المشهد المصري

المشهد المصري

أزمة نظام .. أم أزمة جماعة

ودروس من غزوة حنين

عشرون شهرا مرت على مصر منذ أن أعلن في 3/7/2013م وزير الدفاع وقتها (عبد الفتاح السياسي) وسط مجموعة منتقاة من اليمين واليسار وبحضور شيخ الأزهر وبابا الكنيسة انقلابه العسكري، مبشرا بمصر جديدة، بدأت باختطاف وتغييب أول رئيس مُنتخب انتخابا حرا مباشرا طوال تاريخها، وثبت منذ بداية الانقلاب أن هذا الرئيس الذي ساقه قدره لأن يقوم بمسؤولية الحكم طوال عام كامل بأخلاقيات وسلوك مخالفا تماما من كانوا قبله محاولا تحقيق صورة الحاكم العادل البار بقسمه أمام شعبه .. هذا الرئيس قد جاء مبكرا عن زمن آماله وطموحاته، وأن قدره الحقيقي كان هو بالانقلاب العسكري عليه ليتكشف مدى عمق التخريب الذي أصاب بلده وأصاب مؤيدي الانقلاب في الداخل والخارج الذين لم تنضج بعد في ثقافاتهم وضمائرهم معاني العدالة والأمانة والشفافية وحقوق الإنسان وحرمة الدماء والأعراض التي لا يمكن لأي بشر تجاهل حجم انتهاكاتها بعد أن قتلت رصاصات الانقلاب ما يقرب من عشرة آلاف إنسان بريء وانتهكت الكثير من الأعراض، وقيام أخطر أجهزة أي مجتمع عرفته الإنسانية وهو القضاء بتمرير وتغطية كل هذه الجرائم بأحكام ظالمة وأحكام إعدام وصلت حتى الآن 183 حكما، وبعض المحكومين ناله ثلاثة أحكام منها إضافة إلى أحكام أخرى بالأشغال الشاقة المؤبدة وقتل إبنه في الشارع برصاصات غادرة وهو المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع صاحب الصيحة التاريخية في مناهضة دولة العسكر الفاشية (سلميتنا أقوى من رصاصكم).

الحديث الآن الذي أصبح ساخنا سخونة طلقات نار الجيش والشرطة هو عن استمرار الحراك المناهض للانقلاب العسكري الذي استمر طوال الفترة الماضية وبما لم يحدث مع أي انقلاب عسكري دموي آخر في القرن الأخير، والعويل المستمر في أجهزة الإعلام الانقلابية عن مسؤولية جماعة الإخوان المسلمين في العمل على إفشال حكم العسكر الذي انغرزت أقدامه في دماء شعبه وفي وحل العمليات ضد سكان سيناء فأطاح ببعض قياداته، كما سبق أن أطاح بهامانه وزير الداخلية الذي شاركه في الانقلاب وصاحب البيان الشهير بعد مذبحة رابعة الذي قال فيه أنه قد قضى على جماعة الإخوان المسلمين وبما لم يستطع من جاء قبله من وزراء داخلية مصر القيام به طوال الثمانين عاما الماضية.

الحكم على جماعة الإخوان المسلمين في مصر التي يختزل الكل تقريبا الآن ثورة 2011م في أداء الجماعة أثناء وبعد تقديمها للرئيس محمد مرسي هو حق للمجتمعالمصري ولشعوب المنطقة والعالم كله، والصحيح في كتابة أي تاريخ أن تأتي بعد أن تضع الأحداث أوزارها وبعد أن تتضح كل حقائق العمل ويُدْلي كل مشارك فيها بما لديه، ومع ذلك فوسط دخان النار ونفثات الإعلام داخل مصر وخارجها فإن تعبير الفشل أو القضاء على الجماعة الذي يحاولون إلحاقه بها وترسيخه في أذهان الناس بكثرة ترديده مع الممارسات الدموية بحق أعضائها، لا يستطيع أن يخفي أن عشرون شهرا مضت على الحكم العسكري في مصر لم يستطع فيها أن يقدم أي أمل لمستقبل مغاير لما سبق أو تحسين لحياة الشعب أو تحقيق لأي وعد قدّمه قائد الانقلاب للناس وهو ما أظهر حجم فشله وفشل من راهنوا عليه، ويوجب في الوقت نفسه الإشارة للأمور التالية:

أولا: أن حجم الهجوم الدموي والإعلامي على جماعة الإخوان المسلمين داخل مصر وخارجها يثبت أن الجماعة ما زالت حية وعاملة وقائمة على الأرض، وما زالت (بعون الله) هي السد المنيع أمام مخططات الانهيار المرسومة لأوطانها.

وإذا كان المفكر الفرنسي رينيه ديكارت قد أطلق صيحته الشهيرة: أنا أفكر .. إذا أنا موجود، ثم أعقبه الألماني كارل ماركس بصيحة أخرى يقول فيها: أنا آكل .. إذا أنا موجود، فمن حق كل منتسب لجماعة الإخوان المسلمين الآن بعد هذه الحرب المستمرة لأكثر من ثمانين عاما عليها أن يقول: أنا أهاجم .. إذا أنا حي أعمل.

ثانيا: الحديث غير النزيه عن انشقاقات واختلافات داخل صف الجماعة بعد كل مشاهد النار والقتل والمطاردات والاتهامات الظالمة، هو حديث وإن كان طبيعي داخل أي كيان بشري إلا أن سلبيته الآن واضحة لا تحتاج إلى إثبات، لأنه حديث يجري من طرف واحد لا يسمح الوقت بالرد عليه أو تبيين الحق من الباطل فيه وحسب الجماعة أن صفها ما زال متماسكا بفضل الله قائما، وكما يقول أحد الباحثين وهو الدكتور مختار الغباشي نائب رئيس المركز العربي للدراسات السياسية والاستراتيجية (أن ما لا يدركه هؤلاء ومن وراءهم من أجهزة أمنية أن ما يقدمه الصف الإخواني من تضحيات يزيد من ارتباطه بالفكرة ولا يضعفها، وتلك الحركات التي انشقت عن الجماعة وانحازت للعسكر لم تستطيع حتى الآن أن تجمع حولها عشرات من عظم الإخوان التنظيمي).

ثالثا: أن محاولة تزوير التاريخ بالقول أن جماعة الإخوان المسلمين لم تقدم شيئا للمجتمع طوال عمرها الذي امتد لأكثر من ثمانين عاما، يتجاهل سؤالا بديهيا: لماذا إذا بقيت طوال هذه السنوات ثابتة على أفكارها وممارساتها في مواجهة فساد الحكام الذين تلقت منهم ضربات كانت في كل مرة يحسبها أصحابها أنها مهلكة؟، وبقيت بفضل الله عصية على الاحتواء من أي نظام صامدة أمام أي انحراف فكري عن صحيح العقيدة والفهم وعن انزلاق المجتمع إلى حروب دينية أو طائفية وهو ما حاول حكم العسكر في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات دفع مصر إليها، ويكفي للرد على هؤلاء أن شيخ الأزهر الحالي المؤيد للانقلاب العسكري لم يجد ما ينصح به الشباب الذي تستفزه انتهاكات العسكر إلا الرجوع إلى كتاب أصدره المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين الأستاذ حسن الهضيبي عليه رحمة الله وهو في محبسه في الستينيات من القرن الماضي دفاعا عن الفكر الصحيح للإسلام وهو كتاب (دعاة لا قضاة).

رابعا: هوية العسكر الحديثة التي عبّر عنها قائدهم بعمله على تصحيح مسار الأمة الإسلامية وفكرها يعبّر عنها إعلامه ونظامه بتشويه أئمة المذاهب السنية وانتقاص القرآن نفسه لأن فيه سور لا تنفع لزماننا وتشويه صورة رسوله صلى الله عليه وسلم كالقول بأن محمد القرآن غير محمد السيرة، وتزداد الممارسات فحشا في دفع الشباب إلى العنف بانتخاب راقصة كأم مثالية للشعب المصري، والدعوة إلى جماهيرية أوائل الشهر القادم يخلع فيها النساء الحجاب، وطبقا لرؤية السفاح قائد الانقلاب عن الإسلام وتاريخ المسلمين الذي يريد تصحيحه، فقد تم إعتبار كفار قريش في كتب التعليم الجديدة أنهم مجرد معارضين للرسالة، وأصبح صلاح الدين الأيوبي الذي تصدى للحملة الصليبية على فلسطين والقدس إرهابيا فتم حذف سيرته من كتب التاريخ ولحق بنفس التهمة عقبة بن نافع الذي عبر البحر وأوصل الإسلام إلى الأندلس ليُمْنع من دراسته ومعرفة تاريخه، وتزداد الممارسات فحشا عندما يتم في احتفالية مدرسية حرق مجموعة من كتب الفكر الإسلامي لعلماء سابقين ومنهم شيخ الأزهر السابق عبد الحليم محمود، وتحت هذا القصف الفاجر يظل الهجوم على الجماعة لوقوفها أمام هذا الانهيار الفكري والأخلاقي، ولا تزعم أنها الوحيدة التي تقف في وجه هذا الهجوم، ولكنها وبقدر الله سبحانه ولأنها المستهدفة بالأساس ستظل ثابتة في موقعها بعد أن توارى وللأسف الشديد بسبب الخوف (وإن كان في بعضه العذر) عن المواجهة ممن يأكلون خبزهم من العمل له.

خامسا: يقولون أن رب ضارة نافعة، وهو ما ينطبق الآن على ما أحدثه الانقلاب من كشف لكثير من مواقف من يُقال عنهم أنهم صانعو الرأي العام العربي الملتحفين بالليبرالية وحقوق الإنسان وحقوق الشعوب، من أمثال الصحفي جهاد الخازن الذي لم يكتب مقالا واحدا في حياته يُعْطي الحرية لأي إنسان لاعتناق فكر جماعة الإخوان المسلمين، وواضح أن صبره قد نفذ بعد عشرين شهرا من مقاومة الانقلاب العسكري الذي دعمه في الكثير من كتاباته فقد كتب على تدوينة له مخاطبا صاحب الأخلاق الدمثة المهذب (!!) عبد الفتاح السيسي يقول له: (العنف لا يحارب بالأخلاق الحسنة .. وإنما بعنف مثله أو أكثر)أن  وينصحه للخروج من ورطته في حربه لأهل سيناء التي لا يعلم عن تفاصيلها الشعبالمصري شيئا باعتبارها أمورا عسكرية ويبدو أن الرجل قد وصله عن تداعياتها الكثير فيقول مواجها خطابه للسفاح: (لابد من إعطاء أهل المنطقة إنذارا محددا لمغادرتها ومن يبقى بعد ذلك يتم قتله دون أن يُسْأل عن هويته أو ماذا يفعل في منطقة محظورة) .. ورغم ذلك تُكال الاتهامات لجماعة الإخوان المسلمين.

قائمة المشهد المصري تطول والأيام تتوالى لتكشف عن هول أحداثها ومع ذلك فستظل الإجابة عن السؤال قائمة: هل الأزمة أزمة نظام .. أم أزمة جماعة؟.

 

تذكرة للصف

دروس من غزوة حنين

من المصارحة الجادة أن نقول أن تجربة تولي أحد إخواننا سدة الحكم في مصر وإن لم يحن وقت إصدار رؤية واضحة عنها وعن ملابساتها إلا أن بعض مشاعرنا أثنائها تحتاج إلى إعادة التذكرة بدرس من دروس الدعوة الأولى وفي وجود الرسول المختار محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عندما فتح الله سبحانه وتعالى على المسلمين مكة دون قتال ودخل النبي صلى الله عليه وسلم على ناقته محنيا رأسه الشريفة تواضعا لله سبحانه معلنا أنه يوم المرحمة، وظن بعض المسلمين بعدها أنهم قد ملكوا أسباب القوة حتى إذا اجتمعت صفوفهم في مواجهة فلول الشرك بواد بين مكة والطائف يُقال له حُنيْن قال البعض وقتها (لن نُغْلب اليوم من قلة) فكانت الواقعة في أول النهار عندما حمل فلول الشرك عليهم وولّى المسلمين مدبرين ونال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته (أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب) وارتفع صوت عمه العباس مناديا أصحاب بيعة الرضوان (يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة) فعاد الصف والتأم ونزل الوحي من السماء بقوله سبحانه وتعالى في سورة التوبة: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين .. ثم يتوب الله بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم).

ويقول الشهيد سيد قطب عندما تفيأ ظلال الآية:

إن معركة حنين التي يذكرها السياق هنا ليعرض نتائج الانشغال عن الله، والاعتماد على قوة غير قوته، لتكشف لنا عن حقيقة أخرى ضمنية. حقيقة القوى التي تعتمد عليها كل عقيدة. أن الكثرة العددية ليست بشيء، إنما هي القلة العارفة المتصلة الثابتة المتجردة للعقيدة. وإن الكثرة لتكون أحيانا سببا في الهزيمة، لأن بعض الداخلين فيها، التائهين في غمارها، ممن لم يدركوا حقيقة العقيدة التي ينساقون في تيارها، تتزلزل أقدامهم وترتجف في ساعة الشدة، فيشيعون الاضطراب والهزيمة في الصفوف، فوق ما تخدع الكثرة أصحابها فتجعلهم يتهاونون في توثيق صلتهم بالله، انشغالا بهذه الكثرة الظاهرة عن اليقظة لسر النصر في الحياة.

لقد قامت كل عقيدة بالصفوة المختارة، لا بالزبد الذي يذهب جفاءً، ولا بالهشيم الذي تذروه الرياح.

فيا أصحاب سورة البقرة ويا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ويا من بايع على التجرد والتضحية والثبات، ثقوا بالله وبوعد الله أن النصر آت قريب بإذن الله.