زكريا محمد "شاعر لا روائي"، ولا أدّعي معرفتي به، وكل ما كتبته عنه مقالتين قصيرتين، واحدة قبل موته، والأخرى بعده، عدا هذه المقالة، لكنني أعرفه شاعراً، وقرأت له ثلاثة دواوين، وقرأت له أبحاثا لغوية وتراثية، وأعرف أنه كتب الرواية، ولم أفكر بقراءة روايتيه حتى وهما متاحتان للتحميل المجاني، فأنا لا أثق بالشاعر روائياً، ولا بالروائي شاعرا، ولا بالسياسي أديباً. فالشاعر شاعر فقط، والروائي روائي فقط، والسياسي سياسي فقط، وكنت قد تتبعت مجموعة الشعراء المهاجرين إلى الرواية في كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، ومنهم بطبيعة الحال زكريا محمد، وانتبهت إلى ذلك الأثر الذي أحدثته الرواية في شعر الشعراء ولغتهم وأرواحهم.

لم يكن عمل الشاعر زكريا محمد في حقل الرواية هجرة، إنما كانت نزهة كتابة، بدليل أنه كتب بعد تينك الروايتين أشعارا غزيرة وأصدرها في دواوين. إذاً، فالشاعر لم يهاجر إلى الرواية كما فعل آخرون كثيرون. ولذلك فزكريا "شاعر لا روائيّ" بمعنى أنه ذو مشروع شعري، والرواية حدث عارض في هذا المشروع، وتركيز النقاد أو بعضهم على مشروعه الروائي، وعدم الاحتفال بشعره وشاعريته هو نوع من تغريب شخصية الشاعر وتغييب مشروعه الجمالي الذي بناه عبر (8) دواوين، عدا تنظيره الشعري وشرح رؤيته حول هذا المشروع، بينما جرب الشاعر كتابة الرواية مرتين. فكيف تغلبت الروايتان على ثمانية دواوين؟ إنها لعبة النقد غير الموضوعية بكل تأكيد، وهي من باب إذا مات الشاعر طولت رجليه في تربة النقد، ولتكن طويلة في حقل الرواية الضيّق. خاصة إذا كان هؤلاء النقاد لا يرون في شعر زكريا محمد دهشة تستفزّ المشاعر والمخيلة.

يصحّ في حالة الشاعر الراحل زكريا محمد، وفي حقّ غيره من الشعراء والأدباء الراحلين، هكذا فجأة، والموتى عادة لا يستأذنون أحدا، فكلهم يرحل فجأة. يصح في حالتهم هذه أن أستعيد القول المشهور مع بعض التحوير: "النقاد موتى، فإذا مات الشاعر انتبهوا". نعم النقاد موتى وكسالى، لم يتذكروا زكريا حيّاً، بل كانوا ينأون عن كتاباته الشعرية والروائية والبحثية ولا يعيرونها اهتماما، ولو عاد دارس ولملم ما كتبه النقاد عن زكريا محمد وهو على قيد الحياة فرحا بمولد كتبه لن يجد الكثيرين؛ ربما اسمين أو ثلاثة من خصص له مقالة أو اثنتين في صحيفة أو مجلة، كما أنه غائب نقديا في حركة الشعر الفلسطيني والعربي، ولا يكاد يذكر في المقالات والبحوث والدراسات والكتب النقدية التي تتناول حركة الشعر الفلسطيني والعربي، ولم ينتبهوا مثلا لما يدّعوه اليوم من شاعرية مميزة وفريدة، حتى فوزه بجائزة محمود درويش عام 2020 لم يكن بمستوى الموت، ليهزهم فينتبهوا له، وكيف ينتبهون والشاعر لم يمت، فالموت لديهم أقوى من الحياة.

ألأنه لا يحب النقاد، والنقاد عاقبوه بالإهمال؟ هذا ليس صحيحاً، فمحمود درويش كان يعد نفسه أكبر من النقاد، وأعلى منهم شأناً، بل إنه لم يكن يجلّ النقاد، ويرى كلامهم اغتيالا، وتجاوز عنهم وأهملهم لكنهم لم يهملوه، واتبعوه حيا وميّتا، كذلك إبراهيم نصر الله يشن هجمات لاذعة في بعض مقالاته ورواياته على النقاد، والنقاد يركضون خلفه لاهثين، لاسيما النقاد الأكاديميون الذين غمروه في أطروحات الماجستير والدكتوراه، ولعلها لو تصافّ بعضها فوق بعض لتجاوزت طول قامته المديدة.

وكثير غيرهما لا يحفلون بالنقاد، والنقاد كما هو معهودهم، قمل يعتاشون على رؤوس هؤلاء. هذا التعبير مستعار، وهو وصف لغازي القصيبي للنقاد. يصلح أن ينطبق على نقاد زكريا محمد الذين كانوا موتى وفجأة انتبهوا عندما مات، إنها فرصتهم ليقيموا حفلاتهم على بنات أفكاره.

ليس النقاد وحدهم من انتبه لزكريا محمد، بل القراء والكتاب والمثقفون، فلو جمع أحدنا ما كتبه هؤلاء عن زكريا محمد منذ غادر موقعه في هذه الحياة حتى اليوم لجمع مادة كبيرة، كلها تمجد زكريا محمد، وتعلي من شعريته، وترى فيه نبيّ الشعر الفلسطيني وقديسه، على الرغم من أن كثيرين منهم، لم يكن سمع باسمه حياً، ولا رآه عياناً، وكل ما قالوه تقريبا يندرج في باب التوهم المرضي، وبعضهم كل ذاكرتهم معه لقاء عابر في مقهى أو في ندوة.

مذيع في شبكة أجيال الفلسطينية في فترة البث الصباحي انتبه أنه كان يرى زكريا محمد كل صباح وهو قادم إلى الأستوديو، هذا كل ما يعرفه عن زكريا محمد، لم يقرأ له، لم تستضيفه المحطة في برنامج أو حلقة خاصة، كان الإعلاميون أيضا موتى فإذا مات الشاعر انتبهوا! فلو كان حاضراً يوما ما لدى هؤلاء لرأيتهم يستعيدونه، كما فعلوا مع غيره، وكما فعل أصدقاء زكريا معه بعد موته.

رواد الفيسبوك رأوا في كتبه المتاحة مجانا على الشبكة العنكبوتية في موقع "أكاديميا" منقذا لهم في انتباهة الموت هذه، فأخذوا يصورون الصفحات ويعرضونها مع تعليقات تمجده، أين كان هؤلاء الموتى قبل موت زكريا محمد؟ أم أن الشاعر إذا مات طولت رجليه على رأي المثل الشعبي الفلسطيني؛ فيكثر المدح، وتطول عبارات الإنشاء، ويصبح الميّت "أحسن البشر"، ولا يذكرون سوى محاسن هؤلاء الميتين.

ما عاشه زكريا محمد بعد موته في دائرة النقد والاهتمام من الأصدقاء والكتاب والنقاد ورواد الفيسبوك أهم مما عاشه وهو يتنفس الحياة، ويذهب إلى مقهاه ليكتب ورده الصباحي، كل هذا يؤكد أن "الشاعر إذا مات بالفعل طِوْلَتْ رجليه"، كما يؤكد أن النقاد موتى فإذا مات الشاعر أو الأديب انتبهوا فكتبوا، وركبوا الموجة، فيا لهم من مجانين! فكيف يركبون مع الراحلين موجة الموت ليقولوا: كان هنا شاعر صديق يدعى زكريا محمد.

دور تعدد مصائر الشخصيات في تطوير أحداث الرواية وتعقيدها

رواية "جارات أبي موسى " للروائي المغربي أحمد التوفيق أنموذجا

عملت رواية "جارات أبي موسى "على استلهام مادتها الروائية من التاريخ المريني، مركزة على أحداث وشخصيات وفضاءات بعينها ارتبطت بهذا التاريخ، ومثلما اختار الروائي والمؤرخ المغربي أحمد التوفيق لروايته "جارات أبي موسى" شخصيات تاريخية حقيقية كشخصية ابي موسى الدكالي التي عاشت في فترة حكم بني مرين للمغرب، فإنه كذلك عمل بالمقابل على خلق شخصيات أخرى من خياله كشخصية شامة بطلة الرواية وجاراتها وصديقاتها الخادمات وزوجة القاضي ابن الحفيد وغيرهن بحيث جعل الشخصيات التاريخية تبدو وكأنها شخصيات متخيلة والشخصيات المتخيلة تبدو وكأنها شخصيات تاريخية. ومن خلال تاريخ بني مرين الذي مثله السلطان (أبو الحسن) وابنه (أبو عنان) والقضاة (ابن الحفيد وأبوسالم الجورائي) والعامل( جرمون وأعوانه)والولي المتصوف الزاهد( أبي موسى الدكالي )وتاريخ الشخصيات المتخيلة نرصد المصائر المتعددة المترابطة والمتداخلة لشخصيات رواية جارات أبي موسى، وفي هذا التعدد الذي ساهم في تطوير الأحداث وتعقيدها تكمن متعة هذه الرواية وجماليتها. فماهي مصائر أحداث وشخصيات رواية جارات أبي موسى؟ وكيف ساهمت هذه المصائر في تطوير أحداث الرواية وتعقيدها ؟

تعد شامة بنت العجال راعي بقر القاضي ابن الحفيد الشخصية المركزية التي تدور كل الأحداث في فلكها وتعمل على ابراز مفاتنها وخصالها وقوة شخصيتها؛ فهي فتاة جمعت ما بين الحسنيين حسن الجمال وحسن الخصال الإنسانية النبيلة، وقد ترعرعت كخادمة في بيت القاضي ابن الحفيد وصارت معزتها في قلبه مثل معزة بناته وتشربت على يد زوجته الطاهرة مهارة التدبير وتوقد الذكاء، ورقة الحديث وخفة الروح .فشامة التي كانت خادمة في بيت ابن الحفيد ستتحول من خادمة إلى زوجة لقاضي القضاة أبو سالم الجورائي، فبعد إعجابه بجمالها ورقتها في حادثة الطست والماء المغلى ببيت ابن الحفيد أثناء نزوله ضيفا عنده، سوف يعقد قرانه عليها في نفس الليلة ويغير اسمها من شامة (الخادمة) لورقاء(السيدة)، وفي ذلك تحول وانقلاب في حياتها وحياة الآخرين المحيطين بها وفي مسار الرواية وأحداثها وحبكتها، حيث ستتداعى الأحداث المشوقة وتظهر شخصيات وأماكن جديدة استدعتها مرحلة تحول الشخصية المركزية شامة من وضع لوضع آخر ومن مصير( خادمة) لمصير آخر(السيدة). وينساب السرد وهو يتابع هذا التحول بلغة رائقة معطرة واصفا جمال شامة وعبقريتها في التدبير والتصرف والتعامل مع الوضع الجديد ومدى قدرتها على تأويل لغة وسلوك وردود الآخرين، وراسما في الآن نفسه مصيرها الجديد الذي سيؤدي ضمنيا إلى ظهور أحداث ومصائر لشخصيات أخرى وهي تصارع قدرها وواقعها وسلطة الآخر وجبروته ومكره، وفي ذلك متعة الرواية. فانتقال بطلة الرواية شامة من وضع الخادمة إلى وضع السيدة سوف يجر عليها نقم الحساد ويخلق لها من الدسائس والمؤامرات ما لا يعد ولا يحصى، وهذه الدسائس سوف تخلق مصائر جديدة للشخصيات كالمصير الذي سوف تلقاه خادمات الجورائي (بيعهن في سوق النخاسة)، وتؤدي في نفس الوقت إلى ظهور شخصيات جديدة كشخصية الطبيب اليهودي والحارس العبد فاتح، ويكشف لنا السارد العليم بكل شيء القابض بزمام الحكي من بدايته لنهايته مدى دهاء شامة "ورقاء" وقدرتها وحكمتها على التكيف مع الوضع الجديد الذي سيقت إليه من غير أن تعلم ومن غير أن تكون لها القدرة على الرفض. وأقوى الدسائس والمؤامرات التي تعرضت لها شامة بعد حادثة الطست المدبرة من زوجة ابن القاضي ابن الحفيد وخادمته هي حادثة تسميمها من طرف زوجة الجورائي بعد معرفتها بحكاية الزواج، وهي الحادثة التي كادت أن تنهي حياتها لولا علاج الطبيب اليهودي الذي تدخل في الوقت المناسب. ثم تنقلب حياة شامة ورقاء من جديد من سعادة إلى شقاء ومن سيدة إلى خادمة، وذلك بغرق زوجها الجورائي مع من غرقوا في البحر بعد خروجه رفقتها ورفقة السلطان في حملة عسكرية في الأطراف الشرقية من البلاد، فترسم الأقدار من جديد للجورائي ولشامة وللحاكم مصائر حزينة وشديدة السواد، فمصير الجورائي كان هو الموت غرقا في بحر هائج ومصير الحاكم هو فشله في الحملة وفقدانه للحكم بانقلاب ابنه عليه، وكلا المصيرين سيقلبان حياة شامة رأسا على عقب. فشامة سوف تعرف مصيرا سيئا كله تعاسة لم تكن تتوقعه حيث جعلها هذا المصير تتحول بغرق زوجها الجورائي إلى متاع ينقل إلى بيت السلطان الجديد المنقلب على والده. فحياة شامة ومصيرها ارتبط بحياة ومصير شخصيات أخرى وفي ذلك تطور وتعقيد لأحداث الرواية . وقد عرفت شامة بخبرتها وذكائها وحسن تربيتها كيف تتقرب من أم السلطان الجديد أم الحر فصارت قريبة منها ترافقها في كل مشاورها وأشغالها بما فيها رحلتها التي تعرضت فيها شامة لمصير آخر ألا وهو الخطف ولولا تدخل فرسان(طلبة) أحد شيوخ زوايا تلك المنطقة لما عرف لها حس ولا أثر. ففي كل مرة تفاجئنا الرواية بمصير جديد لبطلة الرواية شامة فبعد تحريرها من يد قطاع الطرق اثناء رحلتها للحج رفقة أم الحر سوف تجد نفسها من جديد تواجه مصيرا مجهولا آخر بوفاة أم الحر التي أوصت مرافقيها من الحراس عبر وصية مكتوبة إلى إرجاع شامة من جديد إلى بيت القاضي ابن الحفيد مخافة عليها من الدسائس. ولم يدم استقرارها طويلا ببيت ابن الحفيد لتواجه مصيرا آخر أسوأ من المصائر الأخرى زاد من توتر الحكي، وساهم في ظهور فضاء جديد غني بالأحداث والشخصيات والمصائر والدلالات ألا وهو فضاء فندق الزيت الذي يعد من الفضاءات التاريخية لمدينة سلا في عهد المرينيين، ومعه تظهر شخصية أبي موسى الدكالي وجاراته الست بمصائرهن المختلفة ثم ينفتح من جديد مصير شامة على مصائر شخصيات الرواية ويرتبط بهم ارتباطا إما في شكل صراع(شامة ضد العامل وتودة) وإما في شكل حب(شامة وهي تتعلق بسانشو وابي موسى) مما سيؤدي إلى خلق نوع من الصراع والتوتر المفضي إلى الرفع من منسوب التشويق في الرواية. ففي تحول حياة شامة وانقلابها نرصد تاريخ مرحلة مهمة من حكم المرينيين كيف كانت تدبر وتساس وأثر ذلك على حياة الناس من سلاطين وقضاة وعامة الناس. ومخافة على استقرار بيته وحبا في شامة التي يعتبرها واحدة من بناته قام القاضي ابن الحفيد بتزويجها لعلي سانشو وهو رئيس المعلمين المكلفين بتزويق المدرسة التي أمر السلطان ببنائها وزخرفتها وهو الزواج الذي يطرح معه سؤال لماذا علي سانشو وليس غيره؟ فشامة بهذا الزواج وبعد وفاة ابن الحفيد سوف تنلقب حياتها دفعة واحدة من السعادة إلى الشقاء وبذلك يرسم الروائي أحمد التوفيق لحياة شامة مرحلة جديدة من حياتها كلها شقاء وتعاسة وصراع ضد مكائد العامل جرمون، وبالتالي فحياة شامة بطلة الرواية عرفت عبر مسار أحداث الرواية مرحلتين متناقضتين مرحلة السعادة ما قبل زواج سانشو ومرحلة الشقاء والمعاناة بعد زواجها من سانشو ووفاة القاضي ابن الحفيد، فهي سوف تعاني هي وزوجها علي سانشو من مرارة العيش بسبب دسائس العامل جرمون وأعوانه وعميلته تودة. حيث سيطردهما العامل جرمون من بيت الأوقاف مما ستظطر معه شامة إلى الاستقرار بفندق الزيت الذي سيتحول إلى مسرح لأحداث الرواية ومرآة تعكس حياة الناس في أوج الدولة المرينية( رواج فندق الزيت) وبداية انهيارها( كساد تجارة فندق الزيت وتحول غرفه للدعارة) ، وسوف تزداد معاناتها بافلاس زوجها علي سانشو ودخوله السجن وعودته إلى بلاده الأندلس وتحرش العامل بها وانتشار الجفاف والجذام ومظاهر الجوع والخوف بين الناس، وبوفاة جارها أبي موسى الدكالي التي رفضت بسببه هجرة فندق الزيت وتنفيذ رغبة نقيب الشرفاء لأنها كانت تعتبره حرزها والعين الساهرة عليها . وهكذا أثرت كل هذه المصائر على حياة شامة وحياة الشخصيات الأخرى وساهمت في تطور وتعقيد أحداث الرواية ودفعها إلى التأزم بعد كل انفراج .

وأمام الفراغ الذي خلفه رحيل علي سانشو وموت أبي موسى تلبست شامة في النهاية حال مولاتها الطاهرة ورضيت وسمت فوق جروحها وماضيها مع مرور الأيام، مثلما سمت رواية جارت أبي موسى فوق التاريخ الرسمي للمرينيين الذي دونه المؤرخون لتكتب تاريخها الخاص بها كرواية تبحث عن الصدق الفني في الكتابة الروائية بتعبير الباحث محمد القاضي أكثر مما كانت تبحث وهي تروي حكايات جارات ابي موسى بما فيهن شامة عن الصدق التاريخي في الأحداث والوقائع التاريخية في ضوء قناعة ورؤية الروائي أحمد التوفيق الذي كان يبدع كونا روائيا يتكون في آن واحد من عناصر متخيلة، وعناصر واقعية تاريخية، انطلاقا من اندغام التاريخي والواقعي والمتخيل بشكل تأويلي وتخييلي داخل الرواية .

 جميل أن نجد من يكتب أدبا للفيتان، خاصة إن كان العمل روائيّا، فهذا يمهّد الفئة المستهدفة للتقدّم من الأعمال (الضّخمة) الروائي "جميل السلحوت" من الذين يهتمون بهذه الفئة وقد كتب أكثر من عمل، وتأتي  روايته "جبينة والشاطر حسن" الصّادرة مؤخّرا عن مكتبة كل شيء في حيفا، كتتويج لإنجازاته السّابقة.

بداية ننوّه إلى أنّ هناك جانبا تعلميّا معرفيّا في الرّواية، ومتعلّقة بالمكان، القدس ومحيطها: "اتّفق الشّاطرُ حسن وإمامُ الأقصى وبطريركُ القدس أن تكون الرّحلةُ إلى منطقةِ "البقيعة"، التي تمتدُّ من مقامِ النّبيِّ موسى في الطّريقِ بين القدس ومدينة أريحا، حتّى تصلَ إلى جنوبِ شرقِ مدينة الخليل، ويتقاسمها عرب السّواحرة، عرب العبيديّة، عرب التّعامرة، وبني نعيم" وهذا الأمر بحدّ ذاته يحسب للرّواية، التي ترسّخ في ذهن المتلقّي أهمّيّة القدس، وما يحيطها من مدن وقرى وبلدات، وتعرّفهم بطبيعة المواطنين الذين يقطنونها، فهناك أكثر من ملّة تعيش في المدينة.

كما تأخذنا إلى معلم تاريخيّ وأثريّ ألا وهو: "يقع دير مار سابا في (عرب ابن عبيد) شرق مدينةِ بيت لحم في فلسطين. تمَّ بناؤهُ بين عامي 478 م - 484 م، على يدِ الرّاهبِ سابا، بمشاركة 5000 راهب، وهو بهذا يُعتبرُ واحدًا من أقدمِ الأديرةِ المأهولةِ في العالم." فالحديث عن جغرافيّة المكان وطبيعة البناء الموجود، يؤكّد حالة التّنوّع والتّعدّد التي يعيشها المجتمع الفلسطينيّ، وأيضا أنّ العمار من ابداع الفلسطيني الذي يهتمّ بالبناء وتعمير الأرض، والّلافت في هذا المقطع أنّه يقدّمنا من فلسطينيّة المسيحيّة، وأنّ فلسطين هي الشّعلة الّتي انطلقت منها المسيحيّة إلى بقاع الأرض كافّة.

وما دمنا نتحدّث عن جغرافيّة المكان فالسّارد يأخذنا إلى الحقبة الكنعانيّة وكيف أنّ الفلسطينيّ القديم ترك آثارا وإرثا ثقافيّا من خلال المسكوكات النّقديّة والتّماثيل: "ما هاتان الصّورتان؟

الرّاهبُ: الصّورةُ الأولى لآلهة الكنعانيّين "عشتار" وهي إلهُ الحبِّ والإخصاب والرّبيع، والثّانيةُ "أشمون" وهو إلهُ الشّفاء عند الكنعانيّين أيضًا"، فتركيز السّارد على المكان وما فيه من معالم أثريّة وتاريخيّة ودينية يعطي المتلقي فكرة عن جذور المكان ومن تواجد فيه، وكيف أنّ هناك تعاقب الأديان والمعتقدات مسألة طبيعيّة في فلسطين، وليست جديدة.

وهنا تناول الزّواحف، وما هو المفيد منها كالحنش:

 "هذا حَنَشٌ مقتولٌ... يا للخسارةِ!

سألتْها أمُّ جبينه مستنكرةً وساخرةً:

خسارةُ ماذا يا بنت؟

زينب: خسارةُ أحدِ الزّواحفِ التي تُغْني الطّبيعةَ"، نلاحظ أنّ السّارد يستخدم لغة الحوار في تقديم المعلومة، وهذا ما يجعلها ترسخ في المتلقي، فالحديث يدور عن حنش ميّت، وهذا كان فاتحة للحوار بين "جبينة" ووالدة جبينه، التي بينت لها أن الحنيش يقوم بقتل الأفاعي السّامة والزّواحف المؤذية.

وهناك حديث عن الثّعلب ومكره، وأيضا عن السّلحفاة وطبيعتها المسالمة، وحديث عن العقارب وخطورتها، ويحدّثنا عن الفرق بين الماعز والنّعاج، كلّ هذا جاء بلغة الحوار أو من خلال أحداث الرّواية، وهذا ما يبعد المعلومة/ الفكرة عن المباشرة، ويجعل وصولها سلسا وسهلا على المتلقي.

التّعدد والتّنوّع الفكريّ والعقائديّ

المعلومة السّابقة تأخذنا إلى حالة التّعدّد والتّنوّع في المجتمع الفلسطينيّ، فهو يتميّز بتعدّديّة ثقافيّة فريدة من نوعها، حيث توجد أكثر من فئة دينيّة، لكنها تنصهر معا في بوتقة واحدة لتحقيق المصلحة الوطنيّة، من هنا نجد أماكن العبادة متقاربة وحتى متلاصقة: "تجولُ بعينيْها المدينةَ، فيقعُ نظرُها على قُبَّةِ كنيسةِ القيامة، ترى الهلالَ على مآذنِ المساجد، يعانقُ الصّليبَ على أبراجِ الكنائسِ والأديرةِ، فيمتلئُ قلبُها إيمانًا." من هنا سنجد أن قرب المسافة بين المساجد والكنائس يقابله علاقة متلاحمة بين أطياف المجتمع: "لقد سجّلَتْ عشراتُ النّساء المسيحيّات، ليُشاركن هنّ وأطفالُهنّ بهذه الرّحلة، بعد أن سمعنَ من أخواتهن المسلمات" تكمن أهمية هذا المشهد في ترسيخ فكرة التّعدّد والتّنوّع في المتلقّي، فهناك أكثر من صورة/حدث تناوله السّارد يتحدّث عن انصهار المجتمع مع بعضه دون تفرقة، وهذا رد حاسم على من يدّعي أن فلسطين يجب أن تكون لدين بعينه دون سواه. 

الحكاية والرواية

تكمن أهمّيّة رواية "جبينة والشّاطر حسن" ليس في الأفكار والمعلومات التي تقدّمها فحسب، بل تتعدّاها إلى الفنّيّة التي جمعت الحكاية الشّعبيّة بفنّ الرّواية، بمعنى أنّها مزجت بين القديم والمعاصر، من هنا نجد أحداثها (مختلطة)، بحيث لا يستطيع المتلقّي أن يحدّد زمن الرّواية، وإلى أيّ زمن/عصر تنتمي الرّواية، فهناك شخصيات تراثية وتاريخية ومعاصرة "زينبُ، خيزرانة، جبينه، الشّاطر حسن، بثينة، كنعان" وبما أنّ هناك سيارات وحافلات وبرّيّة فكلّ هذا أسهم في المزج بين الماضي التّراثيّ وبين المعاصر الحداثيّ.

وإذا انتبهنا أنّ الرّواية تتحدّث عن القدس وفلسطين، ودون أي ذكر للاحتلال، فإنّنا نتأكّد أنّ السّارد أراد أن يأخذنا إلى الحياة الطبيعيّة/السّويّة/التّراثيّة الّتي تنعم بها فلسطين وشعبها.

من هنا يقدّم لنا السّارد ولادة "جبينة" بشكل الحكاية الشّعبيّة:

"من هذه المرأةُ يا أمّي؟

أجابتِ الأمُّ: هذه بائعةُ الجُبْنِ الّتي كانت سببًا بِحَمْلي بكِ.

استغربتِ جبينه ما سمعتْهُ من أمِّها، وسألتْ:

وكيف كان ذلك؟

اشتريتُ منها تنكَةَ الجبنِ التي كانت معها، قدّمتُ لها ماءً باردًا

وهي تدعو اللهَ لي، وتقول:

أسألُ اللهَ أنْ يعطيَكِ ما تشائين.

فأمّنْتُ على كلامِها، وقلتُ على مسمَعِها:

اللهُمَّ ارزقني بِنْتًا جميلةً بيضاءَ مثلَ جُبنةِ هذه المرأةِ الطَّيِّبَةِ.

فسمعَ اللهُ دعائي ودعاءَها، ورزقني إيّاكِ، فأسميتُكِ جبينه تيمُّنَا بِجُبْنَةِ المرأةِ الطّيّبة"

فهنا الحدث أقرب إل الحكاية الشّعبيّة منه إلى حدث روائيّ معاصر، بل فيه استفادة من حكاية جبينة التّراثيّة، لكنّه عندما يتحدّث عن الشّاطر حسن فإنّ الحدث يتداخل بين الشّعبيّ والمعاصر: "سَمِعَ الشّاطرُ حسن، وهو ابن شاه بندر التّجّار في المدينةِ المُقدّسَةٍ، وأكثرهم وسامةً وشجاعةً برغبةِ أطفالِ المدينةٍ في زيارةِ براري القدس، بعدَ أنْ قصّتْ عليهم جبينه بنتُ كنعان عن مشاهداتها في تلك البراري، فقرّر تلبيةَ رغبةَ الأطفالِ هذه. ذهبَ إلى المسجدِ الأقصى، وطلبَ من الخطيبِ أنْ يُعلنَ عن بابِ التّسجيلِ لمن يرغب بزيارةِ البراري، وقضاء يومِ الجمعة القادمِ فيها على حسابِ الشّاطرِ حسن بن شاه بندر التّجار" وهذ الثّنائيّة تأخذنا إلى المزج بين المواطنين مسلمين ومسيحيّين، وبين ودور العبادة، المسجد والكنسية، وكأنّ أحداث الرواية وشكل تقديمها يدفع القارئ؛ ليكون منفتحا على الآخرين، ويتعامل معهم على أنّهم جزء منه وليس (غرباء عنه).  

صدرت رواية "المهطوان" للأديب رمضان الرواشدة عام 2022، وتقع في 110 صفحات من الحجم المتوسط.

يتبوّأ التحليل اللغويُّ مكانة مرموقة كأداة هامّة من أدوات فهم الأدب ونقده، كما يساعد في فهم رسالة النص التي يريدها الكاتب، وهل النص الأدبي إلا لغة وهل اللغة إلا أصوات متآلفة ومفردات وتراكيب يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم ،لذا سأعرّج في هذه العجالة على بعض الجوانب اللغوية في رواية (المهطوان) للأديب رمضان الرواشدة وسأقف عند جوانب محدّدة من نحو وأسلوب وبلاغة وسمات عامة طغت على لغة الأديب مكتفياً من القلادة بما أحاط بالعنق .

 لعلّ أول شيء يستوقف القارئ لرواية المهطوان العنوان (المهطوان) وهو عنوان فيه مافيه من الجدّة والغرابة اللغوية التي تدفع القارئ دفعاً إلى الولوج في الرواية لفهم المراد ليجد أنّ هذه المفردة بما فيها من مبالغة في زيادة الألف والنون في آخرها وما فيها من جرس قوي ،وصفاً لازماً لبطل الرواية وقد حُوّر اللفظ من مثَل كان يستعمله أهل حيفا حين يقولون:  (فلان طويل مثل مطوان حيفا)  ومطوان حيفا رجل فارع الطول عظيم الجسم، ولا شكّ أن هذا الاسم يحمل من الرمزيّة ما يحمل مثلما حملت أسماء الرواية بعامة كعودة ونضال وعزّام…

ومن حيث الأسلوب نرى ألفاظ الكاتب منتقاة فصيحة في مجملها وقد يستعمل الكاتب بين الفينة والأخرى مفردات عاميّة جعلت الرواية قريبة من نبض الشارع وإيقاع المجتمع،(وين ابوك؟ ،أمي معدّلة ،ياما كنت أعاني ، شو آخر هالقراية )

ومن حيث التراكيب طغت الجمل الفعليّة ولاسيّما الفعل المضارع وبخاصّة في الأشعار المنتقاة، والجملة الفعليّة -لا جرم-تدلّ على التجدّد والتغيّر والحدوث بخلاف الجملة الاسميّة التي تدلّ على الثبوت والاستقرار،وهذا يدركه أكثر ما يدركه أهل البلاغة والأديب منهم ؛ فقد جاءت التراكيب ملائمة للمعنى من جهة وملائمة لديناميكية الأحداث المتماهية مع الواقع السياسي والاجتماعي من جهة أخرى، كما طغى الأسلوب الإنشائي من أمر ونهي واستفهام وتعجّب ونداء، ولعل الجمل الإنشائية تدلّ على الانفعال العاطفي الموائم للمرحلة المتأزّمة وما يموج فيها من أحداث مفصليّة، وهذا يدلّ على أنّ الرواية تنبض في أسلوبها بإيقاع المجتمع وهذا يشي بامتزاج البعد السياسي والاجتماعي مع البعد اللغوي البنائي.

وأما الوصف فقد تنوّع بين السرد المنوّع غير الرتيب وبين الحوار اللفظي والداخلي "المونولوج" الذي عبّر عنه أحياناً القرين، وهو ابتكار يُحسب للكاتب، وهذا التنوّع في الوصف أعطى حركة بعيدة عن الرتابة فضلاً عن التشويق الذي أخذ بتلابيبنا كقرّاء وأجبرنا ألا نترك الرواية حتّى نرى إلى أين ستنتهي بنا .

ومن حيث اللغةُ البلاغيَة فقد هجعت في الرواية تعابير مجازيّة وبلاغيّة سامقة من استعارة وكناية وتشبيهات ،وماج الشعر المنثور في ثنايا الرواية بصور مجنّحة رفعت من أدبيّة الرواية، وقد قيل: "النثر مشيٌ والشعر رقص"  والكاتب ههنا جمع في نصّه بين المشي النثري والرقص الشعري، لكنه رقصٌ من نوع خاص، رقص يموج بالألم والمعاناة ومعاني الفقد ولوعة اليتم "والطير يرقص مذبوحاً من الألم "

وإذا كانت الرواية قد تناولت مرحلة تاريخية ليست بالقصيرة من عام 1986 حتّى عام 2003 فإن الرواية ناءت بما حشدت من أحداث جسام في مئة ورقة ونيّف ،وهذا جعل لغتها لغة مكثّفة بما حملت ، كما جعل اللغة السياسيّة تطغى على اللغة الأدبيّة في بعض ثنايا الرواية - وهو قليل - وإن حاول الأديب الابتعاد عن ذلك، فيجد القارئ نفسه أمام تقرير صحفي أو سرد إخباري ولا سيّما عند الحديث عن الاحتجاجات والمظاهرات ..

التراث ولغة الرواية :

رغم أنّ لغة الرواية لغة حداثيّة إلا أنها لم تقطع صلتها بالتراث ،فكان الكاتب وفيّاً للموروث بكلّ مافيه غير منسلخ منه، كيف لا وهو ابن هذه البيئة ترعرع فيها وذاق من الكأس التي شربت منها شخصياته، ومن ملامح التراثيّة في لغة الأديب تناصيها مع النصوص الدينيّة سواء في الكتاب المقدّس؛ "نشيد الإنشاد " أو مع القرآن الكريم كقول الكاتب "لماذا لم تضعيه في تابوت وترميه في الماء "وقوله :"كنت في المهد صبيّا" ،وقوله :"سلام عليها يوم كانت ويوم خربت ويوم تصبح ذكرى"، وقوله: " وجاء من أقصى القرية رجلً يسعى "

ومن ملامح التراثيّة في لغة الأديب ذكر الأغاني الشعبيّة (الشيخ إمام وفيروز)  ،وذكر الأكلات الشعبيّة (المجدّرة والجميد) وذكر المعتقدات السائدة آنذاك مع ما فيها من غرابة (طاسة الرعبة وإخراج الأفعى من البطن وما إلى ذلك.. )

فحال أديبنا مع هذه الملامح التراثيّة المتبدّيّة في نصّه الحداثيّ كحال شاعر الهند طاغور حين قال "أفتح النافذة على مصراعيها وأسمح للريح أن تدخل حجرتي على ألا  تقتلعني من جذوري… "

لقد سكبت الرواية بقالب لغوي مبدع معبّر بسبكه وخياله وواقعيته ما يجعلك تتساءل أين يمكن تصنيف هذه الرواية أهي رواية إبداعيّة رومانسية ،أم هي رواية واقعيّة ملتزمة ،أم هي رواية رمزيّة؟! أم هي كلّ هذا؟

وأياً يكن لقد كانت الرواية دفقة شعوريّة عبّرت بلغتها المبدعة عن مرحلة تاريخيّة مفعمة بالأحداث المفصليّة، وربّما لم يخطر في بال أديبنا الرواشدة أيّاً من هذه الاعتبارات عند كتابة هذه التحفة الأدبيّة السامقة، فحاله مع روايته كحال المتنبّي مع قصيدته :

أنام ملء جفوني عن شواردها

                 ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ

عن مكتبة كل شيء في حيفا صدرت مؤخّرا رواية الفتيات والفتيان"جبينة والشّاطر حسن" للأديب المقدسيّ جميل السلحوت، وتقع الرّواية التي منتجها وأخرجها وصمّم غلافها شربل الياس في 110 صفحات من الحجم المتوسّط.

من الغلاف الأوّل الذي يحمل اسم الرّواية "جبينة والشّاطر حسن"، يلاحظ القارئ أنّ الكاتب استعمل حكايتين شعبيّتين مشهورتين هما "جبينه والشّاطر حسن"، وعند قراءة الرّواية يرى القارئ أنّ الكاتب قد استفاد كثيرا من هاتين الحكايتين، فخلط القديم بالجديد، والماضي بالحاضر، بطريقة سلسة وماتعة؛ ليقدّم للجيل الصّاعد وجبة أدبيّة دسمة، وليلفت انتباههم إلى كنوزنا الثّقافية الشّعبيّة.

 كتبت الرواية بلغة سهلة وسردية مشوّقة ممتعة للقارىء. تدور أحداثها حول  

 العديد من الأمور والمعلومات المتنوعة المعرفية الغنية تاريخيا وثقافيا وحضاريا وغيرها، والتي أشار اليها الكاتب من خلال شخوص الرواية.

سلط الكاتب الضوء في روايته على مكانين مهمين أوّلهما جوهرة المدائن القدس  الشّريف وثانيهما براري القدس عرب السواحرة.

أمّا بالنسبة لشخوص الروايه كما ورد في الرواية، فمنهم من سكن في بيت المقدس  البلده القديمة، وتحديدا في حيّ باب الأسباط وهم الطفلة جبينة ووالداها كنعان وبثينة،  وبعض التجار كالشاطر حسن وأسرته وأطفال الحيّ وغيرهم ... ومنهم من سكن في براري السواحرة ( وضحه وأسرتها البدوية، وزينب وأسرتها التي انتقلت بعد وفاة الوالد الى العيش في حي بسيط من أحياء مدينة بيت لحم بسبب الفقر وضيق الحال).

القدس دوما حاضرة وبقوّة في مؤلفات الكاتب، وذلك لأهميتها التاريخية والدينية والوطنية ومعالمها الحضارية الأثرية العملاقة والعريقة.

جاء في الرواية العديد من أماكن القدس المقدسة والأحياء والحارات، تحديدا قبة الصخرة والمسجد الأقصى وأكنافه، كنيسة القيامة وحيّ باب حطّة، برج اللقلق، حارة السعدية، باب العامود، زقاق وأسواق البلدة القديمة وسورها.

أراد الكاتب من خلال روايته أن يعيد المجد والأهمية الكبرى ( لبراري القدس)، وما يحيط بها من جهاتها الأربعة من مدن وقرى، وطبيعة جغرافية وأماكن أثرية تاريخية ذات أهميه كبرى في بلادنا فلسطين، وكان ذللك واضحا من خلال وصفه وسرده الشيق لبيئة براري السواحرة، حيث الغطاء النباتي والحيواني المتنوّع والموقع المرتفع المطل والمشاهد الطبيعية الخلابة التي تستحق المشاهدة والتأمل.

من صفحة 5-10 أراد الكاتب من خلال روايته هذه أن يوضح لليافعين المفارقات بين بيئة المدينه وبيئة البراري والقرى المجاورة، بحيث لا يمكن استغناء الواحدة عن الأخرى، فكلاهما يكملان لبعضهما البعض، ولكل منهما مذاق خاص يتحلى بأبهى المشاهد والحياة الممتعة المتنوعة.

كثيرة هي المعالم الأثرية التي وردت في الرواية بوصف شيّق دقيق لها على لسان شخوص الرواية، كوالد جبينه كنعان الذي كان يحدث ويعرًف ابنته وصديقاتها وضحه وزينب على المواقع الأثرية، والمدن والقرى وسلاسل الجبال والأودية والكهوف الموجودة في براري السواحرة، على سبيل المثال جبل المنطار، الدمنة، الزارنيق، البقيعة،  دير مار سابا في العبيدية، الخان الأحمر، ومقام النبي موسى وغيرها.

من الصفحة 16-19 كان السرد ممتعا جدا عن جمال البرية في فصل الربيع، حيث الأعشاب المتنوعة كالخبيزة والعكوب واللوف والحميض، سلق، علك، حويرنة وغيرها .. فكلها معلومات معرفية شيقة تثري القراء وتحديدا اليافعين لأهمية الغطاء النباتي المتنوع في بلادنا، وكذللك تعريفهم بتنوع الثروة الحيوانية كما جاء على لسان وضحه وزينب، كونهما من سكان البرية وحديثهم للطفلة جبينه عن الضار منها والنافع من حيوانات وزواحف وحشرات وغيرها...كما عرف الكاتب

أيضا بالمصانع المشهورة في مدينة الخليل كمصنع الجلود، وذللك من خلال قصة الثعلب النافق في الرواية في براري السواحرة ص16.

من صفحة 24-25 جاء في الرواية صورة مشرقة  للتسامح والتآخي الديني  بين المسلمين والمسيحين في بلادنا، وذللك من خلال رحلة البراري التي اقترحها الشاطر حسن، حيث أخبر إخوته المسيحيين بالاتفاق بين إمام المسجد وبطريرك المدينة لتعميم الرحلة وموعدها.

ص 53-55 تحوي الرواية العديد من القيم التربوية والإنسانية كالأمانة، الصدق، الأخلاق، الكرم وحسن الضيافة، وتحوي أيضا العديد من المشاعر المؤثره كالفرح الحزن .الحب. الغضب. الضحك . الفكاهه.. الخ.

ص91-101 تطرح الرواية أهمية الحفاظ على التاريخ وحمايته من عبث الغرباء والطامعين، وجاء ذلك من خلال قصة اكتشاف الكنز في جِرار مزركشة في وادي الدكاكين بالصدفة من قبل زينب وجبينه، وهنا استخدم الكاتب ( الخيال الواسع) .. فالكنز كان يحتوي على عملات ذهبية نادرة، وتمثالين من الذهب الخالص الأول يمثل آلهة الكنعانين عشتار، وهو إله الحب والإخصاب والربيع. والثاني يمثل  اشمون إله الشفاء، وأمّا العملات فقد تبين بعد فحصها من قبل راهب عربي أنها عملات آرامية قديمة يعود تاريخها الى أكثر من ٥٠٠ الف عام قبل ميلاد المسيح، .. حيث يريد هنا الكاتب أن يؤكد على شرعية الأرض لأصحابها الأصليين  لأجدادنا، ولإثبات التاريخ العريق لبيت المقدس.

ص103-105سلط الكاتب الضوء على أهمية التعليم حيث التحقت جبينه وزينب -التي أصبحت بمثابة أختها- بالكتّاب في المسجد الاقصى .. وهذا الموضوع هو دوما ما يكون من اهتمامات الكاتب الذي يشير إلى ضرورته في العديد من مؤلفاته.

كما لا تخلو الرواية أيضا من تللك الأناشيد التراثية الممتعة، التي اعتاد الكاتب ان يدرجها في معظم مؤلفاته الخاصة، تأكيدا على أهمية تراثنا العريق لحكايا وأساطير قديمه للأجداد.

الروايه بشكل عام ممتعة شيقة تناسب جميع الفئات العمرية وتحديدا اليافعين .. لما تحويه من قيم تربوية وإنسانية ووطنية، تنمي روح التمسك بالأرض ورائحتها، والانتماء للوطن وضرورة الحفاظ على تاريخه والدفاع عنه وحمايته من عبث الغرباء والطامعين.

 ملاحظة: هناك خطأ مطبعي صفحه 64، "ابتسمت أمّ زينب وقالت .. وليس أمّ جبينه.

المزيد من المقالات...