مزرعة الحيوانات، الثقافة البائدة
حارثة مجاهد ديرانية
[email protected]
عشنا من عمر أمتنا دهوراً طويلة ونحن خراف الحاكم في مزرعته (أي
في أعينه، ولا مؤاخذة)، فهو يتصرف بنا ويصرِّف أمورنا أنى شاء، إذا ذبح أحدنا فذلك
حقه، وإن تركه يحيا فتفضل منه، وأما ما نأكله من طعام فصدقة من عنده تصدق بها
علينا. وكان في تلك المزرعة قوانين كي تنظم الخراف وتحمي بعضها من أن تعتدي على
بعض، ولكن شرعتها تقضي بأن الراعي فوق القانون، فهو وحاشيته لا يُسألون عما يفعلون،
وكان في شرعتها أن تسمية بعض المسميات بأسمائها هي من الذنوب الكبار والموبقات
العظام، فالراعي إذا كان ظالماً وجب وصفه بأنه عادل، وإنه وإن كان أبغض إلينا من
العفاريت الزرق كان خيارنا الوحيد أن نهتف له بأننا "منحبه". وكل ذلك قد كان، ولكن
تغير الزمان، تغير رغم أنوف من لا يفهمون أو لا يريدون أن يفهموا أنه تغير. فالناس
اليوم لم يعودوا حيوانات في مزرعة السلطان، أو بالأحرى لم يعودوا يرضون أن يعاملوا
كما لو كانوا كذلك لأنهم لم يكونوا إلا بشراً ولم يكن سلطانهم إلا مثلهم. ولأن لدى
كثيراً من "سلاطيننا" بطئاً في التفكير وضعفاً في الفهم والاستيعاب فيما يظهر، فهم
إذا قلنا لهم لا نريدكم لم يزدادوا بكراسيهم إلا تشبثاً وإن طلبنا منهم اللين
والعدل والرحمة إذا بالرد يأتي تنكيلاً وبطشاً، من أجل ذلك بحثت الشعوب وجدَّت في
البحث حتى اهتدت أخيراً إلى سلاحها الأعظم، اهتدت إلى "ثقافة الاحتجاج السلمي"، ذلك
أن شرعية الحاكم مصدرها الناس، فهم من يمنحونها له بانصياعهم لأوامره، فإذا أجمعوا
وحزموا أمرهم على العصيان المدني انهار عرش السلطان، ولا شيء يستطيع تغيير هذه
النتيجة إذا أصر الشعب على عصيانه، ولا حتى الحديد أو النار أو البارود.
لقد زال العهد الذي كان الحكام يظنون الناس فيه حيوانات ترتع في
مزارعهم، وزال العهد الذي كان فئة من الناس فيه محصنين فلا يحاسبون وهم قلة يمسكون
بأيديهم خيوط مصير الأكثرية، فكل يحاسب على فعاله وآثامه، لا أحد فوق بقية البشر،
ولو كان على عرش الملك فإن العرش لا يحميه من العدالة أن تطوله، بل هي تنطبق عليه
كما تنطبق على غيره من بني آدم. هذه هي فضيلة موت ثقافة مزرعة الحيوانات التي قتلت
رسمياً بأيدي التونسيين والمصريين المباركة، وإن مَن بعدهم للاحقون بإذن الله.