من آثار ظاهرة النص القصيرِ التَّفْجيرُ المُباغِتُ، أي أن يجده متلقوه كأنه لبنةُ جدارٍ انقضَّ، فاستقلَّتْ بنفسها وفيها ما يكفيها، ولكنها لا تفتأ تطلب الجدار وموضعها منه؛ لعلها تزداد فيه بأخواتها كما كانت فتزدان، أو لعله يشتد بالتمام كما كان فيزدهي بالبيان- فيفهموا منها وَجْهًا من الفهم، ولكنهم يتشوَّفون إلى ما علَّقتهم به، ويذهبون في تقديره كل مذهب!

هذا نص قصير يعبر عن خيانة الفاسدين والطامعين، بسبع وعشرين كلمة، في تسع جمل، على ثلاثة أبيات:

وَابنُ الْمَرَاغَةِ مِنْ قَدِيمٍ يدَّعِي نَسَبَ الْجَمَاعَةِ بِئْسَ الِاسْمُ المُدَّعِي

قَبِلَتْهُ وَاطَّرَحَتْهُ مِنْ تَعْدَادِهَا يَا لَيْتَهَا قَطَعَتْهُ قَبْلَ الْمَرْتَعِ

سَكَتَتْ عَلَيْهِ وَخَانَها فَتَخَاوَنَا وَتَفَاخَرَ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَقْطَعِ

أما أبيات هذا النص القصير الثلاثة، فكامليّة الأوزان التامة الصحيحة الأعاريض المضمرة الأضرب، عينيّة القوافي المكسورة المجردة الموصولة بالياء:

1 وَابنُ الْمَرَا--- دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،

2 غَةِ مِنْ قَدِيـ--- دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

3 ـمٍ يدَّعِي--- دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،

4 نَسَبَ الْجَمَا--- دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

5 عَةِ بِئْسَ الِاسْـ--- دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

6 ـمُ المُدَّعِي--- دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة، والقافية: دن ددن، مُدَّعِي.

7 قَبِلَتْهُ وَاطْـ--- دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

8 ـطَرَحَتْهُ مِنْ--- دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

9 تَعْدَادِهَا--- دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،

10 يَا لَيْتَهَا--- دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،

11 قَطَعَتْهُ قَبْـ--- دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

12 ـلَ الْمَرْتَعِ--- دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة، والقافية: دن ددن، مَرْتَعِ.

13 سَكَتَتْ عَلَيْـ--- دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

14 ـهِ وَخَانَها--- دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

15 فَتَخَاوَنَا--- دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

16 وَتَفَاخَرَ الشْـ--- دددن ددن، متفاعلن، سالمة،

17 ـشَيْطَانُ عِنْـ--- دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة،

18 ـدَ الْمَقْطَعِ--- دن دن ددن، متْفاعلن، مضمرة، والقافية: دن ددن، مَقْطَعِ.

إن بحر الكامل نَديد بحر الطويل عند القدماء، وأحظى منه عند المحدثين، وما ذاك إلا أنه أشبه منه عجلةً وصخبًا بالحياة الحديثة؛ لكأن تفعيلاته خيول يسابق بعضها بعضا -وتفعيلات الطويل جِمالٌ مُتَساندة!- تتنازع طَرَفَيْ رسالة هذا النص القصير التي تفضح استعجال خائني الأوطان: هروب الفاسد من اختبار الدخول، وسكوت الطامع على دخوله دون اختبار! وما التفاعيل السالمة -وهي عشر- إلا صورة ذلك الهروب، ولا التفاعيل المضمرة –وهي ثمان- إلا صورة هذا السكوت؛ يستعجل الفاسد الدخول قبل أن يفتضح فساده، ويستكتمه الطامع في جدواه! وفي أواخر الأبيات الثلاثة تأتلف القافية العينية المكسورة المجردة والتفعيلة المضمرة، على إثبات ذلك العار!

وأما جمل هذا النص القصير الثلاث -ومتوسط كلمات الواحدة منها "3"- فقد تَنَمَّطَتْ كلٌّ منها بمنزلة أركانها من التعريف والتنكير، على النحو الآتي:

1 وَابنُ الْمَرَاغَةِ مِنْ قَدِيمٍ يدَّعِي نَسَبَ الْجَمَاعَةِ--- (و) مضاف إلى علم بالغلبة وجملة فعلية مضارعية،

2 بِئْسَ الِاسْمُ المُدَّعِي--- جملة فعلية ماضوية ومعرف بأل،

3 قَبِلَتْهُ--- ماض وضمير غيبة،

4 وَاطَّرَحَتْهُ مِنْ تَعْدَادِهَا--- (و) ماض وضمير غيبة،

5 يَا لَيْتَهَا قَطَعَتْهُ قَبْلَ الْمَرْتَعِ--- (يا ليت) ضمير غيبة وجملة ماضوية،

6 سَكَتَتْ عَلَيْهِ--- ماض وضمير غيبة،

7 وَخَانَها--- (و) ماض وضمير غيبة،

8 فَتَخَاوَنَا--- (ف) ماض وضمير غيبة،

9 وَتَفَاخَرَ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَقْطَعِ--- (و) ماض ومعرف بأل.

لقد غلب على الجمل من داخلها نمط "ماض وضمير غيبة"، فانتشر خُفيةً مثلما ينتشر الطاعون، وعلى أطرافها وقف ما سواه من أنماط ينظر ماذا يفعل، بين حكيم صامت، وخصيم شامت! 

أ- العتبة الثانية: (خلاصة على شكل فتوى)

وهي عبارة عن خلاصة علمية لفقه الموضوع على شكل فتوى، كانت إجابة على سؤال من فتاة مسلمة لباب الإفتاء في جريدة الدستور الأردنية تقول فيه، أنا فتاة ملتزمة بالصلاة والواجبات المفروضة، ولكني استمع للأغاني، فما حكم ذلك؟

فكان الجواب:

(1- اختلف الفقهاء القدماء والمحدثون في موضوع  السماع والغناء، فمنهم من أباحه بشروط، ومنهم من حرمه، وقد جاء في كتاب الفتاوى للشيخ محمود شلتوت الحنفي ما نصه ( الفقهاء اتفقوا على إباحة السماع في إثارة الشوق إلى الحج والعمرة وفي تحريض الغزاة على القتال وفي مناسبات السرور المألوف: كالعيد والعرس واستقبال الغائب).

2- وذهب بعض الفقهاء على أن (ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله، ولا في معقولهما من القياس والاستدلال ما يقتضي تحريم مجرد سماع الأصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات) وقد تعقبوا جميع أدلة القائلين بالحرمة وقالوا: (أنه  لا يصح منها شيء).

3- وذكر بعض الفقهاء (أن الأحاديث التي استدل بها القائلون بالتحريم على فرض صحتها، مقيدة بذكر الملاهي وذكر الخمر والفسوق والفجور) وعليه فسماع الأغاني والآلات ذات النغمات الجميلة، لا يمكن أن يحرم باعتباره صوت آله أو صوت إنسان أو صوت حيوان، وإنما يحرم إذا استعين به على محرم، أو اتخذ وسيلة إلى محرم، أو ألهى عن واجب)(5) . والله أعلم.

4- ويقاس على ذلك الأناشيد التي تعبر عن فرح المسلمين بانتصار الإسلام ودعوته أو  تحرض على نصرته، كما حصل في استقبال الرسول r في يوم هجرته، ومن نفي دخول الرسول r من منطقة ثنيات الوداع، وقع في فخ التحقيق التاريخي لحدث الهجرة، لكنه نسي الجانب الفني والبلاغي في النشيد، الذي شبه قدوم الرسول r ودخوله إلى المدينة بظهور البدر الطالع من منطقة ثنيات الوداع في نشيد الإسلام الخالد الذي مطلعه:

طلع البدر علينا     من ثنيات الوداع

لأن الرسول يطرد ظلام الجاهلية والوثنية، ويضيء طريق الهدى للسالكين كما يطرد البدر الطالع من ثنيات الوداع الظلمة ويضيء  طريق المسافرين والطراق والعابرين.

وهذا النشيد له تميز خاص في ذاكرة المسلم، لأنه يربطه بالهجرة وانتصار الدعوة على من حاول حصارها وخنقها في مكة.

وهو في مصطلح الأدب يمثل (الأدب الشعبي) الذي لا ينتمي إلى قائل محدد، لأن الذي صاغه هو الوجدان الجماعي للأمة، فهو لا ينسب إلى شاعر معين، وإنما ينسب إلى الأمة ومن خلال الروح الجماعية لها، وانظر إليه في بداياته فهو لا يتجاوز الأربعة من الأبيات، ولكنه الآن يزيد على عشرات الأبيات، فمن أين أتت هذه الزيادة؟ نعم ومع توالي الأيام كانت الأجيال تضيف في المناسبات المختلفة من قرائحها ما يعبر عن حبها لهذه الدعوة وعلى منوال ما سبق ووزنه، حتى أصبح نشيداً شعبيا تشارك فيه أجيال الأمة، وتبقى الزيادة فيه مفتوحة إلى يوم الدين.

بـ- عتبة التناصح والشورى في قضايا الأمة

إن التناصح في الأمور الضرورية، من قضايا الفقه الذي يبصر الأمة بأمور دينها ودنياها، بما يصلح أحوالها ومعاشها أمر ضروري، لما فيه من الفائدة العظمى، وفي هذا الموضوع بالذات، أقيمت ندوات في الصحف، في سنوات سابقة، واستعمل فيها أسلوب طرح آراء المعارضين والمؤيدين من خلال فهمهم للنصوص، ومع ذلك بقي القراء في حيرة من أمرهم، لأنهم لم يقتنعوا بأي من الرأيين على إطلاقه، ثم نام الاهتمام بالموضوع أو القضية، فظل المنشدون يمارسون الفقه الفردي للإنشاد والذي لا يلقي بالاً لوضوح الأمور، وكأن الأمة أصبحت زاهدة في القضايا التي تؤصل للمسلم فقه أمور حياته بما يتناسب مع شريعة دينه.

وها نحن نعيد فتح هذا الملف الذي أغلقه الإهمال والنسيان، أو قل ما يحيط بالأمة من الأمور العظام، وفي إحياء طرح هذا الموضوع من جديد، يطيب لنا أن نسجل الملاحظات التالية:

1- إن فقهاء الطرفين المحرمين للموسيقى والمؤيدين لحلها، نلاحظ أنهم لم يستشيروا أهل الشعر ونقاد الأدب، لعل عندهم ما ينير الطريق لفقه أفضل، ولكنها إشكالية صعبه نشأت في عصور التخلف، أدت إلى الإنفصال بين دعاة الأدب ودعاة الفقه، حين أصبح عندنا فقهاء لا يتأدبون وأدباء لا يتفقهون.

2- وقد نسي هؤلاء الفقهاء أن النصوص المنقولة سوف تطبق على نصوص شعرية، وهم لم يطلبوا العون من أهل الأدب في كيفية تنزيل معاني التحليل والتحريم في هذه الأحاديث على الشعر، بصفتهم من أهل التخصص الذين يعرفون أسرار صنعتهم.

3- ولذلك بقي الأمر غامضاً، يجعل الكثير من الناس غير قادرين على اتخاذ القرار الذي يرونه مناسبا لفقه هذا الأمر، وربما دفعوا الناس إلى إهمال القضية وعدم المبالاة بها.

*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )

clip_image002_d3a56.jpg

 

clip_image004_dd08e.jpg

بانغي/ ماليزيا: نُوقشت في قسم اللغة الانجليزية وآدابها في كليّة العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة في جامعة UKM الحكومية الماليزيّة

Universiti Kebangsaan Malaysia in Bangi, Malaysia)) في مدينة "بانغي" الماليزية أطروحة دكتوراة بعنوان "مواجهة العنف الأسري في روايات سناء الشعلان"

Waging War against Domestic Violence in Selected Works of Sanaa Shalan))

التي قدّمها الباحث والأكاديميّ الأردنيّ سيف الدّين لطفي الغمّاز

(Saif AL Deen Lutfi AL Gammaz)  لنيل درجة الدّكتوراة في اللّغة الإنجليزيّة وآدابها، وقد تكّونت لجنة المناقشة التي أجازت الأطروحة ووهبت الدّرجة للباحث من كلّ من: البروفيسورة روزي سوليزا هاشم مشرفة ومناقشة، وعضويّة كلّ من: د.  زالينا محمد، ود. الرُبيعة علي.

يقول سيف الدّين لطفي الغمار عن هذه الأطروحة: تركّز الدّراسة على سناء الشعلان، إحدى الروائيات الأردنيّات المعاصرات اللّواتي أنتجن الكثير من الرّوايات، وأكثر من ثمانية وعشرين مجموعة من القصص القصيرة.

تسلط الشعلان في رواياتها المختارة الضّوء على ظاهرة العنف ضدّ المرأة، إلى جانب افتقار المرأة لحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية في المجتمع الأبويّ.

وتهدف الدّراسة إلى التّعرّف على أزمة العنف ضدّ المرأة في الأردن ، وتوضّح أنّ العنف ضدّ المرأة هو جزء لا يتجزّأ من المجتمع، ويغذيه سوء فهم تعاليم الإسلام كما تمثّله صور الشعلان لثلاثة أشكال سائدة من العنف ضدّ المرأة الأردنيّة في من ذكوريّة المجتمع المسيطر.

تمثل الأعمال الأدبية المختارة  "السّقوط في الشّمس 2004"، و"أعشقني 2012 " تصويرها لمعاناة المرأة الأردنيّة من العنف الجسديّ والنّفسيّ، توضح أشكال العنف هذه طبيعة العلاقة بين الرّجل والمرأة التي تشكّل بنية الإطار المفاهيميّ للدّراسة. 

ويستند إلى مفاهيم قابلة للتطبيق وذات صلة من كلّ من النّظريّات الغربيّة، مثل: النّظريّة النّسويّ الذي يتضمّن إلقاء اللّوم على الضّحايا والعجز المكتسب، والمفاهيم العربية، مثل المرأة المكسورة، والمرأة المهانة، والمرأة المعذّبة لإظهار حجم العنف ضدّ المرأة في الأعمال المختارة، وهو انعكاس لواقع المشكلة في الأردن.

تشير النّتائج إلى أنّ أزمة العنف ضدّ المرأة متجذّرة ثقافيّاً وممكّنة اجتماعيّاً في سيطرة يسيطر عليها الذّكور مع سوء فهم التّعاليم الإسلاميّة المتعلّقة بمعاملة المرأة. و  تجدر الإشارة إلى أن هذه النّتائج تؤكّد أنّه على الرّغم من أنّ الأردن تحكمه المبادئ الإسلاميّة، إلا أنّ هناك تفاوتاً في تطبيق التّعاليم الإسلاميّة في أنماط حياة الرّجال والنّساء".

تقع الرّسالة في سبعة فصول، وهي: المقدّمة، والدّراسات الأدبيّة السّابقة، والإطار النّظريّ والمنهجيّة، وتحليل المرأة المكسورة في الرّوايات، وتحليل المرأة المهانة في الرّوايات، وتحليل المرأة المعذّبة في الرّوايات، والخاتمة والنّتائج.

وتعدّ هذه الأطروحة من الأطروحات المهمّة التي دُرست ونوقشت في الجامعات الماليزيّة عن الأدب الأردنيّ لاسيما النّسويّ منه، كما هي أوّل أطروحة دكتوراه متخصّصة عن أدب الأديبة د. سناء الشعلان تُدرس في الجامعات الماليزيّة، فضلاً عن دراسات بحثيّة متخصّصة وترجمات أدبيّة، كما أنّ هذه الأطروحة تعرض قضايا جدليّة وجريئة في أدب الشّعلان الذي يتميّز بالعمق والجرأة في الرّؤية والطّرح، والخروج الذّكي عن النّسق والاتباع والتّقليد.

كانت الدراما العربية في هذا الموسم (رمضان 2020) زاخرة بالمناقشة والتحليل والأخذ والرد، واستهلك بعضها كمسلسل "أم هارون" ومسلسل "مخرج 7" الكثير من المناقشات، لكنني لم أحفل بذينك العملين لا من قريب ولا من بعيد، تابعت مقابلة تلفزيونية منشورة لسيدة يهودية قادمة من البصرة في العراق إلى البحرين، تدعى "أم جان"، ويقال إن "أم هارون" هي تجسيد لشخصيتها. المقابلة التلفزيونية كانت عام 1977، وبدت فيها "أم جان" امرأة منكسرة ذات تاريخ طويل من المعاناة، وكان عمرها حين بُثت المقابلة ثلاثة وسبعين عاما، كل ما كانت تتمناه أن يكون لها بيت لا تدفع أجرته، وسيكون بإمكان من يمنحها إياه استعادته بعد أن تموت. كما أثارتني حلقة من برنامج "أبعاد" الذي تبثه قناة "الغد" الفضائية، وحاور مقدم البرنامج مجموعة من الضيوف لمناقشة الدراما العربية وأبعاد التطبيع فيها، وأتوا بطبيعة الحال على مسلسل "أم هارون" ومسلسل "مخرج 7"، وتم مناقشة أسئلة حول التطبيع مع كيان الاحتلال في المسلسلين وبعض مظاهره على أرض الواقع. خرجت من الحلقة بلا شيء محدد، وبقي الأمر غائما.

قبل الخروج من هذين المسلسلين في هذه الجردة من الحساب، أيقنت أن الدور كبير للدراما في التمهيد أو الترسيخ للأفكار السياسية، لاسيما أن المسلسلين عرضا على قنوات (MBC) السعودية، إذ ليس غريبا والحالة السياسية العربية المتردية أن يتم إنتاج مثل هذه المسلسلات وعرضها، وأن يكون لها مشاهدون كثيرون. ربحت فيه الممثلة الكويتية حياة الفهد بطلة مسلسل "أم هارون" الكثير من التعليقات السلبية وزادت فاتورتها في الخسارة بعد مواقفها من الوافدين ومطالبتها بترحيل المصابين منهم بكورونا وطردهم خارج الكويت، وربح ناصر القصبي بطل مسلسل "مخرج 7" أيضاً الكثير من الأعداء.

إن هذه الحالة السياسية والمناخ المعادي للفلسطيني والحق في أرضه هي السبب في أن المشاهد العربي لم يعد يرى أعمالا درامية تناصر قضيته المصيرية في الحرية والخلاص من المحتل، على غرار مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، وقد أشار كل من الروائي إبراهيم نصر الله والدكتور وليد سيف في حوارات معهما إلى رفض كثير من المنتجين العرب تنفيذ سيناريوهات لمسلسلات تدعم القضية الفلسطينية، واحد من هذه السيناريوهات كما أشار نصر الله مأخوذ عن إحدى رواياته. في ظل هذه الأجواء ستنتعش الدراما التطبيعية أو على الأقل الساكتة عن الحق، لتكون هي الشيطان الأخرس، مهما كانت متقنة فنياً.

هذان كانا أبرز مسلسلين أخذا أبعادا سياسية من المناقشة، ولكن ثمة مسلسلات أخرى ربما كان الالتفات إليها أقل، على اعتبار أن السياسة أكثر طفوّا على السطح، وتستحوذ السياسة على التفكير الجماهيري والوعي القومي العربي. مع أن هذا الوعي أكثر عرضة للتزييف والاستهبال، ولم يعد مؤثرا إلا في شتائم الفيسبوك وتويتر، كأنه أخذ يؤسس لمصطلحات جديد من مثل "الجهاد الإلكتروني" أو "المقاومة الافتراضية".

المسلسلات الأخرى كانت بالنسبة لي أهم في مناقشة الناحيتين التربوية والاجتماعية، فمسلسل "شغف" كان عملا دراميا مثيرا جدا، وخاصة في الناحية الثقافية، إذ يكتشف المشاهد العربي أن ثمة استغلالا في الأوساط الثقافية، إذ يقع أصحاب المواهب الحقيقية في فخ الاستغلال، فالفنان "طارق" تستولي على موهبته امرأتان، فتستغلانه أبشع استغلال، لتستحوذ الأولى "امتثال" على جهوده عن طيب خاطر وهو على قيد الحياة، فيكتب مقالات وأبحاثا لتنشرها باسمها، بما في ذلك رسالة "الماجستير". والشيء نفسه تقوم به دانة فتستولي على أعمال طارق ومجموعة من لوحاته واسكتشاته بعد وفاته لتوقعها باسمها لتغدو فنانة معروفة في كل الأوساط الفنية والثقافية العربية. ثم تعثر دانة على فنان آخر يدعى فيصل، إنسان بسيط مختلف عن طارق الذي ظهر بتعدد علاقاته النسائية، يمتاز فيصل هذا بأنه فنان موهوب، تستغله دانة فيرسم لوحاته وتوقعها باسمها. وهكذا تتم في الأوساط الفنية سرقت مجهود الآخرين تحت دعاوي الحبّ والشغف والمال.

هذا المسلسل مهم جدا وهو يضيء على قضية التزوير الثقافي وصناعة الأسماء الكبيرة، وقد شاعت مثل هذه القضايا كثيرا في أوساط المثقفين العرب، فثمة نساء جميلات أو ذات ثراء يصبحن مثقفات ومعروفات؛ لأن ثمة مثقفا أو كاتبا يقوم بكتابة الكتب وتأليفها، وما على تلك النساء إلا وضع أسمائهن على تلك الأعمال. إن المساءلة الأخلاقية هنا تقع على الطرفين معا، وقد التبس الأمر، فأيهما هو الجاني وأيهما هو المجني عليه. أظن أن كليهما مسؤول عن هذا الفعل، بل ربما الكاتب الحقيقي هو المجرم الحقيقي وليس الطرف الثاني، وخاصة في حالة فيصل، أو حالة طارق وهو على قيد الحياة.

لقد غدت الأوساط الثقافية والفنية والأكاديمية تعاني من عمليات تزوير حقيقية، وانتشرت فضائح كبيرة في هذه الأوساط، لأطروحات علمية وأبحاثٍ وكتب وروايات لم يكتبها إلا أشخاص آخرون لتسجل بأسماء نساء جميلات عن طيب خاطر، كنّ على استعداد لدفع ثمن تلك الأعمال، إما مالا أو "ممارسة جنس" أو علاقات مصلحية آنية، تدفع فيها المرأة جسدها أو مالها أو الاثنين معا مقابل قصيدة أو مقال أو رواية أو أطروحة علمية، وفي السنوات الأخيرة ظهر في الإعلام الكثير من تلك الفضائح، وتم سحب جوائز وألقاب جامعية وسحب شهادات وعضويات من روابط ومنتديات واتحادات فنية وأدبية. وكل ذلك يتم تحت باب مغرٍ هو "الشغف"، فكأن هذا الشغف في الفن والأدب يؤهل الواقعين تحت تأثيره ليكونوا لصوصاً ومثقفين مزيفيين.

ثمة مسلسلات أخرى خليجية وعربية يرتفع فيها مستوى العنف كثيرا، وزادت حالات القتل فيها بطريقة مثيرة للشفقة الفنية، من مثل مسلسل "هيا وبناتها"، و"الكون في كفة"، ومسلسل "البرنس"، فقد كان القتل فيها سهلا للغاية، وغابت الدولة وهي التي من المفترض أن تكون حارسة لأمن المجتمع، ليصل المشاهد إلى قناعة أنه لا حاجة للعربي لأن تكون له دولة ترعى شؤونه، ولا أجهزة أمنية تسهر على راحته، فباستطاعة أي فرد أن يقوم بأي عمل من قتل وسلب وتجارة مخدرات ولا تتم محاسبته، وكأن الفرد هو نفسه مكلف بالبحث عن حقه وإحقاق الحق والعدالة. لم يكن ظهور رموز الدولة في تلك المسلسلات سوى أشباح لإكمال المشاهد، وسرعان ما يختفي أثرها.

لم يكن مفهوم الدولة هو الغائب عن فلسفة هذه الأعمال وأفكار كتابها، بل فكرة العدالة ذاتها، فقد عملت تلك المسلسلات على تحقيق نوع من العدالة المتوهمة التي تحوم في فكر البطل ليحققها على هواه، وكأنه ينفذ العدالة الإلهية، ونسي المؤلفون أن عدالة الله تختلف عن عدالة البشر. هنا ظهر أنه لا حاجة للعدل الإلهي، فالعدل فقط هو بيد من ظُلم وباستطاعته الانتقام لنفسه. لا أقترح بديلا بالطبع، ولكن الأمر لم يكن مقنعا ألبتة.

لقد وقعت تلك الأعمال التي حفلت بحالات العنف والقتل والشر في مآزق فنية لافتة، فكيف يتحرك الشر على مدى 29 حلقة ونصف، ويتقلص الخير في مدة نصف ساعة أو أقل؟ فهل هذه النصف ساعة كفيلة بمحو الأثر السيئ للعنف في نفسية المشاهد، وتصحيح مساره؟ لقد لفت انتباهي أن الشر ذو عقلية حافلة بالتفاصيل المتقنة بينما حالات الخير تتم بعجالة ودون أسباب عقلية ومصادفات مبررة فنيا، لقد استولى الشر كل الشر على التفكير بينما جاء الخير كالقدر الذي لا بد منه لينهي "الحفلة الدرامية". إن مثل هذه الأعمال يعزز في العقلية العربية أن أصل الإنسان الشر، وكأنها جاءت لتؤكد أفكار الفلاسفة الذين لا يرون في الإنسان إلا أنه وحش ضارٍ، وإلا كيف سيفسر المشاهد أن فردا واحدا خيّرا يجابه مجموعة من الأخوة الأشرار كما هو الحال في مسلسل "البرنس"؟

عدا هذه الدراما التعيسة كان هناك برنامج "رامز مجنون رسمي"، هذا البرنامج البائس جدا، وغير المسلي، ولا يقوم إلا على إهانة الضيوف وابتزازهم بطريقة مُهينة، وكل ذلك تحت حجة واهية تُدعى الفن، ولكنّ رامزاً هذا ليس وحده هو المجنون، بل ربما كان ضيوفه أكثر جنونا منه، ويستحقون منه ما لاقوا من تعنيف وإهانات ومقالب غير سعيدة ولا لذيذة، فهل كان المال الذي سيأخذه كل ضيف أهم من "هيبة" الفنان بوصفه شخصية عامة، لقد أهان رامز وضيوفه الفن ورسائله ووسائله على حد سواء، وصار الطرفان واقعيْن تحت طائلة المساءلة الأخلاقية والقانونية.

إن لهذا البرنامج أبعاداً تربوية غاية في الخطورة عدا ما فيه من عنف واستغلال واستهبال وتهريج مقيت، إذ إنه يساهم بوعي، أو ربما بغير وعي، بتقويض القيم الاجتماعية والتربوية، وأهمها الاحترام المتبادل بين الناس. فكيف يتوقع الفلاسفة والمفكرون والساسة أن يكون مستقبل المواطن العربي وهو يتربّى يوميا على هذه الأعمال الهابطة التي ستظل تعاد على مدار السنة، ليستطيع من فاته الحضور أن يحظى بمشاهدتها؟

بعد كل ذلك فإنه لمن الغباء أن يسأل التربويون والمفكرون والفلاسفة عن أسباب تفشي العنف في المدارس والجامعات والأُسَر في المجتمعات العربية، بل يجب التفكير على نحو أكثر صرامة بأن تكون تلك المسلسلات والبرامج تحت إشراف تربويين وفلاسفة وسياسيين إن أرادوا الخير لهذه المجتمعات، فبدلا من أن تصبح الدراما أداة لتعليم العنف واستسهاله تصبح أداة للتهذيب وإراحة النفس من متاعبها. ألا يكفي المواطن العربي المغلوب على أمره ما يعانيه من مكابدة وضغط أعصاب في الحياة ومتاعب الحصول على لقمة عيشه لتأتي الدراما لتزيد من أعبائه النفسية؟ حتّى في الدراما لا يجد راحته، فأيّة قسوة أشد من هذا الذي جرى أيها الدراميون؟ فالرحمة حلوة والله!

clip_image002_efa25.jpg

ها أنذا أبدأ بالكتابة عن شاعر، مسكون بهاجس العودة والأمل، جمع بين البيئتين: الأردنيّة والفلسطينيّة، لذا يهمّنا أن نشير منذ الآن إلى أنّ عبد الله رضوان ولد سنة 1949 في مدينة أريحا(1)، وهي مدينة فلسطينيّة، وتعدّ أقدم مدن العالم، وتقع في الضّفة الغربيّة، بالقرب من الحدود الأردنيّة.

تلقّى جزءًا من تعليمه الابتدائيّ، غير أنّ مقامه فيها لم يطل كثيرًا، فارق وطنه مكرهًا، وهذا ما دعاه أن يعيش لاجئًا في مخيم الكرامة في الشّونة الجنوبيّة الأردنيّة(2).

وفي الأردن، أكمل تعليمه إلى أن حصل على شهادة الدّراسة الجامعيّة، وله أكثر من ثلاثين عملًا أدبيًّا ونقديًّا، نذكر منها على سبيل الذّكر لا الحصر: "خطوط على لافتة الوطن"، "وأمّا أنا فلا أخلع الوطن"، وهما ديوانا شعر، و"أسئلة الرّواية الأردنيّة" وهو كتاب نقدي، و"القدس" وهي مسرحيّة شعريّة، وغير ذلك.

ولعلّ من المناسب أن أشير إلى أنّ حنين عبد الله رضوان إلى الوطن لم يكن يفارقه، وشوقه إلى مسقط رأسه ظلّ يشدّه، ولم يكن الوطن بكلّ ما يتضمنّه من معانٍ عاطفيّة ووجدانيّة بالمناسبة التي يمكن أن يغفل عنها عبد الله رضوان في شعره. والجدير بالذّكر أيضًا أنّه توفي في 13 آذار، سنة 2015م، في الزّرقاء. والآن، الذي نحن بصدد الوقوف عند الكلّيات وبيان ما فيها من نقاط جماليّة ضمن ذوقنا وحدود أفقنا وتفكيرنا، هي الثلاثيّة الشّعريّة الموسومة بـ "غراب أزرق".

غراب أزرق

يحمل هذا العنوان، المكوّن من كلمتين، كما هو ظاهر، مخالفة، حيث يضع الغراب واللون الأزرق في موقع غير موقعهما التّقليدي المعتاد، ومن المعروف طبعًا أنّ الغراب يتميّز باللون الأسود القاتم، وفي هذا العنوان عدّة دلالات، إذ إنّ اللون الأزرق يصنّف ضمن الألوان الباردة، وفي ظنّي أنه لون محبوب، كونه لون السّماء والبحر والطّبيعة، لذلك كثيرًا ما يبعث في النّفس الرّاحة والثّقة والطّمأنينة، السّيطرة، الصّفاء، السّلام، الهدوء، الحرّية، في مقابل ذلك، فإنّ الغراب يغلب عليه اللون الأسود، وإذا ما عدنا إلى الأدبيّات الثقافيّة، فإننا نجد أنّ الغراب يحمل دلالة سلبيّة، يترافق مع الشرّ، والموت، والاكتئاب، ورمز التّشاؤم والنّحس، إلى غير ذلك من الصّفات، وهذه صفات لازمة ومقترنة اقترانًا سلبيًا في الوعي الجمعي، لا يمكن إنكاره.

وفي ضوء ذلك، يتحوّل اللون عند عبد الله رضوان من دلالته السّلبيّة إلى دلالة إيجابيّة، وهي ثنائيّة تشير إلى تمثلات الذّات الشّاعرة المستمدّة فيما يبدو من المنفى والاغتراب، وما دام الأمر كذلك، فبدهي أنّ الغراب هنا يمثّل البُعد بكلّ ما يحمله من قسوة وألم وقهر، والأزرق يمثّل الوطن القريب من الوجدان والذّاكرة.

إنّ المتصفّح للثلاثيّة الشّعريّة الموسومة بـ"غراب أزرق"، ليلمس وعيًا وطنيًّا عاليًا لدى الشّاعر، وحسًّا اغترابيًا حزينًا طاغيًا في الوقت نفسه، يتضافر بعضه مع بعض، حيث يقول: 

"من رقصةِ النّارِ

أمضي إلى الشّمسِ ممتلئًا حنطةً

لأصوغَ هوايْ

كما شاءت اللغةُ البكر

حيث خطايَ شذايْ

وحلمي بكايْ

وما خلته وطنًا

صار منفايْ"

ظهر الوطن "البديل" في صورة منفّرة تبعث على الخوف والحزن، مما يشي بقلق الشّاعر وحاجته إلى الطمأنينة التي تخلصه من وجع الاغتراب، ذلك هو منطق النّص، وقد أفاد الشّاعر هنا من مفردات الاغتراب، على نحو ما نراه في: "أمضي، خطاي، بكاي، منفاي"، وقام بتوظيفها في شعره؛ لإعطاء مزيد من دلالات الحزن حول الحال الّذي وصل إليه، حال اليأس والضّياع والخوف من كلّ شيء، خذ مثلًا قوله: 

"أنا وطنٌ، 

خنجرٌ، لعنةٌ، لُغةٌ، دمعةٌ، وردةٌ

أنحني أنحني

لأقيم طقوسَ انتحاري"

إنّ المقطع الشّعري مشحون إلى حدّ التّخمة بمفردات تئن بالوجع والحزن والغربة، وإنّ عبدالله رضوان مترع بالشقاء والألم، ومسكون بهاجس القلق والخوف من الحاضر والمستقبل، لذلك حاول عبثًا في نصوصه الشّعريّة الإفلات من ربقة الاغتراب عن الوطن، الذي يجثم على صدره، عبر طاقة الحلم اليوتوبي، وعبر التّصورات الذّهنية الحالمة، وتوظيف المرأة كبديل ومعادل موضوعي للوطن.

وعلى الرّغم من ذلك، إلاّ أنّ نصوصه الشعرية لا تخلو من بعد تشاؤمي يبعث على الأسى والحزن، من هنا راح الشّاعر يصوّر باهتمام شديد حالات الصّراع القاسية التي يعانيها في مقطع مشحون بحنين طاغٍ إلى الوطن "فلسطين"، إذ يقول:

"دعوني أُرَتِّلُ في عَبَقِ الحلمِ

ما قد يكون لنا وطنًا

وأسمّيه فلسطين"

ولعلنا لا نصادر على شيء إذا أشرنا إلى ما ينطوي عليه الوطن/ فلسطين في المقطع السّابق من امتزاج الأمل بالألم والفرح بالدّموع، وعلى الرّغم من كلّ المحاولات الاستعماريّة لإلغاء انتماء الفلسطيني إلى وطنه وأرضه، إلاّ أنّ عبد الله رضوان كواحد من الفلسطينيين ظلّ محافظًا على انتمائه، ومهما اغترب الإنسان، فإنّه يبقى منشدًّا ومأسورًا للمكان الأوّل، والمثال الآتي شاهد على انتماء عبد الله رضوان لوطنه، إذ يبث لواعج آلامه وأشواقه إلى وطنه في قصيدة "قلبي يورطني دائمًا"، مصوّرًا حبّه إلى وطنه، حيث يقول:

"لا حبَّ في الحب إن لم يكن

وطنا.."

وعلى ضوء ذلك يتماهى الوطن عند عبد الله رضوان مع المرأة تماهيًا حدّ الاندغام والانصهار، إذ يقول في قصيدة "شذى ونبيذ وصباح بعيد":

"لا أنت أنت 

ولا وطن لك أوفيكْ

فاشرب نبيذ الغواية

تأتي القصيدة فيكْ"

هكذا يحقق الشّاعر ذاته التّامّة باتّحاده الماهي بذات الوطن. وعن معاناة التّشرد كثيرًا ما عبّر عبد الله رضوان عن ألمه وحزنه لبعده عن الوطن، يئن تحت سياط الغربة، ولعلّ قصيدة "وجع الناي" تمثّل بصدق معاناة الشّاعر، وشعوره العميق في الاغتراب والاستلاب، يقول:

كأني أدمنتُ جرحي

وأرّختُ بوحي

بلا وطن أو صديق

كأنّي الغريق"

من هذا المنطلق، يصطدم القارئ في المقطع الشّعري المنشغل بالشّرط الإنسانيّ والاغتراب، بهذا القدر الكبير من الحزن في تسويد النّص، دون وعي لأي تناغم شكلي. إنّ عبد الله رضوان لا يفتأ يكرر التّعبير عن شعوره بالاغتراب، وأنّه مهمّش، لا يقيم له الآخرون لعذاباته وزنًا، الأمر الذي جعله يشعر بالضّياع والاستلاب، وفي هذا الصّدد يقول:

"هم لا يُريدونَني

لا جُنوني

ولا فَرْحَتي

حتّى ولا خَبَري

فمن أين جِئْتِ 

على سَطْوةَ الشّوقِ 

قَمرًا عاشقًا؟"

لقد بلغ الحزن أقصى مداه عند عبد الله رضوان ليتحول إلى استسلام، وفي ظلّ ذلك ارتسمت الثّلاثيّة الشّعريّة على هذا النّفس الحزين، عبر ثنائيّة الحضور/الغياب، ليجسّد الوطن في بعده الاغترابي على شكل نداءات واستغاثات، ولا أدل على ذلك من قوله:

"أعيدي إليّ اضطرابي

لأكون بلا أي معنى

بلا اسم..

لا وطنًا يحتوي

لا رفاتي"

في هذا المقطع بالذّات، نلاحظ أنّ صوت الوطن يقارع صوت المعاناة القهريّة، وهذا الأمر يتكرر عند عبد الله رضوان في غير قصيدة شعريّة، ليمثل حضور الوطن في الثّلاثيّة الشّعريّة شكلًا لافتًا وواضحًا، ومن مؤشّرات ذلك تكرار لفظة "وطن والوطن" الّتي تكررت ثلاث عشرة مرّة، وقد يعود السّبب في ذلك إلى تأكيد حضور الوطن، ووفق ذلك التّكرار تضوّع عبد الله رضوان شوقًا وحنينًا إلى وطنه، فناجاه، باثًا شكواه وشوقه إليه:

أعنّي على ما هو لي

أعنّي على فتنتي

وبقايا نهاري

أعنّي على وطنٍ يتوعَّد

أو يتباعد

أو ينتهي جمرةً في مساري"

يحن عبدالله إلى وطنه فلسطين، ويهمّ بالعودة إليه، ليشكّل حضور الوطن مكوّنًا من مكوّنات الانتماء والهُويّة الفلسطينيّة، بما يحمله من دلالة نفسيّة تربط الشّاعر بالمكان، حيث يقول:

"فلسطين

يا أوّل العمر

يا آخر العمر

يا شهوة لن تكون" 

إنّ المقطع الشّعري يفيض لوعة وتفجعًا على الوطن وحنينًا جارفًا إلى المكان، ويضج بالشّوق إلى الوطن/ فلسطين، ولذلك فإنّ عبد الله رضوان توّاق وحالم دائمًا إلى العودة.

وبناءً على تلك الشّواهد الشّعريّة، أستطيع القول بأنّ عبدالله رضوان مسكون بهاجس الوطن، إلى الحدّ الذي صار يشعر بالضّياع والاستلاب، وعدم امتلاك ذاته في أرض المنفى والغربة، كما نستنتج من ذلك أنّ الوطن يشتغل في الثلاثيّة الشعّريّة على الاغتراب والمرأة، ممتزجًا مع صور الحزن والحبّ والشّوق والعودة.

المزيد من المقالات...