هو الذي يميز بين قسوة القلب وصلابته وبين لينه وضعفه ، بين شفافية الروح وتعاليها وبين انمحاقها وترديها . بالروح وحدها كان الإنسان خلقا آخر فإذا تجرد منها عاد أسفل ما كان ..

وحين يستغرق مشهد من المشاهد بصر إنسان أو صوت من الأصوات سمعه فيشغف قلبه أو عقله أو نفسه فيغرق فيه طربا ، حزنا أو فرحا ، ألما أو سعادة ، سخطا أو رضا ، ويمر به آخرون وكأن ذبابا طار أمام وجوههم فقالوا له بأيديهم (هكذا ...) ؛ تقع المفارقة الكبرى بين الذين يشعرون والذين لا يشعرون ، فيستجيب للمشهد الذين يشعرون أي الذين يعقلون أو يحسون أو يبصرون أو يسمعون وحسب تعبير القرآن الكريم يستجيب الأحياء الحقيقون (( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ )) .فشبه حال الذين تتعطل أجهزة الاستقبال لديهم بالموتى ، الذين كان موتهم إراديا قبل أن يكون بيولوجيا . وكما الانتحار المادي جريمة تعاقب عليها الشرائع والأديان ، فإن الانتحار المعنوي ، الموت الإرادي بتعطيل أدوات الإدراك ووسائل الاستقبال جريمة أبشع وأشنع عند الذين لا يشعرون ...

 يقودنا هذا إلى مواقفنا المختلفة مما يجري على أهلنا ووطننا في سورية الحبيبة ، في ظل الأحداث التي نعيش . كلام يُضطرنا إليه الاعتذار لأنفسنا من أولئك الذين ( لا يشعرون ) . الذين لا يشعرون بفداحة الخطب ، ولا بضخامة الحدث ، ولا بعمق الجراح ، ولا بقيمة الوقت. دون أن نطلب عذرا من أولئك الذين تعطلت أو تلبدت لديهم ملكات الشعور ، وأغلقت عليهم سبله واستوى في أعينهم ( الساق والخشبة ) أو ( الدم والماء ) ، أو نحيب الثكالى وعصف الريح ، وبكاء الأطفال من رعب وجوع وبرد ومواء القطط ..

في سورية اليوم رجال يقتلون مع كل قتيل ، وينزفون مع كل نازف ، وينتهكون مع كل منتهكة ، ويهيمون على وجوههم في دروب كل الهائمين والهائمات ، ويثكلون مع كل ثاكل ، ويتيتمون مع كل يتيم ، ويجوعون مع كل جائع ، ويقرصهم البرد مع كل مقرور ...

 لا بد أن هؤلاء الذين يشعرون ( يستعجلون ) ويلحون ويكررون وينتقدون . ومرة ثالثة لا نطلب عذرا من المتكئين على الصدور ويضجرهم اللهاث ويزعجهم هذا الأنين .

كرر القرآن الكريم بنصه الرباني المتعالي في أكثر من عشرين موضعا من آياته نفى ( الشعور) عن أقوام بأعيانهم نسبهم مرات إلى النفاق والغرور ، ومرات إلى الكفر والعتو ، وثالثة إلى الجهل والبلادة وتعطل الملكات و الأحاسيس .

وجاء نفي الشعور في القرآن الكريم بمعنى نفي العلم أو الإحاطة في مثل قوله تعالى عن إخوة يوسف (( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ )) .ومرة عن أخت موسى الكليم عندما كانت تتبع أثر صندوقه على وجه النيل بعيدا عن أبصار جند فرعون : (( فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ )) ،وكذا في حديث النملة عن سليمان وجنوده : (( لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ )) قال بعض المفسرين لأن النملة كانت تعلم أنه لا ينبغي لنبي مثل سليمان أن يحطم النمل وواديه عن قصد وعلم ودراية وشعور . فكيف بمن يحطم أمما من البشر و شعوبا وبلدانا .

 ثم في كثير من آياته حذرنا القرآن الكريم أن ينزل بنا أمر الله عاما أو خاصا بغتة ونحن (لا نشعر ) و( لا نحس ) بل نخوض ونلعب ويظن البعض أنه يحسن صنعا . في أكثر من موضع يحذرهم القرآن الكريم العذاب والبعث والساعة (( أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ )) .

ولعل السياق القرآني الأهم فيما نحن فيه من نفي الشعور عن طائفة من الناس فهي في حديث القرآن الكريم عن ( المخادعين ) يظنون في أنفسهم تفوقا في خداع الناس واستصغارهم يقول لهم القرآن الكريم (( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ )) ، وعن المفسدين يتهمون غيرهم بالفساد يقول لهم القرآن الكريم (( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ )). وعن السفهاء يرمون وصف السفه على غيرهم يقول القرآن الكريم (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ )) ...

               

* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية