clip_image002_2d844.jpg

أضافت الظّروف القاسية أدبًا مميّزًا حديث العهد، يكتبه أشخاص بواسل ذوو عزم وقوّة، إقدام وشجاعة، وفكر وإرادة؛ القضبان هم شرط الحكاية، والمحفور في الوجدان هو عقدة القصّة، أمّا السّجان فهو الموسيقى الدّراميّة القاتلة. الكاتب المناضل الفلسطينيّ "حسام شاهين" جسّد ما نعلمه وما لا نعلمه على أرضيّة واضحة، وجعل دلّة القهوة تُشاكس فنجانها وتُحدث صوتًا ذا مذاق سماعيّ نطرب عليه في الأفراح، ويواسينا في الأتراح، ونرتشفه على نشوة الإنتصار. "زغرودة الفنجان" رواية جريئة جدًا، وُلدت من داخل جدران مقفرة، كشفت عن فداحة أعمال الإستخبارات الإسرائيليّة "الشاباك" في حق شبان وشابات الإنتفاضة الفلسطينيّة الثّانية. تقع الرّواية في 309 صفحة من الحجم المتوسط الصّادرة عن دار الأهليّة للنّشر والتّوزيع في الأردن للعام 2015، وقد قدّمها للقارئ الإعلاميّ والشّاعر اللبنانيّ " زاهي وهبي" الذي مرَّ في تجربة الإعتقال في السّجون الإسرائيليّة. إنَّ أدب السّجون المُشار إليه، إنما خرج إلى النّور من رحم المعاناة، وصَدَحَ في ردهات المعتقلات وزنازينها، أن العاقبة للظالمين المُحتلين ومعاونيهم!

الرّواية إجتماعيّة دراميّة في إطار سياسيّ تستعرض المناورات القتاليّة بين التنظيمات الفلسطينية المحليّة وبين الإحتلال الإسرائيلي. ترتكز مجرياتها على عملية إسقاط فئة الشّباب من جانب "الشاباك" من أجل التعاون والتخابر معهم، وذلك في إشارة مَقيتة من الكاتب إلى خطورة تفكك النّسيج الإجتماعي الفلسطينيّ، بسبب الفقر والحاجة والضغوطات الحياتيّة. يُسهب "شاهين" في رصد التفاصيل الدقيقة لأساليب الإسقاط، ويُحدّثنا عن الكيفيّة التي تجري بها تجنيدهم؛ إما عن طريق الإغراءات المالية، أو مستمسكات جنسيّة فيها المذلّة بين الأهل والعشيرة، والتي قد تؤدي في أحيان كثيرة إلى القتل. وصَفَ لنا بالكلمات والصّور، وفي بلاغة إباحيّة فاقت التخيّلات، تورّط مجموعات من طبقات وفئات متفاوتة من شرائح الشّعب، تورّطهم في مستنقع العمالة بطريقة الخداع والتّنويم والتّصوير ومن ثم الإبتزاز. كما يُظهر لنا واقع المخيّم السّوداوي وظواهر تقشعر لها الأبدان، وترفضها كل معايير الأخلاق.

"مازن" تلك الشّخصيّة التي اضطرّت، بسبب الحاجة ودناءة النّفس البشريّة، إلى العمل مع الإستخبارات في جمع المعلومات عن المقاومة، وكذلك تجنيد أكبر قدر ممكن من العملاء من خلال ما أعطوه مشغّلوه من أدوية تخدير وأجهزة تصوير وفيديو. كما أوقع "مازن" أو توهّم أنه أوقع بابنة المخيّم "رحاب" تلك المرأة الرّهيبة والشّهوانيّة، وهي بدورها ساعدته في إسقاط آخرين وأخريات. وقد اكتشف لاحقًا أنها خدعته، وأنها كانت عميلة نشيطة من قبله وصاحبة علاقات حميمة مع الكابتن "مودي". هذا الميجر جنرال هو رأس الأفعى الصهيوني ورجل "الشاباك" التي تلطّخت يداه بدم الأبطال الشهداء، تفوح رائحته النتنة عبر صفحات الرّواية، ويعمل كالسرطان في خداع الفلسطيني الموجود في تحوم صلاحيته ونفوذه، ويتمادى في الشتائم ونصب المكائد والإغتيالات لأفراد المقاومة.

إستخدم الكاتب "شاهين" اللغة البسيطة في روايته وأحيانًا المحكيّة منها لضرورة النّص، وقد غلب عليها أيضًا لغة الحوار بين الشّخصيات. احتوى مضمون الرّواية العديد من الحكايات المترابطة، إلاّ أنَّ الكاتب استطاع أن يسيطر على مجريات أحداثها الزمانيّة والمكانيّة وكذلك دَور أبطالها. أمّا تقاطع الأحداث، فقد خلق من تلقاء نفسه الحبكات المتلاحقة، وتأجّجت لدى القارئ عاطفة الحقد والكراهيّة وحُب الإنتقام، وبات ينتظر بين السّطور المشاهد التي تشفي وتثلج صدره. لم يكن للخيال وجود، سوى بعض الأمور اللا منطقيّة التي أحاطت بتحركات بعض الشّخصيات، وكأنَّ المخيّم "الوهمي الإسم" هو وكر، وكل غرف النّوم فيه عبارة عن استوديو بتقنيات عالية. ومما لا شك فيه أنَّ كاتبنا قد أغفل عينًا عن التّفاصيل الإباحيّة الجريئة والسّاخنة، فأعطى بذلك تلك الفكرة السيئة جدًا أن حياة الشّعب الفلسطيني ونسيجه الإجتماعي المتهتك. فمن خلال الرّواية طُرحت أفكارًا ثوريّة وأخرى فلسفيّة ونفسيّة، تشدُّ من أزر المقاتل وطُرق التّعامل مع العدو. ومن ناحية ثانية، فضح جميع الآفات الإجتماعيّة وطبيعة تفكير الفرد، ومستوى الإنحطاط والتردّي الذي وصلت إليه فئات من هذا الشّعب. لقد طرح على مائدة النّقاش مشاكل وقضايا خطيرة تراكمت على مرِّ سنين الإحتلال، وأحدثت هوّات وفجوات عميقة على أرض الواقع.

"مازن" يستنجد بصديق قديم له من المقاومين، ويعترف لمنقذه "عمر" بكل أعماله القذرة طالبًا التوبة، وذلك بعد أن شعر بأنّ الخطر يتهدّد زوجته وأولاده، وأنَّ المياه باتت تجري من تحته. نظّف صحيفته وضميره بقتل الكابتن "مودي" وإستشهاده. إلاّ أنَّ حساباتنا للأسف تسير وفق قاعدة مُتعفّنة بأننا نهدر أرواحًا كثيرة مقابل خنزيرًا واحدا، ولا نُولي قيمة لحياة شعبنا. أمّا هذه الرّواية الجريئة من نوعها، فهي صدى لما يجول في خاطر الكاتب "حسام شاهين" وجوارحه، وما سكن قلبه من تأثير ظروف السّجن، ليخرج للملأ  كإنفجارٍ مدوٍّ أصاب البعيد والقريب.

clip_image002_d52a4.jpg

زغرودة الفنجان الرِّواية الصَّادرة عن الدَّار الأهليَّة للأسير حسام زهدي شاهين، من أجمل أدبيات الواقع التي قرأتها مؤخرًا، إذ عرَّى بها الكاتب الأحداث الفلسطينية إبَّان اندلاع الانتفاضة الثَّانية، وكشف السِّتار عن فشل تلك الثَّورة التي نخر أركانها العملاء وفساد الأجهزة الرَّسميَّة والحزبيَّة، ممَّا أدى لتأخر في انتزاع الحريَّة لهذا الشعب المناضل حتَّى يومنا هذا.

بدأ حسام الرِّواية منوِّهًا بأنَّ أحداثها مزيج من الحقيقة والخيال، وإنَّني قد لا أبالغ إن قلت الرِّواية واقعيَّة بلا خيال، يستظل به الكاتب ليبرر بشاعة بعض أحداثها غير الانسانيَّة، يتضح من الإهداء بأنَّ هذا العمل الأدبي جاء وفاء لأرواح الشهداء، الذين قدموا أرواحهم لأجل قضية كبيرة وعميقة في نفوسنا، ألا وهي الوطن، ذلك الوطن الذي بترت جسور الوصول إليه، وتقطعت الأوصال بين أراضيه.

الكاتب حسام شاهين أسير لدى سلطات الاحتلال الاسرائيلي، محكوم عليه بمدة (27) عاما، وعمله الأوَّل- رواية زغرودة الفنجان – استغرق عشر سنوات لهذا الانتاج الأدبي الذي بني على مهل، وكان به يستنهض وجع الحرية المسلوبة منه، ومن كافة الأسرى القابعين تحت جنح الظلام والذُّل، بل ومن أرواح الراحلين من شهداء فلسطين، وكأنَّه يعتب على الوقت والواقع؛ ليقرر أن يتكاشف معنا بهذه الأحداث القاسية، وكما كتب في تقديمه زاهي وهبة:" من ذا الذي يستطيع اعتقال كتاب سطر بالحبر المقاوم المضيء"، فكانت تلك الرواية بمثابة إضاءة على كثير من الأحداث المخفيَّة تحت ظل الفشل الذي أحرزه الفلسطيني بعد هذه الأعوام الطويلة من العيش تحت الاحتلال وظلمه.

البناء الروائي عند حسام مكتمل، حيث صور لنا الكاتب أحداثا مختلفة من خلال شخصياته المتعددة في أمكنة وأزمنة متعددة، انتقل بقارئه في زوبعة فنجان خلال ثلاثمئة صفحة؛ ليحكي عن وجع كبير أصاب الأماكن التي بنيت روايته فيها، سواء كانت المدينة، المخيم، أم القرية، ولكنه حرص على الاحتفاظ به من خلال لغة الرواية الرشيقة والعالية، عنصر التشويق، الواقعية وملامسة أحداث مجتمعية لا تخفى على من عاشها، نوافذ الألم والجراح التي فتحها على مهل وأقفلها على غير الصَّمت؛ لتبدو كسنابل تحترق على صفحات روايته.

ورغم قوة الرواية في بنائها، وتماسكها من حيث تسلسل الأحداث زمانيا ومكانيا، لم يرق لي تطرف الكاتب في بعض من أحداثها، التي وجدت مبالغة في الوصف وادراج التفاصيل " الغبية " كما أراها، ولم أدرك ما فائدة تصوير وحشية المرأة المشتعلة بالجنس، وهي تمارس خيانة الوطن تحت ذريعة الاسقاط، لقد كانت شخصية رحاب صورة بشعة جدا لامرأة ساقطة، كانت ضحية وأصبحت وحشًا يضحي بأي شيء بلا مبدأ، ولا رادع ديني أو أخلاقي سواء على أفراد مجتمعها أم على الأرض ذاتها، وقد تساءلت حقا: هل يلقي الكاتب اللوم على المرأة؟ المرأة التي بدت في الرواية ضعيفة هشة متساقطة في مشهد مقاومة مشوّه، وهذا ما لم يعجبني في الرواية خاصة مع غياب الدور الايجابي للمرأة في الحرب والانتفاضة، ربما شعرت بحاجة للتوازن في دور المرأة الفلسطينية هنا.

نوع الرواية حسب تقديري كقارئة واقعي بوليسي.

الحدث: تمتعت الرواية ببداية قوية جًا في حديث عمر عن اغتيال القائد حسين عبيات، والمقاطعة الغامضة من مازن بأن يلتقي به، هذه البداية المشوقة تنبئ بمهارة كاتبها، وقدرته العالية على جذب قارئه لفنجان غريبة قهوته المرة، تزغرد فرحا أو وجعا، تزغرد لمدة قصيرة بعد فورتها، لتهدأ وتعود الأشياء لصمت تأملاتها.

الشخوص: اعتمد الكاتب شخوصا رئيسية مثل: مازن، عمر، رحاب، الكابتن مودي، وأخرى ثانوية مثل: سميرة، علي، نادر، سمير وغيرهم.

الزمان والمكان: أحداث الانتفاضة الثانية، مخيم العودة، قرية يبوس، الزيتونه، بيت لحم وما حولها، الحاجز العسكري، وقد ركز الكاتب على الاسقاط الذي بنيت أحداث الرواية عليه في البيئات المغلقة من مجتمعاتنا التي تحكمها العشائرية، ومجموعة متناقضة من العادات والتقاليد والموروث الثقافي والديني، وخلط الحلال والحرام بالعيب، فهي بمعظم علاقاتها تقوم على نمط القبيلة بنوعيه: الطائش والمكبوت، والملتزم المنفتح، وهنا تساءل الكاتب من خلال شخصية مازن، بعد ما قام سمير بتصوير أخته عارية: هل هو الجهل؟ هل هو المال؟ هل هو الخوف من المجتمع؟ أم هل هي التربية الخاطئة؟ وفي هذه التساؤلات لخص لنا الكاتب العناصر الرئيسة التي تهدم المجتمع وتجعل أفراده شياطين في زي إنسيّ يظهر بطبيعته الفطرية، ويخفي الشر والرذيلة والغدر والخيانة لكافة أعماله الأخرى، مبرّرا ذلك بالحاجة والفقر والذل والمهانة في العيش تحت الاحتلال.

السرد والحوار والوصف: بدا الكاتب متمكنًا من سرد أحداثه، سواء في المونولوج الداخلي لنصوصها خاصة في شخصية مازن، وضميره المتقلب على مر الأحداث جميعها، عندما سقط في وحل الخيانة وحتى خروجه لطريق الشهادة؛ ليغتسل من هذا العار الذي دمر به العديد من الأسر في المخيم، وأودى بها إلى حتف الهاوية بالرذيلة، أم بالديالوج الخارجي بين حوارات الشخصيات الأخرى، بدا السر مشوقا، والحوار غامضا، يستدعي استقراء الصفحات بنهم لمعرفة الفكرة التي أرادها الكاتب، نجح حسام في الوصف والحديث عن المشاعر والأماكن، إذ كانت لديه لغة عالية رشيقة وأدبيَّة غنية بالصور والمعاني ما يعكس للقارئ أنَّ الكاتب مثقف وصاحب فكر.

الهدف: هدف الرواية أن نضع حدًا للخطأ الفلسطيني الذي نمرُّ به منذ أكثر من ستين عامًا.

لخّصت الرِّواية في أسطرها الأولى النصر بتحقيق ثلاثة أهداف: تجنيد الشباب، تحديهم عن المشاركة بالعمل الوطني، وتدميرهم سلوكيًا واجتماعيًا. وهذا تمامًا ما قامت به اسرائيل خلال سنوات عديدة هشمت أبناء هذا الوطن وشوهت صورهم النضاليَّة سواء محليا أم عالميّا. وأتبع يداوي جراحه في ظل العتمة ليقول كاتبنا:" من الممكن أن يخطئ الإنسان في حياته، ويرتكب حماقات، .. لكن مهم أن نعترف، ونضع حدا للاستمراريّة في الأخطاء." لقد شعرت بكثير من الحزن والألم والحسرات المتطايرة كما الفراشات بعد موت الزهرة، تحوم حول جثتها، ولم ينطو على القارئ أبدا ما كشفه الكاتب من حقائق بدلالات وكذا وقائع من البؤرة الفاسدة الملطخة بالدم والخيانة، والعارية من الأخلاق والانتماء، رغم التورية بظل الضحية للمحتل الذي بدا شعارا يردده الكثير من أبناء هذا الشعب، ولم يعترفوا بأننا جزء لا يتجزأ من هذه الفجائع التي تحدث، بل لولا تعاوننا مع المحتل لما حدثت، وما استطاع اختراق صفوفنا وهدم سبل الدفاع؛ لينتهي بسفينة قضيتنا مآل الغرق. كانت رواية زغرودة الفنجان للكاتب حسام شاهين بمثابة قشة كي لا نموت غرقا، ربما.

لقد خطَّط حسام شاهين لصيرورة روايته بشكل متميّز، وقد حاور شخصياته عن تناقضاتها سواء كانت وطنية أم متخاذلة تعمل لصالح الاحتلال، ألقى الضوء على التقدم التكنولوجي وخطورته في تزوير المشهد الحقيقي، باين بين الهدم الداخلي لمجتمعات المناطق المغلقة، سواء كانت مدينة قرية أم مخيم، كما حذر من الانفتاح الكبير والفساد الذي ينعم به القادة وذويهم من أبنائهم وبناتهم الذين يعيشوا بذخهم على حساب إراقة دماء الآخرين من ضحايا المجتمع من جلدة شعبهم. حسام صاحب فكر، وروائي ناجح أعجبني عمله الأوَّل وأنتظر منه المزيد من الأعمال الأدبية ذات المعنى الفلسطيني بواقعه الايجابي والسلبي، وأسأل الحرية له قريبا.

إن من المواقف الريادية للدكتور علي الوردي هي الدعوة المصرة على الديمقراطية كحل وحيد لاحتواء الصراع الطائفي من ناحية ، ولتحقيق الاستقرار في العراق والتخلص من الانقلابات العسكرية وموجات العنف من ناحية أخرى . لقد كان مصرّا تماما على أن الحل الحاسم لاحتواء الامتدادات العنفية للشخصية العراقية وللسلوك العدواني المتميّز بتفجراته المدمرة تاريخيا ، هو " التدريب " الهاديء الصبور والحكيم على الممارسة الديمقراطية .. 

كان الوردي يرى أن الوضع القائم في العراق يحتاج إلى تخطيط ومعالجة موضوعية ، وأن من أهم الوسائل في هذا المجال هو تعويد الشعب العرقي على الحياة الديمقراطية وجعله يمارسها ممارسة فعلية ، لأنها تتيح له حرية إبداء الرأي والتصويت دون أن نسمح لفئة منه بأن تفرض رأيها بالقوة على الفئات الأخرى . . وهو يضع نصب عينيه الاعتراضات " التقليدية " التي سوف تتصاعد وتقول أن شعبا تمزقه الصراعات الحزبية والعشائرية لن يستطيع خوض الحياة الديمقراطية التي تقوم أساسا على التسامح والمساواة والحوار الهاديء المتمدين ، وسيضرب أصحاب هذه الاعتراضات أمثلة من التاريخ القريب وذلك بأن يعيدوا إلى الأذهان الحوادث العنيفة والمأساوية التي حصلت بعد ثورة الرابع عشر من تموز . يقول الوردي :

( قد يعترض القاريء على هذا الرأي أو يصفه بالطوبائية ، إذ كيف يمكن للشعب العراقي أن يترك قيمه المحلية وعصبياته الموروثة ثم ينهمك في حياة ديمقراطية لا عنف فيها ولا اعتداء ؟ وهل ننسى ما وقع بعد " هزّة " الرابع عشر من تموز عندما قيل للناس ( أنتم أحرار فيما تقولون وتكتبون ) فانثال بعضهم على بعض يتناهشون ويتذابحون ؟ إن هذا اعتراض وجيه حقا ، ولكن الذي أريد أن ألفت النظر إليه هو أن الناس كانوا حينذاك في وضع نفسي واجتماعي غير طبيعي ، فهو لم يكن وضعا ديمقراطيا بل كان وضعا ( غوغائيا ) حيث تخيل الناس فيه أن الدنيا انتهت وأن ما يفعلونه اليوم لا حساب عليه غدا . يبدو أن الكثيرين من الذين تورطوا في مثل هذه الاندفاعات ( الغوغائية ) يشعرون الآن بالندم . لقد أدركوا أنهم كانوا واهمين عندما تخيلوا أن الدنيا انتهت ، فالذي يعتدي على الغير سوف يأتي يوم يعتدي الغير عليه ، إذ هي أيام متداولة – يوم لك ويوم عليك ) (458) .

ومن جديد ، وأعتقد أن هذه هي المرة الأخيرة التي يعلن فيها الوردي أن العراق على مفترق الطريق ، ينبّه الوردي إلى ضرورة انتهاز الفرصة التاريخية هذه والبدء بالممارسة الديمقراطية :

( فلو أفلتت هذه الفرصة من أيدينا لضاعت منا أمدا طويلا) (459) .

وأعتقد أن هذه كانت الفرصة الأخيرة للعراق في السير على طريق التحولات الديمقراطية ، وقد ضاعت في ذلك العام الذي أطلق فيه الوردي دعوته وهو عام 1966 ، وليست بنا حاجة لجلب أدلة على المسار الدامي الذي سار فيه العراق بسبب عدم استجابة المرجعيات القيادية الحاكمة فيه لتلك الدعوة المخلصة . فـ :

( الثورة المسلحة لا تحدث في أمة تلتزم طريق الديمقراطية الصحيحة . ذلك لأن الحكومة الديمقراطية تنبعث من صميم الشعب . فهي عبارة عن صورة ظاهرة لرغبة الشعب الباطنة . إنها من الشعب وبالشعب ومن أجل الشعب كما قال ابراهام لنكولن . إن من النادر أن تسمع بثورة مسلحة في بلد من بلاد الديمقراطية الحق . وليس معنى هذا أن أهالي تلك البلاد من طراز الخرفان الين لا يشعرون . إنهم لا يثورون لأن في ميسورهم أن يجدوا للثورة طريقا آخر هو طريق التصويت الهاديء الذي لا يتلاعب به الحكام الأدنياء . فهم يبدلون حكامهم حينا بعد آخر . فلا تحدث فتنة ولا تسيل دماء . والحكومة التي لا تدرّب رعاياها على طريق الثورة السليمة الهادئة ، سوف تُجابه من غير شك ثورة دموية عنيفة في يوم من الأيام" (460) .

لو استوعبت السلطة القائمة آنذاك أبعاد دعوة الوردي هذه – عام 1954 – وتحذيره الصارخ من الاحتمال القريب لانبثاق ثورة مسلحة تفجّر شرارة العنف وتفتح أنهارا من الدماء ، أما كان ممكنا أن نتجنب هذه الخسارات التاريخية التي أصبنا بها ؟ .

ومنذ وقت مبكر حاول الوردي التقرّب إلى عقلية المواطن العراقي في مجال إقناعه بجدوى التجربة الديمقراطية من خلال الثقافة الإسلامية التي تشبّع بها وذلك بالضرب على وتر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . يقول الوردي :

( فرض النبي واجب النهي عن المنكر لكي يحرّض أمته على مكافحة الظلم .. وفي نظري أن خير تطبيق لسنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، في هذا العصر ، هو استعمال المسلم حقه في الانتخاب وفي التصويت إلى أبعد الحدود ... ولو كنت من أرباب العمائم لأفتيت باعتبار التصويت واجبا دينيا ولجعلت التقاعس عنه ذنبا لا يُغتفر ) (461) .

 ثم تتصاعد نبرته الثورية فيقول :

( إن اللامبالاة لتي يواجه المسلم بها الانتخابات جعلت الانتخاب ألعوبة بيد الطغاة والمترفين والظلمة . ولو اشترك جميع الناس في الانتخاب بدافع من ضميرهم الديني لرأينا الظالمين يحرقون الأرم من جراء ما يشاهدون من قوة واعية في الجماهير . لعلنا لا نغالي إذا قلنا أنه كلما نظر الناس في أمر الانتخاب نظرا جديا وساهموا فيه مساهمة فعلية قلّ تدخل الطغاة فيه وصعب عليهم العبث به كما يفعلون في الوقت الحاضر . إني أعرض هذا الرأي على رجال الدين ، وأتحداهم أن يقبلوه أو يحققوه وأحسب أنهم لا يفهمونه ولا يستسيغونه لأن عقولهم طبعت بمطابع الوعظ السلطاني فهم لا يريدون أن يحركوا الوعي الاجتماعي أو يشجعوه ضد أولياء أمرهم من السلاطين" (462) . 

 clip_image001_3a2bb.jpg

clip_image002_1e368.jpg

 

         صدر للمؤرخ الطيب بياض مؤلَّف حول سفريات المغاربة إلى أوروبا خلال المرحلة الواقعة ما بين 1611 و1922. ويندرج هذا العمل، الذي قدَّم له الباحث اللِّساني مراد موهوب، ضمن التراكم المعرفي الذي حصل، منذ ما يقرب من عشرين سنة، في مجال البحث والتأليف والتحقيق حول رحلات لسفراء أو لأعضاء في وفدٍ سفاري إلى ديار أوروبا الغربية، وخاصة فرنسا وإسبانيا وإنجلترا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا. ففي أواسط التسعينيات من القرن الماضي، كانت قد صدرت أعمال لكل من عبد المجيد القدوري “سفراء مغاربة في أوروبا: في الوعي بالتفاوت” (1995)، وسعيد بنسعيد العلوي “أوروبا في مرآة الرحلة: صورة الآخر في أدب الرحلة المغربية المعاصرة” (1995)، وخالد بن الصغير وسوزان ميلار “صدفة اللقاء مع الجديد: رحلة الصفار إلى فرنسا” (1995).

وفي مطلع القرن الحالي، رأت النور أعمال أخرى جمعت بين التحقيق والدراسة، منها “الرحلة التتويجية إلى عاصمة البلاد الإنجليزية” التي حققها عبد الرحيم المودن (2003)، و”إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار” الذي حققه عز المغرب معنينو (2004)، و”رحلة الوزير في افتكاك الأسير” التي اعتنى بدراستها وتحقيقها عبد الرحيم بنحادة تحت عنوان “سفير مغربي في مدريد في نهاية القرن السابع عشر” (2005).

وتكمن الإضافة النوعية للكتاب، موضوع هذه الورقة، في المقاربة المقترحة. استطاع الطيب بياض، بفضل أسلوبه في الكتابة، الجامع بين صرامة الأكاديمي وسخاء الأديب، أن يقدم عملا مشهديا يجذب القارئ ويشد انتباهه. قدَّم الأشخاص، عرَّف بهم، ذكر سياقات رحلاتهم، استعرض أقوالهم، وذيَّل كل فصل بفقرة من كتاباتهم. بين التاريخ والأدب، قد يصعب تصنيف جنس هذا الكتاب. لولا السياقات الزمنية المضبوطة لاعتقد القارئ أن صاحب الكتاب أديب مهتم بالمتن الرحلي.

يمكِّن الكتابُ القارئَ من تتبع الفصول المقترحة وفقا لعناوين المؤلَّفات التي كتبها الرحالة والسفراء، تتبعا في الزمان وفي المكان، ويضعه في صورة الأشياء بأفكار واضحة، وبناءات تعبيرية جميلة، وتحليل هادئ. وهو بذلك، ينقله نقلا سلسا من تجربة إلى أخرى، ومن موقف إلى آخر. وبمعنى ثانٍ، يوضب الطيب بياض فقراته توضيبا فنيا. فالمشاهد والمواقف تبدو متحركة، من حيث تعاقب الرحلات وتعدد السياقات، السياسية والدبلوماسية. لكنها تتداخل مع بعضها البعض، في نهاية المطاف، في نوع من التصوير الجمالي، ليتخذ العمل شكل لوحة واحدة، من حيث ثبات المواقف وتحجر العقليات. يتغير اللون قليلا، مع رحلات بداية القرن العشرين، إذ نلحظ تبدلا ملموسا في المواقف اتجاه حضارة الإفرنج، أي الاعتراف بالآخر، بل وحتى “تمثل الذات بطعم المرارة”. لكن اللوحة كانت قد رُسمت منذ مطلع القرن السابع عشر، وترسَّبت فيها ألوانٌ قاتمةٌ حدّ السواد.

يبدأ الكاتبُ كتابَه بقولة لمحمد الصفار مقتطفة من رحلته إلى فرنسا (1845-1846): ومضوا وتركوا قلوبنا تشتعل نارا، لما رأينا من قلوبهم وضبطهم وحزمهم وحسن ترتيبهم، ووضعهم كل شيء في محله، مع ضعف الإسلام وانحلال قوته واختلال أمر أهله. فما أحزمهم وما أشد استعدادهم، وما أتقن أمورهم وأضبط قوانينهم. وما أقدرهم على الحروب وما أقواهم على عدوهم، ولا بقلوب ولا بشجاعة ولا بغيرة دين، إنما ذلك بنظامهم العجيب وضبطهم الغريب، واتباع قوانينهم التي هي عندهم لا تنخرم”.

تشكل هذه الحُرقة منعطفا بالغ الأهمية في النظرة إلى الأوروبيين. فالجيش المخزني كان قد انهزم في معركة إيسلي أمام الجيش الفرنسي المكوَّن تكوينا حديثا في أكاديميات نابوليون، وبالتالي بدأت تخفت شيئا فشيئا نبرة التعالي، وتتبخر أحلام استرجاع الأندلس، وتتلاشى أطلال معركة وادي المخازن التي جعلت المغاربة يسبحون في وهم التفوق على الإفرنج لما يزيد عن قرنين. كان زمن الصولة قد ولَّى إلى غير رجعة. لكن الاستفاقة كانت قد تطلبت وقتا طويلا.

وتبرز نظرةُ التعالي هذه، أو ما أسماه الكاتب بِـــ “الاعتزاز بالنفس وتضخم الأنا”، ومظاهرُ التقليل من شأن الأوروبيين، في الشتائم والتوصيفات القدحية الكثيرة التي تحبل بها النصوص الرحلية، من قبيل “الكفرة.. قبَّحهم الله”. كما تظهر في نعت أخلاقياتهم بـِ “الإشراك والكفريات الفظيعة”. كان السفير ابن عثمان المكناسي قد نعت ملك إسبانيا كارلوس الثالث بـِـ “الطاغية”، وتكلم عن البابا بيوس السادس بعبارة “أخزاه الله”، وأنه “إذا مات كَبْكَب في الجحيم وتجرَّع الحميم”.

وفي سرد رحلي آخر نقرأ هذا اللعن للإنجليز: “اللهم أحص القوم الكافرين عددا، وشتتهم بددا ولا تبق منهم أحدا”. يتعلق الأمر بأبي الجمال الفاسي، عضو البعثة السفارية إلى إنجلترا عام 1860. وما يثير الانتباه في “رحلته الإبريزية إلى الديار الإنجليزية” هو تمثله لمظاهر الحداثة، وهو المحكوم بمرجعية فقهية لم تتحرر بعد من نسق القرون الوسطى. ففي فقرة تحت عنوان “الدنيا للنصارى والآخرة للمسلمين”، يرى الطيب بياض أن صاحب الرحلة كان “يجد في الدين الإكسير المداوي من كل نقص وشعور بالدونية والعجز، أمام التراكم الحضاري والتطور الصناعي والتقني الذي عرفته أوروبا في القرن التاسع عشر”. يصف أبو الجمال التقنيات الحديثة، ويخلص إلى القول: “قال بعض العلماء إن النصارى حُرموا جنة الآخرة، فأعطاهم الله جنة الدنيا بستانا متصلا من البحر المحيط بالأندلس إلى خليج قسطنطينية”.

ومن جهة أخرى، لم تخرج التوصيفات الواردة في متون الرحلات، عن إطار الانبهار والدهشة حينا، واستحسان بعض التنظيمات والمستحدثات حينا آخر. إذا استثنينا قيمة هذه الكتابات الأدبية، لم يكن للسفريات التي بعثها المخزن إلى أوروبا وقع يذكر على البلاد، في ناحية من النواحي، سياسيةً كانت أو غير سياسية.

وتغري مواقف الرحالة المغاربة بإحداث تقاطعات مع رحالة فرنسيين وإنجليز زاروا المغرب، وأنتجوا، من جهتهم، سُرودا رحلية لا تخلو من أهمية، من حيث الفهم والتصور. هنا، تتجلى فائدة المقارنة بين هؤلاء وأولئك، خاصة إذا سلطنا الضوء على مرحلة بعينها، كالقرن الثامن عشر، عصر الأنوار في أوروبا.

اكتفى الباشدور ابن عثمان في “الإكسير في فكاك الأسير” (1779) بتدوين مشاهدات أفقية، انطباعية في معظم الأحيان، ومليئة بالأحكام. ومن ثم، لم يكن لهذه الانطباعات والأحكام محل من الإعراب في مرحلة كانت فيها الهوة قد اتسعت بين عالمين متفاوتين تفاوتا صارخا. فرجال أوروبا كانوا، في هذا العصر، قد حققوا ثورة مجيدة في إنجلترا، أرست دعائم نظام دستوري برلماني، وأنجبوا فلسفة سياسية أسست للحرية، والمساواة المدنية، وسيادة الأمة، مع جون لوك، وفولتير، ومونتيسكيو، وروسُّو، وأبدعوا في فرنسا الأنسيكلوبيديا (المعجم العقلاني للعلوم والفنون والمهن) مع دونيس ديدرو وجان دالمبير، وأنشأوا صالونات أدبية وصحف سياسية. وبكلمة واحدة، خلقوا عالَما على أتم الاستعداد لاكتساح باقي العوالم بأنياب نحتتها الرأسمالية وقواعد العلم.

وفي مقابل رحلات المغاربة الانطباعية، كانت رحلات الأوروبيين عقلانية. ولذلك، كان لها وقع كبير في تحديد سياسة أمم أوروبا إزاء المغرب. القنصل الفرنسي لويس شينيه، مثلا، الذي أقام بالرباط ما بين 1767 و1782، سجل ملاحظات نفعية ونشرها في ثلاثة مجلدات تحت عنوان “مباحث تاريخية حول المغاربة” (1787). صحيح أن هذا الكتاب لا يخلو من مسبقات تمس تقاليد المغاربة ومعتقداتهم، لكن قيمته أكيدة، لأنه وفَّر لفرنسا أداة لفهم المغرب فهما عموديا، من حيث بنياته، الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. فقد تنبَّه للتضاريس، والثروات الطبيعية، والتقنيات، وطرق خدمة الأرض، والحرف، والأسواق، والأسعار، وتنظيمات القبائل، والعلاقات الاجتماعية، وشكل السلطة، ومظاهر الحياة اليومية، ومستوى التعليم والمعارف.

بطبيعة الحال، لم يكن نص لويس شينيه فريدا. فقد سبقته كتابات عدَّة بقلم عدد من السفراء والقناصلة والتجار والأسرى، من فرنسا وإنجلترا وبلدان أوروبية أخرى، وتلته نصوص من نفس الجنس، في مقدمتها نص شارل دوفوكو، “استكشاف المغرب” (1888). وكلها مراجع أساسية، ذات فائدة عَمَلية، اعتمدها الفرنسيون في فهم المغرب تمهيدا لبسط الهيمنة على البلاد.

ويظهر هذا التفاوت بين بلد تستند معرفته على الانطباع، وبلد يسعى إلى فهم الأشياء فهما حسابيا وعَمَليا، في هذا الحوار الوارد في الكتاب، والذي جرى بين السفير المغربي محمد بنسعيد السلاوي ووزير البحر الفرنسي، عام1866: “ثم سألنا عن عدد الآدمى الذي يكون في المغرب. فأجبناه بأنه كثير ولا حقيقة عندنا بعدده. فسألنا: هل عندنا عساكر وكم عدده؟ فأجبناه بأن العسكر عندنا ولم ندر عدده أيضا”.

هذه هي الثقافة المغربية في عصر ما قبل الحداثة. انطباعية. تضخيمية أو تقزيمية. ثقافة قدسية، مرتبطة بالدين وغارقة في الموروث. ثقافة ماضوية. ثقافة تعيد إنتاج الماضي، ولا ترى في الحاضر سوى صورة مشوهة من هذا الماضي، ولذلك لا مستقبل إلا باسترجاع نقاء الماضي. وهذا الفهم، في عقلية مثقفي هذا العصر، هو فهم كلي لا يتجزأ. عندما وصف أبو الجمال الفاسي، في رحلته الإنجليزية، سنة 1860 “البابور العظيم” الذي سافر به إلى “اكريت ابريطن” قال: “هذا المركب يسمى بابور فركطة لعظمه… واسم رئيسه بلغتهم كبْطن شلص يوراط. وهذا الرئيس، مع كفره، تعجبنا من إحسانه، وحسن شيمه وأدبه، ومساعدته لنا وملاطفته، وددنا أن لو كان مسلما”. كان من الصعب على الرحالة المغاربة، وهم يحملون في أذهانهم “السيف الأشهر على كل من كفر”، كما جاء عند أفوقاي، أن يستوعبوا واقعا أساسيا، كون أن تقدم أوروبا حصل عبر التحرر من قبضة الدين.

في نهاية هذه الورقة، أقول: ربما يأتي يوم ينهل فيه أحد السينمائيين المغاربة الشباب، من ذوي التكوين المتين، من تاريخ هذه الثقافة التقليدية، فيتحفنا بفيلم حول شخصية من الشخصيات المغربية لا تعلم أصلا أنها تعيش في العصور الوسطى، لكنها تسافر في الزمن لتزور عصرا آخر، عصر الأنوار، وتقف، من حيث لا تدري، على حداثة كبريات مدن أوروبا مثل باريز أو اللندريز. سيناريو سفر في المكان يتحول إلى سفر في الزمان. فيلم يُعيد، بهذا التفاوت، بناء مشاهد وتمثلات ومواقف: ملابسٌ فضفاضة تجاوزتها ملابس مقدودة. تقزُّزٌ من الأطعمة المعروضة. انبهارٌ بمواصلات ومستحدثات كأنها سحر مبين، من بابور البحر (الباخرة) إلى بابور البر (القطار)، مرورا باستخدام السلك (الهاتف)، وفرجة الطياطرو (المسرح)، و”بستان الوحوش” (حديقة الحيوانات).

ويبقى الإحساس رغم هذا وذاك. ورغم المرجعية الأخلاقية التي تنعت زينة النساء بِـ “تبرج الجاهلية الأولى”. ما يبوح به الحجري من حُبّ في “ناصر الدين على القوم الكافرين”، في مطلع القرن السابع عشر، يستحق أن يُنقل من الكتاب إلى الشاشة:

“        وكانت في تلك الدار بنت… من أربع وعشرين سنة… وكانت البنت تزين نفسها وتسألني… ثم قالت لي أعلمك تقرأ بالفرنج، وصرت تلميذا لها… وكثرت المحبة بيننا حتى ابتليتُ بمحبتها بلية عظيمة… كنت قبل ذلك في خصام مع النصارى… والآن هو الخصام مع النفس … وكنت أخفي ما أصابني من الهم بسبب هذه البنت…وسألتني هل عندي امرأة في بلادي؟ فقلت لها عندي! ثم قالت وتتزوجون أكثر من امرأة؟ قلت لها جائز في ديننا. ثم قالت هل عندك أولاد؟ قلت لها عندي، وقلت في نفسي حين علمتْ ذلك تنقص المحبة، فلم تنقص شيئا… ورأيتها يوما زينت نفسها، وكانت ترعاني وليس لي خبر بما أضمرت، وسرت إلى الجنان، والبساتين بتلك البلاد ما لها حيطان للتحويط… وسمعتها تناديني فجئت من داخل الجنان… فتكلمنا هنالك، وفهمت من حالها ما لا يخفى…”

clip_image002_ac3f1.jpg

قارب الكاتب "يسري الغول" خلال مجموعة "الموتى يبعثون في غزّة" بثقافته الغنية تماماً مثل العرض الفيلمي الذي اقترب من التوثيقي التسجيلي بعرض الأزمنة والأماكن، مسجّلاً بتاريخ القصة في الأدب الفلسطيني إضافة نوعية كان قد اقترب منها المبدع غسان كنفاني حين كان ربط الأزمنة دون تحديدها، تجلت في معظم قصصه، كأقصوصة "قتيل في الموصل " واستخدم من خلالها طريقة الفلاش باك برمزية مبدعة حين عاد بالمشاهد عند البئر حيث قضت والدة بطلها في اللّد على غرار ما يفعله "يسري الغول في مجموعته حيث أرّخ باليوم والعام بعض الاحداث "اليهود هجروا أهلنا عام 1948"،" نحن في مارس 1914" مسجّلاً بأسلوبٍ شيّق يعتمد الحوار يوميات الحروب الثلاثة على غزة خلال 5 أعوام ويوميات الحصار ومعاناة السفر عبر معبر رفح "الغول الذي ذهب الى العالمية بإستضافته لأرنست همنغواي وبإضاءته على مجموعات قصصية من الأدب الغربي والعربي .. فالقضية لا يؤرّخ لها من خلال قوقعة!

وما كان اختياره لأرنست همنغواي في قصة "الموتى يبعثون في غزة "عشوائياً؛ فلقد اختار من ساق مركب العجوز ليواجه أسماك القرش في رحلته، ومن كان عميد الثورات والتصحيح في المنقلب الآخر من العالم الذي لا يعرفنا "أنا قادم ٌ إليك من عالمٍ يضّج بالخيال والإبداع أكثر ممّا تعرف"، "أنا لا أعرف غزّة هذه"، ومن قضى انتحارا ليعلي قضية الذين يعانون في هذا العالم المليء بالجور والظلم، ومن خلال حواره تظهر ثقافة الكاتب بقراءته لاصدارات همنغواي وسواها في المجموعة، لاسيما منها قصة بهاء طاهر"بالأمس حلمت بك" بعمقها للتواصل مع الآخر، وما حملته من لغة جديدة لعالم مقفرِ من معاني العدل والرحمة. بل ويضع على لسان همنغواي "أنا لا أعرف غزة هذه، لكنها بالتّأكيد ستظّل تعاني، لأنّ ما تبقّى في هذا الحضيض الذي تسموّنه (العالم) مخلفات بشرية، وستكتشفون كم أنتم أغبياء إن اعتقدتم أن أحداً ناصركم".

القاص ابن مخيم الشّاطئ الذي عايش حروب غزة ومعاناة أهل المخيمات كان أصدق مراسل لوجعنا، ويضع على لسان همنغواي أهمية هذا حين يقول: "لقد شاركت في الحرب العالمية الأولى والثانية، ولم أعد اشعر بالخوف والجزع والتعاطف إلى أن أصبت بجروح خطيرة وقعدت شهوراً بأحد المشافي أتجرّع الألم.. الألم الذي لن تعرفه إلاّ حين تعيشه"..

مجموعة "الموتى يبعثون في غزة" تُعتبر سيرة ذاتية لكل فلسطينيي الشتات والانسان العربي بالمجمل الذي غاب عن السمع والصورة، حيث صدّره "يسري الغول" من خلال استعراض مجمل النكبات والوجع والمتغيّرات السياسية والعسكرية طارقاً بوابة الانسان العربي النّفسية والاجتماعية، وسيرة غزّة الموجوعة الموجودة في عمق كل مشهدية من مشاهد المجموعة، بدءاً بإهداء الكاتب إلى كل المعذّبين والمقهورين والمضطهدين والتائهين وصولاً إلى من وجد جحيمه هنا، وإلى من وجد جنّته فعاشها ليستيقظ فيجدها هبّاءً"، "بصندوقها الاسود وبترانيم الوجع وهذا هو اسمي وانتهاءً بقصة سفر الغريب التي اختتم بها مجموعته بعمقها الدّلالي؛ فاستطاع أن يمحو في عرضه أسطورة الرّجل العربي ويجعله ملاذ بحثٍ من جديد.

المزيد من المقالات...