لا تثقوا بالولايات المتحدة 15

لا تثقوا بالولايات المتحدة :

(15) أمريكا قتلت (200000) مواطن

في غواتيمالا من أجل تعزيز الديمقراطية

د. حسين سرمك حسن

تمهيد :

-------

"الولايات المتحدة قتلت مئتي ألف مواطن في غواتيمالا من أجل تعزيز الديمقراطية" ! قد يبدو هذا العنوان غريبا وصادما لذهن السادة القرّاء ، وهو غريب وصادم بالفعل .. بل مذهل ولا يُصدّق . إذ كيف تقوم دولة بقتل إنسان من أجل حرّيته التي ستكفلها له الديمقراطية ؟ في هذا تناقض واضح ، فكيف إذا كان عدد البشر الذين قتلتهم تلك الدولة هم أكثر من 200000 مواطن ؟! لكن هذا هو السلوك المألوف لدولة الموت والخراب والوحشية .. دولة الشيطان على الكرة الأرضية : الولايات المتحدة الأمريكية . لكنني أستطيع الجزم - وقد تأكدتُ من ذلك تماما – أن الغالبية المطلقة من القرّاء العراقيين لا يعرفون هذه المأساة التي اجتاحت شعf غواتيمالا ، والجريمة الكبرى التي اقترفتها الولايات المتحدة بحقه . بل أن الكثير منهم لا يعرف سوى أن غواتيمالا دولة في أمريكا الجنوبية غير مشهورة كالبرازيل مثلا ، فما هو السبب الذي يجعل الولايات المتحدة تقتل مائتي ألف مواطن منها ؟! ليس هذا فحسب بل تُخرجها من التاريخ والحياة .. وتعيدها إلى العصور الوسطى !!

نبذة عن دولة غواتيمالا :

-----------------------

غواتيمالا (بالإسبانية: Guatemala) أو جمهورية غواتيمالا ، قلب الحضارة المايانية التي ازدهرت ما يقارب الألف سنة . وهي دولة تقع في أمريكا الوسطى، تحدّها المكسيك من الشمال والغرب، والمحيط الهادي في الجنوب الغربي، وبليز من الشمال الشرقي، والبحر الكاريبي إلى الشرق، وهندوراس والسلفادور جنوب شرقي البلاد. مساحتها 108,890 كيلومتر مربع، وتعداد سكانها قدره 13,276,517 نسمة. غزاها الإسبان عام 1524 وصارت قاعدة لهم للتوسع في أمريكا الوسطى، ثم نالت استقلالها عن إسبانيا في عام 1821، وانضمت إلى الإمبراطورية المكسيكية. ثم في الأول من تموز عام 1823 استقلت عن الامبراطورية المكسيكية . بعد أن أصبحت دولة مستقلة في حد ذاتها، حكمها مجموعة من الحكام المستبدين وبمساعدة من شركة الفواكه المتحدة.

ولأن مصيبة شعب غواتيمالا ستتحدّد بعاملين هما : الديكتاتورية وشركة يونايتد فروت ، وكلاهما تقف خلفهما الولايات المتحدة الأمريكية، فسوف نركّز على العاملين بصورة مترابطة ونكشف صلة الولايات المتحدة بالجريمة الكبرى التي سوف تقترفها أمريكا بحق هذا الشعب.

كالعادة ، ديكتاتور غواتيمالا صديق الولايات المتحدة :

---------------------------------------------------

كان الديكتاتور الجنرال "خورخي أوبيكو كاستانيدا" الصديق المفضل إلى قلب قادة الإدارة الأمريكية ، فقد كان أداة في يدها سلّمها مقدرات البلاد وثرواتها ، واشاعت سياساته الفقر والجوع والجهل والبؤس بشكل مريع . وكانت الجهة المسيطرة التي تدير سياسات البلاد هي (شركة الفاكهة المتحدة – يونايتد فروتس كومباني) التي كانت تسيطر على 42% من أراضي البلاد بعد أن طردت الفلاحين الصغار وتحوّلت إلى إمبراطورية اقتصادية تصدّر الفاكهة (خصوصا الموز) إلى أنحاء الكرة الأرضية عبر اسطول الشركة البحري !! لم تقتصر آثار الديكتاتورية العسكرية على قمع الحريات واحتكار الحياة السياسية فقط، بل امتدت إلى سياسات اقتصادية ساهمت في إفقار البلاد وتجريفها وبيع الأراضي للشركات العالمية وأبرزها “يونايتد فروتس” المملوكة وقتها لمجموعة من السياسيين الأمريكيين البارزين سوف نعرض للسيد القارىء من هم بعد قليل ليتعرّف على سفالة ودناءة رجال الإدارة الأمريكية في كل زمان ومكان . لقد تمتّعت الشركة بتسهيلات كبيرة ومارست عملها في ظل إعفاء ضريبي وجمركي كامل، واشترت السكك الحديدية، ثم امتلكت شركة الكهرباء والتليفون والتلغراف. وتحكّمت في الموانىء الرئيسية للبلاد. باختصار، احتكرت الشركة المتحدة للفواكه جواتيمالا كلّها، وصارت سيّداً بينما يعمل الشعب الغواتيمالي عبدًا عندها.

وقفة : ماذا يعني مصطلح "أمريكا الوسطى" ؟ :

---------------------------------------------

تكرّر - وسوف يتكرّر - في هذه الحلقات مصطلح أمريكا الوسطى ، فماذا يعني ؟ أمريكا الوسطى هي المنطقة الواقعة وسط الأمريكيتين. تمتد من المكسيك شمالاً إلى كولومبيا جنوباً.  دول أمريكا الوسطى هي: بليز وبنما وغواتيمالا والسلفادور وكوستاريكا ونيكاراجوا وهندوراس. وحسب تعريف الأمم المتحدة فإن أمريكا الوسطى تشمل المكسيك بالإضافة إلى الدول السابقة، بينما يستثني تعريف الاتحاد الأوروبي المكسيك وبليز من المنطقة.

في عام 1823، اتحدت غواتيمالا والسلفادور وكوستاريكا ونيكاراجوا وهندوراس فيما عُرف باسم جمهورية أمريكا الوسطى الفيدرالية، والتي لم تدم طويلاً وحُلّت عام 1840.

# ما هي شركة يونايتد فروتس ؟ :

---------------------------------

تأسست شركة يونايتد فروت في نهاية القرن التاسع عشر (عام 1899)، لتصبح واحدة من أقوى السلطات في أمريكا الوسطى ، وغلبت الأسبان أنفسهم باستخدام حيلهم. وسيطرت على دول ومقاطعات سُمّيت "جمهوريات الموز" مثل هندوراس وغواتيمالا وكوستاريكا وكولومبيا وغيرها. وقد امتدت احتكاراتها لتتجاوز غابات الموز ، وتشمل شركات الاتصالات والموانىء والسكك الحديدية والكهرباء وغيرها . والغريب أن الشركة كانت تمارس عملها في ظل إعفاء ضريبي وجمركي كامل كما قلنا. كانت الشركة مسؤولة عن مجازر عديدة في دول أمريكا الوسطى وأشهرها "مجزرة الموز" عام 1929 التي قُتل فيها أكثر من ألف عامل كولومبي ؛ مُتهمة بتمويل وتدريب وتسليح منظمات إرهابية في عدة دول في امريكا الوسطى . وبرغم الأدلة القاطعة يرفض القضاء الأمريكي النظر في ذلك أو تسليم مسؤوليها المتهمين بالإرهاب. كانت التسمية الشائعة بين الناس لهذه الشركة هو "الأخطبوط" لأنها تملك مساحات شاسعة من الأراضي على طول أمريكا اللاتينية، وأطرافها تمتد إلى جميع القصور الرئاسية، التي يحكمها في هذه المنطقة القادة العسكريون بدعم الولايات المتحدة الأميركية.

الشعب يتحرّك .. الولايات المتحدة تبدأ بالتآمر :

----------------------------------------------

وكما هو منطق الحياة، لم يستطع الشعب الغواتيمالي تحمّل القهر والظلم والجوع والفقر والطاغوت ، فبدأ بالتحرك ضد الديكتاتورية ومن يساندونها ، وتصاعد هذا التحرّك والتضحيات وسفك الدماء لينتهي بإسقاط الديكتاتور صديق الولايات المتحدة خورخي أوبيكو كاستانيدا الذي اضطر إلى الاستقالة من منصبه استجابة لموجة الاحتجاجات تلك، كما أُجبِر الجنرال البديل "خوان فريدريكو بونسي فايدس" – الذي تسلم السلطة الانتقالية من خورخي – في وقت لاحق على التنحي من منصبه في 20 أكتوبر 1944.

وفي أول انتخابات شعبية فاز أستاذ الجامعة المحترم "أريفالو برميجو" الذي أمضى 14 عاما في المنفى في الأرجنتين، بالرئاسة بنسبة 85%، فأعطى الأولوية لبناء نظام للرعاية الصحية وآخر للضمان الاجتماعي، وحقّق الكثير من المكاسب لققراء غواتيمالا. وكان أول رئيس منتخب ديمقراطياً في غواتيمالا ينهي فترة حكمه التي انتُخب لها بصورة كاملة . كانت هذه الفترة أيضاً هي بداية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، والتي كان لها تأثير كبير ليس على تاريخ غواتيمالا فحسب بل تاريخ أمريكا الجنوبية والعالم كلّه حيث كانت الولايات المتحدة تقود حلفاءها وتُسقط الأنظمة التي لا تواليها تحت شعار "مقاومة امبراطورية الشر ممثلة بالإتحاد السوفيتي" .

ثم تولّى بعده - وفي انتخابات ديمقراطية حرة عام 1950 - الرئيس "جاكوبو أربينز" .. وهنا بدأت الولايات المتحدة بنسج خيوط المأساة / الجريمة . لقد قام الرئيس أربينز بإصلاحات اجتماعية وسياسية هائلة منها توسيع مجال الحريات الفردية والنقابية والحزبية حتى أنه شمل الحزب الشيوعي الغواتيمالي بحرّية تشكيل الأحزاب. وعلى الرغم من أن محاولات الولايات المتحدة لإسقاط الحكم بدأت مع تولي الرئيس برميجو الحكم وبدء مرحلة الإصلاحات لصالح الشعب ، إلّأ أنها تحوّلت إلى انسعار هائج بعد أن اتخذ الرئيس أربينز القرار الخطير وعبر الخط الأحمر وذلك حين قام بإصدار قانون الإصلاح الزراعي الذي أعاد ووزّع به الأراضي على صغار الفلاحين الفقراء (كان 3% من السكان يمتلكون 70% من الأراضي الزراعية)، وانتزع الأراضي من شركة يونايتد فروتس بعد أن منحها تعويضات مناسبة . هنا جنّ جنون مالكي هذه الشركة الكبرى المتحكمة فبدأوا التخطيط ليس لإسقاط الرئيس أربينز بل وتصفية المقاومة الجماهيرية المناصرة له بما يتضمنه هذا من قتل وإبادة وتصفيات هي أمور لازمة للسياسة الأميركية .

رفعت الإدارة الأميركية وبتنفيذ من عملاء وكالة المخابرات المركزية الأميركية شعار "الخطر الشيوعي" الذي سوف يدمّر استقلال غواتيمالا ويُصادر الأراضي من الجميع ، ونفّذت وكالة المخابرات خطة حرب نفسية هائلة عبر راديو "صوت الحرّية" الذي كان يذيع البيانات الحماسية والمقابلات ونشر سلسلة من الشائعات لإرباك المواطنين وترويعهم من “الاختراق الأحمر” – أي الشيوعي – للبلاد، واتُهم الرئيس المنتخب أربينز بأنه يسعى لتسليم البلاد للسوفييت، خصوصًا بعد حصوله على صفقة أسلحة من تشيكوسلوفاكيا.

وكالعادة ترفع الولايات المتحدة شعارات سياسية عامّة في الظاهر من أجل غايات شيطانية في الباطن . فقد كان المبدأ الأساسي الذي يحكم مواقف الولايات المتحدة هو أن تستولي على ثروات الشعوب كاملة وتمصّ دماءها عبر شركاتها ، وأن الدولة التي تقاوم هذا التوجه تصبح "فيروس" شديد الأذى سوف ينقل العدوى إلى مناطق أخرى . هذا ما يسمّيه ساسة الولايات المتحدة مبدأ "التفّاحة الفاسدة" .

 # مبدأ "التفاحة الفاسدة" الأمريكي وغواتيمالا :

-----------------------------------------------

حذّر المخطّطون للسياسة الأمريكية منذ وزير الخارجية "دين اتشيسون" في أواخر الأربعينات وحتى اليوم من أن تفاحة فاسدة واحدة قد تُفسد الصندوق كله . إذن فخطر الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي قد ينتشر في العالم كله . وحتى ياخذ هذا المفهوم شكلاً أكثر اقناعا لدى العامة تحولت لغة الفاكهيين إلى لغة المقاهي واطلق المخططون عليه "نظرية الدومينو" كما يقول "تشومسكي". وأضافوا إلى ذلك تخويف العامّة من إبحار هوشي منه وأقرانه بالمراكب من فيتنام ليطرقوا موانىء كاليفورنيا .

في بعض الأحيان تم توضيح ذلك المفهوم بما لا يدع مجالا للشك . فعندما خططت الولايات المتحدة لقلب الحكومة الديمقراطية المُنتخبة في غواتيمالا عام 1954 أشار أحد المسؤولين في وزارة الخارجية إلى أن "غواتيمالا أصبحت تمثل خطرا متزايدا على استقرار هندوراس والسلفادور؛ إصلاحها الزراعي سلاح دعاية خطير، ويستميل برنامجها الواسع للرعاية الإجتماعية على حساب الطبقات العليا والمستثمرين الأجانب جيرانها في أمريكا الوسطى".

ما يهم الولايات المتحدة هو استقرار وتأمين مصالح الطبقات العليا والمستثمرين الأجانب . وأي نجاح اجتماعي واقتصادي خارج ذلك يمثل نموذجا خطرا يجب تدميره قبل انتقال عدواه . ولهذا السبب فأصغر واضعف وأفقر دولة هي أخطر "مثل طيب" إذا حققت نجاحها المستقل، ولهذا فيجب أن تُسحق بشراسة.

الساسة الأميركيون يبدأون التخطيط  للإنقلاب :

---------------------------------------------

أعطى الرئيس الأميركي "إيزنهاور" شارة البدء بالتحضير لإسقاط الرئيس أربنيز ، وكان وزير الخارجية الأمريكي "جون فوستر دالاس" هو الرجل الذي دبّر الانقلاب، وقد عُرف بأنه مقاتل متحمّس في الحرب الباردة.

أما الرأس المدبر للانقلاب فهو شقيقه "ألان فوستر دلاس"، مدير السي أي إيه وأحد المحاربين القدامى في العمليات السرية .

الشخص الذي حضّر للحملة الإعلامية هو العميل "إي هاورد هانت"، الذي اشتهر لاحقا بتورطه والحكم عليه بالسجن في فضيحة واترغيت.

وكان يجلس على قمة اليونايتد فروت "سام ساموراي"، الملقب برجل الموز، والذي بدأ أول مشروع له بتمويل انقلاب أطاح برئيس هندوراس عام 1924.

كان هدف الجميع هو الرئيس "جاكوبو أربينز" الذي صاروا يسمونه "جاكوبو الأحمر"، والذي يعرفه العالم باسم هاكوبو أربينز، رئيس غواتيمالا المنتخب، والذي ارتكب خطأ سياسيا قاتلا، كما قلنا، حين استولى على أراضي إحدى الشركات الأمريكية، ووزعها على الفلاحين، ليشعل نيران الحرب الباردة في أمريكا اللاتينية.

هنا، لا بُدّ أن سؤالاً سوف يثور في ذهن السيّد القاريء :

ما الذي جمع رجال السياسة برجال المال للتآمر على هذا الرجل وإسقاطه ؟

وسيكون الجواب مفاجئا للجميع .

رجال سياسة أمريكا هم رجال مالها :

------------------------------------

والجواب هو كالتالي :

كان الرئيس الأمريكي "إيزنهاور" من المساهمين في شركة يونايتد فروتس !

كان وزير الخارجية "جون فوستر دلاس"، وشقيقه مدير المخابرات المركزبة  "ألان فوستر دلاس"، قد قاما بأعمال قانونية لصالح يونايتد فروتس !!

كان مساعد وزير الخارجية للشؤون الأمريكية "جون مور كابوت"، يملك أسهما في اليونايتيد فروتس. وكان شقيقه "توماس مور كابوت" رئيسا للشركة عام 1948، كما أن قريبهما "هنري كابوت لودج"، السفير الأمريكي في هيئة الأمم المتحدة وقت تلك الأزمة، كان يستثمر أمواله أيضا في اليوناتيد فروتس.

سؤال إلى السادة القرّاء :

------------------------

هناك شخص آخر من مالكي شركة يونايتد فروتس التي أسقطت التجربة الديمقراطية في غواتيمالا أكثر خطرا ووحشية من كلّ هؤلاء .. فمن هو ؟ الجواب في نهاية المقالة .

# العشاء الأخير :

------------------

باستطاعة هانت تنفيذ العملية السرية، ولكن دالاس، يحتاج إلى شخص آخر في السفارة، يريد سفيرا مستهترا وشرساً لا يتبع القوانين. فقام بتعيين "جان بوريفوي"، وهو مقاتل آخر في الحرب الباردة. الذي لقبه رجال العصابات في غواتيمالا في آخر ظهور له، بـ "جزّار اليونان".

كان بوريفوي رجل عصابات، ولم يكن دبلوماسيا، وقد أرسلوه تحديدا لهذا السبب، كي يحضر لانقلاب ضد أربينز.

ولا شك أنه كان رجل عصابات، فقد كان يجول في كل مكان ومسدسه تحت سترته.

تحولت سفارة بوريفوي في غواتيمالا إلى مركز لإدارة الانقلاب، بعد أن استولت السي أي إيه على الطابق العلوي.

وصل بوريفوي إلى مدينة غواتيمالا في تشرين أول أكتوبر من عام 1953، فدعا الرئيس أربينز وزوجته إلى العشاء.

ناقش في المواضيع العامة، وبأسلوب حوار هادئ، عن خطر ترك الشيوعيين يتحكمون بالأشياء.

وفي لحظة ما، قال بوريفوي للرئيس أربينز ما يمثل خلاصة الموقف الأمريكي :

(سيدي الرئيس، المشكلة هنا ليست في شركة يونايتيد فروت، إذ يمكن أن نجعلها تخضع لمصادرة الأراضي، إذا ما طردت الشيوعيين، وجعلتهم خارجين عن القانون) .

دام العشاء ست ساعات. تميّز فيها الرئيس أربينز بالجرأة. كتب بوريفوي بعدها لرئيسه في واشنطن يقول أن مصير أربينز قد تحدّد.

فحسم الأخوة دلاس أمرهما للإطاحة بأربينز. وطلب ألان من هانت أن يبحث عن بديل للرئيس أربينز، رجل يمكن الاعتماد عليه. رجل يقبل به الهنود كواحد منهم. فكان الكولونيل "كاستيلو أرماس".

وفعلا كان أرماس هو المرشح الأفضل، فهو من عملاء وكالة المخابرات المركزية، وكان قد سبق له أن حاول الإطاحة بالحكومة الغواتيمالية الديمقراطية عام 1950، وفشل ، فألقي القبض عليه وسجن ، وبعد فراره من السجن، أقام معسكرا في هندوراس، ومن هناك أخذت المساعدات تأتيه من وكالة المخابرات ومن أعداء غواتيمالا المتضررين من إجراءات أربينز الثورية الاقتصادية والاجتماعية.

# إسقاط الحكومة الديمقراطية للحفاظ على الديمقراطية :

-------------------------------------------------------

غزت إذاعة "صوت الحرّية - لا فوس دي ليبيرسيون" موجات غواتيمالا الهوائية، وهي تحمل خطابا مناهضا للشيوعية ولأربينز. تتهم أربينز بالخيانة العظمى ضد البلد، وتتهم مستشاريه بالخيانة، لأنهم باعوا البلاد لأسيادهم في الاتحاد السوفيتي.

أسقطت الطائرات الأمريكية آلافاً من هذه المنشورات فوق مدن غواتيمالا، وهي تدعو للنضال في سبيل الحرية والعدالة في البلاد، والكفاح ضد الإلحاد والاضطهاد والأكاذيب الشيوعية. وكان البيان الذي أطلق إشارة الإنقلاب العسكري هو البيان :

(إلى أبناء غواتيمالا، إلى أبناء غواتيمالا، إذاعة ليبيراسيون..

انطلقت قوة مهاجمة كبيرة من الحدود، من الأفضل أن يخرج الجيش من البلد، من الأفضل أن يخرج أربينز من البلد، وعلى الجميع أن يحتمي).

وقعت المعركة الحقيقية في مدينة غواتيمالا العاصمة (معناها أرض الأشجار بسبب كثافة الغابات) التي أشعلت فيها السي أي إيه معركة نفسية ضد أربينز. قامت الطائرات الأمريكية وعلى متنها رجال السي أي إيه بقصف العاصمة مما أدّى إلى سقوط المئات من الضحايا.

وفي تمام التاسعة من مساء السابع والعشرين من حزيران يونيو استقال أربينز بمشيئته للحفاظ على دماء الشعب.

# يا عيني على "جيفارا" :

---------------------------

حافظ الرئيس "أربينز" على شموخه برغم الهزيمة. فبعد أن اعتقلوه، تم نفيه مع جميع أنصاره إلى المكسيك. وكان معه على الطريق، ثوري شاب، وطبيب أرجنتيني، كان شاهدا على استسلام أربينز، وعلى ظلم وسفالة ووحشية الولايات المتحدة ، هذا الشاب كان اسمه "إرنيستو تشي جيفارا".

في نيسان أبريل من عام 1961، أطلقت السي أي إيه بمباركة الرئيس الأمريكي "جون كنيدي" هجومها على خليج الخنازير (بالمناسبة قاده "هاورد  هانت" الذي أسقط حكومة غواتيمالا وذكرناه قبل قليل). ولكن الخوف لم يتملك كاسترو بسهولة. فأقسم أنه لن يتراجع أبدا، ولن يرحل كما فعل أربينز في منتصف الليل.

تعززت قناعات كاسترو بدعم من ذاك الشاب الثوري الذي كان شاهدا على هزيمة أربينز. وهو المناضل العظيم "إرنيستو تشي غيفارا". فتحولت كوبا إلى فشل ذريع أصاب السي أي إيه. النجاح السهل الذي تحقق في عملية غواتيمالا لم يتكرر أبدا.

# نائب الرئيس الأمريكي "ريتشارد نيكسون" يكذب علناً :

---------------------------------------------------------

زار نائب الرئيس الأمريكي آنذاك "ريتشارد نيكسون" غواتيمالا في شباط فبراير من عام 1955 ليقدم التهاني لقادة الإنقلاب العسكري بنفسه . تصوّر نائب رئيس الدولة الأعظم التي تتشدّق بالديمقراطية يهنىء مجموعة من الجنرالات والمرتزقة على إسقاطهم حكومة ديمقراطية منتخبة من قبل الشعب، وفوق ذلك يكذب علنا في شرح أسباب الإنقلاب وفي القول إن الشعب الغواتيمالي هو الذي قام بإسقاط الحكومة . هل هناك شعب ديمقراطي يستخدم القوة المسلحة ؟ أليس قاعدة الديمقراطية وحكمها الأوحد كما في الولايات المتحدة هي صناديق الإقتراع ؟ هل إذا لم تعجب الحكومة الأمريكية الشعب الأمريكي يقوم بإسقاطها عن طريق الجنرالات بقوة السلاح ويقوم نائب رئيس غواتيمالا بزيارة الولايات المتحدة لتقديم التهنئة للإنقلابيين؟ وإذا كان الشعب قادرا على إسقاط الحكومة لماذا قامت الطائرات الأميركية بقصف غواتيمالا ؟ فأي سافل وكذّاب نائب الرئيس الأمريكي هذا ؟!

# نيكسون:

هذه أول مرة في تاريخ العالم، يتم فيها الإطاحة بحكومة شيوعية على يد الشعب، لهذا نهنئك ونهنئ الشعب الغواتيمالي على ما قدّمه من دعم.

(هنّأ نيكسون كاستيلو أرماس، رئيس غواتيمالا لإطاحته بحكم شيوعي. لاحظ سيّدي القارىء أن نائب الرئيس الديمقراطي يصافح جنرالاً هارباً من السجن ومتهما سابقا بانقلاب عسكري على حكومة ديمقراطية منتخبة ).

# نيكسون:

ما يعني أن حكم أربينز، لم يكن حكما غواتيماليا، بل حكم أجنبي يسيرونه من الخارج.

# كاستيلو : تماما!

أي أنه محكوم من موسكو.

وهذا يحدث لأول مرة في أمريكا.

# نيكسون:

لأول مرة في أمريكا.

ما لم يقله نيكسون هو أن كاستيلو أرماس كان مجنداً لدى السي أي إيه. وأن جيشه يُموّل ويُدرّب على يد السي أي إيه. وأن كاستيلو أرماس لم يقد انتفاضة شعبية ضد حكومة أربينز، بل كان الرأس المدبر لانقلاب عسكرية دبرته السي أي إيه.

(لقد لبّت برامج الحكومة المنتخبة الاجتماعية والاقتصادية تطلّعات العمال والفلاحين، ولهذا لا يستطيع مالكو الأراضي ولا يونايتد فروت كومباني توقع أي تعاطف من الرأي العام الغواتيمالي). هذه - حسب تشومسكي - هي خلاصة الاستخبارات الأمريكية التي قدّمتها للإدارة الأمريكية آنذاك، وهي خلفية الإنقلاب العسكري الذي حدث عام 1954 . فهل يعقل أن نائب الرئيس هذا الكذّاب السافل لم يقرأ تقرير وكالته للمخابرات المركزية ؟!

 

بعد الإنقلاب "فرق الموت" تجتاح غواتيمالا لأربعين عاماً؛ تعليق النساء من أقدامهن بعد قطع أثدائهن وتقشير بشرتهن:

------------------------------------------------------------

كانت الخطوة الثانية للولايات المتحدة بعد إسقاط الحكومة الديمقراطية المنتخبة في غواتيمالا ونفي رئيسها ، هو تأديب الجماهير وقمعها من جانب ، وقتلها هي وقياداتها وبصورة وحشية من جانب آخر . وهنا جاء دور "فرق الموت" التي درّبتها الولايات المتحدة ، والتي كانت لا تكتفي بقتل الناس بل تمثّل بجثثهم بشراسة، وتنفّذ واجباتها تحت أشراف ومساندة وتغطية الجيش الغواتيمالي الذي صاغته وسلّحته الولايات المتحدة ودرّبت ضبّاطه في مدرسة الأمريكيتين الشهيرة وضمنت ولاءهم (للمعلومات عن هذه المدرسة الخطيرة وعن ستراتيجية الولايات المتحدة في تحويل جيوش أمريكا اللاتينية إلى الأمن الداخلي راجع الحلقات السابقة رجاء) .

يقول المؤرّخ والمفكر "نعوم تشومسكي" :

(لم يكن عمل القوات التي حرّكناها في نيكاراغوا أو عمل وكلائنا الإرهابيين في السلفادور أو غواتيمالا ، لم يكن عملهم هو القتل العادي ، ولكن كان بصفة رئيسية القسوة والتعذيب السادي : تعليق النساء من أقدامهن بعد قطع أثدائهن وتقشير بشرتهن .. قطع رؤوس الناس وتعليقها على خوازيق.. رطم الأطفال بالحوائط . الفكرة هي سحق الوطنية التي تدعو للإستقلال ، والتي قد تجلب الديمقراطية الحقيقية . خذ على سبيل المثال دولة "لاوس" في الستينات لا أحد يعرفها او سمع بها ما أن بدأت بإصلاحات بسيطة حتى سُحقت بسيل متدفق من القنابل بسرية تامة مسحتهم من مجال العمليات . لم يكن لهم أدنى صلة بالحرب التي اشعلتها أمريكا في فيتنام) (سنعالج مأساة لاوس في حلقة مستقلة).

ويواصل تشومسكي وصف ما حصل بعد إسقاط الحكومة الديمقراطية المُنتخبة بالقول :

(أطيح بالرئيس المُنتخب ديمقراطيا واستُبدِل بدكتاتور يميني عسكري وحشي هو الكولونيل " كارلوس كاستيلو آرماس ". وفي الحال أبطلت الحكومة الجديدة عمليات الإصلاح الزراعي، وألغت الضرائب المفروضة على شركة يونايتد فروت، و أزالت الإقتراع السري، وألقت بالآلاف من منتقدي كاستيلو في السجون .. فانفجرت حرب أهلية في عام 1980 ، واستمرت أربعين عاما ، كان نتيجتها 200000 قتيل ، وتشريد مليون شخص إلى الدول الأخرى، وتدمير 450 قرية ، وقتل عشرات الألوف من القياديين والطلبة الناشطين والأساتذة والعمال والإخصائيين على يد فرق الموت التي درّبها ذوو القبعات الخضر الأمريكية) .

عودة العسكريين الديكتاتوريين أصدقاء الولايات المتحدة الديمقراطية؛ السفّاح "ريوس مونت" حبيب رؤساء الولايات المتحدة :

------------------------------------------------------

بعد إسقاط الحكومة الديمقراطية المُنتخبة من قبل الولايات المتحدة عاد العسكريون الديكتاتوريون إلى الحكم ، ليحظوا بدعم وصداقة الولايات المتحدة المدافعة عن الديمقراطية !! اجتاحت غواتيمالا أربعة انقلابات عسكرية بعد الإنقلاب على الرئيس أربينز ، وسلسلة من الحروب الأهلية استمرت لأكثر من 40 عامًا بفعل تمويل "السي آي إيه" للمتمردين المسلحين وما يُعرف بفرق الموت، وظهرت التنظيمات المسلحة التي قاتلت ضد قوات الجيش الغواتيمالي وأبرزها جيش الفقراء ومنظمة الشعب المسلحة وقوات المتمردين المسلحة وحزب العمل الغواتيمالي، والتي نجحت في التوحد عام 1982 تحت اسم الاتحاد الثوري الوطني الغواتيمالي.

وكل طاغية ينقلب على جماعته يحظى بتأييد ومساندة وعون الولايات المتحدة الفوري ودعمها العلني والسرّي، بشرط أن يستمر في تسخير الجيش لجماية عمل "فرق الموت" في مذابحها الوحشية المستمرة . واحد من هؤلاء الطغاة هو الجنرال " الديكتاتور "ريوس مونت"  الذي تسلّم الحكم في غواتيمالا بين عامي 1982 و1983 بعد انقلاب عسكري، وحكم البلاد 15 شهرا ، ثم صار رئيساً للكونغرس الغواتيمالي في عام 1995.

في عهده نفّذ الجيش سياسة "الأرض المحروقة" بحق سكان البلاد الأصليين بتهمة انهم كانوا يساندون الميلشيات اليسارية .

هو المسؤول عن كافة الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت بحق السكان المدنيين في عهده . وقد أُدين من قبل المحكمة الدستورية في غواتيمالا في العاشر من ايار عام عام 2013 بتهمة القتل العمد بحق (1771) شخصا من اقلية الهنود مايا إكسيل، عندما كان في السلطة بين عامي 1982 و 1983.

وخلال المحاكمة سردت نساء من السكان الأصليين وقائع جرائم الاغتصاب التي ارتكبها بحقهن عسكريون في الجيش.

هذا السفّاح كان الصديق المفضَل لواسنطن التي ايّدت أعماله الوحشية في "التطهير العرقي". كان التطهير العرقي قد أصبح مصدرا للفخر في عهد الرئيس الأمريكي الديمقراطي "رونالد ريغان" . لقد أشاد ريغان بالسفّاح "ريوس مونت" ووصفه "بأنه الرجل المتفاني المخلص كل الإخلاص في خدمة الديمقراطية" . وكان (ريغان) قد عانق (ريوس مونت) خلال "مجازر الهايلاند" وقال له ضاحكاً : "لقد حصلت على (ضربة في الرأس) بسبب خرقك لحقوق الانسان".

(في مجزرة قرية هايلاند تم قتل 226 مواطنا بريئا، وفي مجازر (الهايلاند) ككل قام الجيش بتدمير 662 قرية (حسب إحصاءات الجيش ذاته)) .

نجح مونت في أوائل الثمانينات في ذبح عشرات الآلاف أغلبهم هنود يعيشون في المرتفعات ، مع ما لا يعد ولا يُحصى من ضحايا التعذيب والاغتصاب . وأبيدت مناطق كاملة عن بكرة أبيها . وهذا النمط من السفّاحين الوحوش هم أصدقاء رؤساء الولايات المتحدة الديمقراطيين.

ويقول الصحفي "ألان نيرن - Allan Nairn" :

قال لي الجنرال "روس مونت" إن الـ CIA لديها عملاء داخل الـ "جي-2". وحينما سألتهُ – وهو المؤمن بعقوبة الإعدام - إن كان يعتقد أنهُ يستحق عقوبة الاعدام على ما قام بهِ من مجازر، قفزَ واقفاً وصاح "نعم يمكنكم محاكمتي وإعدامي.." وأضاف : "ولكن يجب أن يحاكم معي المسؤلون الأمريكان.. وبالذات الرئيس السابق رونالد ريغان".

يقول "تشومسكي" :

(هناك حملة الإبادة التي شنهـا الرئيس شديد التدين، و "المولود من جديد" مثل الرئيس بوش، "ريوس مونت" ضد السكان الأصليين، وراح ضحيتها عشرات الألوف من البشر. وكان لهذا الرئيس قول شهير يردده باستمرار كثير من دعاة الإصلاح في أميركا الوسطى، كان يقول : " إن المسيحي الحقيقي هو الذي يمسك الإنجيل في يد والمدفع الرشاش في اليد الأخرى ". وكان يحظى بتأييد إدارة الرئيس رونالد ريغان) .

معلومة إضافية مهمة جدا عن السفّاح ريوس مونت :

---------------------------------------------------

قلتُ قبل قليل إنّ الولايات المتحدة – وحسب مبدأ وضعه الرئيس الأمريكي "جون كنيدي" بالسيطرة على حكومات أمريكا اللاتينية من خلال تدريب ضباطها في مدرسة الأمريكيتين العسكرية ذات المناهج الإرهابية التي تُدرّب الضباط على الاغتيالات وقمع المعارضة وتصفية القيادات والمقاومة المضادة ، وتحويل الجيوش إلى واجبات الأمن الداخلي لتصفية القوى الشعبية المعارضة . وقد خرّجت هذه المدرسة أكثر من 16 ألف عسكري . والسفّاح الجنرال "ريوس مونت" كان من ضمن الضباط الذين تدرّبوا في هذه المدرسة (تحوّل اسم المدرسة الآن إلى معهد العالم الغربي للتعاون الأمني ونقلت من بنما إلى فورت بيينغ في الولايات المتحدة). ومن ألقاب هذه المدرسة هي "مدرسة الإغتيالات" و "مدرسة الإنقلابات" ، وهي تدرّب على ستراتيجيات مكافحة العصيان والحرب النفسية وطرق التعذيب والإغتيال، وقد أعطي مونت مقرّراً "خاصّاً" عن الأسلحة الثقيلة والمحرّكات والآليات !.

مجموع من قتلهم ريوس مونت هو 70000 شخص .

من يثبت أن الولايات المتحدة هي السبب في قتل الـ 200000 إنسان في غواتيمالا ؟ :

--------------------------------------------------------------------

قد يثور سؤال مشروع في ذهن السادة القرّاء وهو : من يثبت أنّ الولايات المتحدة الأمريكية كانت السبب في الإطاحة بالتجربة الديمقراطية في غواتيمالا بالقصف العسكري وإقحام البلاد في حرب داخلية ساندت فيها الجيش الغواتيمالي وفرق الموت لتكون النتيجة المرعبة المتمثلة في قتل 200000  ؟ قد يكون هذا نوع من الإتهام المُضلّل .

# تشكّلت لجنة دولية للتحقيق باسم"لجنة توضيح التاريخ" برئاسة قاضٍ من ألمانيا أقرّت بوقوع حرب إبادة قامت بها الحكومة ضد شعب "المايا" . وجاء في التقرير أن واشنطن قدمت مساعدات مباشرة وغير مباشرة لحكومة غواتيمالا خلال هذه الحرب التي راح ضحيتها 200.000 شخص و626 قرية هندية.

# أفرجت الوايات المتحدة في عام 1999 عن وثائق سرّية تتضمن التفاصيل السرية لتورط الـ (سي آي إيه) في الانقلاب الذي أطاح بالزعيم الغواتيمالي "أربينز" ، وتسليح المتمردين والقوات شبه العسكرية "فرق الموت"، وفرض البحرية الأمريكية حصارًا على الساحل الغواتيمالي، بل واستخدام الطائرات في القصف الجوي على العاصمة غواتيمالا سيتي.

# تقرير الأمم المتحدة عن غواتيمالا شهير اكد أن الحكومة الأميركية والشركات مارست الضغط للإبقاء على البنية الإقتصادية عتيقة الطراز في البلاد. فجعل بنية المجتمع والاقتصاد بنية إرهاب وقمع وحشي لأغلبية السكان . احتجت واشنطن بالقول هذا خطأ وليس عادلا .

# الإعتراف سيّد الأدلة :

في عام 1999، وخلال رحلة قـام بها الرئيس الأميركي "بيل كلينتون" إلى أميركا الوسطى ، إعتذر لشعوب الإقليم قائلاً ."من المهم للولايات المتحدة أن أعلن من هنا - وبكل وضوح - أن الدعم الذي قدمناه للجيش ووحدات الاستخبارات التي اشتركت في عمليات العنف والقمع واسع النطاق كان خطأ، ويجب أن لا تعود الولايات المتحدة إلى ارتكاب مثل هذا الخطأ".

وهذه سمة سلوكية حقيرة في سلوك الولايات المتحدة اسلياسي : يقتلون شعبا كاملا ، ويدمّرون أمّة .. ثم يخرج رئيس لديه لعبة انتخابية فـ "يعترف" و "يعتذر" . هذا السلوك المتناقض الغريب في الظاهر ، وكون السياسي الأميركي سافل و "متصوّف" مؤمن في الوقت نفسه (كثير من الساسة القتلة الأميركيون في السلطة يتحوّلون إلى حمائم للسلام بعد الخروج منها مثل القاتل "جيمي كارتر" الذي كان يقدّم المساعدات العسكرية لحكومة غواتيمالا العسكرية الديكتاتورية ثم صار الآن مدافعا عن حقوق الإنسان) ، هذه السمات ترجع جذورها إلى تربة النشأة التاريخية للولايات المتحدة الأميركية ، والتركيبة النفسية والاجتماعية للشعب الأمريكي خصوصا في مرحلة التأسيس وسنعالجها في حلقة مستقلة) .

# ذكرت (منظمة العفو الدولية) بأن هناك (برنامج حكومي للجريمة السياسية) نفذهُ الجيش الغواتيمالي منذ عام 1978، والذي أدّى إلى مقتل أكثر من 110,000 مواطن مدني. وكانت مسؤلية ذلك تقع على جهاز الـ (2 – G) ووحدة خاصة أخرى أصغر منها تدعى ألـ (ارشيفوArchivo) وهما معروفتان بشكلٍ واسع للغواتيماليين بأنهما تمثلان "عقل إرهاب الدولة". ولهذين الجهازين حوالي الـ 2000 عميل منتشرين في القواعد العسكرية الغواتيمالية، وتدير الـ (جي-2) من خلالهم عمليات الاعتقال والخطف والتعذيب والاغتيالات السياسية واختفاء المعارضين.

ما علاقة ذلك بالولايات المتحدة ؟

يقول الصحفي "ألان نيرن" إن وكالة المخابرات المركزية تشارك بوحدة فعالة مع الجيش الغواتيمالي، وتشارك في عمليات التعذيب ضمن شبكة مختصة بذلك، ولديها مقرّات ضمن وحدات الجيش الغواتيمالي، حيث أسهمت تلك الوحدة بتعذيب وقتل آلاف المدنيين الغواتيماليين. وشبكة التعذيب هذهِ والتي يرمز لها بـ (G-2 ) تتخذُ من الطابق الرابع للقصر الوطني الغواتيمالي مقراً لها. وتمتد علاقة وكالة المخابرات المركزية بهذهِ الشبكة منذُ الستينات من القرن الماضي، حيث العملاء السرّيون لوكالة المخابرات المركزية بتسليح وتدريب والإشراف على هذه الشبكة. وتقوم السفارة الأمريكية في غواتيمالا بتمويل هؤلاء العملاء الذين يعيشون في منازل (آمنة) وفنادق مُخصّصة لسكنِهِم. ويعمل هؤلاء الوكلاء السريون من خلال مجموعة مُختارة من الضباط الغواتيماليين الذين يستلمون - سرّاً - مرتبات خاصة من وكالة المخابرات الأمريكية، وهم متورطون شخصياً بالجرائم السياسية وبعمليات الاغتيال للسياسيين طيلة العقود الماضية.

كما ذكرَ أحد عملاء الـ (جي-2) السابقين أن القاعدة التي كان يعمل فيها والتي تسمى (Huehuetenango) كان فيها أجهزة للصدمات الكهربائية ومحرقة خاصة للجثث ومفارم للجثث كي يتم التخلّص ممن يُقتلون في الاعتقال والتعذيب.

ما هو حال غواتيمالا .. وهل أخرجتها الولايات المتحدة من الحياة والتاريخ وأعادتها إلى العصور الوسطى ؟

--------------------------------------------------------------------

سوف نتحدّث عن حال غواتيمالا البائس ضمن حلقة أشمل عنوانها "التنمية الأميركية المميتة" لكن يهمنا في هذه الوقفة أن نقدّم شواهد بسيطة لكن بليغة في تعبيرها عن الخراب الذي ألحقته الوايات المتحدة بشعب غواتيمالا والذي "اعتذرت" عنه مؤخراً :

# متوسط الأعمار الحالي في غواتيمالا كارثي وغير معقول فهو (19.4) سنة، بواقع (18.9) سنة للذكور و (20) سنة للإناث. يُعد هذا المعدل الوسطي الأدنى في نصف الكرة الغربي، ويقارن بدول في وسط أفريقيا وأفغانستان. يدل هذا الوسطي على تدني طول حياة الإنسان المتوقعة بسبب سوء التغذية وتدهور المستوى الصحي والجوع والفقر .

# غالبية أطفال الشوارع المشرّدين في العاصمة غواتيمالا سيتي والبالغ عددهم 5000 طفل يعملون في الدعارة. وفي أيلول 1990 عثر على ثلاثة جثث لأطفال فقئت عيونهم وصملت آذانهم كتحذير لكل من يصدف أن يكون شاهد عيان على الإساءة للأطفال من قبل قوات الأمن النظامية وغير النظامية.

# ومن الإساءات الموجّهة لعمال المناجم في غواتيمالا، هو وجود عدد من "دور الحضانة" التي تتولى مهمة " تسمين " المواليد الجدد الذين يتم إرسالهم لاحقا إلى الخارج لتباع أعضاؤهم في الولايات المتحدة وأرووبا . وأبلغ بروفيسور اللاهوت الأب "بازويل" الأمم المتحدة بأن 75% من جثث الأطفال المقتولين تكشف عن استئصال أعضاء داخلية، وأن أعين معظم الجثث تكون مستأصلة أيضا.

هل انتهى كل شيء عن دور الولايات المتحدة المخزي في غواتيمالا ؟

كلّا ، هناك قوائم الإعدام !

------------------------------------------------------------------

كلّا . هناك الكثير الكثير مما يضيق به هذا المجال ، ولكن من الأفعال المخزية المهمة للولايات المتحدة هو تسليم وكالة المخابرات المركزية لأجهزة الأمن الغواتيمالية قوائم بأسماء المناضلين والقادة اليساريين الغواتيماليين لغرض اعتقالهم وتعذيبهم وقتلهم. وهناك قوائم مماثلة سلمتها الوكالة لقيادة حزب البعث في العراق عام 1963 ، وأخرى لأجهزة ديكتاتور إندونيسيا "سوهارتو" عام 1965 . ستكون لنا معها وقفة مقبلة بإذن الله . 

لا تنسى جورج بوش خويه السؤال ؟؟؟؟؟؟؟؟

# شهادة حق للمقارنة بين معسكرين :

-------------------------------------

قال الصحفي الغواتيمالي "جوليو جودوي" من صحيفة "لا إيبوكا" الشهيرة بعد أن فر من وطنه إثر تفجير صحيفته :

(الحكومة المعينة من قبل موسكو في براغ تهين الإصلاحيين وتذلهم ، أما وم فتقتلهم .. لقد صار ما عشناه في بلادنا مجازر حقيقية حصدت أرواح 150000 إنسان (بشهادة منظمة العفو الدولية) وذلك من خلال برنامج حكومي منظم للقتل السياسي الجماعي) . ومن ثم فسر جودوي عدم خوف الطلاب الذين تمردوا في براغ بإيمانهم أن الشرطة لن تطلق النار عليهم . لكن في غواتيمالا – ناهيك عن السلفادور فإن الجيش درب ليقتل الجميع . كان الجيش في دول الهيمنة السوفياتية بعيدا عن السايسة وخاضعا للحكومة أماهنا فهو فرق للموت) .

وقال أيضاً :

"لن يكون هناك أمل ، ولا ذكر للحقيقة في المنطقة ، مادام الأمريكيون مُصرّون على أسلوبهم" .

# لمحة ختامية من "تشومسكي" :

----------------------------------

قامت إدارة ايزنهاور بإسقاط التجربة الديمقراطية الأولى والوحيدة التي استمرت عشر سنوات في غواتيمالا عام 1954 عبر انقلاب عسكري فاتحةً الطريق لفترة من العنف الوحشي والتعذيب الذي دعمته ادارة كنيدي وهي التي بنت عقيدة الأمن القومي، ليس في غواتيمالا فحسب ، بل في كل نصف الكرة الغربي ونفذها "ماكنمارا" الخسيس . العنف تصاعد بقوة والإدارة تعلن أن حقوق الإنسان في تحسن ليس في غواتيمالا وإنما في السفادور وهندوراس . في نفس اليوم تم إغلاق معمل شركة "فيليبس – فان هيوستن" الذي ينتج أجهزة للتصدير، وهو معمل أُنشِئت فيه نقابة عمّال. قال رئيس نقابة التجارة الأمريكية الشمالية : "هذه رسالة للعمال في غواتيمالا، إذا قاتلتم من أجل العدالة ومن أجل نقابة فلن نجدد عقدكم .. سوف نذهب" . وهي رسالة للعمال في كل مكان . وهي انتهاك للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تَضْمُن المادة 23 منه حق تشكيل النقابات من حيث المبدأ . ضغوط الولايات المتحدة امتدت 45 عاما من إرهاب الدولة"....

ونتيجتها أن أُخرجت غواتيمالا من التاريخ والحياة على أيدي الولايات المتحدة الأميركية الديمقراطية المسالمة.

# تذكير وإجابة :

------------------

في الختام، أذكّر السادة القرّاء بالسؤال الذي طرحته عليهم في البداية وتركت إجابته إلى الختام، وهو : من هي الشخصية الأمريكية السياسية الأخطر التي تملك شركة يونايتد فروت التي حطّمت تجربة غواتيمالا الديمقراطية ودمّرت شعبها بالإضافة إلى الشخصيات المجرمة الأخرى التي ذكرناها ؟

والجواب :

إنّه المجرم "جورج بوش الأول" قاتل الأطفال كما وصفه الراحل العظيم محمد مهدي الجواهري في قصيدته ، والذي تحوّل – مع الرئيس بيل كلنتون - بعد تركه السلطة، من سافل قاتل إلى نصير لضحايا الإعصار تسونامي المساكين !

وهي تدعم الثورة الشعبية في كوستاريكا في ذلك الوقت أي أن غواتيمالا "فيروس" . السفارة الأمريكية إنها تهدد السلادور وهندوراس وإصلاحها الزراعي سلاح دعاية قوي ..

بدأ حصار اقتصادي مزق اقتصاد غواتيمالا وتوقيف السفن في امياه الدولية لتشجيع الجيش لتولي السلطة ..

ملاحظة عن هذه الحلقات :

-------------------------

هذه الحلقات تحمل بعض الآراء والتحليلات الشخصية ، لكن أغلب ما فيها من معلومات تاريخية واقتصادية وسياسية مُعدّ ومُقتبس ومُلخّص عن عشرات المصادر من مواقع إنترنت ومقالات ودراسات وموسوعات وصحف وكتب خصوصاً الكتب التالية : ثلاثة عشر كتاباً للمفكّر نعوم تشومسكي هي (الربح فوق الشعب، الغزو مستمر 501، طموحات امبريالية، الهيمنة أو البقاء، ماذا يريد العم سام؟، النظام الدولي الجديد والقديم، السيطرة على الإعلام، الدول المارقة، الدول الفاشلة، ردع الديمقراطية، أشياء لن تسمع عنها ابداً،11/9) ، كتاب أمريكا المُستبدة لمايكل موردانت ، كتابا جان بركنس : التاريخ السري للامبراطورية الأمريكية ويوميات سفّاح اقتصادي ، أمريكا والعالم د. رأفت الشيخ، تاريخ الولايات المتحدة د. محمود النيرب، الولايات المتحدة طليعة الإنحطاط لروجيه غارودي، نهب الفقراء جون ميدلي، الإنسان والفلسفة المادية وكتاب الفردوس الأرضي د. عبد الوهاب المسيري، وغيرها الكثير.