sdgfsgg1061.jpg 

  في البيوت التراثية القديمة والمبنية على نظام العقود وخاصة العقود المتصالبة، كانت الخابية جزء رئيس في البيت كمخزن للمواد الغذائية في وقت لم تكن الكهرباء موجودة والتخزين يحتاج خبرة فكانت الخابية وبطبيعة البناء، تحافظ على درجات الحرارة فتساهم بحفظ الحبوب والمواد الغذائية والزيت لفترة طويلة وتبقيها بوضع جيد وجاهزة للإستخدام حين الحاجة اليها، ولها في اللغة العربية معانٍ واشتقاقات كثيرة ومنها جرار الماء وجرار الزيت والخيمة الصغيرة ومفردها خابية وجمعها خوابي وأصلها كما ورد في المعاجم ومنها المعجم الوسيط: "الخابئة وأصل الخوابي الخوابئ، وسهلت الهمزة فيها للتخفيف"، وهذا الكتاب للكاتبة والشاعرة تفاحة بطارسة صدر عام 2020 في عمَّان عن دار يافا العلمية للنشر والتوزيع، وهو مصنف في المكتبة الوطنية تحت تصنيف "خواطر" في 140 صفحة من الحجم المتوسط ضم بين جنباته خمسين نصا كل له عنوان يعبر عنه، ولوحة غلاف بلون الأرض وفي وسطها خابية ماء فخارية ضخمة، والغلاف الأخير صورة للكاتبة مع فقرة من مدخل الكتاب وفي أسفلها صور أغلفة لسبعة من مؤلفات الكاتبة.

   وفي مقدمة الكتاب وضعت الكاتبة مدخل تحت عنوان "همس الخابية/ محطة الليل" لخصت فيه فكرة همس الخابية ومن ضمن ما قالته: "ومن الليل يطل فجر جديد ينبئ بساعات على وشك الولادة، ولادة الصباح خلف الأفق القريب، ومحطات مشرقة يعيدها الحنين إلى ذكريات الخابية.. وماذا لو حملت لنا خوابينا تلك المواعيد؟"، لتنقلنا إلى إطلالة شعرية تحت عنوان "همسة" تضيف أسفلها: "ولم تزل أمام همسة الحياة والصباح تنتظر الأحلام والصهيل قهوتي..!" لتنقلنا بقوة للتجوال في همس الخابية ونصوصها الوجدانية المداعبة للروح والمحلقة بها بين ذاكرة المكان وذاكرة الماضي والنظرة للغد الآت.

  والخاطرة شكل أدبي يعتبر من الأصناف الأدبية التي لم تحظى على الاهتمام بالنقد، فهي تعتبر نوع نثري ظهر بالصحافة في زوايا محددة ولكن لم تمتلك مميزات المقال من حيث الطول والفكرة، بل هي وليدة اللحظة لكاتبها بشكل من أشكال البوح الوجداني تخطر في البال فتكتب، فهي ليست مقال ولا قصة قصيرة ولا نص شعري وإن أخذت منها بعض المواصفات، لذا اعتبرها النقاد نص هجين فخرجت عن اطار النقد المنهجي الأدبي بعكس القصة والشعر والرواية، ومن الجدير الاشارة أن سيد قطب هو أول من أشار للخاطرة وكتب عنها وميزها عن المقال في ثلاثينات القرن الماضي، مع ضرورة ملاحظة أن كلمة خاطرة لم تكن معروفة في السابق وفي القواميس العربية القديمة وردت كلمة خاطر ومنها نقول دوما: خطر في ذهني وبالي، وصيغة التأنيث لكلمة خاطر "خاطرة" وردت فقط في المعجم الوسيط، فاعتبرت أفكار تكتب بدون قانون ولا منهج ولا جنس أدبي يحددها ويحكمها، لذا ابتعد عنها النقاد لأنهم يعتبرون أن النقد الأدبي هو فن قائم على دراسة الأساليب وتمييزها وتقويمها فنيا وموضوعيا ولغويا وهذا لا يمكن تطبيقه على الخاطرة، لذا اعتدت أن أتعامل مع هذه النصوص من زاوية محاور الأفكار في الكتاب ومن الناحية الجمالية التي تمتع روحي، ولا أتعامل معها من زاوية نقدية أدبية لعدم خضوعها لقوانين وأساليب النقد.

   من جماليات "همس الخوابي" ما باحت به روح الكاتبة ومنذ النص الأول حتى الخامس حيث نلاحظ أن الخمسة نصوص الأولى كانت المحور الأول و"ذاكرة الخابية": وهو عنوان هذه النصوص قبل أن تبدأ بمنح النصوص عناوين أخرى، أنها أنسنت الخابية وخاطبتها كإنسان يسمع ويتكلم ويحاور وليس كحجارة وجدران لا تسمع، فخاطبتها بالقول: "تعالي أيتها الخابية لنخبئ الجراح، ونقف بقوة كجذور الأشجار التي رسخت حولنا"، ففي هذا النص نجد أنه في ذاكرة الخوابي "صور وذكريات ما زالت تسد جدران الخوف" فهي برأي الكاتبة أن "الذكريات رصيد نغرف منه علنا نقاوم عثرات الزمن"، ومن النص الثاني يتحول الحديث وهمس الخوابي إلى محاور أخرى، ولكن الخابية تظهر في نصوص أخرى مثل نص "البيت العتيق" حين تقول: "وتبقى تلك الخابية رغم الجفاف تهمس شوقا بحكايات ذلك الزمن الجميل"، وكذلك في نص "زهور اللوز" حيث قالت: "حتى يميل الصباح، ويكتب أجمل الذكريات على جدران الخوابي"، وبقيت الخابية تتردد في جنبات الكتاب فنراها في نص "عودة الغائب" وهو من غادر المكان فتقول في النص: "ترشح خابيتنا قطرات ماء فتتسابق الزهور حولها لتنتظر الغائب عندما يعود"،  ونراها أيضا في نص "العونة" حيث تخاطبها الكاتبة بالقول: "فبماذا تهمسين لنا من هناك يا خوابي أسرارنا وفرحنا وأحزاننا؟"، وتتكرر الخابية في نصوص أخرى مثل "عقارب الزمن" ونص "الغروب" ونص "الرصيف الخاوي" ونص "بداية الطريق" ونص "مثلك أنا" و"موسم الهجرة" وفي "أريد وأريد" و"قلبي والبحر" و"النغم"، حتى آخر نص بالكتاب وهو "رسالة إلى كل عام يرحل" حيث تخاطب الخوابي بقولها: "متى تعودين من طريق الماضي يا خوابينا".

   المحور الثاني هو الوطن: ومن خلال الخريف حيث "طرقات الخريف على الأبواب" والكاتبة ترى أنه "ما زالت الخابية تبوح بالكثير، وتفيض بأسرار وأسرار"، وهي والخابية بإنتظار الغياب الذين رحلوا "لتجد حضن الوطن بدفئه وحنينه ينتظر قوافل العائدين، والمتلهفين لرائحة التراب بعد عناق المطر"، فالوطن يسكن روح الكاتبة وهي تستعين على حبها للوطن بالصبر، هذا الصبر تستمده بالحديث مع الخابية في النص الثالث حيث تخاطبها بالقول: "من عمق روحكِ.. من أحلامكِ.. من ثباتكِ وما تحملين من أمل.. أجمع الصبر"، فتستمد من ذاكرة الخابية القوة والثبات في الوطن فتقول: "أغدو كجذور سنابلكِ قوية أضرب في عمق الأرض.. وأتعلم كل صنوف الصبر والثبات.. وأكون ظل الحياة وربيع الأرض"، وفي النص الرابع تشكو للخابية ما حل بالوطن فتقول لها: "تأملي باقات الأقحوان من حقولنا كيف أضحت تائهة شاحبة"، وفي النص الخامس يتمثل حبها للوطن بحبها لقريتها الصغيرة "الرابضة بين جبال الكبرياء وتلال العشق" والتي لم تشر لها بالإسم، فهناك "ظل الألم يصغر، يتقلص، ويذوب".

    في نص "درب التبانة" تواصل الكاتبة تفاحة بطارسة البحث في الوطن، فنراها تلتفت للأطفال وتتساءل: "من زرع الحزن في أحداق طفولة دروبنا الحالمة، ولون بالدم خطوات أطفالنا الصغيرة التي ما زالت تتعثر على رمال الأمل القادم، وأطفأ النور في عيونهم المليئة بأحلامهم" وتنهي النص بسؤال: "فمن يا ترى قتل الحب على درب التبانة"، فهنا نجد أن الكاتبة خرجت عن مفهوم الوطن المحصور في مساحة جغرافية، والمفهوم الإنساني المحصور بالكرة الأرضية وخرجت الى مفهوم كوني، حيث الأرض والمجموعة الشمسية تمثل جزء ضئيل من هذه المجرة التي اسماها العرب درب التبانة تشبيها للتبن المتساقط من فوق المواشي خلال النقل، وفي الليل يظهر التبن تحت نور النجوم كما شكل المجرة في السماء، بينما اسماها الغرب الطريق اللبني او طريق الحليب نسبة لأسطورة هيراكليس الطفل الذي حاول الرضاعة من هيدرا فتناثر اللبن من فمه وفقد خاصية الخلود، بينما في نصها "هناك.." نجدها "تحلق في سماء الزمان وأحلام المكان".

    الوطن محور أساس في همس الخوابي فنجده في نص "طيور أيلول المهاجرة" فتخاطبها وتهمس لها أن تعود حيث الطيور تشبيه لأبناء الوطن المهاجرين فتقول في النص: "لا أدفأ من حضن الوطن مهما قسا وجار، ولا أنقى من مائه مهما بخل قطر غيمه"، ويتكرر ذلك في نص "عناق المطر" حيث تنتظر الطيور المهاجرة لتعود: "لتجد حضن الوطن بدفئه وحنينه ينتظر قوافل العائدين والمتلهفين لرائحة التراب بعد عناق المطر، ويتكرر الوطن سواء بوضوح أو بالتلميح في نصوص عدة ومنها "فجر منتظر" و"موسم الهجرة" وأريد وأريد".

   من الوطن تنقلنا الكاتبة الى المحور الثالث وهو المحيط المجتمعي والمكاني: والجانب المجتمعي والمكاني يأخذ المساحة الأكبر من الكتاب ونرى اهتمامها بالمكان كبير فنراها في نص "ملامح المكان" تقول: "ذاكرة المكان والزمان، ملامح لا تتغير مهما واجهت من تغيرات حولها"، فالمكان هو المسرح الذي يلعب عليه الانسان أحداثه التاريخية فيصبح له ذاكرة عبر الزمان، ونراها في نص "فارس الليل" تتحدث عن الجدجد أو صرصار الليل الشجري بإسقاط على واقع انساني بدأ يتغير بقولها: "وصف بالفارس لأنه يضحي بحياته من أجل أنثاه، ويحميها من الدخلاء قبل نفسه"، بينما نراها في نص "فرطت مسبحتي" تطرح عدة اسئلة مجتمعية وتنادي على الخابية: "ألا تهمسين بشيء لنا يا خوابينا؟"، وفي نص "نبتة السعادة" تشير لقسوة البشر من خلال مخاطبتها "ريحانة الدار (الحبق).." فتهمس: "أبتسم لها، وأرمقها بحنو ومحبة مؤكدة لها أنها أكثر رقة وعطاء من كل جنس البشر"،بينما في نص "قهوتكم دايمة" تشير كيف كان الشيوخ يختارون "القهوجي أخرس أو أطرش حتى لا يفشي أسرارهم، فتوجه النصيحة للآخرين: "ولهذا أختر لنفسك القهوجي الأخرس أو الأطرش واجعله حارسا على قلبك وأسرارك وأفكارك"، في اشارة واضحة للحال الذي وصله الناس والمجتمع.

   وكون الكاتبة بالأصل ابنة قريتها "سوف" فقد أشارت بهمس الخوابي وفي نصها "أهازيج المطر" للمجتمع الريفي وكيف كان يرتبط بالمطر من خلال الأهازيج والدعاء إلى الله ان يهبهم الغيث، وحين يأتي الغيث وتشرق الشمس بعدها نجدها تقول في نصها: "يعودون الى بيوتهم بأحذية غارقة بطين الحياة والأمل"، والمطر بارتباطه بحياة الريف يتكرر في العديد من النصوص ومنها "صرخة ألم"، وتكمل في نصها "الحوش" وهو المكان امام البيت داخل الجدار وبدون سقف وعبارة عن ساحة صغيرة يتجمع بها اهل البيت وينامون بها في ايام الصيف فتقول: "الحوش نقطة يلتقون بها، يبثونها همومهم، ويتخلصون من زفرات أوجاعهم وحرقة دموعهم، وأعباء النهار التي نزفت بحبات عرقهم"، وكذلك في نص "زهور اللوز" حيث اللوز بأشجاره وتفتح ازهاره في مطلع الربيع يرتبط بمنح الفرح والبهجة بسكان الريف فتقول: "تهب حاملات الجرار إلى نبعنا العذب الرقيق، وتغرف منه حكايات العشق" في فترة كان احضار الماء من الينابيع للبيوت قبل أن تصل المياه بالأنابيب.

  وفي نص "قمر الحصادين" تعيد الذاكرة لأيام الحصاد في الريف وخاصة الليالي المقمرة حيث يزيد حجم الحصاد وبعد ذلك "يعقدون جلساتهم في حلقات أمام البيوت والحقول أو على البيادر"، وتنتقل للتحسر في نهاية النص على تلك الأيام الحافلة بالبركة فتتساءل: "أين أنت اليوم يا قمر الحصادين؟"، وفي الحصاد تبرز أحد أهم عادة حميدة وهي "العونة" وهو إسم النص أيضا حيث تقول الكاتبة في نصها: "العونة في موسم الحصاد إنها أحد أشكال الترابط الروحي بين أفراد المجتمعات القروية"، ومن معالم الحياة القروية والواردة في نصها "الحاكورة" تصفها بالقول: "الحاكورة جزء لا يتجزأ من الدار، بل هي سلة الخضار"، وكذلك "التنور"كما تحدثت عنه بنص يحمل نفس الاسم كعنوان، وهو عادة مبني من الطين المخلوط بالتبن ويجري الخبز بداخله فتصف الخبز: " هكذا يكون رغيف الخبز المحمر الشهي، تتقاسمه قلوب لا تعرف الا الحب"، ومن التنور تنتقل لنص "السامر" والدبكة الشعبية مع اغنياتها وأهازيجها والتي كانت عنوان للفرح في الاعراس ومناسبات مفرحة غيرها فتقول: "هكذا ظلت ليالي الأفراح خيمة تظلل القلوب، وتمنحها دفء الأمسيات"، وكل ما هو مرتبط بذاكرة المكان لا تنساه كما القنديل في نص "القنديل" وكذلك نرى ذلك في نص "ناي الراعي" ونص "حكاية الصقيع".

   وتواصل الكاتبة البحث في قضايا المجتمع فنراها في نص "إلى زهرة في الخامسة عشرة من عمرها" تقول: "من يمنحك حقك في مستقبل مشرق بهي؟ من يحميك من اليد التي تحاول نزعك من بين أحضان الأمن والأمان؟"، بينما في نص "حكاية حائرة" تنتابها الحيرة من الواقع الذي وصلنا اليه فتطرح عدد من الأسئلة في هذا النص ومنها: "كيف نقف متأهبين أمام مخاوف الغد الآتي وأهواله؟" فهي ترى ان الحكاية الحائرة هي: "بقايا قصيدة تناثرت تكتب أغنية الرحيل والألم"، وفي نص "سر المفتاح" تتحدث كيف يترك الجيران مفاتيح بيوتهم بأمكنة يعرفها الجار "لا يوجد ما يمنع في معرفة الجار لموقع مفتاح بيت جاره، فهم عائلة واحدة" وتهمس بعد الغياب الطويل عن البيت: "أقف الآن على أعتاب بيتنا العتيق، وعيناي ترنو إلى ذلك المكان"، وفي نص "الحناء" تنتقل لمشكلة اجتماعية بإلزام الفتاة على الزواج بمن تختاره لها العائلة من خلال "تقاليد تجبرها على الإنصياع لرأي أفراد العائلة واحترام كلمة نطقوا بها"، فتتسلل من العرس على غفلة و"في نفسها أفكار متضاربة حائرة تائهة، كيف ستشارك في هذه الجريمة التي ستكون هي ضحيتها؟" وتطعن نفسها تحت شجرة الكينا وفاء لحب يسكن قلبها وترى أنه بموتها "النصر على كل القيود والقرارات"، ونجد هذه القضايا المجتمعية بنصوص مختلفة مثل نصيّ "الجَمال" و"اللحظة"، حيث تبحث بضرورة الجمال ورؤيته في المجتمعات وكذلك استغلال اللحظات الحلوة.

   والمحور الرابع هو الفقد والفراق: حيث حجم الاحساس بالفقد نجده من محاور الكتاب المهمة، وهذا نلمسه في نص "عبير صدرك" حيث الخابية مكان الذاكرة وراوية الحكاية فتخاطب روح والدتها: "أتعلق بخابيتنا، أتملقها، أعود بين يديها طفلة، أرتمي على صدرها لأتنفس عبير صدركِ من بين مساماتها"، وفي نص "وجه أمي" تقول: "أرافق الغيوم في رحلاتها اليومية، وأمني الروح بوجهك يلوح بين المغادرين معها"، بينما في نصها "أمي وأبي.. وجهان لا يغيبان" تقول: "أقف بين ظلال أشجار ذلك المكان، لأسمع من كل واحدة منها نجيا مكبوتا، ونحيبا مخنوقا.. أصواتكم تداعب مسامعي.."، وفي نصها "رحلة الوداع" يظهر حجم الاحساس بالفراق فتقول: "يرحلون قبل أن يتمكنوا من قول كلمة أعدوا لها، واستعدوا لايصالها لنا، وكم كنا قد اشتقنا لسماعها منهم".

   من يقرأ همس الخوابي يجد فيها روح الشعر بشكل ملموس، وربما هذا ناتج أن الكاتبة بالأصل شاعرة متمكنة وأصدرت عدة دواوين شعرية، فتغلبت روح الشعر على نصوصها فأصبحت نصوص نثرية أقرب للشعر، وإن كانت الكاتبة وقعت بخطأ فني بالتأكيد غير مقصود فكان نص "عناق المطر" ص 69 قد تكرر بعنوان آخر هو "ليلة ماطرة" ص 131، وحتى النهاية تبقى الكاتبة تتقن تكثيف اللغة وإيصال الفكرة التي تريدها بكل سلاسة تدخل القلب وتهمس للروح، حتى تنهي كتابها بالحلم بغد أجمل بقولها: "وما زلنا ننتظر عاما يأتي بخيوط الأمل..، متى تعودين من طريق الماضي يا خوابينا".

sddf1060.jpg

الكاتب الجيد هو الذي يقدم ما هو جديد، ويفتح الأبواب أمام المتلقي لنهل المزيد من المعارف. اللافت في هذا الكتاب (اكتشاف) "فراس حج محمد" لأهمية الجملة الاسمية ومكانتها في الأدب، ففي بداية الكتاب يؤسس لهذه المعرفة بقوله: "واستطاعت الجملة الاسمية أن تتخلى عن الفعل تماما، ليس في "إنتاج جملة واحدة، أو عدة جمل متقطعة، بل بناء نصوص كاملة المعنى والفكرة، في حين لم تستطع الجملة الفعلية أن تتخلى عن الاسم ووجوده، بل أن وجوده شرط أساسي في تحقيق مفهوم الجملة، كتركيب لغوي له معنى، وهذا المعنى لا يتحقق دون وجود الاسم، منطوقا، أو ضميرا، أو مستترا، متصورا ذهنيا" ص20، ضمن هذا الاكتشاف يتم البناء في كتاب "سر الجملة الاسمية".

ثم يقدم مجموعة نماذج من الشعر والنثر حول هذا الأمر، مبينا أن كل من كتب بالجملة الاسمية لم يعِ أنه كان يكتب ويؤسس لأهمية الجملة الاسمية في الأدب، حتى أنه ينقل حديث جرى مع الشاعر "سامح أبو هنود" الذي كتب بالجملة الاسمية دون أن يقصد، وكما يستشهد بالعديد ممن كتب بالجملة الاسمية، منهم: خالد جمعة، مادونا عسكر، راشد عيسى، أمينة عبد الله، نزار قباني، إيهاب الشلبي، حافظ إبراهيم، أحمد فؤاد نجم، محمود عيسى موسى، ومحمود درويش الذي يعتبره الشاعر الباعث على هذا الاكتشاف من خلال ما جاء في ديوان "حصار لمدائح البحر"، وقصيدة "هي جملة اسمية" ثم يقدم ما كتبه في هذا المضمار، آخذا تعليقات ومداخلات القراء حول ما كتبه في الجملة الاسمية، فينقل مداخلة "مادونا عسكر" وما كتبه الشاعر "رضا السبوعي" على مداخلتها، كما ينقل مداخلة "أمينة حسين" وما كتبه "رائد الحواري".

وبهذا يكون الناقد قد قرن رؤيته للجملة الاسمية من كافة الجوانب، كشرح نظري، نماذج أدبية، (لقاءات) مع من كتب الجملة الاسمية، مداخلات القراء على الجملة الاسمية، هذا ملخص الجزء الأول من الكتاب.

الجزء الثاني من الكتاب هو ديوان "هي جملة اسمية" وهو مجموعة قصائد جاءت دون أفعال، ففي الديوان يؤكد الشاعر "فراس حج محمد" على أن أي شاعر عندما يريد أن يكتب شيئا جديدا يستطع ذلك، وكل ما يحتاجه هو الإصرار والإرادة، وهذه ليست المرة الأولى التي يخصص فيها الشاعر كتاباً/ ديواناً بموضوع واحد، فهناك ديوان كامل متعلق بالمرأة: "أميرة الوجد" وكتاب متعلق بحرف الفاء: "الإصحاح الأول لحرف الفاء" وكتاب كامل متعلق بالقهوة "طقوس للقهوة المرة" وكتاب متعلق بالنساء "نسوة في المدينة" وديوان متعلق بالحب "الحب أن" وهذا ما يجعل "فراس حج محمد" متعدد المواهب والقدرات، بحيث يجيد الكتابة وبغزارة في أي موضوع يريده.

بداية ننوه إلى أن عناصر الفرح/ التخفيف التي يلجأ إليها الشعراء/ الأدباء تتمثل في المرأة، الطبيعة، الكتابة، التمرد، فهذه المواضيع/ العناصر تعد إحدى وسائل الراحة/ الهدوء التي تحرر الشاعر/ الأديب من قسوة الواقع وبؤس الحال، وهذا ما أكده "فراس حج محمد" في ديوانه: "هي جملة اسمية" فهو يتناول المرأة بصور عديدة، حتى أنه يمجدها وكأنه ربة: يقول عنها:

"(22)

صباحك عنبري الحال

بلاغي النهي في طرفة دنف

سحابي شفيف م النسائم ألطف

منعش ثمل الكؤوس في ابتهاج شفف

صباحك مترف ترف

مخملي الروح في الهوى لهف

جملة شعرية شقراء

جديلة شعرها من نهرها ذرف

صباحك قبلة وعباءة ملتفة حمراء

والجسم معترف" (157-158)

نلاحظ أن المرأة أوجدت الطبيعة: "صباحك (مكرر ثلاث مرات، وهذا يعطيها القدسية) سحابي، النسائم" وأوجدت الكتابة/ القصيدة: "بلاغي، جملة، شعرية" والتمرد نجده في "ثمل الكؤوس" وبهذا تكون المرأة هي الباعث والمُوجد لكل ما هو مفرح وجميل.

وإذا ما توقفنا عند بعض الألفاظ المجردة سنجدها متكاملة ومتواصلة: "النسائم/ منعش، شعرية/ شقراء/ شعرها" وهذا ما يجعل القصيدة موحدة في موضوعها/ فكرتها وألفاظها.

الشاعر في غالبية ما كتب تحدث عن حرف الفاء، وفي "هي الجملة الاسمية" كتب عن حرف الفاء وأثره عليه:

"(32)

هي كل شيء هنا

الفعل والحرف البهي

الاسم والصورة

متن الكتاب، الشرح

العامل الثري النقي الكلام الفلسفي النخبوي

الجدة القصوى من التأويل والدهشة

فاء، ألف، طاء، ميم

تاء الوجد، نون الأبجدية

انبلاج غموضها بوضوحه

حد انصهار اللفظ في سرج الغمام

لحن وموسيقى..

ورفّ وارف الأحلام في لغة الحمام" (166)

عندما بدأ الشاعر المقطع بالضمير "هي" أكد قوة حضورها الذي نجده في "هنا" وكل الأشياء الجميلة: "البهي، الثري، النقي، النخبوي، انبلاج، لحن موسيقي" كما نجدها في الطبيعة من خلال: "الغمام، الحمام" وفي الكتابة: "الحرف، الكتاب، اللفظ، لغة" وهذا يشير إلى أن الشاعر ينظر إلى المرأة بطريقة استثنائية، فهي سبب فرحه، وما تغنيه بـ: "فاء، ألف، طاء، ميم، تاء" إلا ناتج عن هذه الروية والأثر الذي يتركه فيه.

وإذا ما توقفنا عند ذروة الفرح في "لحن وموسيقى" نجدها جاءت بعد حروف اسمها التي أسرت الشاعر بحيث انعكست عليه من خلال لفاظي: "ورف وارف" وهذا يقودنا إلى اسم الشاعر الذي يبدأ بحرف الفاء كاسمها، فنصل إلى فكرة التوحد الذي يريده "فراس" معها وبها.

يتناول الشاعر المرأة بأكثر من جانب، الجانب الجسدي والجانب الروحي/ العاطفي، فعندما يتناولها كجسد نجد (المادة) طاغية:

"(30)

لي منها كلها

من أسفل أسفلها

حتى أعلى علوها

من وسطها

من خلفها وأمامها

من كلا جانبيها

من فكرة في رأسها" (163)

دائما الوصف المادي لا يثير المتلقي، لما فيه من جمود، فألفاظ: "أسفل، أعلى، خلفها، أمامها، جانبيها، رأسها" لا جمالية فيها، وهي أقرب إلى الصورة العادية، حتى أن مقاطع قاسية: " أسفل أسفلها، فكرة في رأسها" فهذا التملك فيه من العبودية ما يجعل المتلقي يمتعض من هذه الرؤية لجسد المرأة. بينهما عندما يتحدث عن الروح/ العاطفة/ الحب نجده يهيم في عالم من الجمال:

"(31)

ولي فيها مآرب أخرى

إعجابها

نظراتها

زهوتها

إشراق طلعتها

صورتها في حلو جلوتها

لي فيها روحها" (165)

فهنا الألفاظ ناعمة وهادئة، تريح المتلقي، كما توصل له صورة أثر المرأة الجميل والممتع، مما جعله ينسجم مع المقطع مستمعا بهذا الحب النقي.

عندما يستخدم الشاعر صيغة المثنى فهذا يحمل بين ثناياه فكرة التلاقي/ التزاوج/ الجمع بينهما، من هنا نجد الشاعر يستخدم صيغة المثنى في مقطعين (13، 101):

"(13)

خداك أندى وردتين

شفتاك أنظر جملة في قبلتين

نهداك أغنيتان حالمتان في عزف اليدين

عيناك ليلتان وشهوتان

بريق كلتا النظرتين

نهران في ذات المصبّ

ألف ونون الفخذتين" ص150.

نلاحظ العديد من الألفاظ التي تشير إلى المثنى، منها ما هو متعلق بجسد المرأة: "خداك، ، شفتاك، قبلتين، نهداك، حالمتان، اليدين، عيناك، ليلتان، شهوتان، النظرتان، نهران، الفخذتين" ومنها ما هو متعلق بجمالها: "وردتين، أغنيتان" وأخرى متعلقة بما يريده الشاعر: "شهوتان، نهران" وبهذا يكون الشاعر قد تناول جمال المرأة كسجد، كروح/ كعاطفة، وأثر هذا الجمال عليه.    

إذا ما تقدمنا من النصوص الدينية القديمة، سنجد أن السوري القديم مجد "أنانا/ عشتار" وتغنى بها وبخصبها، فراس حج محمد يقدمنا من هذا التمجيد في هذا المقطع:

" (11)

ثدياك لؤلؤتان ممتنان

منتصبتان

استعارتان مكتملان في الشهوة

مثلثك المعرق

عند المجمع المائي

متقد، غريق، سائل

في بحر من النشوة

مثل مهابة الإشراق

مغسول في نهر الحياة

من أقصى السفوح المائجات إلى أعلى من الذروة

هنا فيض هنا وصل

وأغنية

مشارفك اللذيذة أحرف مولودة

في غمر القوة

وحيٌ شهيّ السِّفْر

بدئي التوله آيات من السطوة" (147-148).

هذا المقطع يقودنا إلى ما كتبه السوري القديم عن عشتار:

"الحمد لعشتار، لأشد الإلهات رهبة

التي ترفل باللذة والحب

المفعمة بالحيوية والسحر والرغبة

عشتار التي ترفل باللذة والحب

المفعمة بالحيوية والسحر والرغبة

حلوة الشفتين وفي فمها يكمن سر الحياة

يا من بظهورها يكتمل السرور

ذات الجلال والحجاب

قوامها جميل وعيناها مشرقتان

ومن نظراتها تنبعث الفرحة والعظمة والطمأنينة

الرحيمة الودودة التي تتصف بالرضا

وتصون المرأة: أمة وحرة ووافدة"

(عشتار ومأساة تموز، فاضل عبد الواحد، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1986، ص 46-47).

إذا ما قارنا بين المقاطع السابقة وما جاء عن عشتار، سنجد التلاقي في أكثر من حالة، الفكرة وما هو متعلق بالمرأة: الجمال الجسدي، الجمال الروحي، العاطفة والحب، الطبيعة، الخصب والنماء، الحياة المقرونة باللذة والمتعة، واللغة والشكل الذي عُبر به عن المرأة/ عشتار، صيغة المثنى، التكرار، معني الألفاظ، التغني وتمجيد كل ما في المرأة/ في عشتار.

إذاً، هناك تلاقٍ في الفكرة بين ما كتبه "فراس" الحديث والمعاصر، وبين ما كتبه السوري قبل أكثر من أربعة آلاف عام، وتلاقٍ في اللغة والأدوات/ الشكل الذي عُبر به عن الفكر، وهذا يقودنا إلى طرح سؤال: هل هذا التلاقي صدفة أم مقصود؟

إذا عدنا إلى ما كتب من نصوص أدبية معاصرة شعر/ نثر سنجد أن العديد من الأدباء والشعراء كتبوا بالروح ذاتها التي كُتب بها أسلافنا القدماء، وهذا يعود إلى أن البيئة/ الجغرافيا/ المجتمع هو استمرار للماضي، من هنا نجد هذا التلاقي والتماثل في الفكرة والأداة/ الشكل الذي يقم فيه الأدب.

والآن نتوقف قليلا عند ما جاء في المقطع المعاصر، فنجد صيغة المثنى في: "ثدياك، لؤلؤتان، ممتنان، منتصبان، استعارتان، مكتملان" وهذا يشير إلى الرغبة في اللقاء والتمع بجمال الجسد وما فيه.

ونجد شكلاً آخر لصيغة المثنى من خلال تكرار الحروف في ألفاظ: "لؤلؤتان، مثلثك، اللذيذة" وهذا يقودنا إلى العقل الباطن للشاعر الذي يتماهى عقله الواعي مع عقله الباطن، مما جعله يستخدم ألفاظا تؤكد رغبته باللقاء، مما جعل شكل اللفظ المجرد يخدم الفكرة التي يريد تقديمها.

كما أن التكامل والتواصل في معاني الألفاظ يسهل وصول الفكرة للمتلقي: "الشهوة/ مثلثك، مثلثك/ المائي، المائي/ متقد، متقد/ غريق، غريق/ سائل، سائل/ بحر" هذه الطريقة في تقديم الفكرة تجعل النص موحداً ومنسجماً، مما ينعكس أثره إيجابيا على المتلقي الذي يستمع ويتماهي مع النص.

هناك قافية تدفع القارئ/ المستمع ليتوقف عندها، كما هو الحال في الراء، الشاعر يستخدم قافية الراء في ثلاثة مواضع "4، 17، 94" سنأخذ المقطع الأخير كنموذج لهذا التوقف/ التأمل:

"(94)

وحبيبتي فلاحة... فيها الهوى أطهر

بحروف قصتها

فرع جديلة أخضر

معروفة عراقة

مد الفضا بعذوبة الكوثر" (216).

عندما يستمع المتلقي لألفاظ "أطهر، أخضر، الكوثر" إيقاع حرف الراء يدفعه ليتوقف، وهذا يعود إلى ارتباط اللفظ بالمعنى وبالحرف، فالكلام الذي تحمله "أطهر، أخضر، الكوثر" بحاجة إلى وقفة من المتلقي يعبر به عن احترامه لها، فمكانتها هائلة وليست عادية.

وإذا علمنا أنها متعلقة بالمرأة، نصل إلى القدسية/ الهالة التي تكللها، فكما توقفنا عن الألفاظ المتعلقة بها، علينا التوقف عند المرأة/ الإنسانية، وبهذا يكون الشاعر قد أوصل فكرة احترام المرأة بأكثر من طريقة/ شكل/ وسيلة.

أنقى الألوان هو الأبيض، فهو الذي يمنح السكينة للمشاهد، يتناول الشاعر اللون الأبيض في مقطعين "83، 86":

"(86)

كل شيء أبيض حتى حبر الليل أبيض

مثل وصل الحب أبيض

في صفحة الجسم الوردية الزهراء خيط أبيض في النهر

أبيض

صوتك المجبول بالآه اللذيذ أبيض

ورسم الضحكة البيضاء

والنور في الآفاق وحي حامل الكلمات أبيض" (210).

إذا ما توقفنا عند هذا المقطع سنجد مجموعة ألوان: الأبيض، الحبر/ الأزرق، الوردية، الزهراء/ الزهري، الآفاق/ تداخل الألوان وتمازجها" لكن الشاعر يراها بيضاء، بمعنى النقاء والصفاء والجمال.

هذا على صعيد فكرة الألوان، لكن الألوان عند الشاعر متعلقة بلقاء المرأة: "حبر الليل، وصل الحب، الجسم الوردي، صوتك المجبول بالآه" فرغم أن اللقاء متعلق بالجسد وما فيه من نشوة، إلا أن طريقة تقديم هذا اللقاء جاءت بصور أدبية تثير المتقي أدبيا أكثر منه جسديا، وما وجود الطبيعة: "الليل، الوردية، النهر، النور، الآفاق" إلا من باب التمتع بالجمال المجرد، البعيد عن الجسد.

ما تناولته آنفا، يتحدث عنه الشاعر، ويبين ما في "سر الجملة الاسمية" من أفكار/ مضامين، والطريقة والشكل الذي قدم به، وذلك في مقطعي "70، 71":

"(70)

أمقدس هذا الكتاب؟

منذ الفاتحة الأولى إلى السطر الأخير

فيه شيء ناعم وحينا قلق

فيه عهن وتراب وأشواك

حجر

فيه شمس وطقوس وبشر

فيه نور خافت

جسد

قعر

فيه طيف من خيال ولغة

أمراوغ هذا الكتاب إذن؟

أمدنس كأجنحة الغراب

يداه قائمتان في قعر سقر؟" (196)

فهنا يؤكد الشاعر الطريقة/ الشكل/ اللغة/ الأسلوب الذي قدم به كتاب "سر الجملة الاسمية" فهو كتاب يؤسس لمدرسة جديدة "الجملة الاسمية" وما فيها من جمال/ عظمة/ مجد لا تقدر عليه الجملة الفعلية، وبما أن الكتاب جديد ونظري، ويحتاج إلى مزيد من الدعم من الكتاب/ الشعراء، فقد أوجب ذلك استخدام ألفاظ شديدة: "قلق، عهن، حجر" وما الأسئلة التي طرحها: "أمقدس، أمراوغ، أمدنس" إلا إشارة إلى (خوف) الناقد من أن لا يكون موفقا في رؤيته للجملة الأسمية، فهو (مرتبك/ متردد) وهذا أظهره من خلال التناقض بين "أمقدس، أمدنس" وقد أكد هذا الارتباك/ التردد حينما استخدم "أمراوغ" بهذا يكون الناقد قد تحدث عن الجزء الأول من الكتاب وما فيه من طرح جديد يحتاج إلى توقف القراء والمختصين بشأن ما جاء في "الجملة الاسمية.

أما في يتعلق بالديوان "هي جملة اسمية" ستوضح ما جاء فيه من خلال:

"(71)

صديقي كائن لطيف مثل تلك الشجرة

كائن لغوي ذو بسمة خفرة

عاشق لقهوة امرأة هي مثله

خلوده المطهرة

له ولها قلب النبي وحكمة مسطرة

صديقي مثل هذي الأرض

عنوانه سمرتها

شقائق النعمان في مد حضرتها

بساطة الألوان في فستانها

أو طعم ثمرتها

بخصلة شعرها المنثور

بقامة منسقة

صديقي غارق في جملتين

بعيدتين في التأويل

بين يديه أغنيتان بلحن السحرة" ص197.

أعتقد أن المقصود بصديقي هو ديوان "هي جملة اسمية" من هنا تم الحديث عنه: "كائن لغوي، غارق في جملتين" وبما أن الشاعر تناول المرأة بشغف فقد وضح هذا الأمر من خلال: "عاشق لقهوة امرأة" كما نجد الطبيعية التي كانت حاضرة وبقوة: "هذي الأرض" وكما تناول الألوان في موضعين، ها هو يشير إلى هذا الأمر: "الألوان".

إذاً، الشاعر يكشف ما جاء في الديوان من خلال هذا المقطع، وبما أن فكرة التماهي مع المرأة كانت حاضرة في الديوان، فقد أشار إلى هذا الأمر من خلال جمع المذكر مع المؤنث: "صديقي/ شجرة/ جملتين، لغوي/ خفرة، عاشق/ امرأة، له/ لها، عنوانه/ سمرتها، النعمان/ حضرتها، الألوان/ ثمرتها، السحرة/ أغنيتان" وبهذا يكون الشاعر قد أوضح ما يريده في "سر الجملة الاسمية" نظريا وتطبيقيا.

يختم الشاعر الديوان بحمد لله الذي باب فتح العلم له فأنتج هذا الكاتب بقسميه النظري والتطبيقي:

الحمد لله هذا العلم والقلم  

               نور البصيرة أسرار الهدى حكم

في كل شيء بعين الله ناظمة

               فجر جلىٌّ لقلب دفقه كلم

باسم عَلِيٍّ بفيض الله قدرته

               باد بعليائه بدء ومختتم" (222)

اللافت في خاتمة الديوان أنها تتناول حالة إيمانية، من هنا تم ذكر الله جل جلاله ثلاث مرات، وفي كل بيت، وهذا له علاقة بقدسية رقم ثلاث وما يحمله من فكرة دينية.

ونلاحظ عدم وجود أي لفظ مؤنث في الخاتمة، وهذا يشير إلى أن الموضوع/ الفكرة/ المقام لا يسمح بوجود أنثى، فهو متعلق بإيمان الشاعر وبمنّ الله وفضله عليه.

===========

* الديوان من منشورات الرقيمة، القدس، فلسطين، الطبعة الأولى، 2023.

ddfdf1060.jpg

مقدّمة:

ندرك أنّ المراحل الأولى من حياة الطّفل تعمل على تشكيل شخصيّته، في هذه الفترة يتشكّل نمط حياته اليوميّ، وتترسّخ عاداته وتوجّهاته ومعتقداته وقيَمه، هي مرحلة حيويّة تتطلّب التّثقيف والتّعليم والتربيّة السّليمة، فالطّفل في حالة نموّ مستمرّ، وكلّ ما يتلقّاه من تأثيرات على مستوى العقل والقلب والرّوح يلعب دورا حاسما في تكوين شخصيّته المستقبليّة.

من هنا يأتي الدّور الحيويّ للأدب بشكل عام، وأدب الأطفال الجيّد المُعدّ والمدروس، الذي يلعب دورا حيويا في إعدادهم للمستقبل، يؤثّر في سلوكهم وفي بناء القيَم التّربويّة الإيجابيّة لديهم، يطوّر لغتهم ويسهم في تثقيفهم وتلبية حاجاتهم المعرفيّة.

رواية "جبينة والشّاطر حسن" للأديب الشيخ جميل السّلحوت، صدرت هذا العام (2023) عن مكتبة كل شيء في حيفا، هي رواية مُوجَّهة إلى الجيل الصّاعد من الفتيان والنّاشئة، وتقع في (112) صفحة من القطع المتوسّط، يتداخل فيها السّرد الواقعيّ مع الخيال المشوّق ومع الحكاية الشّعبيّة والأسطورة على غرار حكايات ألف ليلة وليلة. وما بين الحقيقيّ والمتخيّل، يعيد الكاتب خلط الأوراق، يعيد تشكيلها برؤية جديدة، يستدعي فيها الحكايات الشّعبيّة والتّراثيّة؛ للتّفاعل معها وإعادة إنتاجها من جديد، وذلك لإعطاء النّصّ لمسة إبداعيّة من الحكايا المتجذّرة في تاريخنا الشّعبيّ. والأديب الشّيخ جميل معروف عبر مسيرته الطّويلة، حاز على جوائز عديدة، في رصيده الأدبيّ الكثير من الرّوايات، كتب للكبار والصّغار، وكتب في أدب السّيرة وأدب الرّحلات، ولنا في أدب المراسلات كتاب مشترك بعنوان: "رسائل من القدس وإليها"، بالإضافة إلى العديد من الأبحاث المختصّة في التّراث، وسنوات طويلة من الكتابة الصحفيّة وكتابة المقالات السّياسيّة، والاجتماعيّة والأدبيّة وغيرها.

 الأحداث والشّخوص:

تميّزت رواية "جبينة والشّاطر حسن" بتداخل السّرد الواقعيّ مع الخياليّ المثير للطّفل، كما تنوّعت الوقائع وصُبغت بلمسة فنيّة جعلتها قريبة من قلوب القرّاء.

تحكي الأحداث قصّة جبينة التي ولدت بعد معاناة وطول انتظار، وكانت تتمتّع بذكاء حادّ وجمال واضح.

 تسكن أسرتها في بلدة القدس القديمة، تطلب من والدتها "بثينة" إنجاب أخت لها، فيتعذّر الأمر على الأمّ التي تقترح على زوجها "كنعان" الزّواج بامرأة ثانية؛ لتحقيق رغبة ابنتها في الحصول على أخت، لكنّ كنعان يرفض ذلك، ويتّخذ قراره لاحقا بتبنّي الطّفلة "زينب".

زينب هي ابنة لامرأة أرملة فقيرة، جاءت إلى بقّالة كنعان بحثا عن فرصة عمل لطفلتها، وبدلا من ذلك قدّم لها كنعان اقتراحا بالاعتناء بطفلتها والاهتمام بها، وبعد موافقة الأمّ، أخذها لتعيش مع أسرته.

بهذا القرار الكريم، أصبحت زينب جزءا من الأسرة وأختا لجبينه، عاشوا سويّا في بيت واحد، ممّا منح زينب حياة أفضل وأكثر تلاحما مع العائلة.

في أحد الأيام، قامت الأسرة برحلة إلى البراري، وهناك أُغويت جبينة بفضولها لاستكشاف إحدى الكهوف، دخلت وجلست في زاوية الكهف وأسندت ظهرها على الحائط؛ لتنعم بالرّطوبة، نظرت إلى يمينها فرأت رقعة ناشزة في الحائط، تفحّصّتها جيّدا، وخرجت تخبر والدتها وزينب بما رأته، وقفت وأشارت لزينب إلى الرّقعة البارزة في الحائط، لم ترَ زينب شيئا وهي واقفة، وبحركة عفويّة منها ضربت المكان الذي أشارت إليه جبينه بقدمها؛ فانهارت الرّقعة، هرعت أمّ جبينه على صوتهما، وقفت مشدوهة أمام ما رأت، نظرت إلى الحفرة التي ظهرت فرأت جرّتين نحاسيّتين مزخرفتين، مدّت يدها وأزاحت غطاء إحداهما، وتوقّفت تتمعّنها وهي تتهيّب من إدخال يدها إلى باطن كل منهما؛ لترى ما فيها، لكنّ زينب مدّت يدها وغرفت ملء كفّها، فإذ بها تُخرج من الجرّة بعض القطع الذّهبيّة.

بعد ذلك بفترة اقتحمت المنطقة عصابة من اللّصوص، اختطفت زينب وجبينة، فأعلن الأب كنعان عن منح خمسين ليرة من الذّهب مكافأة لمن يجدهما ويعيدهما إليه، خرج "الشّاطر حسن" وشقيقه "حسين"، ابنا شاه بندر التّجار للبحث عن الفتاتين. انطلقا إلى مدينة أريحا، رافقهما سرب من الطّيور الذي ظلّ يحوم فوقهما ويتّجه شرقا، فهم الشّاطر حسن أنّ هذه الطّيور مرسلة إليهما؛ لتقودهما إلى مكان الفتاتين. وبالفعل قادتهما الطّيور إلى شمال مدينة أريحا، وهناك وجدا جبينة وزينب تستظلّان بظلّ دالية، عرفت جبينه الشّاطر حسن؛ فانشرح قلبها وقابلته بابتسامة، أردفها خلفه على الفرس في حين قفزت زينب خلف حسين، وأطلقا العنان لفرسيهما عائدين بجبينه وزينب.

أعلن الأب كنعان عن خطبة ابنته جبينة إلى الشّاطر حسن، وخطبة زينب إلى حسين، لكنّ الأخوين قرّرا تأجيل الزّواج إلى أن يتمّ القبض على اللّصوص ومعاقبتهم.

 

 

الخصائص الفنّيّة في الرّواية:

تصنّف هذه الرّواية ضمن الأعمال الأدبيّة التي تجمع بين الأسطورة والحكاية الشعبيّة بالواقع الحالي بشكل إبداعيّ، وربطها بالواقع الإنسانيّ بطريقة فنيّة، وجديدة في أسلوب التّعامل مع الفكرة والحدث، وفي بناء الشخصيّة وتطويرها. احتوت على مجموعة وافرة من المعلومات التي تعرّف الناشئة على أماكن في بلادنا وجغرافيّتها وطبيعتها الغنيّة وأماكنها التاريخيّة، فمثلا تمّ ذكر معلومات وافرة عن "دير مار سابا" الموجود شرق مدينة بيت لحم، أيضا تمّ ذكر بعض أسماء الأعشاب والنباتات والحيوانات، وبعض المعلومات عنها، الأمر الذي أضفى على العمل طابعا تثقيفيّا خاصّا.

المفاهيم والقيَم التربويّة:

 مع التقدّم التكنولوجيّ وتفجّر المعلومات والتّقنيات، نشهد اهتماما من المربّين بدراسة القيَم التي تحدّد مسار السّلوك الإنسانيّ، وتكوّن ثقافة المجتمع، من هنا يحضر الأدب كعنصر جوهريّ في عناصر الثّقافة المجتمعيّة وقيَمها، يتجلّى كمحور هام يعبّر عن القيَم، ينقلها ويعزّزها، وكما أسلفت في بداية المقال، أدب الأطفال وسيلة تربويّة ضروريّة، تساهم في تشكيل شخصيّة الطّفل منذ المراحل الأولى.

يتوجّه المؤلّف في هذا العمل إلى مراحل الطّفولة الأعلى سنّا - من العاشرة فما فوق- وذلك لإشباع حاجات هذه المرحلة الوجدانيّة والفكريّة، واستثارة خيال الفتيان وتحفيزهم على التّفكير، وتبصيرهم بتاريخ أجدادهم، وتعريفهم بالقصص التّراثيّة، وبالتّالي تحقيق الفائدة والمتعة والتسليّة، دون إغفال بعض المقاصد السلوكيّة والتعليميّة. وعن المفاهيم والقيم التربويّة التي جاءت في الرّواية:

تجلّت فيها مساعدة المحتاج والمعاملة الحسنة، وذلك من خلال المعونة التي قدّمتها عائلة كنعان لوالدة زينب، تجلّت كذلك علاقة الاحترام والتآخي الإسلاميّ المسيحيّ القائمة منذ عهود طويلة، وذلك حين تبرّع الشّاطر حسن ببعض الحافلات لإرسال الأطفال وذويهم في رحلة إلى البراري، ثمّ اقترح على إمام المسجد التّنسيق مع بطريرك الكنيسة لتنظيم وترتيب الرّحلة.

هي رواية متعدّدة الأهداف، نجد فيها الأمانة والوفاء بالوعد، وذلك حين وعد كنعان زينب بحصّتها كاملة من الكنز الذي عُثر عليه في المغارة، نجد أيضا ما يعلّم الطفل أهميّة التمسّك بالأرض والتّاريخ والتّراث، وكذلك الصّدق وحسن الضّيافة الذي تحلّى به الأب كنعان، والكرم الذي اتّسم به البدو، والذي شكّل جوهرا أساسيا في طابعهم الاجتماعيّ.

 

 

 الأسلوب واللّغة والسّرد:

يقوم الكاتب بإعادة نسيج عالم متخيّل، وتقسيمه داخل الحبكة التي تجلّت فيها الحكاية التّراثيّة، والرّحلات والجولات التي قامت بها الأسرة، نقرأ ذلك عبر سلسلة من المشاهد التي تحركت بحيوية في النّص، وارتكزت على مجموعة من الصّور المخزّنة في ذاكرة المؤلّف، تلك التي استحضرها وتعامل معها بوعي الحاضر؛ ليخرج العمل بسرد مشبع للفضول، تتلاحم فيه العناصر الرّوائيّة في وحدة وانسجام، ضمن منطق التّضمين السّرديّ للحكاية الرئيسة، التي تتفرّع منها الحوادث والقصص؛ لتشكّل بذلك عنقودا من الحكايات القصيرة التي تتداخل وتتمحور حول الخيط الأساسيّ للقصّة الرّئيسة.

 أمّا اللّغة فهي منمّقة ومتقنة، تميّزت بسلاستها وبساطتها وبعدها عن التّكلّف والتّعقيد، أبرزت حيويّة السّرد ودور الشّخوص وصفاتهم، خاصّة بطلة الرّواية جبينة والشّخوص المُقرّبة منها.

اعتمد الكاتب على الكلمة في عمليّة التّجسيد، حيث اتّخذت مفرداته مواقعها الفنيّة فشكّلت العناصر الرّوائيّة وكوّنت الأجواء والمواقف والحوادث، وعرضت المعاني والأفكار، وأثارت عواطف القارئ الصّغير وانفعالاته، وحرّكت العمليّات الذّهنيّة لديه؛ كالإدراك والتّخيّل والتّفكير.

الرّاوي:

يشكل الرّاوي جزءا من بنيّة النّص، فهو من يتولّى عملية الحكي أو القصّ، يعرّف بالحكاية وينقلها إلى القارئ، ويأخذ مهمّة السّرد والوصف والتّقديم والنّقل، والتّعبير عن أفكار الشّخوص ومشاعرهم وأحاسيسهم، وبذلك يعيد إنتاج الحكاية. في رواية جبينة والشّاطر حسن كان الرّاوي العليم يمسك بكلّ خيوط السّرد، كان على دراية بالشّخوص ومكنوناتها، ظواهرها وبواطنها، سلوكها وأفعالها وأقوالها، وحالاتها وما ستؤول إليها مصائرها، عبّر عن مشاعرها وأحاسيسها، تجوّل معها، وعرّف بالأحداث والمجريات والأمكنة، سرد أدقّ الأمور والتّفاصيل، وجال ودار في ذهن أبطال الرّواية وأفكارها.

المكان:

حضر المكان بأنماط متعدّدة، المكان الواقعيّ، المكان المتخيّل، المكان المغلق والمفتوح، وقد ساهمت جميعها في تشكيل فضاء النّصّ وكشفت عن طبيعة الأحداث، وفرضت الأساليب السّرديّة واللّغويّة، مع ذلك، احتلّت الأماكن الواقعيّة الحيّز الأكبر في النّصّ، فأضفت بذاك طابعها الحيّ، أمّا الأماكن الخياليّة فقد ظهرت كأماكن حقيقيّة، وذلك لإيهام القارئ بالواقعيّة. كشفت هذه الرّؤية عن قدرة الكاتب الّتصويريّة في نقل الأحداث والتّفاصيل والأمكنة، ولم يترك شيئا خارج الاهتمام والملاحظة، خاصّة وأنّ الأحداث دارت في مدينة القدس التي وُصِفت أهميّتها الدّينيّة والمعنويّة.

هذا وقد رسم الكاتب بقيّة الأماكن، من خلال تجاربه وذاكرته وملاحظاته ومشاهداته، عمل على صياغتها فنيّا لتناسب الأحداث والوقائع والشّخوص بحركتها وتفاعلاتها، ولا ننسى ثقافة الكاتب وأثرها العميق في تشكيل تلك الأمكنة ورسم أبعادها وأنماطها، لتتحوّل بذلك إلى رموز بدلالات جديدة مثيرة للفعل الإنسانيّ، يمكن إدراكها من خلال العلاقات الجماليّة والرّوابط التي كوّنت نسيج العمل وعناصره.

وبعد.. هو عمل أدبيّ مغاير، يحمل سمات الأدب المعاصر، ويرتدي ثوب الحكاية الشّعبيّة، والأديب السّلحوت له دوافعه وأسبابه في استدعاء التّراث في نصوصه الأدبيّة، ربّما لقناعاته أنّ التّراث مصدر إلهام يجب استحضاره في متون الأعمال الأدبيّة، أو لأنّه التفت إلى تراث أمّتنا الثّريّ، بما يحمله من قيَم إنسانيّة، فاستلهم منه شخوصه وموضوعاته، منبها بذلك إلى أهميته وخصوبته.

صباح بشير:

رواية "جبينة والشّاطر حسن" والموروث الشّعبي.

 

مقدّمة:

ندرك أنّ المراحل الأولى من حياة الطّفل تعمل على تشكيل شخصيّته، في هذه الفترة يتشكّل نمط حياته اليوميّ، وتترسّخ عاداته وتوجّهاته ومعتقداته وقيَمه، هي مرحلة حيويّة تتطلّب التّثقيف والتّعليم والتربيّة السّليمة، فالطّفل في حالة نموّ مستمرّ، وكلّ ما يتلقّاه من تأثيرات على مستوى العقل والقلب والرّوح يلعب دورا حاسما في تكوين شخصيّته المستقبليّة.

من هنا يأتي الدّور الحيويّ للأدب بشكل عام، وأدب الأطفال الجيّد المُعدّ والمدروس، الذي يلعب دورا حيويا في إعدادهم للمستقبل، يؤثّر في سلوكهم وفي بناء القيَم التّربويّة الإيجابيّة لديهم، يطوّر لغتهم ويسهم في تثقيفهم وتلبية حاجاتهم المعرفيّة.

رواية "جبينة والشّاطر حسن" للأديب الشيخ جميل السّلحوت، صدرت هذا العام (2023) عن مكتبة كل شيء في حيفا، هي رواية مُوجَّهة إلى الجيل الصّاعد من الفتيان والنّاشئة، وتقع في (112) صفحة من القطع المتوسّط، يتداخل فيها السّرد الواقعيّ مع الخيال المشوّق ومع الحكاية الشّعبيّة والأسطورة على غرار حكايات ألف ليلة وليلة. وما بين الحقيقيّ والمتخيّل، يعيد الكاتب خلط الأوراق، يعيد تشكيلها برؤية جديدة، يستدعي فيها الحكايات الشّعبيّة والتّراثيّة؛ للتّفاعل معها وإعادة إنتاجها من جديد، وذلك لإعطاء النّصّ لمسة إبداعيّة من الحكايا المتجذّرة في تاريخنا الشّعبيّ. والأديب الشّيخ جميل معروف عبر مسيرته الطّويلة، حاز على جوائز عديدة، في رصيده الأدبيّ الكثير من الرّوايات، كتب للكبار والصّغار، وكتب في أدب السّيرة وأدب الرّحلات، ولنا في أدب المراسلات كتاب مشترك بعنوان: "رسائل من القدس وإليها"، بالإضافة إلى العديد من الأبحاث المختصّة في التّراث، وسنوات طويلة من الكتابة الصحفيّة وكتابة المقالات السّياسيّة، والاجتماعيّة والأدبيّة وغيرها.

 الأحداث والشّخوص:

تميّزت رواية "جبينة والشّاطر حسن" بتداخل السّرد الواقعيّ مع الخياليّ المثير للطّفل، كما تنوّعت الوقائع وصُبغت بلمسة فنيّة جعلتها قريبة من قلوب القرّاء.

تحكي الأحداث قصّة جبينة التي ولدت بعد معاناة وطول انتظار، وكانت تتمتّع بذكاء حادّ وجمال واضح.

 تسكن أسرتها في بلدة القدس القديمة، تطلب من والدتها "بثينة" إنجاب أخت لها، فيتعذّر الأمر على الأمّ التي تقترح على زوجها "كنعان" الزّواج بامرأة ثانية؛ لتحقيق رغبة ابنتها في الحصول على أخت، لكنّ كنعان يرفض ذلك، ويتّخذ قراره لاحقا بتبنّي الطّفلة "زينب".

زينب هي ابنة لامرأة أرملة فقيرة، جاءت إلى بقّالة كنعان بحثا عن فرصة عمل لطفلتها، وبدلا من ذلك قدّم لها كنعان اقتراحا بالاعتناء بطفلتها والاهتمام بها، وبعد موافقة الأمّ، أخذها لتعيش مع أسرته.

بهذا القرار الكريم، أصبحت زينب جزءا من الأسرة وأختا لجبينه، عاشوا سويّا في بيت واحد، ممّا منح زينب حياة أفضل وأكثر تلاحما مع العائلة.

في أحد الأيام، قامت الأسرة برحلة إلى البراري، وهناك أُغويت جبينة بفضولها لاستكشاف إحدى الكهوف، دخلت وجلست في زاوية الكهف وأسندت ظهرها على الحائط؛ لتنعم بالرّطوبة، نظرت إلى يمينها فرأت رقعة ناشزة في الحائط، تفحّصّتها جيّدا، وخرجت تخبر والدتها وزينب بما رأته، وقفت وأشارت لزينب إلى الرّقعة البارزة في الحائط، لم ترَ زينب شيئا وهي واقفة، وبحركة عفويّة منها ضربت المكان الذي أشارت إليه جبينه بقدمها؛ فانهارت الرّقعة، هرعت أمّ جبينه على صوتهما، وقفت مشدوهة أمام ما رأت، نظرت إلى الحفرة التي ظهرت فرأت جرّتين نحاسيّتين مزخرفتين، مدّت يدها وأزاحت غطاء إحداهما، وتوقّفت تتمعّنها وهي تتهيّب من إدخال يدها إلى باطن كل منهما؛ لترى ما فيها، لكنّ زينب مدّت يدها وغرفت ملء كفّها، فإذ بها تُخرج من الجرّة بعض القطع الذّهبيّة.

بعد ذلك بفترة اقتحمت المنطقة عصابة من اللّصوص، اختطفت زينب وجبينة، فأعلن الأب كنعان عن منح خمسين ليرة من الذّهب مكافأة لمن يجدهما ويعيدهما إليه، خرج "الشّاطر حسن" وشقيقه "حسين"، ابنا شاه بندر التّجار للبحث عن الفتاتين. انطلقا إلى مدينة أريحا، رافقهما سرب من الطّيور الذي ظلّ يحوم فوقهما ويتّجه شرقا، فهم الشّاطر حسن أنّ هذه الطّيور مرسلة إليهما؛ لتقودهما إلى مكان الفتاتين. وبالفعل قادتهما الطّيور إلى شمال مدينة أريحا، وهناك وجدا جبينة وزينب تستظلّان بظلّ دالية، عرفت جبينه الشّاطر حسن؛ فانشرح قلبها وقابلته بابتسامة، أردفها خلفه على الفرس في حين قفزت زينب خلف حسين، وأطلقا العنان لفرسيهما عائدين بجبينه وزينب.

أعلن الأب كنعان عن خطبة ابنته جبينة إلى الشّاطر حسن، وخطبة زينب إلى حسين، لكنّ الأخوين قرّرا تأجيل الزّواج إلى أن يتمّ القبض على اللّصوص ومعاقبتهم.

 

 

الخصائص الفنّيّة في الرّواية:

تصنّف هذه الرّواية ضمن الأعمال الأدبيّة التي تجمع بين الأسطورة والحكاية الشعبيّة بالواقع الحالي بشكل إبداعيّ، وربطها بالواقع الإنسانيّ بطريقة فنيّة، وجديدة في أسلوب التّعامل مع الفكرة والحدث، وفي بناء الشخصيّة وتطويرها. احتوت على مجموعة وافرة من المعلومات التي تعرّف الناشئة على أماكن في بلادنا وجغرافيّتها وطبيعتها الغنيّة وأماكنها التاريخيّة، فمثلا تمّ ذكر معلومات وافرة عن "دير مار سابا" الموجود شرق مدينة بيت لحم، أيضا تمّ ذكر بعض أسماء الأعشاب والنباتات والحيوانات، وبعض المعلومات عنها، الأمر الذي أضفى على العمل طابعا تثقيفيّا خاصّا.

المفاهيم والقيَم التربويّة:

 مع التقدّم التكنولوجيّ وتفجّر المعلومات والتّقنيات، نشهد اهتماما من المربّين بدراسة القيَم التي تحدّد مسار السّلوك الإنسانيّ، وتكوّن ثقافة المجتمع، من هنا يحضر الأدب كعنصر جوهريّ في عناصر الثّقافة المجتمعيّة وقيَمها، يتجلّى كمحور هام يعبّر عن القيَم، ينقلها ويعزّزها، وكما أسلفت في بداية المقال، أدب الأطفال وسيلة تربويّة ضروريّة، تساهم في تشكيل شخصيّة الطّفل منذ المراحل الأولى.

يتوجّه المؤلّف في هذا العمل إلى مراحل الطّفولة الأعلى سنّا - من العاشرة فما فوق- وذلك لإشباع حاجات هذه المرحلة الوجدانيّة والفكريّة، واستثارة خيال الفتيان وتحفيزهم على التّفكير، وتبصيرهم بتاريخ أجدادهم، وتعريفهم بالقصص التّراثيّة، وبالتّالي تحقيق الفائدة والمتعة والتسليّة، دون إغفال بعض المقاصد السلوكيّة والتعليميّة. وعن المفاهيم والقيم التربويّة التي جاءت في الرّواية:

تجلّت فيها مساعدة المحتاج والمعاملة الحسنة، وذلك من خلال المعونة التي قدّمتها عائلة كنعان لوالدة زينب، تجلّت كذلك علاقة الاحترام والتآخي الإسلاميّ المسيحيّ القائمة منذ عهود طويلة، وذلك حين تبرّع الشّاطر حسن ببعض الحافلات لإرسال الأطفال وذويهم في رحلة إلى البراري، ثمّ اقترح على إمام المسجد التّنسيق مع بطريرك الكنيسة لتنظيم وترتيب الرّحلة.

هي رواية متعدّدة الأهداف، نجد فيها الأمانة والوفاء بالوعد، وذلك حين وعد كنعان زينب بحصّتها كاملة من الكنز الذي عُثر عليه في المغارة، نجد أيضا ما يعلّم الطفل أهميّة التمسّك بالأرض والتّاريخ والتّراث، وكذلك الصّدق وحسن الضّيافة الذي تحلّى به الأب كنعان، والكرم الذي اتّسم به البدو، والذي شكّل جوهرا أساسيا في طابعهم الاجتماعيّ.

 

 

 الأسلوب واللّغة والسّرد:

يقوم الكاتب بإعادة نسيج عالم متخيّل، وتقسيمه داخل الحبكة التي تجلّت فيها الحكاية التّراثيّة، والرّحلات والجولات التي قامت بها الأسرة، نقرأ ذلك عبر سلسلة من المشاهد التي تحركت بحيوية في النّص، وارتكزت على مجموعة من الصّور المخزّنة في ذاكرة المؤلّف، تلك التي استحضرها وتعامل معها بوعي الحاضر؛ ليخرج العمل بسرد مشبع للفضول، تتلاحم فيه العناصر الرّوائيّة في وحدة وانسجام، ضمن منطق التّضمين السّرديّ للحكاية الرئيسة، التي تتفرّع منها الحوادث والقصص؛ لتشكّل بذلك عنقودا من الحكايات القصيرة التي تتداخل وتتمحور حول الخيط الأساسيّ للقصّة الرّئيسة.

 أمّا اللّغة فهي منمّقة ومتقنة، تميّزت بسلاستها وبساطتها وبعدها عن التّكلّف والتّعقيد، أبرزت حيويّة السّرد ودور الشّخوص وصفاتهم، خاصّة بطلة الرّواية جبينة والشّخوص المُقرّبة منها.

اعتمد الكاتب على الكلمة في عمليّة التّجسيد، حيث اتّخذت مفرداته مواقعها الفنيّة فشكّلت العناصر الرّوائيّة وكوّنت الأجواء والمواقف والحوادث، وعرضت المعاني والأفكار، وأثارت عواطف القارئ الصّغير وانفعالاته، وحرّكت العمليّات الذّهنيّة لديه؛ كالإدراك والتّخيّل والتّفكير.

الرّاوي:

يشكل الرّاوي جزءا من بنيّة النّص، فهو من يتولّى عملية الحكي أو القصّ، يعرّف بالحكاية وينقلها إلى القارئ، ويأخذ مهمّة السّرد والوصف والتّقديم والنّقل، والتّعبير عن أفكار الشّخوص ومشاعرهم وأحاسيسهم، وبذلك يعيد إنتاج الحكاية. في رواية جبينة والشّاطر حسن كان الرّاوي العليم يمسك بكلّ خيوط السّرد، كان على دراية بالشّخوص ومكنوناتها، ظواهرها وبواطنها، سلوكها وأفعالها وأقوالها، وحالاتها وما ستؤول إليها مصائرها، عبّر عن مشاعرها وأحاسيسها، تجوّل معها، وعرّف بالأحداث والمجريات والأمكنة، سرد أدقّ الأمور والتّفاصيل، وجال ودار في ذهن أبطال الرّواية وأفكارها.

المكان:

حضر المكان بأنماط متعدّدة، المكان الواقعيّ، المكان المتخيّل، المكان المغلق والمفتوح، وقد ساهمت جميعها في تشكيل فضاء النّصّ وكشفت عن طبيعة الأحداث، وفرضت الأساليب السّرديّة واللّغويّة، مع ذلك، احتلّت الأماكن الواقعيّة الحيّز الأكبر في النّصّ، فأضفت بذاك طابعها الحيّ، أمّا الأماكن الخياليّة فقد ظهرت كأماكن حقيقيّة، وذلك لإيهام القارئ بالواقعيّة. كشفت هذه الرّؤية عن قدرة الكاتب الّتصويريّة في نقل الأحداث والتّفاصيل والأمكنة، ولم يترك شيئا خارج الاهتمام والملاحظة، خاصّة وأنّ الأحداث دارت في مدينة القدس التي وُصِفت أهميّتها الدّينيّة والمعنويّة.

هذا وقد رسم الكاتب بقيّة الأماكن، من خلال تجاربه وذاكرته وملاحظاته ومشاهداته، عمل على صياغتها فنيّا لتناسب الأحداث والوقائع والشّخوص بحركتها وتفاعلاتها، ولا ننسى ثقافة الكاتب وأثرها العميق في تشكيل تلك الأمكنة ورسم أبعادها وأنماطها، لتتحوّل بذلك إلى رموز بدلالات جديدة مثيرة للفعل الإنسانيّ، يمكن إدراكها من خلال العلاقات الجماليّة والرّوابط التي كوّنت نسيج العمل وعناصره.

وبعد.. هو عمل أدبيّ مغاير، يحمل سمات الأدب المعاصر، ويرتدي ثوب الحكاية الشّعبيّة، والأديب السّلحوت له دوافعه وأسبابه في استدعاء التّراث في نصوصه الأدبيّة، ربّما لقناعاته أنّ التّراث مصدر إلهام يجب استحضاره في متون الأعمال الأدبيّة، أو لأنّه التفت إلى تراث أمّتنا الثّريّ، بما يحمله من قيَم إنسانيّة، فاستلهم منه شخوصه وموضوعاته، منبها بذلك إلى أهميته وخصوبته.

   هو الشاعر العباسي الحكيم صالح بن عبد القدوس بن عبد الله بن عبد القدوس الأزدي الجذامي. أبو الفضل البصري، كان مولى لبني أسد.

   وكان حكيماً متكلماً يعظ الناس في البصرة، له مع أبي الهذيل العلاف مناظرات، واشتهر بشعر الحكمة والأمثال والمواعظ، يدور كثير من شعره حول التنفير من الدنيا ومتاعها، وذكر الموت والفناء، والحثّ على مكارم الأخلاق، وطاعة الله، ويمتاز شعره بقوة الألفاظ، والتدليل، والتعليل، ودقة القياس.

اتهم بالزندقة في زمن الخليفة العباسي المهدي فأمر بقتله فقتل.

شعر الحكمة عند صالح عبد القدوس: دراسة موضوعية، وفنية:

     لقد كتب الشاعر صالح بن عبد القدوس قصيدة مطلعها (المرء يجمع والزمان يفرق)، وعدد الأبيات: 21 بيتاً:

المَرءُ يَجمَعُ وَالزَمانُ يُفرق وَيَظل يَرقع وَالخطوب تمزق

وَلَأن يُعادي عاقِلاً خَير لَهُ مِن أَن يَكون لَهُ صَديق أَحمَق

فَاِربَأ بِنَفسِكَ أَن تصادِق احْمَقاً إِن الصديقَ عَلى الصَديقِ مُصَدِّق

وَزن الكَلامِ اِذا نَطَقت فَإِنَّما يُبدي عُقول ذَوي العُقولِ المنطِق

وَمن الرِجالِ اِذا اِستَوَت اِخلاقُهُم مِن يُستَشارُ اِذا اِستَشيرَ فَيَطرق

حَتّى يَخل بِكُلِّ واد قَلبَه فَيَرى وَيعرف ما يَقول فيَنطُق

فَبِذاكَ يوثق كُل أَمر مُطلَق. وَبِذاكَ يُطلق كل أَمر موثق

لا أَلفينَك ثاوِياً في غُربَة. إِن الغَريب بِكُلِّ سَهم يُرشَق

ما الناسُ إِلّا عامِلانِ فَعامِل قَد ماتَ مِن عَطَش واخر يَغرَق

وَإِذا اِمرُؤ لَسَعَتهُ أَفعى مَرَّة تَرَكَتهُ حينَ يَجر حَبل يفرق

وَالناسُ في طَلَبِ المَعاشِ وَإِنَّما بِالجِد يُرزَقُ مِنهُم مَن يُرزَق

لَو يُرزَقونَ الناسَ حسب عُقولُهُم أَلفيت أكثَر من تَرى يَتَصَدَّق

لكِنَّهُ فَضل المَليكِ عَلَيهِم.     هذا عَلَيهِ موسِع وَمضيق

وِاِذا الجَناَة وَالعَروسُ تَلاقيا وَرَأَيت دَمع نَوائِح يَترقرق

سَكت الَّذي تَبع العَروس مبهَتاً وَرَأَيت مِن تَبع الجَنازَةِ يَنطق

بَقي الأولى إِما يَقولوا يَكذبوا وَمَضى الأَولى ما يَقولوا يصدقوا

إِن الأَريبَ اِذا تفكر لَم يَكد يَخفى عَلَيهِ مِن الاِمورِ الأَوفَق

فَهناكَ تَشعب ما تَفاقَم صدقه. وَيداكَ ترتق كل اِمر يَفتق

وَاِذا اِستَشَرت ذَوي العُقولِ فَخَيرُهُم عِند المَشورَةِ من يَحن وَيشفق

لَو سارَ الف مدجَج في حاجَة لَم يَقضِها إِلّا الَّذي يَترفق

إِن التَرَفُّق لِلمُقيمِ موافق. وَاِذا يُسافِر فَالتَرَفُّق أَوفَق

     ويقول الشاعر صالح بن عبد القدوس مقسما بالله الذي خلق السماء والأرض إن الذي يعاند، ويصر على الذنوب سوف يهلك بعناده (فوحق من سمك السماء بقدرة), وعدد الأبيات: 2 بيتا:

فَو حق من سَمك السَماء بِقُدرة وَالأَرضُ صير لِلعِبادِ مهادا

إِن المصر عَلى الذنوبِ لَهالِك صَدَقت قَولي اِو اِرَدت عِنادا

وهي من بحر الكامل.

   ومما يدل على حسن إسلام صالح بن عبد القدوس قوله موصيا ولده ( بني عليك بتقوى الإله)، وعدد الأبيات: 4 أبيات يقول فيها:

بَني عَلَيك بِتَقوى الإِله.     فَإِن العَواقِبَ لِلمُتَّقي

وَإِنَّكَ ما تَأت من وَجهة.     تَجِد بابَه غَير مُستَغلق

عَدوك ذو العَقلِ اِبقى عَلَيك مِن الصاحِب الجاهِل الأخرَق

وَذو العَقلِ يَأتي جَميل الاِمو. ر وَيَعمَد لِلأَرشد الاِوفَق

   ولله در الشاعر الحكيم صالح بن عبد القدوس، وهو يدعو الناس إلى مراقبة الله، فيقول (اذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل)، وعدد الأبيات: 2 بيتا:

اِذا ما خَلَوت الدَهر يَوماً فَلا تَقُل خَلَوت وَلكِن قُل عَلي رَقيب

فَلا تَحسَبَنَّ اللَهَ يَغفَل ساعَة       وَلا أَن ما يَخفى عَلَيهِ يَغيبُ

رأس الحكمة:

     جعل النبي الحكمة ضالة المؤمن، واعتبرها من أهم الأهداف النبيلة التي يجب على الشاعر أن يؤكد عليها، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحراً، وها هو الشاعر الحكيم صالح بن عبد القدوس يكتب قصيدة مطولة مطلعها (صرمت حبالك بعد وصلك زينب)، وكل بيت فيها يختصر كتابا، وعدد الأبيات: 65 بيتاً، جاء فيها:

صَرَمَت حِبَالَكَ بعد وَصْلِك زينبُ والدَّهْرُ فِيهِ تَصَرُّمٌ وَتَقَلُّبُ

نَشَرتْ ذَوَائِبَهَا التي تَزْهُو بها   سُوداً وَرَأْسُكَ كالنَّعَامَةِ أَشْيَبُ

واسْتَنْفَرَتْ لمَّا رأتْكَ وَطَالَمَا       كَانَتْ تَحِنُّ إِلى لِقَاكَ وَتَرْهَبُ

وَكَذَاكَ وَصْلُ الغَانِيَاتِ فإنَّهُ               آلٌ ببلقعةٍ وبرقٌ خلَّبُ

فَدَعِ الصِّبا فَلَقَدْ عَدَاكَ زَمَانُهُ وَازْهَدْ فَعُمْركَ مِنْهُ ولَّى الأطْيَبُ

ذَهَبَ الشَّبَابُ فَمَا لَهُ مِنْ عَوْدَةٍ وَأَتَى المَشِيبُ فَأَيْنَ مِنْهُ المَهْرَبُ؟

ضَيْفٌ ألَمَّ إلَيْكَ لَمْ تَحْفِلْ بِهِ       فَتَرَى لَهُ أَسَفاً وَدَمْعاً يُسْكَبُ

دَعْ عَنْكَ مَا قَدْ فَاتَ فِي زَمَنِ الصِّبا واذكُرْ ذُنُوبَك وَابْكِهَا يَا مُذْنِبُ

واخْشَ مُنَاقَشَةَ الحِسَابِ فَإنَّهُ     لابُدَّ يُحْصَى مَا جَنَيْتَ وَيُكْتَبُ

لَمْ يَنْسَهُ المَلَكَانِ حِينَ نَسِيتَهُ           بَلْ أثْبَتَاهُ وَأَنْتَ لاهٍ تَلعَبُ

والرُّوحُ فِيكَ وَدِيعَةٌ أُودِعْتَهَا       سَتَرُدُّهَا بِالرَّغْمِ مِنْكَ وَتُسْلَبُ

وَغُرُورُ دُنْيَاكَ التِي تَسْعَى لَهَا       دَارٌ حَقِيقَتُهَا مَتَاعٌ يَذْهَبُ

وَالليلُ فَاعْلَمْ وَالنَّهَارُ كِلاهُمَا         أنْفَاسُنَا فِيهَا تُعَدُّ وتُحْسَبُ

   ويحذر الشاعر من الطمع في جمع المال لأنه سوف ينهب من الإنسان بعد الموت...

وَجَمِيعُ مَا حَصَّلْتَهُ وَجَمَعْتَهُ       حَقاً يَقِيناً بَعْدَ مَوْتِكَ يُنْهَبُ

تَبَّاً لِدَارٍ لا يَدُومُ نَعِيمُهَا         وَمَشِيدُهَا عَمَّا قَلِيلٍ يُخْرَبُ

ويحرض الشاعر السامعين أن يصغوا إلى نصائحه لأنها عصارة خبرة مجرب...

فَاسْمَعْ هُدِيتَ نَصَائِحاً أوْلاَكَها             بَرٌّ لبيبٌ عَاقِلٌ مُتَأدِّبُ

صَحِبَ الزَّمَانَ وَأهْلَهُ مُسْتَبْصِراً وَرَأَى الأُمورَ بمَا تَؤُوبُ وَتَعْقُبُ

هْدَى النَّصِيحَةَ فَاتَّعِظْ بمَقَالِهِ         فَهُوَ التقِيُّ اللَّوْذَعِيُّ الأدْرَبُ

ويحذر من صروف الدهر، وتبدل الزمان، فيقول:

لا تَأْمَنِ الدَّهْرَ الصُّرُوفَ فإنَّهُ   لا زَالَ قِدْماً للرِّجَالِ يُهَذِّبُ

وَكَذَلِكَ الأيَّامُ فِي غَدَوَاتِهَا     مَرَّتْ يُذَلُّ لَهَا الأعَزُّ الأنْجَبُ

   ويستمد الشاعر حكمته من الثقافة الإسلامية والتقوى هي السلاح الأقوى

فَعَلَيْكَ تَقْوَى اللهِ فَالْزَمْهَا تَفُزْ       إنَّ التَّقِيَّ هُوَ البَهِيُّ الأهْيَبُ

وَاعْمَلْ لِطَاعَتِهِ تَنَلْ مِنْهُ الرِّضَا       إنَّ المُطِيعَ لِرَبِّه لمُقرَّبُ

وَاقْنَعْ فَفي بَعْضِ القَنَاعَةِ رَاحَةٌ وَاليَأْسُ مِمَّا فَاتَ فَهُوَ المَطْلَبُ

وَإذَا طُعِمتَ كُسِيتَ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ   فَلَقَدْ كُسِي ثَوْبَ المَذلَّةِ أشْعَبُ

   ويحذر الشاعر من خيانة المرأة وغدرها، ولكنه يخطئ في التعميم بلا شك لأن النساء لسن على شاكلة واحدة.

وَتَوَقَّ مِنْ غَدْرِ النِّسَاءِ خِيَانَةً     فَجَمِيعُهُنَّ مَكَائِدٌ لَكَ تُنصَبُ

لا تَأْمَنِ الأنْثَى حَيَاتَكَ إنَّها       كالأُفعُوَانِ يُراعُ مِنْهُ الأنيُبُ

لا تَأْمَنِ الأنْثَى زَمَانَكَ كُلَّهُ       يَوْماً وَلَوْ حَلَفَتْ يَمِيناً تَكْذبُ

تُغْرِي بطِيبِ حَدِيثِها وَكَلامِهَا وَإذَا سَطَتْ فَهي الثَّقِيلُ الأشْطَبُ

ويؤكد الشاعر على معنى الدفع بالتي أحسن، فإنه يجعل العدو صديقاً حميماً، وأما الحقود فلا دواء له:

وَالْقَ عَدُوَّكَ بالتَّحِيَّةِ لا تَكُنْ         مِنْهُ زَمَانَكَ خَائِفاً تَتَرَقَّبُ

إنَّ الحَقُودَ وَإنْ تَقَادَمَ عَهْدُهُ   فَالْحِقْدُ بَاقٍ فِي الصُّدُورِ مُغَيَّبُ

ويكره الشاعر الصديق المتملق، وينصح بالابتعاد عنه فهو عدو مبين:

وَإذَا الصَّدِيقُ رَأَيْتَهُ مُتَمَلِّقاً           فَهُوَ العَدُوُّ وَحَقُّهُ يُتَجَنَّبُ

لا خَيْرَ فِي وُدِّ امرِئٍ مُتَمَلِّقٍ       حُلْوِ اللسَانِ وَقَلْبُهُ يَتَلَهَّبُ

يَلْقَاكَ يَحْلِفُ أنَّهُ بكَ وَاثِقٌ       وإذَا تَوَارَى عَنْكَ فَهْوَ العَقْرَبُ

يُعْطِيكَ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ حَلاوَةً وَيَرُوغُ عَنْكَ كَمَا يَرُوغُ الثَّعْلَبُ

وَاخْتَرْ قَرِينَكَ وَاصْطَفِيهِ تَفَاخُراً   إنَّ القَرِينَ إلى المُقَارَنِ يُنْسَبُ

   ويؤكد على وجوب اختيار الأصدقاء، ويتحدث عن الترحيب بالغني وجفاء الفقير، فهو منبوذ محتقر، ولو كان ذكياً لبيباً:

إنَّ الغَنِيَّ مِنَ الرِّجَالِ مُكَرَّمٌ     وَتَرَاهُ يُرْجَى مَا لَدَيْهِ وَيُرْهَبُ

ويُبَشُّ بالتَّرْحِيبِ عِنْدَ قُدُومِهِ       وَيُقَامُ عِنْدَ سَلامِهِ وَيُقَرَّبُ

وَالفَقْرُ شَيْنٌ للرِّجَالِ فَإنَّهُ   يُزْرَى بِهِ الشَّهْمُ الأرِيبُ الأنْسَبُ

ويدعو الشاعر صالح عبد القدوس إلى التواصل مع الأرحام، فيقول:

وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ للأقَارِبِ كُلِّهِمْ  بتَذَلُّلٍ وَاسْمَحْ لَهُمْ إنْ أذْنَبُوا

وَدَعِ الكَذُوبَ فَلا يَكُنْ لَكَ صَاحِباً إنَّ الكَذُوبَ لبئْسَ خِلاً يُصْحَبُ

وَذَرِ الحَسُودَ وَلَوْ صَفَا لَكَ مَرَّةً     أبْعِدْهُ عَنْ رُؤْيَاكَ لا يُسْتَجْلَبُ

   روي عن علي ابن أبي طالب أن تمنى أن تكون عنقه عنق بعير حتى يوزن كلامه قبل التحدث به، ويؤكد الشاعر صالح عبد القدوس على هذه القيم الأخلاقية:

وَزِنِ الكَلامَ إذا نَطَقْتَ وَلا تَكُنْ       ثَرْثَارَةً فِي كُلِّ نَادٍ تَخْطُبُ

وَاحْفَظْ لِسَانَكَ وَاحْتَرِزْ مِنْ لَفْظِهِ    فَالْمَرْءُ يَسْلَمُ باللِّسَانِ وَيَعْطَبُ

   ويحث المتلقي على كتمان الأسرار، فصدور الأحرار هي صناديق الأسرار:

والسِّرَ فَاكْتُمْهُ وَلا تَنْطِقْ بِهِ      فَهُوَ الأسِيرُ لَدَيْكَ إذْ لا يُنْشَبُ

وَاحْرَصْ عَلَى حِفْظِ القُلُوبِ مِنَ الأذَى فَرُجُوعُهَا بَعْدَ التَّنَافُرِ يَصْعُبُ

إنَّ القُلُوبَ إذا تَنَافَرَ وُدُّهَا       شِبْهُ الزُّجَاجَةِ كَسْرُهَا لا يُشْعَبُ

وَكَذَاكَ سِرُّ المَرْءِ إنْ لَمْ يَطْوِهِ         نَشَرَتْهُ ألْسِنَةٌ تَزِيدُ وَتَكْذِبُ

   وينبه السامعين إلى ضرورة ترك البخل والحرص على المال، لأنه لا يزيد في الرزق، فالرزق مقسوم من الله، وليس يأتي بالحيلة:

لا تحْرَصَنْ فَالْحِرْصُ لَيْسَ بزَائِدٍ فِي الرِّزْقِ بَلْ يُشْقِي الحَرِيصَ وَيُتْعِبُ

وَيَظَلُّ مَلْهُوفاً يَرُومُ تَحَيُّلاً             وَالرِّزْقُ لَيْسَ بِحِيلَةٍ يُسْتَجْلَبُ

كَمْ عَاجِزٍ فِي النَّاسِ يُؤْتَى رِزْقَهُ           رغْداً ويُحْرَمُ كيِّسٌ ويُخيَّبُ

   ويحرض المسلم على أداء الأمانة، وترك الخيانة لقوله صلى الله عليه وسلم: أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك:

أدِّ الأمَانَةَ وَالخِيَانَةَ فَاجْتَنِبْ         وَاعْدِلْ وَلا تَظْلِمْ يَكُنْ لَكَ مَكْسبُ

وَإذَا بُلِيتَ بنَكْبَةٍ فَاصْبِرْ لَهَا             مَنْ ذَا رَأَيْتَ مُسَلَّماً لا يُنْكَبُ

وَإذَا أَصَابَكَ فِي زَمَانِكَ شِدَّةٌ        وَأَصَابَكَ الخَطْبُ الكَرِيهُ الأصْعَبُ

فادعُ لِرَبِّكَ إنَّهُ أدْنَى لِمَنْ           يَدْعُوهُ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ وَأقْرَبُ

   ويعدد الشاعر القيم الأخلاقية التي يجب أن يتحلى بها المؤمن مثل العدل، والصبر على الشدائد، واللجوء إلى الله في الرخاء والشدة....

ويدعو إلى العزلة الحسية والشعورية وعدم مخالطة الأشرار ومصاحبتهم:

كُنْ مَا اسْتَطَعْتَ عَنِ الأنَامِ بِمَعْزِلٍ إنَّ الكَثِيرَ مِنَ الوَرَى لا يُصْحَبُ

وَاجْعَلْ جَلِيسَكَ سَيِّداً تَحْظَ بِهِ               حَبْراً لَبِيباً عَاقِلاً يَتَأَدَّبُ

   ويؤكد على معنى نبيل جاء به الحديث، وهو دعوة المظلوم لا ترد، وليس بينها وبين الله حجاب:

وَاحْذَرْ مِنَ المَظْلُومِ سَهْماً صَائِباً       وَاعْلَمْ بأنَّ دُعَاءَهُ لا يُحْجَبُ

وَإذَا رَأَيْتَ الرِّزْقَ ضَاقَ ببَلْدَةٍ     وَخَشِيتَ فِيها أنْ يَضِيقَ المَكْسَبُ

فَارْحَلْ فَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةُ الفَضَا   طُولاً وَعَرْضاً شَرْقُها وَالمَغْرِبُ

   ويختم الشاعر صالح عبد القدوس قصيدته بالدعوة إلى التزام هذه النصائح فهي تجلب الخير لمن تمسك يها، وتدفع الشر عن صاحبها:

فَلَقَدْ نَصَحْتُكَ إنْ قَبِلْتَ نَصِيحَتِي     فَالنُّصْحُ أغْلَى مَا يُبَاعُ وَيُوهَبُ

خُذْهَا إِلَيْكَ قَصِيدَةً مَنْظُومَةً       جَاءَتْ كَنَظْمِ الدُّرِّ بَلْ هِيَ أَعْجَبُ

حِكَمٌ وَآدَابٌ وَجُلُّ مَوَاعِظٍ             أمْثَالُهَا لِذَوِي البَصَائِرِ تُكْتَبُ

فَاصْغِ لِوَعْظِ قَصِيدَةٍ أَوْلاَكَها       طَوْدُ العُلومِ الشَّامِخَاتِ الأهْيَبُ

أعْنِي عَليّاً وَابْنَ عَمَّ مُحَمَّدٍ         مَنْ نَالَهُ الشَّرفُ الرَّفِيعُ الأنْسَبُ

يَا رَبِّ صَلِّ عَلَى النَّبيِّ وَآلِهِ     عَدَدَ الخَلائِقِ حَصْرُها لا يُحْسَبُ

   والقصيدة من بحر الكامل، وهو يصلح لجميع الأغراض الشعرية، وكان اختيار الشاعر له مناسبا وموفقا.

     وكتب الشاعر الحكيم صالح بن عبد القدوس قصيدة مطلعها (رأيت صغير الامر تنمي شؤونه), وعدد الأبيات: 8

رَأَيتُ صَغير الاِمرِ تَنمي شُؤونَه       فَيَكبُر حَتّى لا يَحد وَيَعظُم

وَإِن عَناء أَن تَفهَم جاهِلا               فَيَحسَب جَهلا أَنَّهُ مِنكَ اِفهَم

مَتى يَبلُغ البُنيانُ يَوماً تَمامَه             اِذا كُنت تَبنيهِ وَغَيرك يَهدِم

مَتى يفضل المَثري اِذا ظَنَّ اِنَّهُر     اِذا جادَ بِالشَيءِ القَليلِ سَيعدم

مَتى يَنتَهي عَن سيء مِن اِتى بِهِ         اِذا لَم يَكُن مِنهُ عَلَيهِ تَندَم

وَما الرِزقُ إِلّا قِسمَة بَين اِهلِه       فَلا يَعدم الأَرزاقِ مثر وَمُعدَم

وَلَن يَستَطيعُ الدَهر تَغيير خَلقِه           لَئيم وَلن يَستَطيعه مُتكرم

كَما إِن ماء المزن ما ذيق سائِغ   زلال وَماء البَحرِ يَلفِظُه الغَم

   وها هو الشاعر صالح بن عبد القدوس ينصح الإنسان بالأمل والتفاؤل ويحذر من اليأس والقنوط القاتل، فيكتب قصيدة مطلعها (لا تيأسن من انفراج شديدة)، وعدد الأبيات: 2 بيتاً:

لا تَيأَسَنَّ من اِنفِراجِ شَديدَة   قَد تَنجَلي الغَمَراتِ وَهيَ شَدائِد

كَم كُربَة اِقسَمَت اِن لَن تَنقَضي زالَت وَفَرجُها الجَليلُ الواحِد

   ويكتب صالح بن عبد القدوس قطعة شعرية مطلعها:

(اذا كنت لا ترجى بدفع ملمّة)، وعدد الأبيات: 3 أبيات:

اِذا كُنت لا تَرجى بِدَفع ملمة   وَلم يَكُ لِلمَعروفِ عِندَكَ موضِع

وَلا اِنتَ ذو جاه يعاش بِجاهِهِ وَلا اِنتَ يَوم البَعث لِلنّاسِ تشفع

فَعيشك في الدُنيا وَمَوتك واحِد     وَعود خلال من حَياتِكَ انفَع

ولئن يعادي عاقلاً خير له من أن يصاحب أحمقاً:

وَلَئِن يُعادي عاقِلاً خَير لَهُ         مِن أَن يَكون لَهُ صَديق أَحمَق

فَاِربَأ بِنَفسِكَ أَن تصادِق اِحمَقاً إِن الصديقَ عَلى الصَديقِ مُصدق

وأخيراً:

   إن شعر الحكمة يعد تجربة علمية وشعورية جميلة، وهي إحدى أهم الأغراض الشعرية، وأكثرها فائدة للمتلقي تزيده ثقافة ووعياً، وتثري تجاربه وتزيد خبرته في الحياة.

المصادر:

١_ الموسوعة التاريخية الحرة.

٢_ ديوان صالح بن عبد القدوس.

٣_ مواقع إلكترونية أخرى.

sdfdsfdf1059.jpg

يقع هذا الكتاب ( الشرح الوافي ) في 88 صفحة من الحجم المتوسط - تاليف: الشاعر والفنان الأستاذ يوسف أبوخيط من مدينة الطيرة - المثلث - الذي درسَ الموسيقى وعملَ مُدرِّسا للموسيقى الشرقيَّة . صدرَ الكتاب عن دار الوسط اليوم للنشر والإعلام - رام الله وعلى حساب ونفقة الكاتب ... كتب مقدمته المرحوم الدكتو رسامي إدريس وأشاد بأهميَّة هذا الكتاب،وجاء فيها: ( يأتي تأليف هذا الكتاب في علم العروض من قبل أستاذ موسيقي مُلمٍّ بالأوزان والمقامات الموسيقيَّة ، وذلك في وقت تحجمُ مدارسُنا العربيَّة في الداخل عن تدريس هذا الموضوع .

في هذا الكتاب شرح كامل لجميع الأوزان ( البحور) أل 16 ومجزوءاتها وجوازاتها ، وهي :

1 ) بحر الطويل . 2 ) بحر المديد .3 ) بحر البسيط . 4 ) بحر الوافر . 5 ) بحر الكامل . 6 ) بحر الهزج . 7 ) الرجز . 8 ) بحر الرمل . 9 ) بحر السريع . 10 ) بحر المنسرح . 11) بحر الخفيف . 12) بحر المضارع . 13 ) بحر المقتضب . 14 ) بحر المجتث . 15) المتقارب . 16 ) المتدارك .

إنَّ هذا الكتاب القيّم هو الوحيد محليًّا وربَّما خارج البلاد أيضا ألِّفَ وَوُضِعَ على هذا النمط والشكل المختصر وبأسلوبٍ سهل وَمبسَّط وسلس ومفهوم وشائق يجذب القارىءَ ويشدُّهُ على المواصلةِ في تصفُّحِهِ وقراءتهِ دونما توقف.. يتناول الكاتبُ فيه موضوع العروض (الأوزان الشعريَّة ) جميعها ويستعرضها ويشرحها بشكل سهل ورشيق وبدون تعقيد ويستطيعُ ان يستوعبه ويفهمه حتى القارىء البسيط .

وهذا الكتاب يُعدُّ انجازا ومصدرا هامًّا ومرجعا لكلِّ من يُريد أن يدرس ويتعلم علم العروض (الأوزان الشعريّة)،وخاصة لطلاب المدارس للمراحل الإبتدائية والثانوية وطلاب الجامعات أيضا. والجدير بالذكر انه عندنا محليًّا لا يُدرَّسُ موضوع علم العروض إطلاقا لا في المدارس للمراحل الإبتدائية والثانوية ولا في الجامعات كما يُدرِّسُون موضوع قواعد اللغة العربية ( الصرف والنحو ) ، وهنالك محاولات لإلغاء تدريس وتعليم موضوع قواعد اللغة العربية محليا .

وفي فترة حكم الإنتداب البريطاني كان موضوع علم العروض يُدَرَّسُ في المدارس الإبتدائية للصف السادس الإبتدائي على ما أظن إذا لم يكن للصف الرابع أو الخامس . واليوم عندنا هنا في الداخل هنالك من هُم حاصلون على شهادة الدكتوراة في اللغة العربية وآدابها ولا يعرفون الأوزان الشعرية إطلاقا ..ولاحتى قواعد اللغة العربية كما يجب ويخطئون في كتابة الإملاء . ومنهم من يكتبُ النقدَ الأدبي وله مؤلفات ولا يعرف البحور الشعرية ولا يعرف التمييز بين شعر التفعيلة الموزون والشعر الحديث الحر المتحرر من الوزن والقافية ..ولا يعرفون أيضا قواعد اللغة العربية كما يجب.

وقد جاء هذا الكتاب ( الشرح الوافي ) ليثري ويتحف المكتبة المحلية بشيىءٍ جديد وَمُمَيَّز وليسدَّ فراغا كبيرا وليكون مرجعا لكلِّ شخص يريد أن يتعرف على علم العروض الشيىء المجهول والغامض للسواد الأعظم من أبناء شعبنا في الداخل ولأكثر من 99 بالمئة منهم . ويجب أن يأخذ هذا الكتاب حقَّهُ ومكانته وأن يكون في كل مكتبة وفي كل بيت لأهميته وأن تقامَ العديد من الأمسيات التكريمية لصاحبه ومؤلفه الأستاذ يوسف أبو خيط إحتفاء لما قدمه للحركة الأدبية والثقافيَّة المحلية .. وإذا في المستقل قرروا أن يدخلوا للمناهج التدريسيَّة - محليًّا - موضوع علم العروض فيجب أن يدرس هذا الكتاب بحذافيرة كما كان يُدرَّس كتاب ( القانون في الطب ) بحذافيرة - لمؤلفه الطبيب والعالم والفيلسوف إبن سينا - في جميع كليات الطب بأوروبا والغرب قبل أكثر من 100 سنة .

إنَّ الاستاذ يوسف أبو خيط شاعر وكاتب قدير ومبدع وهو أيضا موسيقي وفنان من الدرجة الأولى وعازف عود مميز ورائع ..والشعر هو موسيقى بحدَّ ذاته ( أعني الشعر الحقيقي الموزون والمقفى وليس الشعر الحديث المتحرر من كل شيىء والذي أصبح يكتبهُ كلُّ من هبَّ ودب ) ..وليس بغريب وبجديد علينا أن يضعَ ويؤلف الأستاذ يوسف كتابا قيّمًا ورائعا في هذا الموضوع الهام والمُهمَل والمَنسي محليًّا (علم العروض ) ...فالتفاعيلُ هي كالمقامات الموسيقيّة ( النغمات)..وحتى أن هنالك بعض الشعراء الكلاسيكيين أحيانا يقولون عن الوزن الشعري ( مقاما) وليس وزنا أو بحرا .

وأخيرا: أهنىءُ الشاعر والكتاب والفنان المبدع الأصيل الصديق الأستاذ يوسف أبو خيط على هذا المؤلف القيِّم والرائع الذي سيُتحفُ ويُثري المكتبة المحلية ، وسيجدُ فيه كلُّ شخص يريد أن يدرسَ ويتعلم العروض بغيتهُ وضالته المنشودة . وأتمنى له العمر المديد والمزيد من الإصدارات الأدبية والشعريّة وغيرها في القريب العاجل .

المزيد من المقالات...