clip_image002_2aabe.jpg

ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس  مجموعة خواطر بعنوان " بعد إذن الحب" للكاتبة الناشئة إكرام علان.

المجموعة التي تقع في ٦٢ صفحة من القطع الصغير صدرت عن دار الياحور للنشر والتوزيع، وصمم غلافها صالح أكرم.

افتتح الأمسية ابراهيم جوهر وأبدى ملاحظاته حول الكتاب.

وقالت هدى عثمان أبو غوش:

إكرام علان تبوح بنصائح للنساء

"بعد إذن الحبّ" مجموعة خواطر للكاتبة المقدسيّة "إكرام علان" لدار إلياحور للنّشر والتّوزيع، 2018.

خواطر امرأة مهزومة من عذاب الحب وخذلانه، جاءت لتستأذن الحبّ في بوحها عن علاقتها بالحبيب، أو كما قالت لتتقيأ الحبيب من قلبها، فهي تعالج نفسها من خلال الكتابة؛ لترتاح من تلك الجروح.

"بعد إذن الحبّ " عنوان جميل، فيه تعبّر الكاتبة عن الحبّ الذّي لم يستمر، وحكم عليه بالفراق، فجاءت مفردات الكتاب تحمل هموم الحبّ وتبوح باعترافاتها، الحنين، الخيبة ،الخيانة، غياب الحبيب، معاني الإخلاص والوفاء ،الغيرة، الشّك، الإنتظار، كما وتشتم الحبيب وتقارنه بإخلاص وحب غسّان كنفاني لغادة السّمان، وعذاب قيس في حبّه لليلى، وتغار وتتمنى لو أنّها تحظى بهذا الحبّ الصادق.

ذكرت الكاتبة من خلال خواطرها، خيبتها من حبّ الواقع، وقارنته بالحبّ "الفيسبوكي"، مدّعيّة أنّ مشاعره أصدق! فهل تنتصر مشاعر الخيال على الواقع دون ملامسته على الأرض وكشف القناع عنه؟

أقحمت الكاتبة في خواطرها بعض الصفحات التّي  جاءت كمعلومات عامة للقارئ بشكل مباشر، لتبيّن وفاء الحبّ كما في عنوان "قصّة حبّ تاريخيّة"، و"نسيان"فهي لا تنتمي للنّص الأدبي، كما وهنالك نصوص عاديّة هي مجرد جمل، وليست نصا أدبيّا، خاليّة من الصور الفنيّة الأدبيّة كالتشبيهات، الإستعارات والخيال، مثل "مرض العشق"،وعلى غفلة منا"وغيرها.

في هذه الخواطر، شعرت حبّ انتقام الحبيبة من الحبيب الذّي خذلها، فأصبحت تشتمه، وتقدّم النصائح للنّساء، وتعلّمهنّ كيفيّة التّصرف حين الوقوع في الحب، تقول في "نصائح حبّ":أوجعيه يا عزيزتي سيحبك بجنون......انتصري حتى ولو بجرح صغير."

فهل تعلّم الكاتبة بنات جنسها إذلال الحبيب، وهل الحبّ معركة فيها المنتصر والمهزوم؟

جاء أُسلوب الكاتبة باستخدامها التساؤلات، وطرح السؤال والجواب، تقدّم الحكمة والنصائح، وتأتي بسبب ونتيجة. وقد استشهدت بأقوال الفلاسفة، الشّعراء والكتّاب. وقد قسّمت الكتاب إلى عناوين ملفتة جاءت كأنّها رسالة خطابيّة موجهّة، "المقدمّة ، أمّا بعد، أمّا قبل، الإهداء". ويجدر بالذكر أنّ الكاتبة لم تحدّد الجنس الأدبيّ على غلاف الكتاب.

وجهت الكاتبة سؤالا للمرأة تحت عنوان "المقدمّة"، حول الدّافع لشرائها الكتاب، "لماذا اشتريتِ الكتاب" وتجيب عن ذلك، ولم توجهه للقارئ عامة، فهل الكتاب موجه للمرأة فقط؟

حبذا لو تضمن الكتاب فهرسا، ليسّهل على القارئ البحث عن النّص، وقد وردت أخطاء نحويّة في الكتاب.

وقال الدكتور عزالدين أبو ميزر:

هذا الكتاب عبارة عن خواطر متناثرة نفثتها الكاتبة على الورق؛ لتقدّمه لنا على عجل وكأنها تستعجل الغد يأتي قبل موعده، أو كما قال الأديب إبراهيم جوهر، في مثل هذا المقام: كمن يريد ان يتزبّب قبل أن يتحصرم.

لا أريد أن أغمط حق الكاتبة في خواطرها، وأظنها تعبت في لمّ شتاتها، فهي تحتوي على كمّ كبير من الجمل الرائعة  التي لا تخلو من جمال المعنى والبيان وموسيقى التعبير، أضاعها ضعف الرّبط بين جملها والسرعة في إسقاطها، فسقطت في بحر من الأخطاء النّحويّة الّتى زادت عن الخمسين عددا، وبعض الأخطاء المطبعيّة، الّتي لا تغيب عن أي قارىء يعرف قواعد اللغة، وإن لم يكن متخصصا بها. ناهيك عن اختراع كلمات لم أجد لها أيّ معني في لغتنا الجميلة مثل: كلمة الصّلاء ، وكلمتيّط عجّ الكظم ص١٤، والرياف ص١٦، وجملة أكنت الصوب الغلاء بين تكات كنانتك، هنا أتمرّد على ريدي الشرقي، وتخرج المشاعر،  من دوان انفصال.وكلمتي عجوزة قلب ٥٦، وكيف تركت خريفتك ص٦٠ وكل ذلك في كتاب لم يتجاوز السّتين صفحة من القطع المتوسط.

حبذا لو لم تعجل كاتبتنا، وكانت عرضت خواطرها على متخصص لغويّ ويتقي الله في عمله، لجنّبت نفسها هذا التشويه في كتابها، ولجنت المديح عى جملها الجميلة الرائعة التي أضاعتها، ولما أتعبت القارىء في إعادة قراءة النّص أكثر من مرّة؛ ليعرف ما تريد الكاتبة من وراء كلّ خاطرة كتبتها، فلا يصل الى ما يريد.

وشارك عدد من الحضور آراءهم حول الكتاب ومنهم: دولت الجنيدي، نزهة أبو غوش، عبدالله دعيس، ماجد الماني، طارق السيد وجميلب السلحوت.

رواية بنات الرياض للكاتبة السعودية رجاء عبدالله الصانع (صدرت عن دار الساقي بيروت عام 2006)، تحولت الى اكثر الروايات العربية مبيعا في تاريخ النشر العربي. الأمر الذي يثبت مسألة هامة في الدور الذي يلعبه الأدب. ليس كعنصر جمالي فقط، او كراصد للواقع الاجتماعي والفكري للمجتمع الذي ينطلق منه، انما، وهذا الأساس، كقوة مؤثرة قادرة على تحريك الثوابت والمسلمات وكشف هموم المجتمع، واحداث صدمة عميقة، لا يمكن بعدها ان يبقى الواقع الاجتماعي مجرد حالة دائمة مستقرة.

من الواضح ان النظام السعودي الذي يخاف من التغيير، لم يسمح حتى اليوم بتوزيع الرواية في السعودية، الرواية لم تمنع رسميا، انما هيئة الرقابة ربما ما زالت منذ عام 2006 "تدرس" الرواية و "تحللها" ولم تقرر بعد بشأنها (لم اسمع انها وزعت بالسعودية، رغم ان الرواية طبعت عدة طبعات متتالية (اربع طبعات على الأقل) وباعت خلال ثلاثة اشهر من صدورها اكثر من 40 الف نسخة، وربما دخلت نسخ للسعودية مهربة بطريقة المخدرات والمشروبات الروحية. هذا لوحده يشير الى أزمة المجتمع السعودي التي ترصدها الكاتبة السعودية رجاء الصانع.

رجاء الصانع تجاوزت اليوم العقد الثالث من عمرها، عندما أصدرت روايتها كانت ابنة 22 سنة فقط، وهي خريجة قسم طب الأسنان في جامعة الملك سعود، استغرقها كتابة الرواية ست سنوات، أي بدأت روايتها وهي في سنتها الجامعية الأولى، وهي تتحدث عن حياة أربع شابات سعوديات من الطبقة السعودية الغنية، ارتبطن بعلاقات صداقة ومكاشفة لأسرارهن.

الفتيات الأربع يبحثن عن الحب، الأولى تطلقت بعد اكتشافها خيانة زوجها لها، الثانية يتركها خطيبها بعد ان سلمته نفسها بليلة حب، والثالثة لم يتمكن حبيبها من الزواج بها، لأنه امتثل لأوامر امه الرافضة ان يتزوج ابنها من فتاة أمها أمريكية، رغم انه تجاوز العقد الثالث من عمره، الذي قضاه في الغرب واكتسب شخصية انسان حضاري منفتح ومتنور. أما الرابعة فكانت أوفر حظا منهن، ولعبت دورها في مساعدتهن ورواية تجاربهن، رغم العلاقات الحميمة بين الصديقات، فكل فتاة تعيش خيبتها الخاصة، ما عدا لميس التي تزوجت وسافرت مع زوجها لإتمام الدراسة في كندا. الرواية جاءت على شكل رسائل عاطفية وزعت على شبكة الايميل في الانترنت، عبر 50 رسالة، اثارت ردود فعل وتعليقات مختلفة من القراء، خاصة وان النظام السعودي المنغلق تماما، ينكشف كمجتمع مخلخل الأسس، ضعيف البنيان، وما يمارسه من سلسلة تحريمات كبيرة، يخلف المزيد من المشاكل والتحديات.

الصبايا يبحثن عن الحب، الشباب يبحثون عن الحب، في مجتمع يمارس الحرمان من الاختلاط بين الجنسين، مما يقود الصبايا والشباب الى تمرد هادئ، وتجاوز للمنوعات، قد لا نجدها حتى في المجتمعات المنفتحة أكثر.

الرواية ليست دعوة مباشرة لتغيير الواقع في السعودية، واعطاء المرأة حقوقها كانسان لا يختلف عن الرجل، انما تلجأ الكاتبة الى تقديم نص ابداعي يكشف اللثام عن الواقع المعاش، واقع غير طبيعي، غير انساني، حتى في كتابة عقد الزواج يطلب الشيخ من الفتاة ان تبصم، وعندما تعترض بانها جامعية وتعرف القراءة والكتابة، يصر الشيخ على ان تبصم على العقد لأن التوقيع للرجال فقط. هذه اللوحة تكشف واقعا مذهلا في تخلفه ونظرته الدونية للمرأة ومعاملتها كقطعة اثاث يملكها "الفحل"-الزوج.

 رواية بنات الرياض أحدثت انفجارا في الجدار الاجتماعي الذي بني على التمييز ونفي حقوق المرأة خلال عقود طويلة، ويتواصل فرضه بشكل قصري رغم ان الزمن يتغير وحقائق الحياة تتبدل، والعرفة تزداد وتتسع، وأساليب التحايل على الجدار تتطور وتتحسن وتخترقه، الا ان لا شيء يتغير في المجتمع السعودي الخاضع لفكر وهابي مغلق ويتناقض مع حقوق الانسان رجلا كان ام امرأة. رواية بنات الرياض ضربة من داخل الجدار، من داخل السجن الفكري الكبير، من داخل الحصار القاتل على المرأة خاصة، لكن من يظن ان الرجل يتمتع بحريات أكبر هو واهم. كي تكون حرا يجب ان تكون بلا شخصية ولا رأي، ولا موقف، ولا تفكير. الانسان السعودي يبرز كشخصية مشوهة لا تملك حق التفكير ولا حق القرار الا ما يملى عليها من الذين جعلوا الدين سجنا للعقل وسجنا لحرية الرأي.

لست في باب تقييم الرواية فنيا، لأن موضوعها المثير وكونها مادة شديدة الانفجار تتسرب من مجتمع غارق بالقيود والرقابة والدجل الديني، هو موضوع اعطى للرواية بعدا أكبر بكثير من مجرد تقييمها كعمل ادبي فني. لكني بنفس الوقت اقر انها عمل ادبي نادر بجرأته، وجمالية أفكاره، وروعة طروحاته، تجاوزت به هذه الرواية اهم الأعمال الروائية العربية من حيث اهتمام الجمهور، فتفوقت بتوزيعها على أشهر الأعمال الروائية لأهم الأدباء العرب. يمكن القول ان الرواية تعتبر مساهمة جادة وقوية لخلق إرادة جماعية لإعادة ترتيب البيت السعودي.

من ناحية فنية، تفتقر الرواية الى عدة مركبات روائية، فهي مليئة بالسرد الطويل، والمباشرة في الكثير من المقاطع، ومع ذلك نحن امام روائية شابة مبدعة، في اول تجربة لها، كسرت الطابو الاجتماعي في أكثر المجتمعات العربية محافظة وانغلاق. وفتحت ثغرات في الجدار السميك للسعودية، للإطلال عبر الثغرات الى ما يجري في المجتمع السعودي، ونجحت الكاتبة في خلق التفاعل بين النص والقارئ في معظم مساحة الرواية. رواية لا تنسى بسهولة بعد قراءتها.

يذهب بعض النقاد والمتعاملين مع الفن القصصي الى طرح تقنيات تساعد على كتابة القصص القصيرة. خضت مع بعضهم نقاشات طويلة حول عبث ما ينظرون له. كتبت تعقيبات على مقالات ادعى كتابها انهم يقدمون للراغبين في كتابة قصة قصيرة الشرح الوافي والكامل لكتابة القصص. طبعا قدموا شرحا مفصلا حول كيفية كتابة قصة قصيرة، مبناها، ابطالها، بدايتها، وسطها ونهايتها. أي طرحوا شبلونات وبنود يمكن على اساسها كل من يعرف كتابة انشاء عربي ان يكتب قصة قصيرة. انا اعتقد انها كتابات فائضة عن الضرورة وسلبياتها أكبر من ايجابياتها. كتاب هذه الارشادات، حتى من حملة شهادات عليا، هم فقراء فكرا ومعدومي المعرفة للفن القصصي وصمتهم افضل من ثرثرتهم الفارغة من أي مضمون ثقافي.

هل حقا توجد تقنيات يمكن الالتزام بها لكتابة القصة القصيرة؟ اي شبلونة (مسطرة) يمكن ان نكتب قصصا حسب مقاساتها؟

اصحاب تلك المقالات تجاهلوا مسألة جوهرية تتعلق بمفهوم لغة القصة القصيرة، طبعا هي اللغة العربية في حالتنا، لكنها لغة نص مختلفة عن أي نص كتابي آخر. ما اعنيه انها ليست نفس التركيبة اللغوية للمقال السياسي مثلا، او للمقال النقدي، او للمقال البحثي. الشرح عن تركيبة القصة القصيرة يبدو لي انه يؤطر المضمون والحركة القصصية داخل صندوق مغلق ومفرغ من الهواء، أي كتابة "مخنوقة".

ان لغة القصة هي موضوع لا يمكن تناوله بمثل هذه البساطة والفوقية التي يتناول فيها البعض شرح تركيبة القصة القصيرة، كأنه يشرح مسالة في الرياضيات، انا على ثقة ان تلك المقالات لم ولن تنتج كاتبا قصصيا واحدا، بل قد تضلل كتابا موعودين.

المعضلة الكبيرة، او الهوة الكبيرة لمثل هذه المقالات هي استحالة شرح تراكيب قصصية بمقاييس جاهزة، وخاصة استحالة شرح مضمون اللغة القصصية. مثلا هل بإمكان أحد ان يشرح مفهوم اللغة الدرامية التي هي لغة الابداع القصصي الجوهرية؟ ان مفهوم الدراما (للتوضيح) ليس في الفكرة فقطـ انما في تركيبة اللغة نفسها؟ لغة لها مركبات مميزة عن السرد النثري لمواضيع غير قصصية، ولكن هذا لا يكفي. مثلا كاتب متمرس بإمكانه تطوير اساليب لغوية جديدة وأفكار قصصية غير تقليدية للنص القصصي. مثلا استعمال أسلوب الخبر الصحفي ولغة الصحافة الأقرب للمناخ الثقافي السائد واللغة الأكثر فهما واستعمالا في حياتنا اليومية، واسلوب بناء الحدث القصصي عن طريق مبنى الخبر الصحفي او الريبورتاج (وهنا صعوبة كبيرة لدرجة الاستحالة لكاتب غير متمرس)، او بأسلوب الكتابة التاريخية او التوثيقية، او حتى اخضاع الطرفة وتطويرها لجعلها مادة قصصية.

حتى السماء ليست حدودا لقدرات الانسان الابداعية!!

قد يقول ناقد ما مستهجنا ان هذا اسفاف لمضمون اللغة القصصية وانا اقول ان الموضوع أبعد من التفكير الفوقي والأحكام المتسرعة لمن يعجزون هم أنفسهم ان يصيغوا قصة قصيرة رغم اجادتهم الكبيرة في شرح مركباتها. طبعا شرحهم يعتمد المنهج الكلاسيكي – التقليدي وهو تقريبا تلاشى من السرد القصصي او تقلصت مساحته.

قرأت ابحاثا عديدة لكتاب اجانب أيضا. لا اظن انه يمكن انتاج عمل قصصي حسب شبلونة تطرح بنودا يمكن على اساسها صياغة قصة قصيرة. مسبقا اقول ان القصة عملية خلق ابداعية لا تلتزم بأي مقاييس مسبقة، وتبدع لغتها وتركيبتها بمسارها الذاتي وليس حسب بنود يضعها الكاتب امامه ليستعملها في بناء القصة.

البطل في العمل الأدبي ليس مجرد اسم وشكل، ثم نركب عليه حدث قصصي، او نفتعل له عقدة ما، ثم نجد له الحل سلبا او ايجابا. اين اختفت سيكولوجية البطل؟ كيف نستعمل مفاهيم علم النفس الاجتماعي في تركيبة الحدث او التضاد بين الأبطال والواقع الذي تطرحه القصة؟

لا أظن ان مؤلفي هذا النوع من النصوص يقصدون ما قد يفهم من العنوان، ربما قصدهم شرح فكرتهم حول مركبات النص السردي القصصي. لا يوجد تماثل بين قصتين لنفس الكاتب الا ما ندر، فكيف الحال مع مئات الاف الكتاب؟ لا يوجد خط عريض واضح في حركة الإبداع لنفس الأديب. الكاتب هو اديب مجرب والتجريب لا ينتهي من اول قصة يكتبها حتى آخر قصة يكتبها، اذا استمر بدون تغيير تولد اعماله ميتة ومكررة لدرجة الملل. الأمر يشبه هنا انتاج حيوات، الحياة شديدة التعقيد والتركيب وعدم التماثل بين عنصرين، تماما مثل بصمة الأصابع. ربما أفضل طريقة لمعرفة فنون الكتابة القصصية، هي قراءة الاف الأعمال الأدبية بانتباه كامل لأسلوب السرد ومركباته المتنوعة، شكل بناء الشخصيات وتطورها، خصوصية اللغة في العمل القصصي، (اللعبة القصصية او الروائية) وطريقة بنائها والتلاعب بالأحداث، روح الحوار وعلاقته بالشخص، مطابقة الحوار للشخصية القصصية (او الروائية) وغير ذلك الكثير من التجديدات التي لا تتوقف، صياغة وفكرا، وقراءة تجارب الكتاب انفسهم اذا وجدت. لا يمكن ان تصاغ مفاهيم ثابتة للقصة القصيرة او لأي عمل أدبي. يمكن حث الموهوبين للاطلاع عبر تمهيد يعرض عليهم مركبات اولية، لكنها مجرد خطوات اولى لا يمكن جعلها قانونا قصصيا.

الأمر الأساسي ان الكتابة، أي كتابة كانت، تحتاج الى موهبة خاصة. يمكن تطوير الموهبة، بدونها لا يمكن تحريك شيء، لا يمكن ان تتطور الموهبة بدون قراءة واعية وموسوعية، واطلاع واسع على العديد من كتب النقد القصصي، والانتباه ان بعضها يشوه الرؤية القصصية اذا لم يكن القارئ واعيا لفلسفة الأدب تحديدا والقصة القصيرة عموما.

نصيحتي لعشاق الابداع القصصي بسيطة جدا، اقرأوا بوعي وعبر دراسة النصوص وتحليلها الذاتي. اسلوب تركيب الحدث، مميزات النص، تركيبته اللغوية، الحوار ومطابقته للشخصيات، انتبهوا الى الدراما في لغة النص وليس الدراما في الفكرة القصصية فقط. نص بدون لغة درامية، هو نص فاشل. الفكرة الدرامية ليست مشكلة، احيانا الفكرة القصصية بلا دراما لكن اللغة القصصية تصنع الدراما. والأهم لا تتوهموا ان هناك شبلونة جاهزة لكتابة قصة قصيرة، ولا تلهيكم تلك الشروحات، لأنها نتاج عقول لا ترى ابعد من أنفها!!

نشر أحد أصحابي قصيدة له متغزلاً، وباعتباره من المحسوبين على الشيوخ، أرسل إليه أحد هؤلاء الشيوخ عتاباً قاسياً عنيفاً، كيف يتغزل وهو من المتدينين، واحتدّ بينهما الحوار، وكنت أقرأ ما يكتبان، ويرد أحدهما على الآخر، ولا أعلِّق أو أكتب أي شيء، فاتصل بي صاحب القصيدة يستنجد بي، فكتبت هذا الرد عليه ونشرته على صفحتي وصفحته، وعندها جاء العتاب لي من بعض أصحابي وأقاربي أنني أسرفت في الكلام، لأن ما كتبته معروض على الناس: كبيرهم وصغيرهم، ورجالهم ونسائهم، فقلت له: عندما أنشد حسان بن ثابت هذه القصيدة أنشدها على الملأ، فسمعها الكبير والصغير، والنساء والرجال، والأدهى من ذلك أننا إذا قرأناها الآن أكثرنا قد يفهم بعضها، ولكنه لن يفهمها جميعهاً، وكلٌ يفهم منها قدر ثقافته، بينما في زمن حسان رضي الله عنها كان يفهمها الجميع، ولم يقل أحد لحسان أسرفت، أو خرجت عن المألوف، أو تماديت في الكلام الباطل، ولذلك رددت على أخينا الشيخ بهذه الكلمات:

لم أقرأ عن قضية الإسلام والشعر إلا في كتب المحدثين (بفتح الدال وتخفيفها)، والقدماء كانوا ينظرون إلى الشعر من خلال قصيدة أو بيت أو جملة في بيت ويعلقون عليه مدحاً أو ذماً.

ففي السيرة النبوية نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام: يقول عن أمية بن أبي الصلت: آمن لسانه، وكفر قلبه، ويقول لحسان بن ثابت: اهجهم وروح القدس معك، وأهدر دم عدد من الشعراء الذين كانوا يعادون الإسلام، ويهجون النبي عليه الصلاة والسلام لأنه نبي، وليس لأنه محمد بن عبد الله.

ولو قرأنا شعر أمية بن أبي الصلت لوجدناه كله يتحدث عن الربوبية والألوهية، وينفر ويأنف، بل وينكر ويحارب عبادة الأصنام والشرك، ولكنه لم يؤمن بنبوة النبي عليه الصلاة والسلام.

ولو رجعنا إلى شعر حسان الذي كان يؤيد بروح القدس كما قال له النبي، لوجدناه شعراً أكثره الهجاء، وفيه من الشتائم المقذعة التي يخجل منها كثير من الناس، ولكن الله رحم أجيالنا بأنها تقرأ هذا الشعر ولا تفهم معناه.

وأذكر أنني منذ أكثر من ثلاثين عاماً كنت مدرساً، وكان لنا بعض الأمسيات مع أصدقاء مثلي مدرسين، وأكثرهم عندهم شهادات شرعية فوق ما أحمل من شهادة، فبعضهم كان من حملة (الماجستير)، وبعضهم من حملة (الدكتوراه)، وأحد المتظرفين منهم استشهد ببيت فيه غزل، والشاعر أبدع في تصوير ما يريد من غزله، فانتاب المشايخ الكبار، وأصحاب الشهادات العليا رِعدة، واستنكار، وثارت في نفوسهم حمية الدين، يدافعون عنه، ويشتمون الشاعر، والشعر، فسألني أحدهم: ما رأيك، وكان هذا السؤال لي لأنني أنا مدرس القرآن الوحيد فيهم، فقلت لهم بهدوء: لقد جاء الشاعر بصورة رائعة، وأبدع فيما صوّر، وأظهر ما يريد بأسلوب بياني من المستوى الرفيع، وإذ بالثورة تنقلب ضدي، وبدأ التحول من لوم ذلك المدرس والتطاول عليه إلى لومي أنا، وثارت فيهم نخوة المعتصم من نداء (الزبطرية).

وكان مديري في المدرسة متغيباً ذلك اليوم عن هذه السهرة، فشكوني إليه في اليوم التالي، وكان - رحمه الله – فقد علمت أنه توفي من زمن- كان أعمى، وكنت في مكتبة عامة فجاءني ليعاتبني ويقنعني في خطأ فهمي وكلامي ومعتقدي، فبعد أن تكلم ما يريد، لم أجدإلا أن أقرأ له شيئاً من الشعر، فأخذت من المكتبة ديوان حسان بن ثابت، وهو لا يعرف ماذا أحمل، وقلت له: سأقرأ عليك أبياتاً من الشعر، وبعدها أسمع رأيك، وأناقشك، فقال: حسناً، وبدأت أقرأ له مقدمة قصيدة حسان التي قالها في فتح مكة يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كانت القصيدة مملوءة بالمفردات التي لم نتعلمها أو نحفظها أو نعرفها، كنت كلما قرأت شطراً قرأت له شرحاً من كتب اللغويين، وكلما سمع شرحي يتعوذ بالله من هذا الفجور، ومن هذا الانحراف في الأخلاق، حتى قرأت مع الشرح نحواً من عشرة أبيات، قلت له: الآن ما رأيك بهذا الشعر؟ فقال: لا أدري كيف تعتبر نفسك مدرساً للقرآن، وأنت تقرأ مثل هذا الهذيان والفجور، أما تستحي من الله، أما تخافه، فتقرأ ما قاله الساقطون؟ فقلت: سامحك الله ياشيخ؟ لو صبرت قليلاً لعرفت أن قائل هذا الكلام حسان بن ثابت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، يوم فتح مكة، فقال: ولوْ، لقد تغير الزمان، وتغير الناس، وتغيرت الأخلاق، فقلت له: نعم كل هذا صحيح، ولكن في عهد النبي حدثت بعض الحوادث من الزنا، وكان هناك جلد ورجم، وما جاء حكم شرعي إلا وله تطبيق نبوي، فيقول دائماً: ولو، وخرج مسرعاً من المكتبة. فتذكرت أن شيخنا الدكتور محمد أديب الصالح عافاه الله، ومنحه الصحة والعافية وطول العمر، عندما كان يدرسنا في الجامعة إعجاز القرآن والبلاغةالنبوية، وعندما إلى ذكر بعض هذه الأوابد يقول: وهذا من الورع البارد، وتذكرت أن هذا الورع البارد أوصلنا إلى أن نقرأ القرآن ونهرب من تفسير آياته إلى البحث عن أحكامه، مع أنه تحدى الجاهليين ببيانه لا بأحكامه، وتحداهم ببلاغته لا بأحكام الجلد والرجم، بل صعقوا من بيانه، وأخرس كثيراً من ألسنتهم، حتى قال الشاعر لبيد رضي الله عنه، وهو صاحب آخر معلقة من المعلقات السبع، الذي لم يقل بعد الإسلام إلا بيتاً واحداً وهو:

الحمد الله إذ لم يأتني أجلي.... حتى كساني من الإسلام سربالا

قال لبيد لعمر بن الخطاب رضي الله عن الاثنين: لقد أخرستني سورة البقرة.

وتذكرت أن بعض المشايخ من أصحاب مذهب الورع البارد في بداية القرن العشرين عندما نشر معجماً صغيراً ليوزع على طلاب الأزهر قال: لم أفعل في هذا الكتاب إلا ترتيبه حسب حروف أوائل الكلمات، بعد أن كان مرتباً حسب أواخرها، ثم حذفت منه ما يؤذي مسامع النشء، سبحان الله يريدون من اللغة أن تصبح ورعة مثلهم، وبعيدة عن كل ما يؤذي مسامع نابتتنا لتكون النابتة صالحة، فانظر رعاك إلى الله كيف كانت النابتة، والأجيال التي تربت على هذا الورع البارد، لا تفهم ديناً، ولا تقيم خُلُقاً... وإلى لقاء.

وأما قصيدة حسان

هذه هديتي إلى أصحاب الورع البارد أبدؤها بنقل صغير عن الشيخ السفاريني الحنبلي، يستشهد بأبيات لقيس بن الملوح مجنون ليلى، وفيها البيت الذي ذكره أخي أبو همام، وأهمية هذا النقل أنه من كتاب غذاء الألباب للشيخ الحنبلي كما قلت، يقول رحمه الله في غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب: وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةِ مَجْنُونِ عَامِرٍ وَهُوَ قَيْسُ بْنُ الْمُلَوَّحِ الْمَذْكُورِ، تُوُفِّيَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَنَةَ سَبْعِينَ وَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ، وَهَذِهِ الْقَصِيدَةُ طَوِيلَةٌ جِدًّا وَفِيهَا يَقُولُ:

أَلَا أَيُّهَا الرَّكْبُ الْيَمَانُونَ عَرِّجُوا ... عَلَيْنَا فَقَدْ أَمْسَى هَوَانَا يَمَانِيَا

يَمِينًا إذَا كَانَتْ يَمِينًا فَإِنْ تَكُنْ ... شِمَالًا يُنَازِعُنِي الْهَوَى مِنْ شِمَالِيَا

أُصَلِّي فَلَا أَدْرِي إذَا مَا ذَكَرْتهَا ... أَثْنَتَيْنِ صَلَّيْت الضُّحَى أَمْ ثَمَانِيَا

أُرَانِي إذَا صَلَّيْت يَمَّمْت نَحْوَهَا ... بِوَجْهِي وَلَوْ كَانَ الْمُصَلَّى وَرَائِيَا

وَمَا بِي إشْرَاكٌ وَلَكِنَّ حُبَّهَا ... كَمِثْلِ الشَّجَا أَعْيَى الطَّبِيبَ الْمُدَاوِيَا

وَأَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الْبُيُوتِ لَعَلَّنِي ... أُحَدِّثُ عَنْك النَّفْسَ بِاللَّيْلِ خَالِيَا

خَلِيلَيَّ لَا وَاَللَّهِ لَا أَمْلِكُ الَّذِي ... قَضَى اللَّهُ فِي لَيْلَى وَلَا مَا قَضَى لِيَا

قَضَاهَا لِغَيْرِي وَابْتَلَانِي بِحُبِّهَا ... فَهَلَّا بِشَيْءٍ غَيْرِ لَيْلَى ابْتَلَانِيَا

وَلَوْ أَنَّ وَاشٍ بِالْيَمَامَةِ دَارُهُ ... وَدَارِي بِأَعْلَى حَضْرَمَوْتَ اهْتَدَى لِيَا

وَمَاذَا لَهُمْ لَا أَحْسَنَ اللَّهُ حَالَهُمْ ... مِنْ الْحَظِّ فِي تَصْرِيمِ لَيْلَى حِبَالِيَا

وأما قصيدة حسان بن ثابت التي ذكرت أنه قالها عقب غزوة بدر، فمقدمتها قول حسان رضي الله عنه:

تبلت فؤادك في المنام خريدة ....تسقي الضجيع ببارد بسام

تبلت فؤادك: أصابته بالمرض، وذهبت به بسبب الحب الذي ملكه، ولم يفلته، فأصابه شيء من البِلى (الاهتراء بالعامية)؛ لأن التبل هو الإفناء، وتبله الحب: أسقمه وأفسده، وأذهب عقله، خريدة: امرأة حسناء، ويقال عن اللؤلؤة التي لم تثقب وما تزال على هيئتها الأصيلة: خريدة، والمقصود هنا العذراء الحيية الخفرة، تسقي: السقي ما يقدم للشرب من ماء ولبن، وغيرهما، وقوله تَسقي بدلاً من:تُسقي لأن تسقي للشفتين، وتُسقي للماشية والأرض، وتسقي بالسين رواية إدى طبعات الديوان، وبعض كتب الأدب، وأكثر كتب الأدب روايتها بـ(تشفي) بالشين المثلثلة المعجمة، لا بالسين المهملة، أي أن ريقها يؤدي إلى شفاء مضاجعها، والضجيع: المضاجع الذي يضاجعها وينام معها، ببارد بسام: بريق من فم بارد جميل دائم الابتسام، ولذلك قال عنه بصيغة المبالغة بسّام، أي أصبح الابتسام ملازماً له، وقال الدماميني: تسقي الضجيع ريقَها بفمٍ باردٍ ريقُه.

كالمِسْكِ تَخْلِطُه بماءِ سَحابةٍ ... أو عاتقٍ كدَمِ الذَّبيحِ مُدَامِ

فهذا الريق فيه نفحة المسك، وكأنه خلط بماء المطر، فماء المطر يعتبر بكراً طاهراً، حتى أن النبي كان يقول عنه إنه لم يعرف المعاصي التي يقوم بها العباد العصاة، أو أن هذا الريق مخلوط من خمر معتقة قديمة، لونها لون الدم الذي يخرج من الذبح.

قال الجياني: والعاتقُ بالقاف الخمر القديمةُ، والمدامُ اسمٌ من أسماء الخمر.

نُفُجُ الحقيبة ِ بَوْصُها مُتَنَضِّدٌ... بلهاءُ، غيرُ وشيكة ِ الأقْسامِ

قال الجياني: نفج، من رواه بالجيم فمعناه مرتفعةٌ، ومن رواه بالحاء المهملة فمعناه متسعة الحقيبة، والأوَّل أحسنُ، والحقيبة ما يجعله الرَّاكب وراءه، فاستعاره هاهنا لردف المرأة، والبوص الرِّدف، ومتنضِّدٌ معناه علا بعضه بعضاً، من قولك نضدت المتاع، إذا جعلت بعضه فوق بعض. (وقوله) : بلهاء. معناه غافلة. ووشيكة سريعة، والأقسام جمع قسمٍ وهو اليمين، ومن قال الإقسام بكسر الهمزة فإنَّه أراد المصدر،

بنيتْ على قطنٍ أجمَّ كأنهُ... فُضُلاً إذا قعدَتْ، مَداكُ رُخامِ

هذا الأرداف كما قال الجياني: القطن: ما بين الوركين إلى بعض الظَّهر. (وقوله) : أجمُّ. معناه ممتلئٌ باللحم غائبُ. ولامداكُ الجرُ الَّذي يسحق عليه الطّيب، ومن لونها الأبيض الرائق، لم يقل كأنه الرخام، بل هو الرخام نفسه، وطيات أردافها وتنضدها كأنها (مداميك) الرخام.

وتكادُ تكسلُ أن تجيء فراشها...في لينِ خرعبة ٍ، وحسنِ قوامِ

والخرعبةُ اللينة الحسنةُ القوام، وأصل الخرعبة الغصن الناعم

أما النهارُ، فلا أفترُ ذكرها...والليلُ توزعني بها أحلامي

وقال ابن كثير في السيرة النبوية: قَالَ ابْن هِشَام: تركنَا فِي آخرهَا ثَلَاث أَبْيَاتٍ أَقْذَعَ فِيهَا.

ومع ذلك يجب أن نعلم أن الشعراء يتخذون الغزل طريقاً لإثبات أفكارهم، ولا يمكن أن يكون ما قاله الذين كانوا يعلموننا إن القصيدة الجاهلية اعتمدت على وحدة البيت صحيحاً، ولذلك كان الشاعر يتنقل من غرض إلى غرض في قصيدته كيف يشاء، وهذا إجحاف بحق الشاعر العربي، واعتباره لا يعرف أصول الكلام وترابطه، ولم يستطع النقاد خلال زمان طويل أن يربطوا بين موضوعات القصيدة، وذلك لأن القصائد كانت لا تصل كاملة، ولا مرتبة كما قالها صاحبها؛ لأن العمدة على النقل كانت هي الذاكرة، ولما بدأ تقييد الشعر وتسجيله، واكتشف النقاد قصائد جاءت كاملة ومرتبة، فاكتشفوا أنه ليس هناك أغراض متعددة في القصيدة الواحدة، إنما هو غرض واحد جاء متناسقاً ليثبت فيه الشاعر ما يريد، فمثلاً هذه قصيدة حسان التي ألقاها أمام النبي عليه الصلاة والسلام، وأخذ يتحدث عن صاحبته في أكثر من عشرة أبيات، وكلها تتحدث عن محبوبة أنالته ما يريد، وأرته لحظات نفسية رائعة حتى قال:

أقسمتُ أنساها، وأتركُ ذكرها...حتى تُغيَّبَ في الضّريحِ عظامي

فهو يقسم أنه لن ينساها حتى موته، وهو سيعصي لوامه فيها، ولن يردّ على عذاله، ويذكر حبيبته هذه أنها إن كذبته في مشاعرها وأحاسيسها، فهي ستنجو كما نجا الحارث بن هشام خائفة مذعورة تبحث عن مكان تختفي فيه من سيوف المسلمين في بدر، وكان الحارث بن هشام من مشركي قريشن وبدأ بهجاء الكفار وقد انتصر المسلمون عليهم، وبدأ حسان يسخر منهم، ويرينا فرحه بالنصر، وسخريته من المشركين كما فرح بلقاء ومعاشرة محبوبته، وسخريته من عذاله، وأنهم لن يقدروا على تحويله عن رأيه.

وانظر تغزله في في قصيدة له بعد غزوة أحد وما أصاب المسلمين فيها من آلام:

السيرة النبوية (4/ 98)

أشاقك من أم الوليد ربوع.... بلاقع ما من أهلن جميع

عفاهن صيفي الرياح وواكف ... من الدلو رجاف السحاب هموع

فلم يبق إلا موقد النار حوله...رواكد أمثال الحمام كنوع

فدع ذكر دار بددت بين أهلها...نوى لمتينات الحبال قطوع

وقل إن يكن يوم بأحد يعده...سفيه فإن الحق سوف يشيع

فانظر إلى هذا الجفاف والبكاء وخلاء الديار من أم الوليد، وكيف أن الريح مسحت حتى آثارها، والأمطار غسلت كل كل شيء فلم يبق إلا موقد النار، ومن حوله من الساكنين رواكد كانعين.

وأقف هنا لأني أطلت الكلام على هذه القصيدة، مع أنها من أجمل القصائد، وأقلها هجاء قبيحاً.

وأختم هنا بأبيات قليلة لحسان قالها من قصيدة قبل فتح مكة بقليل، وفيها من الغزل والإقذاع الشيء الكثير، وهي مشهورة ومطلعها:

عفتْ ذاتُ الأصابعِ فالجواءُ...إلى عذراءَ منزلها خلاءُ

وأما الأبيات التي أختم بها من هذه القصيدة قول حسان:

هجوتَ محمداً، فأجبتُ عنهُ،..وعندَ اللهِ في ذاكَ الجزاءُ

أتَهْجُوهُ، وَلَسْتَ لَهُ بكُفْءٍ،...فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُمَا الفِداءُ

هجوتَ مباركاً، براً، حنيفاً،...أمينَ اللهِ، شيمتهُ الوفاءُ

فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ،...ويمدحهُ، وينصرهُ سواءُ

فَإنّ أبي وَوَالِدَهُ وَعِرْضي...لعرضِ محمدٍ منكمْ وقاءُ

بعد جولة في معاني مفردات قصيدة حسان رضي الله عنه، أعود لأسبر شيئاً من أغوارها الاجتماعية والنفسية والتاريخية، فقد أستطيع الكشف عن شيء من جمالها، ومعرفة ما يحويه من زخم نفسي واجتماعي شعرنا القديم، ويظهر لنا مدى بُعدنا عن هذه اللغة الشريفة الكريمة الرائعة، فحسان تحدث هذا الحديث بعد الانتصار في غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية للهجرة النبوية، وغزوة بدر لم يكن لها إعداد لمعركة متوقعة، وإنما هي حملة صغيرة قام بها النبي ببعض أصحابه الذين يزيد عددهم عن الثلاثمائة قليلاً، يريدون اعتراض قافلة تجارية لأبي سفيان بن حرب كان قد عاد بها من بلاد الشام، وفيها من الخيرات الشيء الكثير، فنهض مع النبي هذا العدد القليل؛ لأنه لم يقصد حرباً، ولا جمع له، وهنا تكمن فكرة القصيدة التي تبدأ بالغزل العجيب الفريد، فهذه الفتاة التي يتحدث عنها حسان، ويقول إنها أفسدت قلبه، فجعلته مريضاً متيماً فيها وبحبها، فأذهبت عقله، وأحرقت قلبه، لأن التبل هو الإفساد وإذهاب العقل، والفؤاد هو القلب إذا كانت النار تكويه، وتشويه شيّاً، ولذلك ابتعد عن لفظ القلب الذي يحوي الحب والعاطفة الجميلة الرائقة، بينما الفؤاد لا بد له من نار وشواء وكيّ، وهذه الفتاة عذراء، واستعمال كلمة عذارء لا تعطي المعنى الذي يريده الشاعر، فاستعمل لفظة (خريدة)، وهي الحيية الساكنة الناعمة البكر التي لم تتزوج، فقد تكون الفتاة عذراء، ولكنها لا يحوطها الحياء والخفر، وهنا استعمل الخريدة ليفيد هذه المعاني جميعها، وجعلهاتفعل فعلها مع أن هذا الأمر كان في المنام، فالأمر الذي حصل في بدر، هو كالمنام أيضاً، انتصار لفئة قليلة لم تتأهب لمعركة، أو قتال، بل خرجت مسرعة لمهاجمة قافلة تجارية، وإذا بها تواجه جيشاً من ألف مقاتل تجمعوا وتعاضدوا وجمعوا لهذه المعركة كل ما يستطيعون من إعداد نفسي وعددي وعسكري، وهم يعرفون أن الذين سيقاتلونهم ثلة قليلة، فتوقعوا أن لا تقف أمامهم إلا مقدار (غلوة) في إعداد طعام خفيف، وهذا النصر الذي حصل للمسلمين، جعل حسان يفرح هذا الفرح الخيالي الذي جاءته به محبوبته من إفساد لعقله وإذهاب به، وبدأ يعيش خيالاً يتناسب مع هذه الظروف التي حصلت للمسلمين، فهو نصر قد لا يكون إلا في الخيال، لولا من يتحدث عنهم حسان، وكيف هربوا أمام المسلمين، وكيف جندل المسلمون طغاة المشركين، وصناديدهم وفي مقدمتهم أبو جهل وابنا ربيعة المخزوميين، وأمية بن خلف الجمحي، وغيرهم من كبراء قريش، ولذلك كان هذا الخيال العجيب في الاحتفال بهذه الفرحة التي سيطرت على عقل الشاعر، فجعلته كالسكارى من هذا النصر، ففتاته إذا نام معها ليضاجعها وعانقها، يجد في ريقها البارد برداً وسلاماً، من فم جميل يسيطر عليه الابتسام، فهو بسّام، مملوء بريق يدخل السُّكْر على شاربه، فهو كالمسك في الرائحة، ولكنه خلط بماء السماء المبارك الذي لم يعرف معاصي العباد، فهو بكر ينزله الله على عباده ليطهرهم، كما حصل مع المسلمين في غزوة بدر، حيث غسلهم الله بماء المطر، وطهرهم به، فكان هذا الريق المخلوط بهذا الماء من مطر السماء الطاهر، ولكن لونه أحمر قانٍ، فقد كان هناك دماء في غزوة بدر، وريق حبيبته عذب مسكر، كأنه مخلوط بخمر لونه لون دم الذبيحة، وهذا يذكرنا بما حدث من دماء كثير من المشركين الذين قضوا في هذه المعركة، وهنا يشعرنا حسان بمدى فرحه، وسكره بما حصل من حبيبته التي لم تتعبه كثيراً حتى يصل إليها، بل جاءته بكل سهولة ويسر، كما حصل مع المسلمين في غزوة بدر، بل يشعرنا بأمور مادية كثيرة حصلت معه من خلال هذا الحب العجيب، فحبيبته أردافها كالحقائب المليئة، وإذا جلست عليها ظهرت كأنها مداميك رخام منضد بعضها فوق بعض، فهي صافية اللون في بياضها، فالمرأة عند العرب دائماً توصف بالدمية التي تصنع من المرمر (الرخام) كقول النابغة عن حبيبته:

أو دُميَة ٍ مِنْ مَرْمَرٍ، مرفوعة ٍ،...بنيتْ بآجرٍ ، تشادُ ، وقرمدِ

وكقول إبراهيم بن المدبر:

ما دمية من مرمر صوّرت ... أو ظبية في خمر عاطف

فهذه حبيبة حسان في لون جسدها صفاء،ثم يصفها بأنها بلهاء عفيفة، لا تعرف الشر، وهو لا يحتاج لإقناعها بمرامه منها، فهي كما يريد، وتبتعد عن الأيمان والقسم، وهذا الجمال في أردافها، وضخامة هذه الأرداف مبنية تتكئ وتقوم على المنطقة القطنية التي تحملهما، وهذا القطن ممتلئ سمين باللحم الكنيز، وإذا جلست فهي تجلس بلباس خفيف يظهر لونها وجمالها، وإذا قعدت  كان ردفها كالطباق بعضها فوق بعض في تنضيد وتصفيف جميل، كأنه مصفوف (كمداميك) الرخام المبنية بشكل متناسق جميل، وهي تمشي متكاسلة تُظهر ضعفاً ومرضاً، لتبعث النشوة في نفس حبيبها على هذا المشي الكسول، مع لين بهذا اللحم الذي يلف جسدها،  وهي تشبه الأغصان الناعمة المتمايلة كما قال عبد الملك العصامي:

بدا قَدُّكَ الميَّاسُ في حُلَلِ الْبَها ... فألْبَسنِي جِلْبابَ سُقْمِيَ والحُزْنَا

فهذا القوام الرائع الميّاد الليّن، لهذه الفتاة بهذا الجمال، وهذا العطاء، هل من الممكن أن ينساها من يقع في هواها، فهو يذكرها في النهار، ويبقى يلهج بحبها أمام كل الناس، ويفتخر بها، وفي الليل لا يحتاج إلى ذكرها، فهي تأتيه في المنام، فيزداد ولعه وتولعه فيها، وتغريه بحبها، ولذلك يقسم الشاعر هنا  أنه لن ينساها، ولن يترك ذكرها حتى يموت، وحتى يُغيّب تحت الثرى، وعظامه تُغطى بما فوقها من طين القبر، فهذه الفتاة فعلت به كل هذا الولع، والخروج عن حدود المعقول كما فعلت غزوة بدر، فكل ما في هذه الفتاة من جمال وإغراء كان في غزاة بدر، وكل ما في هذه الفتاة من ذكريات جميلة يفوق ما فيها كل ذكريات غزوة بدر، ولذلك يلوم عاذلته في نهاية القسم الغزلي من هذه القصيدة وأنها جاءت تقول له أنت تعيش في وهم، وإنما هذه أكاذيب أتيتك بها، فقال لها يثبت صدق ما هو فيه من سعادة، ظاهرها خيالي، ولكنه حقيقي، قال:

إنْ كنتِ كاذبة َ الذي حدّثتِني،...فنجوتِ منجى الحارثِ بن هشامِ

هذا الذي هرب من سيوف المسلمين/ لا يلوي على شيء، وبدأ يتكلم عن الأحداث بشكل مباشر، بعد أن أرانا الأثر النفسي لهذه المعركة التي جعلته يتغزل بهذه الطريقة المكشوفة الرائعة، كما فعلت غزوة بدر بكشف جيش المشركين، واندحاره، وهذه العلاقة بين الغزل والواقع كان في كل الشعر العربي، وليس في هذه القصيدة فقط، ولذلك نجد مثلاً أن غزل عنترة كان يسيطر عليه السمو النفسي الذي يجب أن يثبته الفارس النبيل، والقائد الشهم، حتى يحظى بحب محبوبته، بينما جاء المحبون في عصر بني أمية يتخصصون في الغزل بسبب الاستقرار والغنى في الحياة الاجتماعية، والراحة النفسية، وابتعاد ميادين المعارك عن الحواضر الإسلامية، فعمر بن أبي ربيعة الشاب المدلل المتفرغ للعشق والغزل، وهو في بيئة يأتيها النساء من كل بلاد المسلمين، وهن يحملن كثيراً من عادات تلك الأماكن وأحوالها، فكان مثالاً لهذا المجتمع المدني المتمدّن، بينما كان العذريون أبناء بوادٍ بعيدة عن الحواضر، والاستقرار عندهم موجود، ولكنه بعيد عن الغنى الذي يصل إلى حد الترف، فعندهم الحياة بسيطة، والدين الغامر يملأ بساطة هذه الحياة، فجاء غزلهم راقياً في سموّه وروحه، ويؤيد هذا غزل الجاهلية كذلك، فامرؤ القيس ابن ملك، وحياته كلها استهتار كما كان قريبه الزير سالم زير نساء لا يعرف إلا الضلال، فسالم سماه العرب بالزير لفسقه وفجوره وفحشه، وامرؤ القيس أطلقوا عليه اسم الملك الضلِّيل، لضلاله وفجوره أيضاً، وهذا ما علمناه من أن النبي عليه الصلاة والسلام قال عن امرئ القيس إنه حامل لواء الشعراء إلى النار.وبقي الشعراء يستنجدون بالغزل، لأنه العاطفة المشتركة بين كل أفراد الإنسانية، فحب المرأة مغروز في حياة الإنسان، حتى قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (حبب إلي من دنياكم: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، إذن لا يمكن أن يُنزع حب المرأة، والتغزل بالمرأة من نفوس الناس، وإن بلغ بعض الناس مبلغاً جعلهم يبتعدون عن هذا الأمر، وينأون بأنفسهم عنه، لتقوىً، أو فهمٍ فهموه من الدين، فهذا لا ينفي ما ثبت في القلوب الإنسانية، وأفئدة الكثيرين التي تُشوى بحب النساء، فالناس مراتب، ومراحل، وطبقات، ويحضرني قصة رائعة ذكرها الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في الإصابة في تمييز الصحابة أنّ عاتكة بنت زيد كانت زوج عبد اللَّه بن أبي بكر الصّديق، وكانت من المهاجرات، تزوجها عبد اللَّه بن أبي بكر الصّديق، وكانت حسناء جميلة فأولع بها، وشغلته عن مغازيه، فأمره أبوه بطلاقها فقال:

يقولون طلّقها وخيّم مكانها ... مقيما تمنّي النّفس أحلام نائم

وإنّ فراقي أهل بيت جمعتهم ... على كثرة منّي لإحدى العظائم

ثم عزم عليه أبوه حتى طلقها، فتبعتها نفسه، فسمعه أبوه يوماً يقول:

ولم أر مثلي طلّق اليوم مثلها ... ولا مثلها من غير جرم تطلّق

فرقّ له أبوه، وأذن له فارتجعها، ثم لما كان حصار الطّائف أصابه سهم، فكان فيه هلاكه، فمات بالمدينة رحمه الله.

نصحني بعضُ من أحبُّه بأسلوب مؤدب راقٍ، وقال لي: إن ما تقوم به فيه نوع من الإفراط، فأنت تتكلم بكلام يؤذي بعض المشاعر، ويثير بعض الأحاسيس، فاتق الله في أحداثنا وشبابنا، فسألته: عن أي شيء تتحدث؟ فقال: مثلاً إسهابك في الكلام عن قصيدة حسان رضي الله عنه، فسألته: هل خرجت في هذا الكلام عن مفهوم القصيدة وما ترمي إليه من معانٍ وأفكار؟ فقال: لا، ولكن هذا فيه إثارة للشباب، وأنت تعلم أن الشباب أمره مخيف إذا انحرف. فقلت: والله صحيح، إن الشباب أمره مخيف إذا انحرف. ثم توقفت قليلاً عن الكلام، فرأيت في ملامحه استغراب واستفسار كأنه يريد كلاماً مزيداً ليعرف رأيي في ما قال. فتابعت حديثي قائلاً: هل قال حسان عند إنشاده هذه القصيدة إنها للمثقفين فقط، أم للكبار فقط، أم لمن يفهمون اللغة التي قيلت فيها فقط. فقال: كلهم كانوا يفهمون هذه اللغة، وكلهم ثقافاتهم متقاربة، فلم يكن فيهم من يجهل اللغة، ومن لا يجهلها، بل كلهم عالم بها، متكلم بها، صغيرهم وكبيرهم. فقلت له: سامحك الله، أجبت على نفسك بنفسك، إذن هذه القصيدة أنشدها الكبار والصغار، وحفظّها الكبير للصغير، حتى لا ينسى لغته، وكلهم فهم ما فيها، ولم يخف الكبير على الصغير، ولا الأب على الفتاة، بل من أجل أن يبقى فهم اللغة قائماً كانوا يحفظون حتى أشعار الجاهلية بما فيها من عجر وبجر، وبما فيها خلل وعلل، ونحن نريد أن نمنعها عن نشئنا حتى يبقى بعيداً عن لغتنا، ولا يفهم ما يقرأ... فقال محتجاً غاضباً: ألم تجد إلا قصيد الغزل تعلمهم به اللغة، أما يكفيك مثلاً ديوان الشافعي، أو ديوان عبد الله بن المبارك، وغيرها من دواوين الوعظ؟ فقلت: سامح الله ابن عباس، فقد كان يعلّم الناس دواوين الجاهلين، ويحفظ ديوان عمر بن أبي ربيعة، فسن لنا سنة تحاربونه بها، رضي الله عنه، كان ترجمان القرآن، وأرى أنكم ترجمان الأحزان، فقد حضرت زفافاً (إسلامياً، وأنا أعترض على هذا التعبير بشدة وعصبية)، فأتى بمنشد نوّاح، بدأ يتحفنا بقصيدة كانت منتشرة أيامها عنوانها (أنا العبد)، وبدأ النائح ينوح في هذا الزفاف: أنا العبد الذي سيموت، وليس عنده كفن يكفيه، وتكفنه زوجته، ثم تستبدله برجل آخر، ولم ترعَ له حرمة، ومات عن صبية صغار.... ويبكي ويُبكي من حوله بمناسبة هذا الزفاف الرا(قع)، وهو يظن أنه يتقرب إلى الله بهذا النواح، في (سكة الأفراح)، وابتعد عن منكرات الأفراح. فلا حول ولا قوة إلا بالله صاحب القوة الجبار العزيز.

clip_image002_c1ba4.jpg

مقدمة :       تقعُ هذه القصَّةُ ( الاسد الذي  فارق الجياة  مبتسما )  في 38 صفحة من الحجم الكبير،من تأليف الأستاذ سهيل عيساوي،رسومات وتنسق جرافيك : الفنانة التشكيليَّة ( رنا عتاملة ) -  الأردن  .    إصدرار: (  أ. دار الهدى ع . زحالقة ) .

مدخل :  تدورُ أحداثُ القصَّةِ  في غابة مترامية الأطراف يجتازها نهرٌ كبير  غزير المياة ، وهذه الغابة  كثيفة  الأشجار وباسقة  ومليئة  بالحيوانات على مختلف أنواعها وفيها الحياة  زاخرة . وكان  يحكمُ  هذه  الغابة  أسدٌ  شجاع  ومهابٌ  تخافهُ  وتخشى  سطوتهُ  جميعُ   الحيوانات  والطيور  في  الغابة ، وتحترمُهُ في نفس الوقت وتوقّرهُ،وجميعها متقيدة بإدارتهِ وشرعهِ  وتعليماته  ولا تخالفهُ في أيِّ  أمر أو  قرار يتخذهُ.   

وكان عندما يزأرُ تكادُ جميعُ  الحيوانات تموت خوفا ورعبا وتصغي بكلِّ سكينة وخشوع  لخطاباته الرنانة التي يشوبُهَا الوعيد والتهديد.

وحدث أن أصيبَ هذا الأسدُ  بداء عضال لا شفاء منه ، وقد هزلَ جسمُ الأسدِ  كثيرا  وأضمرت  وتقلصت  وتلاشت  عضلاتهُ  الفتاكة   حتى  بانت عضامُهُ وأضلاعُهُ عن جسمهِ..وقد غابَ النومُ من عينيه. وكانت الأيامُ  تمرُّ  عليه ببطىء كبير وكأنها سنين طويلة من هول المرض وشدة الألم . وكانت أشبالهُ الصغار تداعبُهُ،وهو يحاولُ النهوضَ والقيامَ ولكنهُ لا يستطيعُ ويسقط  أرضا ويطلقُ صراخا قويًّا من شدَّة الألم..وأما اللبوءةُ زوجته فتهمي الدموع من عيونها  تلقائيًّا  وتحاولُ  إخفاءَها عن الأسد وعن  أشبالها .  وكان الأسدُ  يلمحُ ويرى دموعَها التي تتساقط ويحاولُ قد الإمكان ألا يهتم بيدَ أنهُ سرعان ما  يقاسمُهَا ويشاطرُهَا ذرفَ الدموع  وبصمت حزين .

وكانت اللبوءةُ في هذه  الفترة ( التي مرض فيها  الأسد ) هي التي تصطاد وتطعمُ الأسد  والأشبال ..فتصطادُ اللبوءةُ  للأسد غزالا صغيرا بعد مطاردة  طويلة على  ضفاف النهر وتضعُ  الفريسة ( الصيد ) أمامه، ولكنه لا يقوى على التهام  الظبي بسهولة  كما كان  وضعهُ وحالتهُ  قبل المرض ، فتعاونه وتساعدُ اللبوءةُ  فيأكل منه القليل ويغطُّ  بعدها في سبات عميق.

سمعَ  الثعلبُ وهو الطبيبُ الخاص للأسد  بما جرى لملك الغابة ، فأحسَّ يكبر الفادحةِ وثقل المسؤوليَّة وأصبحت تراودُهُ أفكارٌ عديدة ووقع في دوَّامة من الحيرة .. إنهُ  الاسد  السيد  والملك  على جميع  حيوانات  الغابة  وكيف يستطيعُ أن  يعالجهُ  ويخرجُهُ من  هذه المحنة والهمِّ العظيم .  فحملَ  الثعلبُ حقيبتهُ الطبيَّة وذهب مباشرة إلى عرين ( بيت الأسد)بخطوات متثاقلة (دليل على الحيرة  والإرتباك  والحزن ) ووقفَ  فترة  طويلة  أمام  مدخل  عرين  الأسد قبل أن يطرق الباب، فأطلت عليه اللبوءةُ  بوجه شاحب حزين  ويبدو عليها الإرهاق  بوضوح ، ودعتهُ للدخول .. وسألها  الثعلبُ عن  حال الأسد  ملك الغابة، فقالت له  اللبوءةُ : إن حالته الصحيَّة تزدادُ سوء يوما بعدَ يوم .

دخلَ الثعلب  ببطىء وهدوء  كي لا  يزعجَ الأسد وجلس أمامه باحترام  وخشوع  وهو  يرتعد ، وأطرق برأسه  متأملا   ومفكرا.  وأفاق الاسدُ على صوتِ  لهو ولعب الأشبال وتفاجأ بحضور  صديقه الخاص  الثعلب لأنه  لم  يستدعه ، ولم يكن يرغب ويحب أن يعلمَ  أهلُ الغابة بمرضه فيفزعوا .   

رحَّبَ الاسدُ ، بدورهِ ، بالثعلب  بكلمات كلها مديح  لمهارته وبراعتِهِ  في الطب وشفاء المرضى .  فقالَ  لهُ الثعلبُ : سلامتكَ  يا مليكنا... بالتأكيد هذا مرض بسيط وعابر الذي أصابكَ  وسرعان ما  تخرجُ منه وتتعافى  وترجع لكامل قوتكَ  ونشاطكَ كما كنتَ. وأخرجَ الثعلبُ أدواته الطبيَّة التي يستعملها دائما  وبدأ  بفحص الأسد  برفق  واهتمام .. وخرجَ الثعلبُ بعد ذلك  مسرعا من دون  أن ينطق بحرف...وبدأ يبحثُ عن أعشاب نادرة  في أعالي التلال فربَّما ينقذ الأسدَ من  خظر الموت المُحدق .

إنتشرَ خبرُ مرضِ الأسد بين جميع الحيوانات والطيور في الغابة بسرعة  مذهلة ، وحيكت ورويت القصصُ والأساطيرُ الكثيرة  في هذا الصدد.   والبعضُ قال :إنَّ البوءةَ  تآمرت عليه ،كي يغيبَ عن مسرح الحياة  ويتولّى بكرُها الشبل حكمَ الغابة مبكرا.والبعضُ الآخر قال:إنَّ الضباعَ منحتهُ لحوما فاسدة  كي تتخلّص من بطشهِ . والأفاعي أطلقت عليه إشاعة مفادها انَّ لعنة اصابتهُ بسبب غطرسته وجبروته وظلمه للحيوانات  .   وأما الدببةُ فقالت : إنَّ  هذا  الأسد  يتمارضُ (  يدّعي  المرضَ  والضعف )  لكي  يختبرَ  ولاءَ وإخلاصَ الحيوانات  له، وأنهُ  ينشرُ  العيون والجواسيسَ والأتباعَ  في  كل جهة   وصوب   لرصد  مجالس  الحيوانات  وتحركاتها   وماذا  يخططون ويفكرون  تجاهه .          

وبعد أيام  حلَّقت البومةُ (  رمز الشؤم والشر ) عاليا  في الغابة  وبدأت  تنعقُ  لتعلنَ عن عقد اجتماع هام  جدا وطارىء  لجميع الحيوانات والطيور  عند التلة الكبرى التي  تطلُّ  وتشرفُ على  ضفة النهر .. فأقبلت الحيواناتُ مجموعات مجموعات( زرافات )  هائمة على وجهها ( دليل على  الإرتباك   والحزن والتَّأثّر من مصيبة كبيرة ) تتلهف لسماع الأخبار عن الاسد .

وعقدَ هذا الإجتماع الهام الذي افتتحهُ الفيل ( صديق الاسد) وقال للجميع :  يا معشرَ الحيوانات، بالتاكيد لقد علمتم بخبر مرض الاسد ملك الغابة العادل ونحبُّ وتودُّ أن نسمعَ أراءَكم واقتراحاتكم في هذا الموضوع . فقال الأرنبُ:  نحنُ  نخشى أن  يكون الأسدُ  قد  تمارضَ  ويدَّعي المرض  والضعف وهو ليس  بمريض  .  وقال التمساحُ :من رأيي أن تختاروا منذ الآن خليفة للأسد  في الحكم ولكي نمنعَ حدوثَ فراغ دستوري في غابتنا فتعمُّ البلبلةُ والفوضى  والخلافات بين الجميع  وتطمعُ بنا الممالكُ الأخرى  .   وقالت السلحفاةُ : أنا أقترح أن نختبر نبأ مرض الأسد ملكنا حتى نتأكدَ ونتيقن من هذا الامر.وقال الغزال : أنا اقترحُ أن  نقوم  بتنظيم  زيارة  جماعيَّة  للأسد  للإطمئنان على صحته . وفي هذه الفترة وعندما  كان الجدالُ محتدما ومحتدًّا بين الحيوانات  والطيور في صددِ موضوع مرض الأسد وصل الثعلبُ ( الطبيب الخاص ) يلهثُ  وفي  يده  حزمة من  الأعشاب الغريبة  والملوَّنة ، تفوحُ منها  رائحة عطرة تزكم الأنوف، فقال الثعلبُ: أؤكد وأقسمُ ان الأسدَ يُعاني من  سكرات الموت، وكل ما يقالُ ويشاعُ غير ذلك هو كذب وبهتان .

وبعد هذا الإجتماع وحديث الثعلب الذي أكد  للجميع على مرض الأسد  ووضعه الصحي الصعب والمستعصي بدأت الحيوانات تذهبُ  وتتوافد على عرين ( بيت ) الأسد ،  وكان مشرع  الأبواب لتدخلَ  بلا عقبات أو حراسة  مشدَّدة .  فوقف الشحروُر والقى على  مسامع الأسد  قصيدة  رائعة عصماء  يمدحه  ويمجدُهُ ويرثيه ،فابتسمَ الأسدُ  ابتسامة صفراء يائسة .  وتحدَّث بعدهُ الضبعُ وتمنّى  للأسد الشفاء العاجل  وأقسمَ أمام الجميع  وبأغلظِ الإيمان  انَّ الضباع تقدِّمُ  للأسد دائما أجود وأفخر أنواع اللحوم،ولم تقدم له لحوما فاسدة  كما أشيع عنها . ووقف بعده النمر من بين الجموع وقال : أيها الأسد العظيم  ملك غابتنا ، كنت لنا الابَ والقائدَ  والمعلم والسند والصديق.. سوف تفتقدكَ  الغابةُ لأجيال قادمة لأنَّ بصماتك راسخة. وقد خطبت الزرافةُ من بعد النمر  وقالت : كنتَ الصديقَ والخصمَ  والحكمَ والملكَ .. وآمل أن تشير إلى  أحقنا  وأفضلنا  في اعتلاء  عرش المملكة  بعدك ، قبل ان  تلفظ  أنفاسكَ  الأخيرة  وتنفارقنا .

وبعد هذه الكلمات والخطب الرنانة  اتكأ الأسدُ على كتف اللبوؤة  ونهض من فراشهِ ، وزأر بصوت مرتجفُ مسكون بالحزن والحنين  وشكرَ الجميعَ  ونعتهم بالأصدقاء الأوفياء..وأنهُ ليس سرا على أحد  ولا أحدٌ  يشكُّ على أنه سيفارقُ الحياة  قريبا وسيتركُ لهم غابة واسعة وجميلة جدا وغنيَّة  بالموارد الطبيعيَّة ومملكة كبيرة وكيانا قويًّا  ونسيجا اجتماعيا متينا فيجب ألا يفرِّطوا  بهذا الميراث العظيم  . وطلبَ  من الجميع  أن  يسامحوهُ إذا  كان  قد أخطأ  يوما بحقِّ واحد منهم ، وقال جملته  المشهورة :( أحبُّكم لو تعرفون  كم ) .. هذه الجملة  التي  يستعملها  يستشهدُ  بها الكثيرُ من  الأساتذة اليوم ، وهنالك أكثر من  شاعر  وضعها  عنوانا  ومقدمة  لديوانه . وأشار الأسدُ  في جملته الأخيرة إلى أشباله التي  أحاطتهُ  بعطف  وحنان ، وغط بعد ذلك في  سبات عميق حتى غاب عن الوعي .

خرجت الحيواناتُ من عرين الاسد بعد موته بخطوات سريعة ومحدثة  ضجة  وجلبة  كبيرة  وهي  غازقة  في التفكير  ويعتريها  الخوفُ  والرهبة وتفرقت إلى بيوتها . وبعد غياب الشمس وحلول الظلام  لم يرُق للبعض من حيوانات الغابة زيارة عرين الأسد فتهامست سرًّا فيما بينها  ودعت إلى عقد اجتماع طارىء وعاجل ودعي إليه كل من الفيل والنمر والطاووس لإختيار خليفة  للأسد  وملكا  مكانه ... هذا  وتجمَّعت  الحيواناتُ  والطيور عند التلة الكبيرة   المطلة على النهر.. وكان الفيلُ هو الذي بدأ  الكلام  وافتتحَ النقاش قائلا: إنهُ أضخمُ  الحيواناتِ  وأقواها وأعظمها هيبة ووقارا ..وهو أيضا في نفس الوقت صديقٌ حميمٌ  للأسد وكانت  ثقةُ الأسد  به عظمة جدا ، وسيعملُ مثلَ الأسد  بالضبط  على حماية الغابة  وتحقيق  الأمان  والسكينة  والهدوء والأستقرار  ونشر  المحبة  والسلام .. وهو  يأمل أن  يحظى  بدعم  الجميع وتأييدهم  له في الحكم  وتزعم  وقيادة جميع  الحيوانات  في الغابة .

ومشى الطاووس بكبرياء  مستعرضا جماله ومفاتن  ريشه المزكرش ، وقال : أنه أجمل وأحلى الطيور والحيوانات ،وأنه  سيجلبُ الحظ  والسعادة   للجميع  وأنه أحق شخص في أن يتولى منصبَ ملك الغابة بعد الأسد.. وبعد أن أنهى كلامه تعالت الأصواتُ والصياح من كل جانب ولم تتفق الحيواناتُ والطيور على زعيم  يخلف الأسد  فتفرَّقوا في كلِّ جهة وصوب   .                           ومع  شروق الشمس  معلنة  يوما  جديدا انتشر الخبرُ وعلم الجميعُ انَّ الأسدَ  قد  فارقَ الحياة وهو مبتسما ..وتنتهي القصّةُ هنا نهاية شبه مفتوحة.

تحليلُ القصَّة :  هذه القصَّة جميلة وناجحة من جميع النواحي والمقايس الأدبية  والفنيَّة  والذوقيَّة ، وتكتملُ فيها  كلُّ عناصر الإبداع ، وهي  مترعة  ومضمَّخة  بالتوظيفات وبالأهداف والرموز الهامَّة والجليلة  والأبعاد المثلى والواسعة  ، مثل:

1 ) البعد  الأدبي والثقافي  .    2 )  البعد  والجانب الإجتماعي والإنساني .    3   ) البعد الفلسفي  . 4 ) البعد السياسي    .    5 ) الجانب والبعد الخيالي الفانتازي   .    6 )  الجانب اللغوي  والبلاغي    .     7 )  البعد  الفني  .

8) الجانب التعليمي والتقيفي .  ) 9) الحكم والمواعظ  ...بالإضافة عنصر التشويق والجانب الترفيهي.

لقد  اختارَ الكاتبُ مكانَ ومسرحَ القصة الغابة المترامية الأطراف .. والغابة ترمز إلى العديد من الأمور والأشياء..والغابة ،مثلا: هي رمزٌ للحياة الوادعة والهادئة والساذجة البعيدة عن الضوضاء والمتاعب وصخب الحياة ووجع   الرأس .       وكان شعراءُ  وأدباءُ المهجر والشعراء الرومانسيون والرومنطيقيون في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يوظفون الغابة دائما في  كتاباتهم  وأشعارهم ، وهي  رمز وشعارٌ  لهم للعالم المثالي  الرائع الذي ليس فيه ظلم واضطهاد واعتداء على حقوق الغير ..وأكبر مثال على ذلك  جبران خليل  جبران  .     والغابة  ترمزُ أيضا  إلى الحياة المليئة بالمتناقضات ( السلبيَّة والإيجابية ) .  إنَّ حياة البشر على الأرض هي غابة بكل  معنى الكلمة  مهما   وصلَ  الإنسانُ من   تقدم  ورقي   وتطور  علمي وتيكنيلوجي ... فالقويُّ  دائما هو الذي  يفرضُ سيطرته وهيمنته على الآخر الأضعف  والأقل  منه  قدرات  وإمكانيات  علمية  وعسكرية  واقتصاديَّة .. فالغابةُ التي يتحدثُ عنها الكاتبُ في هذه القصة هي حياتنا الأرضية  في كل مكان  وبقعة  على هذا الأرض.... ولقد  اختارَ أبطالَ  القصة  جميعهم  من الحيوانات، والحوار(ديالوج) جميعه على ألسنة الحيوانات لأن القصَّة كتبت لأجل الاطفال، والطفل بحدِّ ذاته وكل طفل في العالم يُحبُّ الحيوانات  كثيرا ويعشقُ  قصصَ  الحيوانات  وكلَّ  خبر أو  حديث  يُروَى  عن الحيوانات ، وخاصة الأليفة  منها.  وهذه القصَّةُ  تذكرنا بكتاب  ( كليلة  ودمنى  ) - من تأليف  عبد الله  بن المقفع  الذي  ألفهُ  على  أسنة  الحيوانات ، وكان الهدفُ الرئيسي  من  ورائه هو إنتقاد  السلطة  آنذاك ...أي إنتقاد  الخليفة  العباسي والمسؤولين  الكبار  وكشف الأخطاء  والفساد  المتفشي  في الحكم  .  وهذه القصَّة  ( الأسد يموت مبتسما )  لها أيضا أبعادٌ  سياسيَّة  مبطنة ..إنَّ الكاتبَ يتحدثُ عن مملكة  ونظام حكم وطريقةِ وأسلوب حياة موجود ومتبع في هذه الغابة الكبيرة .وطبعا كل دولة وكل مملكة في العالم لها طابعها ونمط وشكل الحياة والعيش  فيها .. حياة سكانها وتقاليدهم وعاداتهم  ودستورها ونوعية وطرقية الحكم فيها ..إلخ . والأسد في هذه الغابة هو الحاكم وصاحب القرار في كل شيىء..وأختار الكاتبُ الأسدَ ملكا للغابة وحاكما عليها في القصَّة لأن الأسدَ  كما  هو معروف  يعتبرُ  أقوى  حيوان  برٍّيٍّ على الأرض .  واختار الكاتبُ  الفيلَ نائبا  له لأن الفيل يأتي بعده منزلة من ناحية القوة الجسدية من  بين الحيوانات .    وقد  تحدثَ الكاتبُ عن العديد من  الحيواناتِ  بعد مرض الأسد ، وأعطى لكلِّ حيوان الصفات  والميزات التي  يتمتعُ بها والتي منحهُ إياها الخالق. ومثلا حيوان الضبع ذكرهُ الكاتبُ بشكل غير مباشر أنه يتناول الجيف، حيث  كان هنالك  شك عند  بعض الحيوانات  بعد  مرض الأسد أن تكون الضباع  قد  قدمت  له  لحوما  فاسدة   ونتنة  تسببت بمرضه.. .وذكر الطاووس  بالإعجاب النفس  والإختيال  وأنه ينفش  ريشه  مختالا  ومعحبا بنفسه .   وذكر الشحرور أنه  ألقى  قصيدة  عصماء ، لأن  طائر الشحرور معروف عنه أن صوته  ( زقزقته ) جميل  وعذب .

إنَّ  المحور والمركز الرئيسي  في هذه القصَّة هو الأسد ، ويتحدثُ عنه الُكاتبُ  بلغة  وبأسلوب دراميِّ  تراجيديٍّ  مؤثر جدا  يذكي  ويؤجِّجُ  الحنان والشفقة  والالم ويجعل كلَّ  قارىء لهذه القصَّة -  كبيرا او  صغيرا -  مهما كانت نوعيته ومستواه الثقافي  يتعاطف مع هذا الأسد المريض ويشفق عليه  ويرثي لحاله  ولوضعه المأساوي  ولوضع  وحال  إسرته ( زوجته وأشباله الصغار)....وكيف كان  بالأمس  في  أوج   وقمة  القوة  والبأس  والعنفوان  ويفرضُ هيمنته  وسيطرته  على كلَّ الذين  في  الغابة من حيوانات وطيور ..والآن  أصبح مريضا  عاجزا  يعاني من  سكرات الموت  ولا يقوى على النهوض  والوقوف على رجليه ..ولا يستطيعُ  أن  يلاعبَ ويلاطف أشباله الصغار الذين بحاجة لحنانه ورعايته .

والأسدُ دائما - وفي هذه القصَّة بالذات-  يرمزُ لعدة  أمور  وأشياء .                    1 ) هو يرمزُ  للحاكم  القوي  والشجاع الذي  يفرضُ هيمنته وسلطانه  على جميع الذين  في المملكة  أو الدولة ، ويهابهُ ويخشاهُ الجميع  .   وتعملُ باقي  الممالك والدول  الأخرى  ألفَ حساب  له ولمملكته ودولته  لأنه حاكم  قوي   ومملكته  قويَّة  وتتمتعُ  بالقوة  والمجد  في عهده  وفترة حكمه  المزدهرة .. والكاتب هنا  ينعتُ الأسدَ  ملك الغابة  بالصفات  الإيجابية  وأنه حاكم عادل ويحبُّ رعيَّتهُ .. والجميعُ  يحبونه.. ولكن هذا الحاكم  والملك ومثل كل حاكم  وملك  على وجه  الأرض لن  يعيشَ   ويخلد  للأبد ، وسيأتي  يوم  يمرض ويضعف وتتراجعُ  قواه  ويموت مثل جميع المخلوقات والكائنات على وجه  هذه الأرض  التي  يتصارع الجميع  فوقها من أجل البقاء .. وعليها  يستحق الحياة .. ولا شيىء يبق ويدوم  ويخلد  للابد  إلا الله جلَّ جلالهُ  .                 2 ) الأسدُ أيضا يشيرُ ويرمزُ إلى الرجل الأب وربِّ الأسرةِ القوي  الشجاع   والشهم والشريف الأبي الذي  يحبُّ عائلته ( بيته وزوجته وأولاده )  ويوفر ويؤمنُ لهم  دائما  العيشَ  الجميلَ الرغد  والحياة  الهانئة ... ويحدث أن هذا الرجل القوي والمثالي في الرجولة والشجاعة والإستقامة  يمرض ويضعف وتنهار قوته ويصبح في وضع وحالة يرثى لها ويعاني من سكرات  الموت، ويهتز  وضعُ  وجوُّ العائلة  ويتغير رأسا  على عقب   (  الأولاد والزوجة )  ويتصدعُ  النسيجُ  الإجتماعي للأسرة ثمَّ يموت الرجل ،وتكون كارثة كبيرة لعائلته  وإسرته .  إنَّ قصة  مرض الأسد  ذكرتي بوضعي الصحي  عندما دخلتُ أنا المستشفى وأجروا لي عمليتين جراحيتين متتاليتين معقدتين  خلال أسبوع  وكنت  ملقى على  السرير لا  أستطيع  الحراك  أو النهوض ، وقبل أسابيع من  المرض وإجراء العملية الجراحيَّة  كنت في  قمة النشاط  والقوة  والحركة  والعنفوان ، وكنت أمارس الرياضة يوميا   وأقفز في الهواء بكل رشاقة وخفة وأركض عدة كيلومترات كل يوم ..وبإختصار إن قصّة  الاسد ومرضه والذي فارق الحياة  مبتسما .. تجعلُ  كلَّ ذي ضمير  حي يقرأ هذه القصة يتعاطف ويتفاعل مع أجوائها الدراميَّة ويشعر بالحزن والالم واللوعة والمرارة والأسى  بشكل  تلقائي للوضع الذي  آلَ  ووصلَ إليه  بطلُ القصَّة ( الأسد ) ولمصيره ونهايته المأساويَّة.

هذه القصَّة فانتازيّة كتبت ونسجت فصولها وأحداثها على ألسنة الحيوانات ..والجانب الفانتازي (الخيالي) هو من أهم الجوانب والعناصر  في  قصص الاطفال ،ويضيف للقصَّةِ جمالا ورونقا وسحرا خاصا..  والطفلُ بحدِّ  ذاته  يحب الفانتازيا  والخيال  ،وخاصَّة إذا كانت القصَّة  على ألسنة الحيوانات .  وهذه القصَّة  كُتِبَتْ ونُسِجَتْ بلغة أدبية جميلة منمقة متينة ومتناسقة  وجزلى وباسلوب  رشيق  شائق. ...وفيها   الكثير من  الكلمات  الفصحى  والتعابير البلاغية  الجميلة والعميقة في معانيها وأبعادها ،ولكنها مفهومة للجميع ولا يوجد فيها  تعقيدات  .   إنَّ العديد  من الكلمات  العربية  الفصحى التي تبدو ظاهريًّا أنها  صعبة على الفهم ، وأيضا التشبيهات والتعابير والمصطلحات  البلاغيّة والاستعارات الجميلة والساحرة في القصَّة...هذه الكلمات والتعابير قد  تفهم  وتفسر  تلقائيًّا  ويفهمها  الطفلُ الصغير  والقارىء  البسيط  حسب وضعها  وإدرجها  في الجمل ، ومن خلال انسياب الجمل  وتسلسلها ، ومن خلال مجرى أحداث القصَّة .  وأمثلة على ذلك ، مثل كلمات  :                ( العرين : بيت الأسد- صفحة 4 )  وكلمة  : ( باسقة - صفحة 4 )  . وكلمة : ( براثن -  صفحة 15) .   وكلمة الوعيد - صفحة 5 ) .   وكلمة  ( القنوط  صفحة  10 )..  وكلمة ( اللبوءة   - زوجة الأسد   صفحة 2  ) ..إلخ ...

ومن التعابير والجمل والإستعارات البلاغية الجميلة، مثل : ( تعجُّ بالحياة

صفحة 4 )  .   (  ترتعد فرائصها  صفحة   4 )   .    ( تلاشت عضلاته  -صفحة  )  . ( أصابه  الإحباط  والقنوط -  صفحة 10  ) . ( يلوذ  بالصمت المطبق - صفحة 7 ) . (  ينبس ببنت شفة – صفحة 15 ) .  ( براثن الموت  المحدق - صفحة 15  ) .  ( مسكون بالحزن والحنين   - صفحة  31 )  .    ( فراغ  دستوري - مصطلح قانوني وقضائي -  صفحة  21 )  .

ولهذه القصَّةِ أهدافٌ وأبعادٌ عديدة وهامَّة : أبعاد إجتماعية وسياسيَّة  وأنسانيَّة وأسريَّة  ونفسيَّة  ..وغيرها - كما ذكر أعلاه .

وبالنسبةِ  للبعدِ السياسي  فتتحدثُ القصَّة عن المملكةِ  التي  في الغابة ويحكمُها الاسدُ القوي ، وتعني وتقصد أن كلَّ  مملكة  وكل  دولة وكل جسم ونسيج إجتماعي يجب أن يكون متماسكا وله  قيادة حكيمة  وواعية وتوجِّههُ إلى الطريق  الصحيح  والقويم .. وان أيَّ مجتمع وأية  دولة أو مملكة إذا لم تتوفر لها القيادة الصحيحة  والحكيمة والتي تحسُّ  بالمسؤولية  وتكون أهلا  لأدارة المملكة أو المجتمع  فيسحدث التصدُّعُ والفوضى والبلبلة  والإنشقاق  ثم الإنهيار الكامل في هذا الجسم والنسيج الإجتماعي- المملكة أو الدولة .

ويظهر هنا بوضوح ،من خلال مجرى أحداث القصَّة، البعدُ الفلسفي وحب الحياة  والكفاح من أجل الحياة الأفضل والأجمل ..ثمَّ  الدروس والعبر ..وأن لا شيىء يدومُ ويبقى على حاله..ويجب على كلِّ إنسان أن يعمل ألفَ حساب للعواقب وللتغيُّراتِ الحياتيّة المفاجئة في المستقبل على جميع الأصعدة .

وأخيرا :    إن هذه القصّة جميلة وناجحة وتتوفرُ فيها  جميعُ العناصر والأسس الهامَّة التي يجب أن تكون في كل  قصَّةٍ وفي كلِّ عمل كتابي  يقدم  للأطفال ...وهذه القصة  ترفيهيَّة  وَمُسَليَّة من  الدرجة الاولى  وفيها عنصر التشويق الهام . وكل شخص يقرأها سيقرأها باستمرار ودونما إنقطاع  حتى نهايتها..والطابع الفانتازي  فيها يضيفُ لها جمالية خاصة ...والجوُّ الدرامي يدخلُ للقصَّة حياة  ودينامكيَّة وَيُحَفّزُ التفاعلَ مع  المتلقي ويجعلُ للقصَّة جوًّا وسحرا خاصة ويخرجها من الرتابة والجمود. والقصة عبارة عن مزيج من السَّردِ على لسان الكاتب  ثم الحوار بين أبطال القصة  وهم من الحيوانات .. واللغةُ الأدبية فيها  جميلة وعذبة ومنمقة  وراقية .. والشيىء الذي يميِّزُ هذه القصَّة عن  جميع  قصص الاطفال التي كتبها  الأستاذ  سهيل عيساوي  أنها  تنتهي  نهاية  تراجيديّة  مأساويّة  بموت البطل ( الأسد ملك الغابة ) .. وهذه القصة تشبهُ العديد  من القصص  والروايات  الأجنبيَّة  العالمية  التي  تكتب للأطفال  وللكبار أيضا  في  أسلوبها  طابعها  وأبعادها  الفنية  والإجتماعيّة  والإنسانية  والفلسفيَّة. .ومعظم  النقاد  والأدباء حسب  رأيهم  أنه من المحبَّذ والمفضل  لكل قصّة  تكتبُ  للأطفال أن تكون النهايةُ  فيها  سعيدة  ومفرحة  وتدخلَ الأملَ والبهجة والسعادة والحبور لقلوب الاطفال،ولا تكون تراجيدية  مأساوية  تثيرُ القلقَ  والإضطرابَ  والحزن  والخوفَ عند  الطفل . فالهدفُ الأساسي أولا وأخيرا  يجب أن  يكون  رفاهة الطفل  وإسعاده  وليس إقلاق راحته وإذكاء أحزانه .

clip_image004_54d7b.jpg

( الأديب الاستاذ سهيل عيساوي مع  الشاعر والإعلامي حاتم جوعيه  )

المزيد من المقالات...