أصل كلمة فلاّح

أصل الفَلاح: القطع والشق. ومنه سُمّي الزارع فلاحًا لأنه يشق الأرض ليقوم بزراعتها.

هو أفلح  وفلحاء: مشقوق الشفة السفلى. كان عنترة بن شداد يلقب بالفلحاء لأنه كان مشقوق الشفة السفلى.

ويكون الفلاح بمعنى الفوز والبقاء فقوله تعالى(وأولئك هم المفلحون) -سورة البقرة آية 5- أي الباقون في النعيم المقيم.

وفي الأذان: حي على الصلاة، حي على الفلاح. هلمّوا إلى ما فيه فلاحكم ونجاتكم والفلاح النجاة والبقاء، والمفلحون الفائزون بالبقاء.

الحرامية

الحرامية هم اللصوص، كلمة عربية صحيحة، نسبة إلى الحرام؛ فالحرامي هو الذي يأكل المال الحرام المغتصب بالسرقة، وقد وردت هذه اللفظة في كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير:(وفي هذه السنة قطعت الحرامية الطريق على قَفَل كبير(قوافل) بولاية حلب).

راجع الكامل في التاريخ لابن الأثير-حوادث سنة 482ﻫ.

الفرق بين الدخيل والمُعرّب والمُوَلّد في اللغة:

الاقتراض اللغوي ظاهرة طبيعية في كل اللغات الحية، وهو مظهر دال على تطور تلك اللغات. اضطرت اللغة العربية إلى الاقتراض من اللغات التي احتكت بها منذ الجاهلية الأولى، واتسعت هذه الظاهرة في صدر الإسلام لما طرأ على المجتمع من انفتاح على الحضارات والمجتمعات الأخرى نتيجة اتساع الفتوحات واختلاط العرب بغيرهم من أبناء الشعوب كالفرس، والروم والقبط وغيرهم، وقد شهدت الدولة نهضة علمية وأدبية، وثقافية، وتجارية في العصر العباسي ما أدى إلى دخول كلمات أجنبية إلى اللغة العربية وإلى توليد كلمات جديدة. وقد صنف العرب الكلمات إلى أصناف هي:

-الألفاظ والمفردات الأعجمية التي حافظت على عُجْمَتها ودخلت اللغة العربية دون تغيير، وهذه تسمى (الألفاظ الدخيلة)، أو الدخيل. مثل: تلفزيون، تلفون، ستوديو، فيسبوك، إنترنت.

-الألفاظ الأعجمية التي قام العرب بإلحاقها بكلامهم بعد تغييرها وصقلها بما يناسب لغتهم، فبدّلوا بعضًا من حروفها، أو زادوا عليها أو حذفوا منها لتتفق ومنهجَ نطقهم وطبيعة لغتهم، أي أخضعوها لمقاييس اللغة العربية، وأطلقوا عليها اسم (المُعرّب)، مثل: كسرى ومعناه الملك الأكبر من ملوك الفرس خاصة، وأصله في كلام الفرس: خُسرو بخاء مضمومه وواو في آخره، وسندس واستبرق وزنجبيل ومشكاة وسجيل.

-الألفاظ التي استعملها العرب بعد عصر الرواية وقد أطلقوا عليها اسم (المُولّد)، مثل: كاتب، سيارة، قطار، مكيّف هواء، كُبّة، كنافة، هاتف، مذياع.

في الأصوات

البَقْبَقة: صوت غليان القدر، صوت صادر عن انسكاب الماء من قنينة أو قلة. الحَمْحَمة: أن يردد الفرس صوته ولا يصهل. الجَفْجَفة: هزيز الموكب وحفيفه في السير. الحَفْحفة: حفيف جناحي الطائر. الجرجرة: صوت جرع الماء في جوف الشارب

الجعجعة: أصوات الجمال مجتمعة. صوت الرحى(الطاحونة). اسمع جعجعة ولا أرى طحينًا. أي كلام بدون فائدة.

الزعزعة: اضطراب الأشياء بالريح.

الزغزغة: اضطراب الإنسان في خفة ونزق.

الرفرفة: صوت أجنحة الطائر إذا حام ولم يبرح.

الزقزقة: تغريد العصافير، صوت الضحك الضعيف.

الفحفحة: تردد الصوت في الحلق. الكهكهة: صوت ترديد البعير هديره. القهقهة: الاستغراق في الضحك  بصوت عال.

الوسوسة: حرة الشيء كالحلي.

الوشوشة: حركة القوم وهمس بعضهم إلى بعض. الوعوعة: صوت نباح الكلب إذا ردده. الوقوقة: اختلاط أصوات الطير. الوكوكة: هديل الحمام.

المزهر في علوم اللغة للسيوطي، ج1، ص 442.

التنغيم في اللغة:

من الأمثلة التي تبين أثر التنغيم في دلالات الجملة قولك: أحمدُ أخوك علاّمةٌ. فهذا التركيب يتكون من عدة جمل يفصل بينها جميعها التنغيم، فهو يُقرأ بالصور التالية: 1-أحمدُ أخوك علاّمةٌ.…(جملة تقريرية إخبارية ذات نغمة مستوية) 2-أحمدُ أخوك، علاّمةً…(جملتان: الأولى تقريرية والثانية حالية. كأنك تقول: أحمد أخوك، وهو علامة.. فالنغمة على الأولى مستوية، وهي على الثانية تظهر صاعدة لأنك ترفع الصوت عندها). 3-أحمدُ أخوك علامةٌ…(جملة استفهامية ذات نغمة صوتية صاعدة في كل أجزائها) 4-أحمدُ، أخوك علامةٌ. (جملتان: ندائية وخبرية) 5-أحمد، أخوك علامةٌ؟ (جملتان: ندائية واستفهامية) وهكذا ترى من خلال هذا التركيب، أن للتنغيم أنواعًا من النغمات الصوتية، فقد يكون التنغيم صاعدًا كما في الاستفهام والتعجب أو التحذير كقول الشاعر: أخاك أخاك إنّ من لا أخًا له*** كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح

يوسف الجورابة،"التنغيم ودلالته في العربية"، بحوث في اللغة، اتحاد الكتاب، الموسوعة الشاملة.

clip_image002_24375.jpg

قصة المسحراتي وبابا نويل ، تأليف الأديب المخضرم حنا أبو حنا ، تقع القصة في 32 صفحة من الحجم المتوسط ، غلاف سميك ، تزينها رسومات الفنان لؤي دوخي ، اصدار مكتبة كل شيء ، سنة الإصدار 2003 .

القصة : تتحدث القصة عن ديك الصياح كريم ، وكانت وظيفته ايقاظ الناس ليذهبوا الى أعمالهم باكرا ، لكنه استغرب من وجود انسان مع طبل وينادي " اصح يا نايم .. سبح الدايم " ،اعتقد الديك ان هنالك من يحاول سرقة وظيفته التقليدية التي ورثها أبا عن جد ، لكنه بعد حوار مع الرجل اكتشف انه جاره " أبو عيد ، وهو مسحراتي يعمل على ايقاظ الناس الصائمين ليأكلوا حتى يتمكنوا من الصيام بسهولة ، واتفقا على التعاون ، وانتز صوت الاذان بصوت أجراس الكنائس ، ويقوم المسحراتي بتعريفه بصديقه بابا نويل الذي يحمل الهدايا للأطفال في ليلة عيد الميلاد ، ويقوم بابا نويل بمنح الديك علبة كتب عليها " يهذه هديتك أيها الديك الصياح " . اخذها الديك ليفتحها في بيته ليعرف ما بداخلها .

رسالة الكاتب :

-         تعريف بعمل المسحراتي ، واهمية عمله بالنسبة للصائمين ,

-         أهمية السحور بالنسبة للصائم .

-         أهمية الديك في ايقاظ الناس صباحا

-         أهمية العمل وقدسيته .

-         التلاحم الإسلامي المسيحي ، ومشاركة كل طرف أعياد الاخر ، الاحترام المتبادل

-         التعريف بعيد الميلاد المجيد

-         التعريف ببابا نويل وأهمية عمل في نفوس الأطفال

-         أهمية التعاون الانجاح المهمات الإنسانية

-         تقبل الاخر المختلف .

-         الفرق في توقيت حلول رمضان وحلول عيد الميلاد .

-         أهمية الصداقة ومتانتها .

خلاصة : قصة جميلة يمتزج بها احترام الديانات السماوية ، عادات وتقاليد كل ديانة ، تعريف بالمسحراتي ، تلك المهنة الإنسانية التي تلاشت في ظل التكنولوجيا ، وانتشار الساعات والهواتف الخلوية ، واتساع المدن والقرى ، وتعريف ببابا نويل تلك الشخصية التي تدخل الفرحة الى قلوب الأطفال بواسطة توزيع لهدايا عشية عيد الميلاد المجيد ، قصة تدعو للتلاحم الإسلامي والمسيحي ، والذي تحاول بعض الايدي هز هذا البنيان العريق . وقد نجح الكاتب في إيصال رسالة إنسانية تدعو الى احترام الاخر المختلف .

أسئلة حول القصة :

-         من هو المسحراتي ؟

-        من هو بابا نويل ؟

-        لماذا قلق الديك عندما شاهد المسحراتي في البداية ؟

-        ما المشترك بين عمل بابا نويل والمسحراتي ؟

-        كيف نجح المسحراتي في تجنيد الديك الى جانبه .؟

-        كيف عرف بابا نويل الديك الصياح كريم ؟

-        ماذا تعتقد كانت هدية الديك ؟

-         هل ترغب في عودة المسحراتي كما كان قبل سنوات ؟ 

clip_image001_fe808.jpg

بحضور عدد من الشعراء والأدباء المقيمين في المملكة المتحدة، انعقد في لندن يوم السبت 27 شباط فبراير 2016م  بالمركز الحسيني للدراسات ملتقى (القوافي الشادية في إنعاش القلوب الصادية) وأداره الأديب العراقي الدكتور حسين الطائي، وقف فيه الأدباء والشعراء وهم من جنسيات مختلفة قدموا من عدد من مدن المملكة المتحدة على "دور الشعر في تهذيب النفس وإنارة العقل" وهو المحور الأول من الملتقى الذي تناوله بالتفصيل عميد الدراسات العليا في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية في لندن الشاعر والأديب العراقي البروفيسور إبراهيم العاتي، كما وقفوا على (العَروض بين المحاكاة والتحديث) وهو المحور الثاني من الملتقى تناول فيه الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز شبين العلاقة بين العروض والمحاكاة والتحديث ودور المحقق والأديب الدكتور محمد صادق الكرباسي في تطوير فن العَروض واستحداث بحور جديدة.

الملتقى الأدبي الذي أدار محوريه الأديب العراقي الدكتور حسين الطائي، انطلقت فقراته بآيات من الذكر الحكيم تلاها السيد جعفر الموسوي، تلتها كلمة قصيرة للدكتور الطائي تحدث عن الوشائج العميقة بين الإنسان والشعر حيث: (أصبح لصيقاً بالأفراد والمجتمعات يرحل معهم في كل مكان، لأن المكان لا يحويه بقدر ما تحويه النفس البشرية التي كونت هذه المجتمعات الإنسانية)، ولهذا كما يؤكد الطائي: (أضحى الشعر أنيس المجالس والمنتديات وكان حاضراً في كل مراحل الحياة حتى أصبح جزءاً منها)، حيث: (التصق الشعر بالمجتمع حتى أصبح ميزة من مزاياه لأنه مرتبط بالشعر الإنساني فكان له تأثيره أيضا في كل مناحي الحياة ولذلك كان للشعر دور كبير في النفس الإنسانية وتهذيبها).

كلمة الطائي مهدت السبيل لمحاضرة الدكتور إبراهيم العاتي الذي بحث في وظيفة الشعر والعلاقة بين الشعر والعقل والحكمة ودور الشعر الحسيني في تربية النفس وتهذيبها.

عميد الدراسات العليا في الجامعة العالمية بلندن صدّر محاضرته بالحديث النبوي الشريف: (إن من البيان لسحرا ومن الشعر لحكما)، مستعرضا تاريخ الشعر العربي، معتبراً أن الشعر ما قبل الإسلام الذي وصلنا فيه من القوة والبيان ما يجعلنا نقطع بأن بدايات نظمه تعود الى أزمنة بعيدة عن الذي وصلنا. مؤكدا أن العرب نسبت الشعر الى الشيطان، ولكنه في الواقع هو ملكة وهبة إلهية إن تم توظيفه في الخير، وهو العلامة البارزة التي تميز الإنسان عن باقي المخلوقات، فهو مزيج من الفكرة والعاطفة والعقلانية والشعور، فالشعر يملك وظيفة سامية، وظيفة نفسية واجتماعية، ومن وظائفه الرقي الجمالي عبر تهذيب النفس والارتقاء بها.

واستشهد الأديب العاتي بأبيات من قصيدة ألقاها في جامعة باتنه الجزائرية عام 1986م في ندوة أدبية دولية بعنوان: (جدوى الأدب في عالم اليوم)، لبيان مفهوم الشعر ووظيفته ودوره في الحياة، جاء فيها وهي من بحر الطويل:

هو الشعر ما أسرجته من قريحة ... ولكنه قلب أقطّعه شُطرا

هو الشعر دنيا من عذاب ونغمةٍ ... وهبتُ روحي وأسلمت العُمرا

هو الشعر عنوان الحياة إذا خبا ... فجلُّ حياة المرء أن يبلغ القبرا

واعتبر العاتي أن من وظيفة الشاعر هو الإرتقاء بالإنسان لمواجهة الطغيان، لإن الشاعر هو لسان قومه، فلا خير في شاعر يصطف مع الطاغية، فالموت خير له من الحياة، مستشهداً بأبيات من القصيدة السابقة، مهاجما شعراء البلاط وفيها يقول:

فصرتَ إلى طاغٍ يسومكَ سلعةً ... ويُحكِم في أبـيـاتِكَ القيدَ والإصْرا تُـمجـد فرعوناً وتمدح حاجباً ... لـكي تبتني من ذُل أموالهم قصرا فما عاش شعرٌ إذ يموت عقيدةً ... ومـا عاش إنسانٌ إذا لم يكن حُرا

 وتطرق المتحدث الى علاقة الشعر بالعقل، منتقداً أولئك الذين يرون التعارض بين العقل والوجدان متوهمين أن الشعر شعور وإحساس وأن الشعر لا يستقيم مع العقل، مستشهداً ببعض الشعراء العرب الذين غلب على شعرهم الحكمة والعقلانية مثل زهير إبن أبي سلمى وأبو تمام والمتنبي، والأخير برزت في شعره خطوط الحكمة والفلسفة بشكل جلي، كما ظهرت النزعة العقلانية عند أبي العلاء المعري حتى قيل فيه أنه شاعر الفلسفة والفلاسفة وكان مغرماً بدرجة كبيرة بحكميات المتنبي.

وتطرق العاتي صاحب كتاب "الظاهرة الحسينية في الشعر العربي" الى دور الشعر في تهذيب النفس وتربيتها مستشهداً بالشعر الحسيني بوصفه شعراً ملتزماً لازمه الشعور والعِبرة والعَبرة، مستذكراً عدداً من الشعراء الذين حملوا أعواد الصليب على ظهورهم وهم يقدحون زناد الكلمة الحرة بوجه الظلم، مثل دعبل الخزاعي الذي قال الشعر في الحسين(ع) وعُذب عليه حتى مات. كما أشار إلى شعر الالتزام لدى الشاعر عبد المحسن الكاظمي الذي ظلمته المحافل الأدبية العراقية والعربية.

وانتقد العاتي في غضون محاضرته ما يعبر عنه بقصيدة النثر، ورغم انه نظمه على منوالها في بداياته الأولى لكنه سرعان ما عدل عنها، حيث رأى كما يؤكد، أنها أفسدت الذائقة الشعرية العربية بحيث أصبحت دواوين الشعر من هذا النمط ترمى في السلال ولا يقترب منها رواد الأدب والشعر، على ان قصيدة النثر هي غير الشعر الحر المقفى وقصيدة التفعيلة، فمثل هذا الشعر فيه موسيقى وبعضها موزون، والشعر في حقيقته جرس وإيقاع، وما لم يتصف بهذه الصفات فهو ليس من الشعر وإنما من النثر وإن حفّت به الشعور والمشاعر، منتقداً في الوقت نفسه تشبيه بعض الحداثيين بين قصيدة النثر والشعر الإنكليزي القائم على تناغم القافية واتساق الروي.

وفي نهاية المحاضرة استمع الحاضرون إلى قصيدة من نظم المحاضر كان قد ألقاها في مناسبة سابقة تناول فيها برؤية شعورية الوضع السياسي القائم والصراع الدائم بين قوى الظلام التكفيرية وقوى الخير.

المحور الثاني من الملتقى الأدبي والشعري، قدّم له الدكتور حسين الطائي بمقدمة عن لغة الحداثة التي أثرت في المجتمعات، وأوجه الشبه بين الشعر المقفى الموزون وشعر التفعيلة والتطورات التي لامست حياض البحور الخليلية، ثم شرح الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز شبين مفاهيم العَروض والمحاكاة والتحديث والربط بينها، مؤيداً آراء من سبقه بأن العروض هو ميزان الشعر فبه يظهر ويُعرف الملتزم في الشعر من مختلّه، وباختصار فإن العروض هو قسطاس الشعر ومعياره مثلما هو النحو قسطاس الكلام ومعياره.

وعرّج الدكتور شبين على مفهوم المحاكاة المطابق لمعنى التقليد عند تناوله للبدايات الأولى للشعر وأوزانه ومحاكاة الشعراء للأوزان التي اكتشفها الأديب الفراهيدي ومن بعده الزمخشري، معتبراً أن المحاكاة والتقليد عملية قديمة دخلت في كل مناحي الحياة، أشار القرآن الكريم إلى بداياتها في قصة هابيل وقابيل والغراب، عندما أقدم الثاني على قتل الأول وحار فيما يصنع: (فبعث الله غُرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه..) المائدة: 31.

وعند تناوله لمفهوم التحديث في الأوزان الشعرية، استشهد الدكتور شبّين بالمحقق والأديب الشيخ محمد صادق الكرباسي، الذي استطاع عبر متواليات من التفعيلات والمقطعات الشعرية هي أشبه بالمتواليات الرياضية أن يستحدث 210 أبحر جديدة أودع تفاصيلها في ثلاثة كتب حديثة هي: هندسة العروض، بحور العروض، والأوزان الشعرية (العروض والقافية). وهذه الكتب الثلاثة قدّم عليها الدكتور شبين إلى جانب ثلاثة أجزاء من ديوان الكرباسي المعنون "ظلال العَروض في ظئاب المطالع والملاحق" وهو بمثابة تطبيق شعري للأبحر المستحدثة نظم مطلعه الأديب الكرباسي فيما نظم الدكتور شبين ملاحقها.

وختم الدكتور عبد العزيز شبين محاضرته برباعية من وحي المناسبة وهي من بحر السريع، وفيها:

الشعر ما بذوقه تشعرُ ... لا ما يراعُ من يدٍ يسطرُ

إلهامُك النابع من خاطرٍ ... شعَّ من المورد لا يَنفُرُ

زِن كلمة الشعر به تستقم ... عَروضه وتُقتَفَ الأشطرُ

يا أيها الشاعر لستً الذي ... يُنافق القلبَ به يكفُرُ

وتخلل الملتقى الذي حضرته شخصيات أدبية وشعرية من العراق ولبنان والجزائر والبحرين والهند وإيران والمغرب، وغيرها، مداخلات نثرية وأكثرها شعرية.

الاستاذ علاء الخطيب اعتبر أن الشعر رسالة إنسانية في كل أبعادها نابع من تجارب شعورية إنسانية وهو يتعارض في رأيه مع العقلانية، كما أن الشعور له أن يتمثل في النثر والشعر بأصنافه العمودي والحر والتفعيلة.

راعي الملتقى المحقق الدكتور محمد صادق الكرباسي عبر عن قناعته بأن التجربة هي التي تسبب في تحريك المشاعر كما أن المشاعر تترك أثرها في التجربة، فأحدهما يعمل للآخر، وأنه لابد من التفريق بين النثر والشعر، فلكل ساحته وتأثيره. وفيما يتعلق بالشعر الحسيني قال مؤلف دائرة المعارف الحسينية، التي تربو على التسعمائة مجلد طبع منها مائة مجلد، إن القرآن الكريم حفظ اللغة العربية من الضياع وإن النهضة الحسينية أبقت الشعر العربي وغيره ناهضا وناضجا ومتطوراً ويكفي دلالة أن الموسوعة الحسينية تضم نحو 250 مجلد في الشعر.

وفي ظاهرة أدبية ظريفة في فن المداخلات ختم الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي مداخلته على المحور الأول بالبيتين التاليين من بحر الرمل:

هذِّب النفس التي فيها المحالُ ... نظمك الشادي لها برءٌ زلالُ

نوِّر العقل الذي منه الكمالُ ... شعرك الشافي حجًى فيه عِقالُ

كما ختم مداخلته الثانية بالبيتين التاليين من الرجز المخلّع:

لا شيء في الدنيا به جمودُ ... جدِّد عروض العُرب يا جَلودُ

لا يُبتغى رفضٌ ولا جحودُ ... هذا خليلي شاكرٌ حَمودُ

الشاعر العراقي نزار حداد، كانت مداخلته على المحورين أبياتاً من الشعر جاء فيها:

أدب النفوس منارةٌ للعاقل ... تغني الثقافة منهلاً بتكامُلِ

فالكلُّ واعٍ للحديث مكارمٌ ... رَيعُ المطالب مَكسبٌ للسائلِ

وعن المحور الثاني جاء البيتين التاليين:

عَروض الشعر فنُ كتابةٍ لقصيدةٍ ... في سرها نظمٌ قواه الشاعرُ

يُغني القريض بحورُهُ بتأملٍ ... لونٌ نراهُ بريشة يتفاخرُ

وتداخل الأديب العراقي الدكتور سليمان جواد الخطيب العوادي، القادم من مدينة برمنجهام، بمقطوعة شعرية وفيها:

بالشعر تصطلحُ النفوسُ تُهذَّبُ ... ويبانُ مجهولُ الهوية أجنبُ

والشعر من فنِّ العروض كصنوه ... لا شعر من غير العَروض يُسبَّبُ

والشعرُ ديوان الحياة بغيره ... تغدو الحياة جديبة لا تُعشَبُ

والشعرُ آنسُ ما يكون لصاحبٍ ... فإذا نوى نظماً كحملٍ يصعُبُ

كالهمِّ يخترمُ الجسيمَ نحافة ... قد قالها ملكُ القريضِ الطيِّبُ

وبعد مداخلة أستاذ القانون الدولي الدكتور عبد الحسن هادي السعدي حول أهمية الشعر في حياة الشعوب، ختم الدكتور حسين الطائي الملتقى الأدبي بقصيدة من إنشائه، جاء في مطلعها:

مِن أين أبدأُ أو مِن أينَ أختتمُ ... وأنت في عَبَقي للآنَ تحتدمُ

وختمها بقوله:

شقيقِيَ الشعرُ كنّا والهوى حُلُمًا ... نعيشُهُ كبُرت ما بيننا القيَمُ

والمفيد ذكره أن ملتقى (القوافي الشادية في إنعاش القلوب الصادية)، هو واحد من سلسلة ملتقيات دورية متنوعة الأغراض يعقدها المركز الحسيني للدراسات بلندن المهتم بكل ما يمت الى الكلمة بصلة.

clip_image002_eac77.jpg

سأبدأ بالسؤال: هل جميل السلحوت كاتب ومؤلف للرواية؟ أو هو سارد وراوٍ لأحداثها؟ أو هو إحدى شخصياتها؟

وحتى لا يسبق الظن إلى غير ما أقصد أبادر إلى التأكيد بأن السلحوت هو هؤلاء الثلاثة معاً.

هذه هي أهم ثلاث أدوات لإنجاز أي عمل روائي ينجزه كاتب الرواية، وكلما كان المؤلف على وعي بقيمة الشخصية الروائية، ويرتبط بها ويفهمها، يكون قادراً على تشكيلها، وبنائها، ومسرحتها وعرضها من خلال صوت السارد. بهذه المعايير يكون المؤلف قادراً على إبراز سمات الشخصيات التي يقررها مباشرة (السمات) أو بصورة إيحائية. والشخصية في العمل الروائي –كما هو معلوم- تعدّ العنصر الرئيسي فيها بسبب ارتباطها بالأحداث تأثيراً أو تأثراً، فاعلة أو مفعولاً بها، وهذه العناصر ذات تأثير كبير في المتلقي وتفاعله مع النص الروائي، وتقييمه له.

العلاقات في "العسف" علاقات متشابكة ومتداخلة، متعانقة، أو متناقضة، أو متعادية أو مشاركة في الأفعال وتوليد الأحداث. هي علاقة بين الرغبة والمشاركة الفاعلة، وبين علاقة الحذر والتحفز والانتباه والتركيز، وبين العداء المستحكم الذي لا يعرف للرحمة مكاناً. وقد شكلت كل هذه العلاقات في "العسف" محوراً أساسياً فيها، اشتُقّت منه، أو انبثقت منه لتشبه الواقع مشابهة وثيقة بين جميل السلحوت والسارد العليم والشخصية الرئيسية في الرواية (خليل الأكتع) ولكن هذه العلاقة لا تستقل كل واحدة بذاتها بل تلتصق، أو تتماس، أو تتناقض وتتفاعل معاً ومع شخصيات أخرى في الرواية لتشكل المشهد المتكامل في هذا العمل الروائي.

في هذا البناء الروائي يتكئ السلحوت في تأسيس هذه العلاقات على تنويع أساليب السرد، ومن ذلك تنويعاته على ضمائر السرد، فمرة يكون السرد بضمير المتكلم، ومرة بضمير الغائب، ومرة يكون بضمير المخاطب في مواقف الحوار المتعددة في مشاهد الرواية. وهذه الضمائر تحيل في معظم الأحيان على شخصية خليل الأكتع غياباَ وحضوراً، وهي إحالة تكشف عن بواطن وخفايا الشخصية الرئيسية، وبقية الشخصيات في الرواية، وتكشف عن مواقفها، وتتعمق في مكوناتها وانتماءاتها وأفكارها، سواء من خلال الموقف، أو السلوك أو اللغة.

"العسف" رواية قصيرة، من السهل تصنيفها ضمن روايات أدب السجون التي يزخر بها أدبنا الفلسطيني الحديث والمعاصر. موضوع السجن والاعتقال والتعذيب ومعاناة التحقيق ليست جديدة في هذا الأدب، بل من المعقول والواقعي القول إن تجربة السجن والاعتقال من أكثر التجارب والموضوعات وروداً في الرواية الفلسطينية، وبشكل خاص منذ ثمانيات القرن الماضي وحتى اليوم، وإن كانت الروايات السابقة لذلك الوقت لا تخلو من تداول هذه "الثيمة بتواتر"، ولكن احتدام الصراع المادي العنيف منذ انتفاضة الحجارة، وقيام سلطات الاحتلال بالزج بالآف المعتقلين والسجناء، وبخاصة الكتاب، في المعتقلات والسجون، ومعاناة هؤلاء كغيرهم، أثرى النصوص الروائية بهذه التجارب، بالإضافة إلى أن تجارب الاعتقال ذاتها (قديمها وحديثها)، أمكن التعبير عنها بصورة أوضح مع تقدم وسائل النشر، وانفتاح أفق التعبير نتيجة ظروف متعددة يعرفها كل متتبع لأحوال النشر في فلسطين المحتلة والعالم.

لا شك لدي أن تجربة (خليل الأكتع) السجنية بخاصة، وربما أعرض من ذلك، هل تجربة جميل السلحوت ذاته، وبين جميل وخليل الأكتع كثير من صور التشابه، إن لم نقل التطابق، بصرف النظر عن التفاصيل الصغيرة التي لا شك أنها مقصودة من الكاتب لتشكل كلّا جَمعياً لا صورة ذاتية، فلا يمكن لأي كاتب روائي أن يبني شخصية متطابقة كلياً مع ذاته، إلا إذا كتب سيرة ذاتية، وحتى في هذه فهو يكتب من زاوية رؤيته لذاته، وكيف يراها هو، بصرف النظر عن التطابق التام بينه وبين الذات التي رسمها في سيرته.

ليس ذلك فقط، بل إن جميل السلحوت (الكاتب) يتماهى بالسارد الذي هو في معظم الأحيان خليل الأكتع، وهو الراوي العليم، وهو الشخصية القيادية على الرغم من صغر سنه، وهو المبادر، وهو كاتم الأسرار، وهو الواعي على ما يدور حوله مع قلة تجربته السجنية والاعتقالية، ومع حداثة تجربته النضالية. خليل الأكتع يحرص على التعلم وتثقيف الذات، وخليل الأكتع صبور كتوم وصلب المراس، وعاطفي حين يتعلق الأمر بعائلته ووالديه وأخته. وخليل الأكتع يميل كثيرا في سرده إلى اللغة التصويرية التي يمتاز بها أسلوب السلحوت في الوصف بخاصة. خليل الأكتع بدوي قروي كجميل السلحوت، عمره في عام 1968 يقارب سن جميل السلحوت، وهو من المعلمين النادرين في تلك القرية كجميل، ويكاد يمكث في السجن قريباً من المدة التي مكثها جميل أيضاً، هذا بالإضافة إلى السمات التي سبق ذكرها في شخصيتيهما.

كون موضوع الاعتقال والسجن موضوع متواتر في الرواية الفلسطينية نظرا لظروف موضوعية واقعية قائمة ومتواترة، هل يقلل من أهمية تناول هذا الموضوع؟

الجواب أبدا لا. وذلك لعدة أسباب: أهمها أن لكل شخصية تجربتها التي قد تتشابه أو تتوافق مع تجارب آخرين من حيث الشكل والعموم، أقصد ظروف الاعتقال والتحقيق والتعذيب ... الخ، ولكن تفاصيلها والإحساس بها وفهمها وتفسير تفاصيلها والاستجابة لها، كل ذلك مختلف عند كل معتقل عن الآخر، ولدى كل أسير عن غيره. ومن جهة أخرى فإن أساليب التعبير عن تلك التجارب المتنوعة والمتعددة مختلفة ومتنوعة و"مشخصنة" بناء على عوامل متعددة كذلك. وهذه التويعات هي ما يجعل كل تجربة ذات مذاق فني خاص، وما يجعل كل قصة مختلفة عن الأخرى بنية وتركيبة وأسلوباً وصياغة وتصويراً وغير ذلك من المقومات والمكونات الفنية الجمالية.

لذلك، فالقارئ لهذه الرواية (العسف) ما أن ينشب عينيه فيها لا يكاد يفارقها حتى ينتهي منها، لما فيها من قدرة على الجذب ومفاجآت وتوقعات ومسرحة، وتنقل في المواقف باستغلال جميل لعنصر الزمن، يجعل هذا النص فريداً في جماليته عن النصوص الأخرى التي تناولت تجربة الاعتقال والسجن. إنها قصة خليل الأكتع المتمايزة عن غيرها من القصص.

لقد سبقني إخوة أفاضل طيبون في التحدث عن الرواية في ندوة اليوم السابع، وقد تناولوا كل شيء فيها تقريبا، وليس لدي شيء كثير أضيفه إلى ما قالوه فيها. وما أعيده هنا فقط للتأكيد على ما قالوه. فالرواية تمثل بداية حركة المقاومة بعد حرب 67، وبداية انضمام الجيل الجديد إلى نوع جديد من المقاومة، وفيها محاولة تمييز للاتجاهات الفكرية والاجتماعية والسياسية في الأوساط الفلسطينية، وفيها حشد كبير من وسائل التعذيب المادي الجسدي والنفسي التي تمارسها سلطات الاحتلال مع المقاومين والمعتقلين والسجناء، ومحاولاتها ضرب اللحمة الفلسطينية، وإثارة الشكوك، وتمزيق اللحمة الوطنية والاجتماعية، وفيها التباين، بل والتناقض أحياناً (وربما بداية الصراع) بين الاتجاهات الفكرية الفلسطينية حتى في داخل السجون، وفيها محاولات جادة ومفيدة من السجناء للتغلب على قهر السجان وبؤس السجن وتحويله إلى فرصة للتضامن والتعاون وصنع القيادات الواعية ومقاومة ممارسات السجن، والتثقيف الذاتي، ومحاولة تعزية الذات بالأقاصيص والحكايات كنوع من الحفاظ على التوازن النفسي الذي بدا مختلاً في بعض مشاهد الرواية (بدت فليتسيا لانجر شابة فاتنة).

في الرواية نماذج فلسطينية بشرية عادية وطبيعية، سواء أحببناها أو كرهناها. أبو سالم المختار الجاسوس (هذه صورة نمطية للمخاتير في الرواية الفلسطينية)، والعصافير، ونماذج أخرى عنيدة وبطيئة الفهم والتمسك بالرأي القائم على الجهل وأمية فكرية أكثر مما هو قائم على الوعي والفهم، وهناك بذور وعي بدأت تطل برأسها وتتفتح نتيجة التعليم والتثقيف.

أما في الوسط المعادي فمهما حاولت شخصية المحتل أن تلمع ذاتها، ومهما حاولت من أساليب التزوير والتظاهر باللطف والإنسانية والرفق لانتزاع اعتراف المعتقلين، فإنها كريهة وتعود إلى عنصريتها وعسفها وبذاءتها مهما حاولت أن تبدو غير ذلك، حتى أمام المنظمات الدولية كالصليب الأحمر. صورة الشخصية اليهودية في الرواية شخصية كريهة محتالة مخاتلة خبيثة وقاسية ومتجردة من الإنسانية والرحمة. هذه الشخصية تزور كل شيء، الأسماء والمظاهر، والنوايا. ولكن ما استغربته في الرواية أن كلام هذه الشخصيات كان في معظمه بلغة عربية فصيحة تماما إلا في بعض المشاهد، وهذا ما يجعل هذه المشاهد بالعربية الفصيحة تبدو لغتها مصنوعة بلسان الراوي العليم. أي أن ذلك يجعل الرواية (كما قيل في ندوة اليوم السابع) تبتعد عن الواقعية التي حرصت عليها الرواية وهي الواقعية التسجيلية.

شخصيات الرواية تراوح بين النمطية الثابتة، وبين النامية المتطورة، وكمثل على هذه الأخيرة، وتتجلى في أبرز صورها، هي شخصية خليل النامية التي تبقى تتصاعد في نموها من بداية الرواية حتى آخر سطر فيها، في حين كان دور بعض الشخصيات ثانويا وثابتاً، تظهر وتختفي بالملامح ذاتها، سوى تغيير طفيف كشخصية زينب مثلا والمختار أبو سالم.

السارد الرئيسي في أحداث القصة هو سارد عليم، يعرف حركة كل واحد من شخصياتها، بل كانت الشخصيات تتحرك بخيوط من أصابع السلحوت، يوجهها كيف يشاء، ولذلك جعل من السارد الأساسي (خليل الأكتع) راوياً مشاركاً في صنع الأحداث وفعلها، أو راوياً لها على طريقته. هذا الرواي المشارك في صنع الأحداث هو موجه ومسيّر لتلك الأحداث كما يشاء، ولما كان السارد من صنع الكاتب، فإنه بالتالي مسيّر من المؤلف.

أخيرا هناك مسألتان بقي أن أتوقف عندهما: الأولى هي لماذا غامر الأستاذ جميل بإبعاد الأستاذ داود عن المشهد؟ وبصرف النظر عن دوره ومقارنته بدور خليل الأكتع، فهل كان الإبعاد هو إنهاء لدور داود في التجربة النضالية الفلسطينية؟ هل سنصادف داود يعود في رواية جديدة ليكمل دوره الذي بدأه في داخل الوطن؟ ألم يكن من الممكن تطوير الرواية من خلال دور أو أدوار لداود إذ تم اعتقاله، لم نعرف عن ظروف اعتقاله والتحقيق معه الكثير؟ ولماذا تبادر سلطات الاحتلال إلى إبعاده وهو المنظم للمقاومة، ولم نر استكمالا للتحقيق معه؟ هل هناك مفاجآت يخبئها لنا السلحوت في شخصية داود؟

المسألة الثانية هي الدمامل التي ظهرت في أماكن مختلفة وحساسة من أجسام السجناء في نهاية الرواية، وبعد أن غيرت مصلحة السجون شكليا بعض إجراءاتها (الفراش والطعام). هذه الدمامل التي يجب التخلص منها بوسيلة واحدة وهي إخراج نواتها من الجسم كلياً. إنه الجسم الفلسطيني، والدمل الداخلي، بمعنى أن هذه الأوبئة هي أوبئة داخلية ممثلة في أبو سالم المختار، ومن هو على شاكله، فهذه الفئة لا يمكن المهادنة أو التلاين معها، فحتي يكون الجسم سليما، أو ليعود سليماً، فلا بد من استئصال هذه الدمامل من جوهرها ومن نواتها.

عود على بدء:

إن كانت كل رواية تتكون من روايات قصيرة، تتراتب وتتناسق لتكون الرواية الكبرى، فكذلك كانت (العسف)، وقصصها ليست فقط واقعية تتعلق بالاعتقال والسجن، وليست آنية مرتبطة بهذا الحدث فقط، بل في نسقها قصص أخرى شكلت مقومات مهمة في الرواية، فما كان قد تداوله السجناء من قصص الماضي ذات الدلالة، والتي تحمل كل منها هدفاً ما، وعظياً تعليميا، كانت قد شكلت عنصراً في بنية الروائية وجاءت متماسكة في هذا البناء بدون أن نشعر أنها اقتحمت على الرواية ظرفها ومحيطها وأجواءها وخياراتها. بل إن بعض هذه القصص أعطت نكهة إضافية ومهمة في بيئة السجن تلك.

المشاهد والمواقف التي رواها لنا الرواة وبخاصة خليل الأكتع مشاهد مسرحية أخذ الوصف النصيب الأكبر فيها، وصف للأشخاص، ووصف للأمكنة، ووصف للحالات، ووصف حتى للزمان. هذا الوصف الخارجي للأشياء وللأمكنة وللشخصيات كان في كثير من الأحيان موحيا لعناصر داخلية، ومؤشرات ذات دلالة أكبر من الوصف الخارجي، كوصف أدوات التعذيب، ووصف الحشرات والقوارض والفراش ... لم يكن لذاته، بل لتصوير ما هو وراء ذلك من دلالات ومعاني (إنه العسف والظلم والقهر والاستكبار)، ووصف الشخصيات أو السرد على لسانها جاء بتحليل لنفسيتها ولتفاعلها، ولدواخل نفسها. هذه اللوحات التصويرة ظلت هي التي تشد القارئ من أول الرواية حتى آخرها بلغتها وأسلوبها وجاذبيتها التي عرفت به روايات السلحوت، وبخاصة في توظيف أساليب السرد من استذكار وتوقع وتذكر ومراوحة بين السرد والحوار والمناجاة والحلم والإيهام، ومن التلاعب بالزمن اختصاراً وحذفاً وقفزاً واستحضاره نصاً أو معنى. بل إن للتراث الفلسطيني والعربي حضوراً واضحا نصا من خلال التناص للقصص الشعبية الفلسطينية وللأمثال السائدة في المنطقة العربية والفلسطينية بخاصة، وهذا أعطى خصوصية معينة للرواية جعلت منها أفقاً للحالة الفلسطينية وثقافتها الاجتماعية ودلالات هذه العبارات (المقولات والأمثال) الحضارية والمعرفية والفكرية.

أما المرايا فهي أن كل شخصية في الرواية هي انعكاس واستحضار لشخصية واقعية أو لنموذج اجتماعي في الحياة الفلسطينية، فشخصيات الرواية كلها شخصيات نموذجية، بمعنى أن كلاً منها يمثل قطاعاً اجتماعيا وفكريا فلسطينياً، وهو مجتمع طبيعي، وليس مجتمعا مثاليا طاهراً خاليا من الشوائب، ففيه العميل، وفيه المناضل، وفيه اغلواهي، وفيه الجاهل، وفيه المؤثر على نفسه، وفيه الأناني الفردي المصلحي، وفيه القاد المبادر وفيه المتخذل المتواني، وفيه المحترم المقدر اجتماعيا، وفيه المنبوذ، وهكذا تشكل هذه النماذج الكل الفلسطيني، وفي ذلك إشارة من الكاتب إلى توجهه الواقعي في الكتابة الروائية، وفي فهم المجتمع عامة، كما أن فيها نزعة نقدية تنموية تطويرية إيجابية وليست نقدية سلبية هادمة، ولذل فالعناصر الخيّرة في الجتمع، والعناصر المتعلمة، والعناصر الصامدة الثابتة هي الفائزة، وهي التي تنال التقدير الاجتماعي، وفي هذا نزعة حضارية مهمة للناء لا للهدم.

تنوّعت إبداعات الكاتب الرّاحل سلمان الناطور، فقد كان مفكّرا وأديبا ومؤرّخا وكاتبا مسرحيّا، وقام أيضا بترجمة العديد من الكتب، لكتّاب يهود، من اللغة العبريّة إلى العربيّة، منها كتب أدبيّة وكتب في التّاريخ والسّياسة. فهل كان النّاطور مطبّعا ومعزّزا لثقافة الآخر عندما ترجم كتبهم وقدّمها للقارئ العربيّ؟ وهل رأى النّاطور أنّ المكتبة العربيّة فقيرة إلى تلك الكتب، أو أنّ العبرية قد تفوق العربيّة مثلما تفوّق اليهود الذين يتّخذونها لغة رسميّة على العرب في حروبهم واستباحوا أرضهم؟ أم أنّ النّاطور كان يبحث عن المعرفة في مكامنها، ويستغلّ معرفته للغة الأعداء ليعرّف القارئ العربيّ عليهم وعلى نمط تفكيرهم، وربّما على سبب تفوّقهم العسكريّ والسّياسيّ على الأمّة العربيّة.

إنّ المتتبّع للكتب العبريّة التي ترجمها المرحوم سلمان الناطور، يرى أنّه كان ينتقى الكتب التي يترجمها بعناية، ويختار الكتّاب الذين يترجم لهم بعناية أيضا، فهو لم يترجم إلّا النّصوص التي كان يرى أنّ القارئ العربيّ لا بدّ له من معرفتها حتّى يستطيع فهم الآخر، والتي تهمّ الباحث العربيّ إذا أراد أن يدرس تاريخ الكيان الصهيونيّ بموضوعيّة ويفهم أسباب تفوقه ومكمن القوة فيه وعوامل ضعفه؛ فلا يمكن هزيمة هذا العدو إذا لم نفهم طريقة تفكيره وثقافته ونظرته إلى الأمور. وعلى لسان سلمان النّاطور يقول: "الترجمة هي المصدر الأهم لفهم الآخر، ولا يهم إن كان صديقا أو عدوا. عبر ترجمة النصوص الأدبية يمكن فهم الآخر بصورة أصدق، فتعرف ضعفه وقوته وكل العناصر التي تركّب شخصيته وبالتالي يمكن بناء عليه أن تجيد التعايش معه أو محاربته. أنت لا تترجم الآخر من أجله بل من أجلك أولا وآخرا."

لكنّ الرّاحل سلمان النّاطور لم يترجم إلا للكتّاب اليهود المناهضين للاحتلال والذين يعترفون بحقّ العودة للشّعب الفلسطينيّ، فقد كان ينتقى النّصوص التي يترجمها بعناية مع أنّ الترجمة كانت بالنسبة له مصدرا للرزق؛ فهو لم يترجم النّصوص الشّائنة التي لم يحبّها أو لم يحترم وجهة النّظر فيها على أقل تقدير، لأنّ قراءتها وترجمتها كانت ثقيلة جدّا على نفسه لا يستطيع أن يحتملها، فتتحوّل إلى معاناة شخصيّة بالنّسبة له. يقول سليمان النّاطور: "الترجمة بالنسبة لي هي عمل معيشيّ أي أنّني أترجم مرغما، لكن بحبّ واحترامٍ للنصّ ولا أترجم نصّا لا أحترمه أو أحبه ولذلك فإنني انتقائيّ جدّا في الترجمة كي لا تتحول إلى معاناة."

لذلك فإنّنا نجد النّاطور يجنح إلى ترجمة الأدب لكتّاب يهود نأوا بأنفسهم عن العنّصرية ومساندة الاحتلال، فكاتب معروف بمواقفه الوطنيّة وحسّه المرهف، مثل سلمان النّاطور، لا يستطيع أن يقرأ أو يترجم لكاتب صهيونيّ يتبجّح بعنصريّته ويزوّر التّاريخ بعنجهيّة.

فترجمة سلمان النّاطور كتبا لكتّاب يهود لا تدينه أبدا كفلسطينيّ وإنما هي تفضح تاريخا يقوم على التّزييف وإنكار الآخر لدى اليهود الصّهاينة، وتعطي صورة أوضح لما حدث في فلسطين ولمعاناة الشعب الفلسطينيّ في ظلّ الاحتلال والتّهجير.

المزيد من المقالات...