جمعة التحدي.. كبرياء وتصميم وبحر من الدماء
جمعة التحدي..
كبرياء وتصميم وبحر من الدماء
محمد فاروق الإمام
[email protected]
خرجت سورية في يوم جمعة التحدي عن بكرة أبيها لم يتخلف منها
أحد.. حيث اكتظت أحياء العاصمة دمشق وريفها تل منين وداريا والزبداني وسقبا وبرزة
وقطنا، وشوارع وساحات عامودا والقامشلي والرقة ودير الزور شرقاً حتى اللاذقية وجبلة
وبانياس غرباً، مروراً بمدينة حمص ابن الوليد وحماة أبي الفداء وإدلب وكفرنبل وبنش
وسرمدا والباب والرستن، وحتى الصنمين ونمر وإنخل جنوباً، اكتظت بآلاف المتظاهرين في
حشود بشرية هائلة استجابة لدعوة الثورة السورية إلى التظاهر في جمعة التحدي، وكانت
هذه الجماهير تهتف بشعار واحد من عامودا وحتى الصنمين: (واحد.. واحد.. واحد.. الشعب
السوري واحد)، (الشعب يريد إسقاط النظام)، (ما منحبك.. ما منحبك إرحل عنا إنت
وحزبك).. وقد ارتفعت على أكف هذه الجماهير نعوش رمزية للنظام وحزبه تعبيراً عن
تشييع هذه الجماهير لهذا النظام وحزبه.
سارت هذه الجماهير المسالمة، وهي ترفع بأيديها أغصان الزيتون،
ويافطات كتبت عليها عبارات صريحة وواضحة تعلن فيها رفضها لهذا النظام ولهذا الحزب،
والحكم عقد بالتراضي بين الشعب والسلطة، وقد مزقت هذه الجماهير هذا العقد وطلقت هذا
النظام وحزبه طلاقاً بائناً، وقد قاد هذا النظام وحزبه سورية إلى الهزائم
والانكسارات والتخلف والجهل والفقر والتجويع، وغاص بها في مستنقع العبودية والإذلال
والقهر والسجون والمعتقلات والمقابر الجماعية ونهب الثروات وسرقة الأموال، وأعمل في
المجتمع معاول الفساد والإفساد لنحو خمسة عقود، تحملتها هذه الجماهير بكل سنينها
العجاف وعذاباتها وآلامها وجراحاتها تناغماً مع دعاوي النظام أنه يقود معسكر
الممانعة والتحدي والصمود والتصدي بوجه إسرائيل والمخططات الصهيونية والإمبريالية،
ويحتضن المقاومة الفلسطينية ويتمسك بالقضية الفلسطينية ويعمل لتحرير فلسطين، وكان
هذا المصل السحري يخدر عقول الجماهير ويلعب بعواطفهم، إلى أن استفاقت هذه الجماهير
على حقائق كذب هذا النظام وبطلان دعاويه.. فلا صمود ولا تصدي ولا ممانعة ولا تحدي
إلا بوجه هذه الجماهير التي كانت الهدف الحقيقي لهذا النظام والضحية الأولى لكذبه
وتضليله وافتراءاته.. وقد سقط عند أول امتحان عندما قابل هذا النظام وميليشيات حزبه
ورجال أمنه دعابات بعض الصبية الذين كتبوا على بعض جدران مدارس مدينة درعا (الشعب
يريد إسقاط النظام) وقد قلد هؤلاء الصبية عن براءة ما يشاهدونه في القنوات الفضائية
حيث الثورات الشعبية تلتهب في تونس ومصر وليبيا واليمن وترفع نفس الشعار (الشعب
يريد إسقاط النظام).
قابل رجال الأمن هؤلاء الصبية الذين كانت أعمارهم بين العاشرة
والرابعة عشر بالاعتقال، ومارسوا بحقهم أبشع أنواع التعذيب الجسدي، حيث أقدموا
بوحشية ما سبقهم إليها أحد على اقتلاع أظافر هؤلاء الصبية، ومارسوا أبشع أنواع
التعذيب النفسي عندما هددوهم بانتهاك براءتهم وطهرهم، وعندما طالب أهالي هؤلاء
الصبية المسؤول الأمني في درعا الإفراج عن أبنائهم كان الجواب: (انسوا هؤلاء
الأطفال وناموا مع زوجاتكم ليلدن لكم غيرهم، وإن كنتم تفتقدون للرجولة فابعثوا بهن
إلينا وسنقوم نحن بالمهمة).
لم يصبر أهالي درعا على هذا الضيم وعلى هذه الإهانة التي وصلت
إلى حد انتهاك الأعراض والتطاول على الشرف، فكانت لهم غضبة مضرية فانتفضوا على قلب
رجل واحد مطالبين النظام بإبعاد المحافظ والمسؤول الأمني فقابلتهم عناصر الأمن
بالرصاص الحي ليسقط العشرات بين جريح وشهيد، ويتكرر نفس المشهد الدموي عندما حاول
الناس تشييع شهدائهم في اليوم الثاني، حيث كان الرصاص الحي باستقبال جنازاتهم ليسقط
مجدداً العشرات بين شهيد وجريح، ولتمتد الريح الحمراء إلى باقي المدن والقرى
السورية الأخرى التي انتفضت تضامناً مع أهل درعا تطالب بالإصلاح والحرية والكرامة،
ولم يكن حظهم يختلف عن حظ إخوانهم في درعا، فقد جوبهوا بالرصاص الحي دون أي مقدمات
ليسقط في يوم واحد أكثر من 120 شهيد ومئات الجرحى الذين أجهز على بعضهم الأمن
السوري بدم بارد، بدلاً من إسعافهم، ممن لم يتمكن الناس من نقلهم إلى المستشفيات
الميدانية التي أقاموها على عجل في المساجد والبيوت، والامتناع عن نقلهم إلى
االمستشفيات الحكومية التي كانت محتلة من رجال الأمن الذين كانوا يجهزون على كل
جريح في طلقة في الرأس كما شاهدنا وشاهد العالم على شاشات المحطات الفضائية.
وكان الإصرار من هذه الجماهير على انتزاع حريتهم المصادرة
واسترجاع كرامتهم المداسة والذهاب في مطالبهم حتى النهاية مهما غلت التضحيات، وكان
النظام في المقابل يشتد شراسة وانتهاكاً وقمعاً يوماً بعد يوم وقد استنفذ كل ما
لديه من زعران وشبيحة وعصابات أمنية وقتلة مأجورين جاؤوا تأييداً له من خلف الحدود،
ليدفع بدبابات ومجنزرات ومدرعات الجيش وفرقه العسكرية إلى مواجهة هذه الجماهير..
هذه الفرق العسكرية التي ما توجهت إلى الجبهة مع العدو الصهيوني منذ العام 1974
عندما أبرم النظام اتفاقية فك الاشتباك الاستسلامية عند الكيلو 54 مع العدو
الصهيوني، التي تعهد فيها نسيان الجولان وتأمين الأجواء الآمنة للمستوطنين الذين
غزو الجولان وجعلوه من ضمن أملاك الدولة العبرية، ودفع بفرقه العسكرية ودباباته إلى
لبنان بحجة وقف الحرب الأهلية فأجهز على منظمة التحرير في لبنان، ومن ثم أرغم
فصائلها على الرحيل من لبنان نهائياً بحماية العلم الفرنسي، وأتبع ذلك بالإجهاز على
المقاومة الوطنية اللبنانية التي كانت تقاتل إلى جانب الفصائل الفلسطينية، وجعل
لبنان – بعد أن صفا له الجو - مزرعة لحفنة من ضباط جيشه المقربين وعناصر أمنه
المختارين يعيثون فيها فساداً ونهباً، ويجعلوا منه محطة آمنة للتهريب لكل أنواع
الأسلحة والمخدرات وغسيل الأموال، التي جعلت رموز النظام السوري من أكبر أثرياء
العالم والمتحكمين بالسوق العالمية السوداء، وليسخر جيشه فيما بعد ليحارب العراقيين
تحت الراية الأمريكية، وبعدها بمساعدة القوات الغازية لبغداد في تأمين ظهرها وهي
تدخل عاصمة الرشيد عام 2003، مقدماً كل التسهيلات اللوجستية والمخابراتية خدمة لهذه
القوات الغازية وتسهيلاً لمهمتها بأقل الخسائر كما اعترف النظام بمناسبة وغير
مناسبة، وقدمت القوات الأمريكية الشكر للنظام السوري لتعاونه معها في غزوها للعراق،
وقد اعترف الكثير من جنرالات الجيش الأمريكي صراحة بأنه لولا التعاون السوري لدفعت
القوات الأمريكية الكثير من التضحيات، ولم تقتصر مهمة فرق النظام العسكرية على
المشاركة في هذه الحروب القذرة بل تجاوزتها لإعداد وتدريب عناصر من حزب العمال
التركي المتمرد على الحكومة التركية الذين كانوا يشنون هجمات على المنشآت الحيوية
والرسمية التركية من داخل الأراضي السورية، إضافة إلى عمليات التهريب المنظمة
للإضرار بالاقتصاد التركي.
إن كل ما أتينا على ذكره هو غيض من فيض مما عاناه السوريون ودول
الجوار العربية والإسلامية من هذا النظام، الذي تسلق جدران الحكم في دمشق في الثامن
من آذار عام 1963 من قمع لمواطنيه وانتهاك لأبسط قواعد السلوك الإنساني مع دول
الجوار.
وإذ يوغل هذا النظام بتصديه للشباب المسالم المطالب بالحرية
والكرامة بحمم نيرانه الحاقدة.. هؤلاء الشباب الذين خرجوا في جمعة التحدي وقد لبس
العديد منهم الأكفان، وهم يعرفون مقدماً طبيعة هذا النظام السادي الذي لن يتوانى في
توجيه رصاصه الغادر إلى هذه الصدور العارية التي خرجت وبأيديها غصون الزيتون حاملة
أرواحها على أكفها ثمناً لما تطالب به، فليس هناك شيء أغلى من الحرية وأقدس من
الكرامة، فلا عيش بعد اليوم بلا حرية ولا كرامة وهذا القول الفصل لكل شباب سورية،
فلا استكانة بعد اليوم أو خنوع أو عبودية ولسان حالهم يقول: (بالروح بالدم نفديك يا
حرية.. بالروح بالدم نفديك يا كرامة).. وستبقى هذه الكلمات تعتمل في صدورهم وتصدح
بها حناجرهم إلى أن تتحقق مطالبهم وتخفق في سماء دمشق الفيحاء رايات الحرية ويتنفس
الناس عبق الكرامة.