التثقيف العكسي والمسكوت عنه

قبل الدخول في صلب الموضوع، وهو الحديث عن المسكوت عنه لدى السيد منير الخباز –حفظه الله- بخصوص الفرق بين الولاية العامة والأمور الحسبية، فإنه من المهم الحديث عن إشكالية أخرى نعاني منها في مجتمعاتنا تتعلق بهذه المسألة؛ غير ما ذكرناه سابقاً من  استعمال (سلطة) الولاية العامة حتى من قبل بعض الذين لا يرون ثبوتها، حيث ذكرنا بأن بعض هؤلاء يستعمل الولاية العامة فقط (كسلطة) لفرض إرادته على الآخرين، ولكنه يتبرأ منها إذا ما طُولب ببعض (المسؤوليات والأدوار) التي يتطلب منه القيام بها.

وفي هذا الجزء أود أن ألفت الانتباه إلى إشكالية أخرى نُعاني منها أيضاً، وهي ما أسميه بـ (التثقيف العكسي) إن صح التعبير، ومرادي من ذلك أن بعض من لا يرى ثبوت الولاية العامة للفقيه لا يكتفي بممارسة (سلطة) الولاية العامة فحسب، بل نجده أيضاً من أشد الناس حرصاً على تثقيف عموم المجتمع بمضمونها، وقد يتساءل البعض: كيف يكون التثقيف على مضمون الولاية العامة من قبل بعض الذين يعارضونها وينتقدونها؟!

وللإجابة أقول: أن هناك تناقضاً بين ما يطرحه البعض في الكتب والأبحاث الاستدلالية بخصوص هذه المسألة، وبين ما يطرحه على عموم الناس في الخطابات العامة، وبالخصوص في الخطابات المنبرية، فمثلاً نجد هؤلاء عندما يريدون تعزيز مكانة العلماء لدى عموم أفراد المجتمع يرددون على مسامعهم هذه الروايات "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله"، "العلماء ورثة الأنبياء"، "العلماء أمناء الرسل"، "مجاري الأمور بيد العلماء" وغيرها من الروايات الأخرى، بيد أنهم أنفسهم قد يكونون ممن يتبنون اتجاهاً لا يرى صحة ثبوت هذه الروايات، لأن العلماء المحسوبين على الاتجاه الذي يتبنونه ينقدونها في كتبهم وأبحاثهم الاستدلالية، حيث يناقشونها رواية رواية ويردونها بأجمعها، وذلك لعدم ثبوت صحتها لديهم، وهذا أمر طبيعي، لأنه لو ثبتت لديهم صحة هذه الروايات لكانوا من القائلين بالولاية العامة، لأن هذه الروايات هي من أهم الأدلة التي يستدل بها القائلون على ثبوت الولاية العامة للفقيه.

          ولا أنسى أن أحدهم خطب ذات يوم خطبة للدفاع عن السيد الخوئي -قدس سره- في وجه أحد الذين انتقدوا منهجه في التعامل مع الروايات، إذ عد هذا الخطيب هذا النقد إساءة بالغة للسيد الخوئي ولمقامه العلمي، ولأجل ذلك أورد في مقدمة حديثه بعض هذه الروايات التي تدعم موقفه في إثبات منزلة العلماء بشكل عام ومنزلة السيد الخوئي بشكل خاص، ولكنه غفل عن كون السيد الخوئي نفسه ناقش هذه الروايات في كتبه الاستدلالية وضعفها، وذلك عندما كان بصدد بحث مسألة الولاية المطلقة للفقيه، حيث قال: "وتفصيل الكلام في ذلك: أن ما يمكن الاستدلال به على الولاية المطلقة للفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة اُمور: الأول: الروايات كالتوقيع المروي عن كمال الدين وتمام النعمة، والشيخ في كتاب الغيبة والطبرسي في الاحتجاج: «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله ...» نظراً إلى أن المراد برواة حديثنا هو الفقهاء دون من ينقل الحديث فحسب. وقوله (عليه السّلام): «مجاري الاُمور والأحكام بيد العلماء بالله الاُمناء على حلاله وحرامه...». وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «الفقهاء اُمناء الرسل...» وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أللّهم ارحم خلفائي ثلاثاً قيل يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الّذين يأتون بعدي يروون حديثي وسنتي» وغيرها من الروايات.وقد ذكرنا في الكلام على ولاية الفقيه من كتاب المكاسب أن الأخبار المستدل بها على الولاية المطلقة قاصرة السند أو الدلالة وتفصيل ذلك موكول إلى محلّه"[1].

          وهذا العبارات من السيد الخوئي تكشف لنا وبكل وضوح مقدار الازدواجية التي يعاني منها البعض، فمن جهة نجدهم في الخطاب العام يثقفون الناس على مضمون الولاية العامة ويرددون الروايات التي يستدل بها عليها، ومن جهة أخرى نجدهم يتبنون اتجاهاً آخر كاتجاه السيد الخوئي الذي ينفي ثبوت هذه الولاية لعدم ثبوت صحة هذه الروايات!! وفي اعتقادي بأن ما يفعله هؤلاء من تثقيف عكسي قد يكون هو من أهم الأمور التي تجعلهم يتمكنون من ممارسة ما أسميته بـ (سلطة) الولاية العامة، لأن هذا الأمر يهيئ لهم الأرضية الخصبة التي تمكنهم من فرض نفوذهم وسيطرتهم على الآخرين.

وكشاهد آخر على كلامي من قيام البعض بالتثقيف العام على مضمون الولاية العامة؛ هو ما عايشته بنفسي في صغيري، حيث كان أحد رجال الدين الذين لا يؤمنون بولاية الفقيه العامة يدرسنا كتاب (عقائد الإمامية)، على الرغم من أن الشيخ المظفر في هذا الكتاب أكد على الولاية العامة، وذلك بقوله: "وعقيدتنا في المجتهد الجامع للشرائط: إنّه نائب للامام عليه السلام في حال غيبته، وهو الحاكم والرئيس المطلق، وله ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس، والراد عليه راد على الامام، والراد على الامام راد على الله تعالى، وهو على حدّ الشرك بالله، كما جاء في الحديث عن صادق آل البيت عليهم السلام. فليس المجتهد الجامع للشرائط مرجعاً في الفتيا فقط، بل له الولاية العامة، فيُرجع إليه في الحكم والفصل والقضاء، وذلك من مختصّاته؛ لايجوز لاَحد أن يتولاّها دونه، إلاّ بإذنه، كما لا تجوز إقامة الحدود والتعزيرات إلاّ بأمره وحكمه. ويرجع إليه أيضاً في الاَموال التي هي من حقوق الامام ومختصّاته"[2].

          فهذا الكلام من الشيخ المظفر يدل دلالة واضحة على كونه ممن يتبنى ولاية الفقيه العامة، والعجيب أن البعض يمتدح ما جاء في هذا الكتاب  وينصح بتدريسه بكامله، وهو ممن لا يتبنى ولاية الفقيه العامة، بل ربما إذا أثيرت أمامه مسألة الولاية العامة نجده من أبرز المتحمسين لنقدها ومهاجمتها، وهذا ما يؤكد ما كررناه سابقاً من أن البعض يريد الولاية العامة فقط (كسلطة) دون الالتزام بأداء مسؤولياتها، ولذلك نجده يحرص على تثقيف الناس على مضمونها لتحقيق هذا الغرض، وأما من ناحية قناعاته فهو يرفضها ويتبرأ منها أيما تبرأ.

 

 

 

السيد الخباز والتثقيف العكسي

إن هذه الازدواجية بعينها -أعني التثقيف العكسي- هي ما وقع به السيد منير الخباز أيضاً، حيث رأيناه يثقف الناس بأمر دون أن يكشف لهم وجه الحقيقية فيه كما هو عليه الحال في الأبحاث والكتب الاستدلالية، ففي محاضرته (كيان المرجعية صمام الأمان) وهي نفسها المحاضرة التي حاول فيها إيجاد المقاربة بين الولاية العامة والأمور الحسبية تحدث السيد الخباز عن ما أسماه بـ (المنطلق التخصصي لموقع المرجعية)، وذكر بأنه هناك عدة عناوين وردت في النصوص (الآيات والروايات) وهي: 1.عنوان التفقه في الدين. 2.عنوان النظر.3.عنوان الأمانة"[3].

وبعدها ذهب لشرح المراد منها، وما يهمنا هنا هو ما استشهد به من نصوص في العنوان الثاني والثالث: ففي العنوان الثاني وهو (عنوان النظر) استدل السيد الخباز بمقبولة عمر أبن حنظلة والتي جاء فيها: "أنظروا إلى من كان منكم ممن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا فرضوا به حكماً فأني قد جعلته عليكم حاكم"[4].

والمشكلة هنا أن هذه الرواية غير معتمدة عند السيد الخوئي، لأن عمر بن حنظلة لم يوثق في كتب الرجال، بل إن السيد الخوئي في كتابه معجم رجال الحديث في ترجمته لعمر بن حنظلة قال: "أقول: إنّ الرجل لم ينص على توثيقه، ومع ذلك ذهب جماعة منهم الشهيد الثاني إلى وثاقته، واستدلّ على ذلك بوجوه"[5]. وبعدها ذكر السيد الخوئي الوجوه التي استدل بها على وثاقته وردها بأجمعها واحداً تلو الآخر[6]. ولذلك لا أدري كيف يصح الاستدلال بهذه الرواية لإثبات موقعية المرجعية الدينية عند أتباع السيد الخوئي نفسه؟![7]

والأمر الآخر هو ما استدل به السيد الخباز على ما أسماه بالعنوان الثالث وهو (عنوان الأمانة)، حيث استدل على ذلك برواية عن الإمام الحسين (ع): "مجاري الأمور بيد العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه"[8]. وقد مر بنا بأن السيد الخوئي عد هذه الرواية من ضمن الروايات التي يستدل بها على ولاية الفقيه المطلقة، وأنه يرى بأن هذه الروايات قاصرة السند أو الدلالة[9]، بل إن السيد الخوئي علق على هذه الرواية بالخصوص في مورد آخر من كتابه بقوله: "وكذا قوله (عليه السلام) «مجاري الاُمور بيد العلماء بالله الاُمناء على حلاله وحرامه» فإنّ العالم بالله ليس إلاّ الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) وأنّهم هم الذين بيدهم مجاري الاُمور، فلو تنزّلنا وفرضنا أنّ المراد بالعالم هو الفقيه فقوله (عليه السلام): «الاُمناء على حلاله وحرامه» قرينة على أنّ مجاري الاُمور من حيث الأحكام والحلّية والحرمة بيد الفقيه إذ لو لم يبيّن حلّية بعض الأفعال وحرمة بعضها الآخر لتوقّفت الاُمور وتحيّر الناس لعدم العلم بحكمه، فهو لا يدلّ على الولاية المطلقة بوجه، وإنّما يدلّ على أنّ للفقيه أن يبيّن الحلال والحرام، وأمّا نفوذ تصرّفاته في الأموال والأنفس فلا كما هو أوضح من أن يخفى"[10]. وفي هذا المورد يرى السيد الخوئي بأن المراد بالعلماء في هذه الرواية هم الأئمة (ع)، وبعدها يناقش ما إذا كان المراد بهم العلماء من باب التنزل والافتراض ليس إلا كما هو واضح.

وأما الشيخ التبريزي وهو الذي استشهد به السيد الخباز لشرح مراد السيد الخوئي حول الأمور الحسبية، فقد علق على هذه الرواية بقوله: "أقول لو كان المراد من الحديث ما ذكر لكان الحديث والامور والاحكام بيد العلماء اذ لاحاجة الى اضافة المجاري ليحتاج في معناها الى التكلف بل ظاهر الحديث بملاحظة ما قبله وبعده بان امور الله وناصبه التي وقعت بايدي غير اهلها مجاريها بيد العلماء بمعنى انهم لو اظهروا الحق ولم يتفرقوا عنه ولم يختلفوا في السنة بعد البينة لكانت جارية في مجراها وكان المتصدي لها اهلها المقرر لها في السنة. مع ضعف الرواية سنداً"[11].

ولذلك فمن الغريب جداً أن يستدل السيد الخباز بهذه الرواية على خلاف ما هو موجود في الكتب والأبحاث العلمية الاستدلالية للسيد الخوئي وللشيخ التبريزي، وبالخصوص وأنه كان بصدد المقاربة بين رؤية السيد الخميني في الولاية العامة ورؤية السيد الخوئي في الأمور الحسبية، وأنه أيضاً استعان بشرح الشيخ التبريزي لكلام السيد الخوئي حول هذا الأمر.

والأكثر غرابة من ذلك أنه في مورد آخر من نفس المحاضرة (كيان المرجعية صمام الأمان) عكس الأمر تماماً، إذ تنكر لأمر يؤكد عليه بعض العلماء في كتبهم وأبحاثهم الاستدلالية، وذلك عندما كان بصدد الحديث عن علاقة بعض العلوم ومدخليتها بعملية الاجتهاد والاستنباط الفقهي، حيث قسم العلوم إلى الأقسام التالية[12]:

§أولاً: علوم دخيلة دائماً في عملية الاستنباط كعلم أصول الفقه، ولذا يشترط أن يكون الفقيه متخصصاً ومتمرساً من علم الأصول كما هو متخصص في علم الفقه، لأنه لا توجد عملية استنباط يمكن الاستغناء فيها عن علم الأصول. ثانياً: علوم دخيلة ولكن ليست دائماً في عملية الاستنباط كعلوم اللغة أو علم الرجال، ولذا يشترط في الفقيه أن يكون متخصصاً في علم اللغة وفي علم الرجال، لأنها علوم دخيلة في عملية الاستنباط. ثالثاً: علوم دخالتها نادرة في عملية الاستنباط كعلم الفلسفة، ولذا لا يشترط في الفقيه أن يكون فيلسوفاً، لأن الفلسفة نادرة الدخل في عملية الاستنباط، ولو رجعنا إلى علم الأصول لعله ثلاث مسائل لا أكثر يكون علم الفلسفة دخيل فيها. رابعاً: علوم ليس لها دخل في عملية الاستنباط كعلم الكلام (علم العقائد)، ولذا لا يشترط التخصص فيه وليس شرطاً في حجية فتوى الفقيه، ولا دخل له بعملية الاستنباط، لأن علم الكلام تخصص مستقل عن  علم الفقه، ولا يشترط في الفقيه أن يكون متخصصاً فيه، لأنهما تخصصان مختلفان.

ونلاحظ من خلال هذا العرض لرؤية السيد الخباز بأن ما ذكره بخصوص علم الفلسفة من كونها نادرة الدخل في عملية الاستنباط الفقهي وأن مدخليتها قد لا تتجاوز ثلاث مسائل لا أكثر، لا ينسجم أبداً مع ما هو معروف من علاقة الفلسفة بعلم الأصول وتأثيرها البالغ فيه، وهذا الأمر هو مما يجعل للفلسفة مدخلية في علم الأصول الذي هو من العلوم دائمة الدخل في عمليات الاستنباط الفقهي كما يقول السيد الخباز، ولذلك فلابد أن يكون الفقيه ملماً بالفلسفة على الأقل من هذه الجهة، لأن تأثيرها في علم الأصول واسع جداً.

ويذكر الشهيد السيد محمد باقر الصدر بأن الفلسفة من ضمن مصادر الإلهام في الفكر الأصولي، حيث يتحدث عنها بقوله: "وهي لم تصبح مصدر الإلهام الفكر الاصولي في نطاق واسع إلا في العصر الثالث تقريباً، نتيجةً لرواج البحث الفلسفي على الصعيد الشيعي بدلاً عن علم الكلام، وانتشار فلسفات كبيرة ومجددة، كفلسفة صدر الدين الشيرازي المتوفى سنة (1050هـ)، فإن ذلك أدى إلى إقبال الفكر الأصولي في العصر الثالث على الاستمداد من الفلسفة واستلهامها أكثر من استلهام علم الكلام، وبخاصة التيار الفلسفي الذي أوجده صدر الدين الشيرازي. ومن أمثلة ذلك: ما لعبته مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية في مسائل أصولية متعددة، كمسألة اجتماع الأمر والنهي، ومسألة تعلق الأوامر بالطبائع والأفراد، الأمر الذي لا يمكننا فعلاً توضيحه"[13].

وإذا كانت الفلسفة من مصادر علم الأصول أو من مصادر الإلهام في الفكر الأصولي كما يعبر الشهيد الصدر، فمن الصعب تحجيم تأثيرها  في حدود ثلاثة مسائل لا أكثر كما يقول السيد الخباز !

ومما لا يكاد ينقضي منه العجب أن السيد الخباز نفسه في تقريراته لأبحاث السيد السيستاني في كتاب (الرافد في علم الأصول) أكد على ذلك بقوله: "وقد ركزنا في بحوثنا على بعض الشذرات الفكرية التي تلتقي مع حركة التطوير لعلم الأصول من خلال الاستفادة من العلوم المختلفة قديمها وحديثها كالفلسفة وعلم القانون وعلم النفس وعلم الاجتماع ومن خلال محاولة التجديد على مستوى المنهجية وعلى مستوى النظريات الكبروية استمداداً من كلمات الأعلام (قدهم) في عدة حقول"[14]. وبعدها تحدث عما أسماه بالحقل الفلسفي وذكر بأن "هناك عدة نظريات فلسفية ذكرناها في علم الأصول ورتبنا عليها بعض الأفكار الأصولية"، وذكر منها نظرية التكثر الإدراكي ونظرية وحدة الموجود[15].

وأما في المبحث الرابع من نفس الكتاب فقد عقد السيد الخباز بحث بعنوان (الارتباط بين الفكر الأصولي والفلسفي) وبحثه في ثلاثة جوانب: الأول تأثر الفكر الأصولي في الفلسفة. الثاني في عوامل هذا التأثر. الثالث في آثار هذا التأثر[16]. وكل ما ذكرناه سابقاً يدل دلالة واضحة على التأثير الكبير للفلسفة في علم الأصول الذي يؤكد السيد الخباز نفسه بأنه دائم الدخل في عملية الاستنباط الفقهي.

          ومما يدلل على كون تأثيرات الفلسفة في علم الأصول واضحة جداً، وليس كما يحاول أن يصوره السيد الخباز، هو أن بعض العلماء عد هذا الأمر من ضمن الأمور السلبية التي انتقد بموجبها علم الأصول لتأثره بها (أي بالفلسفة)، أعني بكلامي هذا الشيخ محمد مهدي شمس الدين، حيث انتقد تأثير الفلسفة في علم الأصول بقوله: "في علم الأصول حدث خلل، برأيي، وهو أن علم الأصول تأثر في وقت مبكر جداً بعلم الكلام والفلسفة، فأصبح شيئاً فشيئاً مقصداً بذاته، بينما هو آلة، مجرد منهج، وسيلة، وازداد تعقيداً بدخول المصطلح الفلسفي ومناهج البحث الفلسفي، كأن نبحث عن أصالة الوجود أو أصالة الماهية مثلاً ضمن مسألة أصولية نتعامل فيها مع نص منطوق موحى به في السنة أو الكتاب...". إلى أن يقول: "فنحن أصبحنا في علم الأصول، في كثير من الحالات، نذهب بوسيلة إلى غاية أخرى، وتحول علم الأصول في كثير من الموارد إلى غاية بحد ذاته، وهذه ناحية شديدة الخطورة، وأعتقد أنها شلت الفقه الإسلامي في جوانب كثيرة، وانعكست على وضع الأمة وعلى العقل المسلم..."[17].

وقبل أن يقول هذا الكلام تكلم الشيخ شمس الدين عن علم الأصول قائلاً: "لقد صيغ علم الأصول وفقاً لهذه الرؤية، لا أريد أن أقول إن علم الأصول بحسب أصل وضعه كان فيه خلل، فهذا بحث آخر عظيم الأهمية، ولكن علم الأصول –باعتباره ركناً أساسياً من مكونات الاجتهاد- يجب أن يستجيب لرؤية فقهية أوسع من الرؤية السائدة الآن، وهذا يقتضي أن يفحص الفقهاء والأصوليون الشيعة الإمامية في القرنين الأخيرين تطويراً مهماً في اتجاه العمق، خرج به كثير من الأبحاث عن مجاله الأصلي، وهو الشريعة، ليجعل منه بحثاً فلسفياً– كلامياً تجريدياً، لا علاقة له بقضايا الاستنباط من الكتاب والسنة، من دون أن يساهم هذا الإطلاق في توسيع مجال الاستنباط الفقهي"[18].

ونحن إذ نستعرض هذا الرأي للشيخ شمس الدين؛ فإننا لا نريد أن نقول بأن رأيه هذا صحيح أم خاطئ، وإنما نذكره فقط وفقط لكي نبين مقدار التأثير الكبير الذي أحدثته الفلسفة في علم الأصول، ولنبين كذلك أن هذا الأمر ليس كما حاول أن يصوره السيد الخباز بتحجيم تأثيرها ربما في حدود ثلاث مسائل لا أكثر[19].

          وأما عن كلام السيد الخباز بخصوص علاقة علم الكلام (العقائد) بعلم الفقه، وأنه لا يشترط في عملية الاستنباط الفقهي الإلمام بعلم الكلام، لأنهما علمان منفصلان، فإننا سوف نعتمد لإثبات بطلان هذا الكلام على ما أورده الدكتور علي رضا فيض من أقول بعض العلماء الذين يشترطون علم الكلام (العقائد) في الاجتهاد، وذلك في كتابه (الفقه والاجتهاد)، حيث يقول: "أطلق الشهيد الثاني في كتاب القضاء من شرح اللمعة على شروط الاجتهاد بالمقدمات الست للاجتهاد، ويستعرضها على النحو التالي:1.علم الكلام. 2.علم الأصول. 3.علم النحو .4.علم الصرف. 5.علم اللغة. 6.شروط أدلة المنطق"[20].

فهنا نجد أن علم الكلام من المقدمات الست للاجتهاد لدى صاحب اللمعة كما يذكر الدكتور فيض. وكذلك ينقل الدكتور فيض ما ذكره الميرزا النائيني في فوائد الأصول ج1، ص18، حيث يقول: "ثمة علوم كثيرة تندرج ضمن لوازم الفقه والاجتهاد وأدواتهما ولا تتم عملية استنباط الأحكام إلا بها، من هذه العلوم نذكر على سبيل المثال علم الكلام والأدب العربي وعلم أصول الفقه، والعلم الأخير يعد حجر الزاوية للاجتهاد"[21].

كما ينقل أيضاً قول السيد الخميني: "لقد أحسن بعض الفقهاء حين ربطوا بين الاجتهاد والإحاطة بعلم الكلام، وذلك بالمقدار الذي يسمح للمجتهد من إبداء رأيه في مسائل من قبيل الحسن والقبح، لكيلا يكون مقلداً للآخرين في هذه المسائل"[22].

فهذه بعض الآراء لبعض العلماء الذين يشترطون كون علم الكلام ضمن شروط الاجتهاد، نعم هناك علماء آخرين ذكرهم وهم لا يشترطون ذلك، ولكنهم يرون العلم بمسائل علم الكلام من شروط الإيمان الواجب توفرها في المرجع الديني، وحول ذلك يقول صاحب المعالم: "بلى، العلم بمسائل علم الكلام المذكورة شرط للإيمان، يجب على كل مسلم تعلمها، لا أن يكون شرطه ومقدمه له"[23].  ويعلق المحقق القمي على هذا الرأي بعد نقله فقرات منه بالقول: "الحقيقة أن العلم بأصول العقائد كالتوحيد وغيره، ليس له علاقة بحقيقة الفقه والاجتهاد، بل هو شرط لتقليد المجتهد وجواز العمل بفتواه"[24].

          وبهذا يتضح وجود بعض العلماء الذين يرون مدخلية علم الكلام بعلم الفقه وبعملية الاستنباط الفقهي، وهذا الأمر بخلاف ما صوره السيد الخباز في كلامه بأنهما علمان منفصلان ولا مدخلية لعلم الكلام في الاجتهاد وعملية الاستنباط الفقهي[25]، والسيد الخباز بكلامه هذا تنكر لأمر موجود لدى بعض العلماء في الكتب والأبحاث الاستدلالية، على عكس ما فعله سابقاً إذ أكد على روايات يتم نفيها من قبل بعض العلماء في الأبحاث والكتب الاستدلالية !!

 

 

 

 

المسكوت عنه عند السيد الخباز

          لو ألقينا نظرة على بعض كلمات وكتابات ومواقف بعض المؤيدين والمدافعين عن نظرية ولاية الفقيه العامة، وألقينا نظرة أخرى على بعض كلمات وكتابات ومواقف بعض الناقدين لها وقارنا بينهما، فإننا بلا شك سوف نصل إلى نتيجة مفادها: أن ولاية الفقيه العامة ليست أمراً متفق عليه بين الجميع، وبأن للقول بها آثاراً معينة مترتبة عليها، وهذه الآثار هي مورد للثناء والمدح عند البعض ومورد للنقد والذم عند البعض الآخر، ولذلك فإن الفرق بين القائلين بالولاية العامة وغيرهم كالقائلين بالأمور الحسبية لا يمكن أن يكون فرقاً بسيطاً أو في مساحة ضيقة كما يقول السيد الخباز[26]، لأن المؤيد والمخالف كلاهما يؤكدان بدفاعهما أو بنقدهما على وجود اخلافات ليست بالبسيطة بين النظريتين.

          والأمر الآخر الذي يؤكد على وجود هذا الاختلاف، هو ما نلحظه من وجود فروق ليس بين القائلين بالولاية العامة والأمور الحسبية فحسب، وإنما بين القائلين بالولاية العامة أنفسهم والقائلين بالأمور الحسبية أنفسهم، فمثلاً نجد أن ولاية الفقيه العامة عند السيد الخميني ليست كولاية الفقيه العامة عند غيره من العلماء، سواءً ممن كانوا قبله أو ممن جاءوا بعده[27]، بل ذهب البعض إلى القول بأن ولاية الفقيه عند السيد الخميني نفسه قبل الثورة الإسلامية تختلف في بعض مظاهرها على ولاية الفقيه عنده بعدها[28].

          ويمكننا قول الشيء نفسه عن الأمور الحسبية، فالأمور الحسبية وفق المفهوم الذي يقدمه السيد الخباز تختلف عن الأمور الحسبية عند غيره كالشيخ محمد مهدي الآصفي مثلاً[29]، فالسيد الخباز ذكر أن الفرق بين الولاية العامة والأمور الحسبية في كون الولاية العامة تكون في المصالح الضرورية والكمالية بخلاف الأمور الحسبية التي يقتصر دورها فقط على الضروريات دون المصالح الكمالية، وذكر أمثلة على المصالح الكمالية بقوله: "نحو فرض قوانين لتحسين التعليم، ووفرة الإنتاج، وتعبيد طرق المواصلات، ونحو ذلك من المصالح الكمالية"[30].

          وأما الشيخ الآصفي فهو يرى بأن الأمور الحسبية "تشمل كافة المرافق الحيوية التي يأمر الشارع بها، ويرغب في إيجادها وتحقيقها، كالمشاريع العمرانية، والصحية، والثقافية، ودوائر التفتيش، والرقابة العامة على الأسواق والأسعار، ودوائر البلدية، والشرطة، والتموين، والتجارة، والاقتصاد، والصناعة، والتربية، والتعليم، والإرشاد، وغير ذلك من الأعمال والمشاريع التي يأمر الشارع بإيجادها بغض النظر عن وجود حكومة إسلامية"[31]، وهذه الأمثلة كما هو واضح يراها السيد الخباز من المصالح الكمالية وليس الضرورية، وهذا يعني أنها من مسؤوليات القائلين بالولاية العامة وليس القائلين بالأمور الحسبية، ولكن الشيخ الآصفي بخلاف السيد الخباز ذكرها من ضمن الأمور الحسبية.

والأعجب من ذلك أن الأمور الحسبية عند الشيخ التبريزي –رحمه الله-أيضاً تختلف عن الأمور الحسبية عند السيد الخباز، رغم أنه حاول الاستشهاد بكلامه في هذه المسألة لشرح كلام السيد الخوئي، لأن الشيخ التبريزي يرى التدخل في الأمور الحسبية نافذ من المتصدي لأمور المسلمين بالأمور الحسبية "فيما إذا كان مقتضى الأدلة الأولية جوازه كتهيئة مراكز الثقافة لنشر العلوم وبسط الرفاه الاجتماعي"[32]. وهذه الأمثلة التي ذكرها الشيخ التبريزي تتناسب مع أمثلة المصالح الكمالية وليست الضرورية بتعبير السيد الخباز، وهذا يعني بأنها عند السيد الخباز يقوم بها القائلين بالولاية العامة لا القائلون بالأمور الحسبية، وذلك لأنها لأنها ليست أموراً ضرورية وإنما هي أمور كمالية[33]، ولكن الشيخ التبريزي ذكرها كأمثلة للأمور الحسبية كما هو واضح.

          وهذه الإشكاليات ليست موجودة لدى البعض ممن يسعى لإيجاد المقاربة بين النظريتين كالسيد الخباز فحسب، بل نجدها أيضاً حتى عند بعض المؤيدين لنظرية الولاية العامة، حيث نجدهم أحياناً عندما يتعرضون لبعض الهجمات يحاولون القول بأن مسألة ولاية الفقيه متفق عليها بين جميع علماء الإمامية[34]، ولكنهم في نواحٍ أخرى إذا أرادوا أن يثبتوا تميز السيد الخميني على بقية علماء الإمامية نراهم يؤكدون على تميزه وتفرده نتيجة لقوله بهذه النظرية، والحقيقة أن السيد الخميني متميز فعلاً على غيره ليس في مسألة القول بأصل نظرية الولاية العامة، وإنما في مسألة ربطها بالحكومة الإسلامية وتأسيس الدولة، وإلا فهناك من قال بها قبله، وليس هدفنا في هذا المقام التطرق للولاية العامة للفقيه، وإلا لفصنا  الحديث حولها أكثر.

 

المسكوت عنه عند السيد الخباز

          سوف يتضح ذلك من خلال النقاط التالية:

أولاً: تجاهل كلام السيد الخوئي في الولاية العامة للفقيه:

شرح السيد منير الخباز في كتابه (معالم المرجعية الدينية)، وكذلك في محاضرته (كيان المرجعية صمان الأمان) المراد بالولاية المطلقة، وبين الفرق بينها وبين الأمور الحسبية، وبعدها ذكر العلماء الذين بحثوا هذه المسألة بقوله: "وقد بحثها (أي ولاية الفقيه) النراقي في العوائد ص550، وصاحب الجواهر في ج21، ص396، والشيخ الأنصاري في المكاسب ج3 ص554، وقد بحثها الإمام الخميني قدس سره في كتابه البيع ج2 ص617، وقال: "فاللفقيه العادل جميع ما للرسول والأئمة عليهم السلام، مما يرجع إلى الحكومة والسياسة، وقال: ومع اقتضاء المصالح يأمرون الناس بالأوامر التي للولي وتجب إطاعتهم"[35].

وبعدها ذكر عدة أمور هي محل للبحث والتحقيق في الكتب المعدة لهذا الأمر، وهي ما يلي: 1) هل أن من حق الفقيه الخروج المسلح على حكام زمانه، وإقامة الحكومة الإسلامية وإن كلف ذلك الدماء والأموال؟ 2) هل أن هذه الولاية بشقيها التكليفي والوضعي ثابتة للفقيه؟ 3) الأدلة على ثبوت الولاية العامة، وأشار إلى بعض الأمور وبعض كلمات السيد الخميني في هذا الشأن[36]. 4) تحدث عن حدود ولاية الأمور الحسبية، وبين سعتها بأنه من ينكر الولاية العامة للفقيه لا ينكر الولاية للفقيه في إدارة نظام بلاد المسلمين، وحفظ ثغورها وتطبيق القوانين التي تحفظ الأنفس، والأعراض، والأموال عن التلف والضياع، وكذلك لا ينكر أن يكون للفقيه دوراً فاعلاً في إدارة المجتمع[37]، ثم ذهب لشرح المراد بالأمور الحسبية وبيان الفرق بينها وبين ولاية الفقيه العامة، وهذا ما بيناه  في الجزء الأول.

ومن الملاحظ بأن السيد الخباز أتى بكلام السيد الخميني حول ولاية الفقيه العامة، وكذلك بين بعض الأدلة التي استدل بها عليها، ولكنه تجاهل إيراد رأي السيد الخوئي فيها، حيث اكتفى بشرح المراد بالولاية العامة وقفز بعدها مباشرة لبيان المراد بالأمور الحسبية محاولاً المقاربة بينها وبين الولاية العامة، ومن ثم وصل إلى هذه النتيجة بقوله: "والنتيجة أنه لا فرق بين القائلين بالولاية العامة في الأمور الحسبية في أن الجميع يرى للفقيه دوراً قيادياً في إدارة شؤون المجتمع"[38].

ولقد كان على السيد الخباز أن يذكر آراء السيد الخوئي في ولاية الفقيه العامة أولاً كما ذكر رأي السيد الخميني، إذ لا يصح أن يكفي برأي السيد الخميني في ولاية الفقيه كما فعل، ومن ثم يكتفي بالقول أن السيد الخوئي لا يرى الولاية العامة ويرى الولاية في الأمور الحسبية، ويدخل بعدها في شرح المراد بالأمور الحسبية وإثبات بأنها واسعة ولا يوجد بينها وبين الولاية العامة إلا فرق بسيط وفي حدود ضيقة[39]، لأنه لو ذكر رأي السيد الخوئي في هذه المسألة لتضح وجود فرق ليس بسيطاً ولا ضيقاً بين النظريتين.

       وإن من يتتبع آراء السيد الخوئي في كتبه الاستدلالية الفقهية، يلحظ بأن الولاية لم تثبت عنده للفقيه الجامع للشرائط بأي دليل لفظي[40] إلا في الإفتاء فقط في بعض كتبه، وفي الإفتاء والقضاء في كتب أخرى، وأما ما خرج عن ذلك  فيرى القيام به من باب الأمور الحسبية وليس من باب الولاية المعطاة والمنصوبة للفقيه في عصر الغيبة الكبرى من قبل الشارع المقدس، وسوف ننقل موارد من كلمات السيد الخوئي التي تدلل على هذا المعنى من خلال الآتي:

المورد الأول: يقول السيد الخوئي في كتاب (التنقيح في شرح العروة الوثقى): "فذلكة الكلام: أن الولاية لم تثبت للفقيه في عصر الغيبة بدليل وإنما هي مختصة بالنبي والأئمة (عليهم السّلام)، بل الثابت حسبما تستفاد من الروايات أمران: نفوذ قضائه وحجية فتواه، وليس له التصرف في مال القصّر أو غيره مما هو من شؤون الولاية إلاّ في الأمر الحِسبي فإن الفقيه له الولاية في ذلك لا بالمعنى المدعى، بل بمعنى نفوذ تصرفاته بنفسه أو بوكيله وانعزال وكيله بموته، وذلك من باب الأخذ بالقدر المتيقن لعدم جواز التصرف في مال أحد إلاّ بإذنه، كما أن الأصل عدم نفوذ بيعه لمال القصّر أو الغيّب أو تزويجه في حق الصغير أو الصغيرة، إلاّ أنه لما كان من الاُمور الحِسبية ولم يكن بدّ من وقوعها في الخارج كشف ذلك كشفاً قطعياً عن رضى المالك الحقيقي وهو الله (جلّت عظمته) وأنه جعل ذلك التصرف نافذاً حقيقة، والقدر المتيقن ممن رضى بتصرفاته المالك الحقيقي، هو الفقيه الجامع للشرائط فالثابت للفقيه جواز التصرف دون الولاية"[41]. ففي هذا المورد نجد السيد الخوئي يثبت مقام القضاء مع الإفتاء، ولكنه في موارد أخرى كما سيأتي ينفي ثبوته بدليل لفظي، ويبين بأنه يقوم به من باب الأمور الحسبية أيضاً. المورد الثاني: ما ذكره في كتاب (المستند في شرح العروة الوثقى)، حيث يقول: "وملخّص الكلام في المقام: أنّ إعطاء الإمام (عليه السلام) منصب القضاء للعلماء أو لغيرهم لم يثبت بأيّ دليل لفظي معتبر ليتمسّك بإطلاقه. نعم، بما أنّا نقطع بوجوبه الكفائي، لتوقّف حفظ النظام المادّي والمعنوي عليه، ولولاه لاختلّت نظم الاجتماع، لكثرة التنازع والترافع في الأموال وشبهها من الزواج والطلاق والمواريث ونحوها، والقدر المتيقّن ممّن ثبت له الوجوب المزبور هو المجتهد الجامع للشرائط. فلا جرم يُقطع بكـونه منصـوباً من قبل الشارع المقدّس، أمّا غيره فلا دليل عليه"[42]. إلى أن يقول: "والمتحصّل من جميع ما قدّمناه لحدّ الآن: أنّه لم ينهض لدينا دليل لفظي معتبر يدلّ على نصب القاضي ابتداءً، وإنّما نلتزم به من باب القطع الخارجي المستلزم للاقتصار على المقدار المتيقّن"[43]. المورد الثالث: ما ذكره في كتاب (مصباح الفقاهة، تقريرات الشيخ التوحيدي)، حيث يقول: "فتحصل أنه ليس للفقيه ولاية بكلا الوجهين على أموال الناس وأنفسهم، فليس له أن يزوج البنت الصغيرة ولا الأبن صغير أو كبير ولا تزويج ابن صغير ولا يجوز له بيع داره إلا أن يكون الصغير بدون ذلك في معرض التلف فيدخل تحت الأمور الحسبية".

ومن مجموع ما تقدم من عبارات السيد الخوئي يتضح لنا عدم ثبوت أي نحو من الولاية المنصوبة والمجعولة للفقيه الجامع للشرائط لدى السيد الخوئي إلا في الإفتاء فقط، وأما ما زاد على ذلك –حتى القضاء- فيقوم به الفقيه من باب الأمور الحسبية وليس من باب الولاية الشرعية المنصوبة والمجعولة من قبل الشارع المقدس بدليل لفظي[44]، وهذا يكشف لنا فرقاً مهماً وجوهرياً بين الولاية العامة والأمور الحسبية، ولذا كان على السيد الخباز أن يأتي بهذه الكلمات للسيد الخوئي وبالخصوص وهو كان بصدد الحديث عن منصب الولاية والفرق بين الولاية العامة والخاصة (الأمور الحسبية)، لأن هذا الفرق فرق مهم جداً.

ثانياً: تجاهل أن هناك من يرى بأن الولاية العامة مسألة عقائدية:

تجاهل السيد الخباز بأن هناك من يرى أن الولاية العامة مسألة عقائدية وليست مسألة فقهية كالشيخ النراقي الذي يقول: "أما الأول (يعني المطلب الأول أن للفقيه كل ما كان للنبي والإمام إلا ما خرج بالدليل) فالدليل عليه بعد ظاهر الإجماع حيثُ نص به كثيرٌ من الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من مسلّمات عقيدة الإمامية"[45]، فالشيخ النراقي في هذه العبارات لم يكتفِ بادعاء الإجماع على الولاية العامة للفقيه، بل قال بأن ذلك من مسلمات عقيدة الإمامية.

 وكذلك نجد السيد السبزواري أيضاً يصف الولاية العامة بأنها من عقائد الإمامية، وذلك في قوله: "إن عقيدة الإمامية أن الفقيه الجامع للشرائط يقوم مقام الإمام في كل ما له من المناصب والجهات إلا مختصات الإمامة كالعصمة"[46].

ولذلك فإن هناك فرق بين القائلين بأن الولاية العامة مسألة فقهية وبين القائلين بأن الولاية العامة مسألة عقائدية[47]، وإذا كان كذلك فإنه من باب أولى أن يكون هناك فرق بين القائلين بالولاية العامة (العقائدية) وبين القائلين بالأمور الحسبية.

عموماً، قد يقول قائل: بأن ما سبق في النقطتين السابقتين هو خلاف نظري بين الولاية العامة والأمور الحسبية، وإلا فإنه من الناحية العملية في إدارة شؤون المجتمع فإنه يتساوى القائلين بالأمور الحسبية مع القائلين بالولاية العامة، وهذا الكلام سوف يتضح عدم صحته فيما سيأتي من نقاط.

رابعاً: تجاهل الأمور الحسبية في حال تولي الحاكم الظالم

          مر بنا بأن السيد الخباز أشار بأن الأمور الحسبية تشير إلى (كل أمر دخيل في استقرار الحياة)، وأنها تشمل إدارة نظام بلاد المسلمين وحفظ الأنفس والأعراض والأموال، وهذا ما يطرح سؤالاً ملحاً وهو أنه لو كانت الأمور في بلد معين في يد حاكم جائر ومستهتر بأرواح الناس أو أعراضهم أو يتعدى على أموالهم، فهل على الفقيه الجامع للشرائط التصدي له لكون ذلك من الأمور التي قد تؤثر على استقرار الحياة؟!

لاشك بأنه يجب على الفقيه وفقاً لهذا المفهوم مسؤوليات لوضع حد تجاه ذلك من باب الأمور الحسبية حتى وإن كان لا يرى ولاية الفقيه العامة، وهذا هو ما ذكره الشيخ التبريزي، حيث تطرق لهذه المسألة وهي: (ما إذا تصدى أمر المسلمين من ليس أهلاً له كما في غالب بلاد المسلمين في عصرنا الحاضر)، وذكر في هذا المقام ما يلي:

"فمما لا ينبغي الريب فيه أن الشارع لا يرضى بتصدي الظالم الفاسق لأمور المسلمين لا سيما إذا كان ذلك الظالم آلة بيد الكفار في تضعيف الإسلام وأهل الإيمان وترويج الفسق والفجور ليلحق المسلمين ولو تدريجاً بركب الكفار في رسومهم وعاداتهم وهدم جهود النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام والصالحين والشهداء من المسلمين في تشييد أركان الدين وتطبيق أحكامه على نظم بلادهم.

          والحاصل: نهي الشارع عن الركون إلى الظالم والأمر بالاعتصام بحبل الله، والأمر بالكفر على الطاغوت وأولياء الشيطان والأخذ بولاية الله سبحانه ورسوله وتمكين الناس من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك ... ولا ريب في أن الظالم المزبور إذا كان بصدد هدم الحوزة الإسلامية وإذلال المؤمنين وترويج الكفر وتسليط الكفار على المسلمين وبلادهم، يكون على المسلمين أخذ القدرة من يده وإيكالها إلى الصالح فإنه أهم ولو مع توقفه على بعض المحرمات بعنوانه الأولي، حتى القتال مع العلم بالظفر والاطمئنان بأخذ القدرة من يده، وكل ذلك تحفظاً على الحوزة الإسلامية ودفاعاً عن المسلمين وأعراضهم وبلادهم من دنس الكفر والضلال والفساد. هذا كله بحسب الكبرى.

          وأما بحسب الصغرى فإن أحرز فقيه حال الظالم وأنه بصدد إذلال المسلمين وتسليط الكفار عليهم وعلى بلادهم والصدمة على أعراضهم وأموالهم وحكم بحكم على طبق إحرازه، فنفوذ حكمه وإن كان مبنياً على نفوذ الحكم الابتدائي للفقيه العادل، إلا أنه إذا اعتقد الناس به وحصل لهم الجزم بصحة إحرازه ولو مع القرائن يثبت الحكم المتقدم"[48].   

ويواصل الشيخ التبريزي كلامه إلى أن يقول: "... ولكن بما أن التحفظ على بلاد المسلمين والدفاع عنهم وعن الحوزة الإسلامية والممانعة من استيلاء الخونة والفساق والأشرار فضلاً عن المنافقين والكفار مما يعلم وجوبه على حد وجوب ساير الأمور التي يعبر عنها بالحسبة، بل ما ذكر أهمها والأصل والأساس لها، فالواجب على الفقيه العادل البصير مع تمكنه هو التصدي لذلك مباشرة أو بالتوكيل، ولا يبعد دخوله بالتصدي في عنوان ولي الأمر اللازم طاعته وطاعة وكلائه فيما إذا لم يكن أمرهم ونهيهم وسائر تصرفاتهم خارجة عن الحدود التي رسمها الشرع حيث لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق... ومع تصديه لا يعلم مشروعية التصدي من غيره، كما يعلم عدم جواز معارضته أو تضعيفه بل يجب تقويته والمساعدة والمجاهدة على مهامه..."[49].

إذا كان الأمر كذلك، فإن على الفقيه الجامع للشرائط ووكلائه القيام بهذا الأمر حتى لو كانوا لا يؤمنون بالولاية العامة ويؤمنون بالأمور الحسبية، لأن هذا الأمر بحسب كلام الشيخ التبريزي من الأمور الحسبية، ولسنا بحاجة للقول بأنه مرت وتمر وستأمر على العديد من المسلمين في بعض البلدان أمور تتعلق بإزهاق للأرواح والنفوس البريئة والتعدي على الأعراض والأموال والممتلكات، ومع ذلك نجد بعضاً من الفقهاء ووكلائهم لا يحركون ساكناً، وكأن هذا الأمر هو خارج عن الأمور الحسبية، رغم أن كلام الشيخ التبريزي يؤكد على كونه من ضمنها.

 

ثالثاً: تجاهل متى يقوم الفقيه بالأمور الحسبية؟

تجاهل السيد الخباز في كتابه (معالم المرجعية الرشيدة) وفي محاضرته (كيان المرجعية صمام الأمان) بيان بأن الموارد التي يقوم بها الفقيه بعنوان الأمور الحسبية ليست مطلقة وإنما هي محددة ببعض الموارد، فلو رجعنا إلى ما ذكره السيد الخوئي في صراط النجاة لعرفنا هذه الموارد، حيث يقول: "الأمور الحسبية هي الأمور التي لابد من حصولها في الخارج، ولم يعين من يتوجه إليه التكليف بالخصوص، كما لو مات شخص ولم ينصب قيماً على الطفل أو المجنون، وكذا الحال في مال الغائب، والأوقاف والوصايا التي لا وصي لها وأمثال ذلك. فالقدر المتيقن للتصدي لها هو الفقيه الجامع للشرائط أو المأذون من قبله. هذا فيما كانت القاعدة في ذلك عدم جواز التصرف، كالأموال والأنفس والأعراض. وأما فيما كانت القاعدة جواز التصرف كالصلاة على الميت الذي لا ولي له فإنه لا يحتاج إلى إذن الفقيه ولذا نلتزم بكونه واجباً كفائياً"[50].

وكذلك يقول السيد الخوئي في صراط النجاة أيضاً: "سؤال1: هل هناك إجماع من علمائنا المراجع المتقدمين والمتأخرين على ولاية الفقيه؟ وضحوا لنا ليتبين لنا من سماحتكم حقيقة المسألة عند علمائنا الأعلام الذين أفتوا بولاية الفقيه في عصر غيبة قائم آل محمد (عجل الله تعالى فرجه".

جواب السيد الخوئي: "وأما الولاية على الأمور الحسبية كحفظ أموال الغائب واليتيم، إذا لم يكن من يتصدى لحفظها كالولي أو نحوه، فهي ثابتة للفقيه الجامع للشرائط، وكذا الموقوفات التي ليس لها متول من قبل الواقف، والمرافعات فإن فصل الخصومة فيها بيد الفقيه، وأمثال ذلك، وأما الزائد على ذلك فالمشهور بين الفقهاء عدم الثبوت، والله العالم"[51]. 

نلاحظ من كلمات السيد الخوئي السابقة أن الأمور الحسبية هي الأمور التي لابد من حصولها في الخارج ولم يعين من يتوجه إلى التكليف بالخصوص إذا كانت القاعدة عدم جواز التصرف بهذه الأمور، وأما إذا كانت هذه الأمور جائزة التصرف كالصلاة على الميت الذي لا ولي له فهي تتم من باب الواجب الكفائي، لأنه ليس للفقيه فيها الولاية، وكذلك إذا وجد من يتوجه إليه التكليف كالولي على اليتيم فليس للفقيه الجامع للشرائط أي ولاية عليه أيضاً، وهذه النقطة تختلف عمن يرى الولاية العامة، لأنها تتجاوز ذلك بكثير.  

وهذا أيضاً ما يؤكد عليه الشيخ التبريزي في بيان المراد بالأمور الحسبية في كتاب "إرشاد الطالب"، حيث يقول: "هي المصالح المطلوبة للشارع الغير المأخوذة على شخص معين، المعبر عنها بالأمور الحسبية، والتي علم من الشرع العمل بها وعدم جواز تركها، وأن التكليف بها لم يتوجه إلى شخص معين، ولا تكون من الواجب الكفائي لتكون مطلوبة على كل أحد، كالتصرف في أموال القصر من الذين ليس لهم أولياء والموقوفات العامة التي لم يعين المتولي لها من قبل الواقفين، أو قام الدليل على كونها بيد ولي أمر المسلمين والحاكمين، كإقامة الحدود والتعزيرات والتصدي لجمع الحقوق الشرعية وصرفها لمواردها والتصدي لتنظيم أمر جوامع المسلمين وبلادهم"[52].

          ولكي أكون منصفاً فإن السيد الخباز ذكر في كتابه بأن الفرق بين الولاية العامة والأمور الحسبية في أمرين: "الأمر الأول: هل ولاية الفقيه في إدارة النظام لخصوصية في الفقيه؟ أم لأنه القدر المتيقن ممن له الولاية على حفظ النظام؟ الأمر الثاني: هل أن ولاية الفقيه بسعة ولاية المعصوم عليه السلام تمتد حتى للمصالح الكمالية للمجتمع الإسلامي؟ أم تختص بالمصالح العامة الدخيلة في حفظ النظام فقط؟ وتكون الولاية فيما عدا ذلك للناس أنفسهم، بحسب مناهجهم في تصريف الأمور"[53]. وهذا الكلام يشير إلى هذه الموارد كما يشير أيضاً إلى ما ذكرناه في النقطة الأولى، ولكنه غير كافٍ لبيان ذلك جيداً بشكل واضح يفهمه عموم الناس ممن يُعرض عليهم هذا الكلام وليس لديهم أي اطلاع على هذه المسائل.

 والأمر الآخر حتى ولو افترضنا بأن ما ذكره كان واضحاً في الفرق بين الولاية العامة والأمور الحسبية، فإنه تبقى مسألة ما ذكره بخصوص المصالح الكمالية، لأنه كما ذكرنا سابقاً هناك اختلاف في تشخيصها بين السيد الخباز وبين الشيخ الآصفي والتبريزي، فما عده السيد الخباز من ضمن المصالح الكمالية التي لا يقوم بها القائلين بالأمور الحسبية عده الشيخ الآصفي والتبريزي من ضمن الأمور التي يقومون بها.

رابعاً: ما هي موارد وحدود القيام بالأمور الحسبية؟

ذكر السيد الخباز في كتابه (معالم المرجعية الرشيدة) رأي السيد الخوئي في الأمور الحسبية، وبعدها أتبعها بما أسماه بتوضيح الشيخ التبريزي لها بقوله:  "منها بل أهمها إدارة نظام البلاد، وتهيئة المعدات والاستعدادات للدفاع عنها"، ولكنه سكت عن رأي الشيخ التبريزي نفسه من أن الأمور الحسبية تكون إذا كان مقتضى الأدلة الأولية جواز التصرف، حيث يقول الشيخ التبريزي: "ولا يخفى أن كل تصرف لا يخرج عن حدود التحفظ على حوزة الإسلام والمسلمين نافذ من المتصدي لأمور المسلمين فيماإذا كان مقتضى الأدلة الأولية جوازه كتهيئة مراكز الثقافة لنشر العلوم وبسط الرفاه الاجتماعي، وأما كل تصرف يكون مقتضى الأدلة عدم جوازه كالتصرف في بعض أموال آحاد الناس وأخذه قهراً عليهم وأمثال ذلك فلا يدخل في ولاية المتصدي حتى فيما إذا اعتقد المتصدي أو وكلاؤه جوازه لبعض الوجوده..كما يجوز لساير الفقهاء التصدي لبعض الأمور الحسبية فيما إذا لم يكن التصدي لها مزاحمة وتضعيفاً لمركز المتصدي للزعامة كنصب القيم لليتيم والتصدي لتجهيز ميت لا ولي له ونحو ذلك"[54].

          ويفهم من كلمات الشيخ التبريزي السابقة بأن الفقيه في الأمور الحسبية يتصرف فقط في حدود بسيطة وفي مساحة ضيقة جداً، وهي إذا كانت مقتضى الأدلة الأولية جواز التصرف فقط من قبيل تهيئة مراكز الثقافة لنشر العلوم، وبسط الرفاه الاجتماعي، وأما إذا كان التصرف بمقتضى الأدلة الأولية عدم الجواز كالتصرف في أموال الناس دون رضاهم فإن حكمه لا يكون نافذاً بحسب كلامه السابق، والأمر الآخر عند الشيخ التبريزي هو رأيه بأنه يجوز للفقيه التصدي للأمور الحسبية إذا لم يكن في الأمر مزاحمة وتضعيفاً لمركز المتصدي، علماً بأنه يفهم منه في نص آخر ما يخالف هذا الكلام بقوله: "ولا ريب في أن الظالم المزبور إذا كان بصدد هدم الحوزة الإسلامية وإذلال المؤمنين وترويج الكفر وتسليط الكفار على المسلمين وبلادهم، يكون على المسلمين أخذ القدرة من يده وإيكالها إلى الصالح فإنه أهم ولو مع توقفه على بعض المحرمات بعنوانه الأولي"[55].

وبالجمع بين النصين يمكننا القول بأنه قد يكون المراد بأن الأصل في التدخل بعنوان الأمور الحسبية عنده هو عندما يكون الحكم الأولي الجواز، وفي حالات معينة يكون التدخل حتى لو توقف ذلك الحرمة بالعنوان الأولي كإذا تولى أمور المسلمين الظالم الذي لا يؤمن منه على الدين والأنفس والأموال والأعراض، حيث أن الضرورة في هذه الحالة تمكنه من التحرك بالعنوان الثانوي، ومن هنا يتضح الفرق الكبير والإشكال على ما طرحه السيد الخباز في كون الأمور الحسبية تدخل في كل ما من شأنه حفظ النظام واستقرار الحياة، فهل الأمور الحسبية بهذا القيد يمكن لها القيام بهذا الدور بأكمل وجه أو لا؟!

          ولهذا حتى لو فرضنا أن بلداً صارت تحت يد فقيه يرى الأمور الحسبية كما ذكر السيد الخباز، فإنه سيحصل الهرج والمرج حتى لو حاول القيام ببعض الأمور بعنوان الأمور الحسبية، لأن مساحات التحرك لديه ستكون مقيدة، وهي أن يكون مقتضى الأدلة الأولية جواز التصرف، لأن التصرف في (كل أمر دخيل في استقرار الحياة) كما قال السيد الخباز تحكمه العناوين الثانوية لا الأولية، وهذا مما يقيد التحرك نوعاً ما، لأنه يعني أن الأمور الحسبية سوف تتحرك في نطاق محدود ومقيد، وبهذا يكون الفرق بينها وبين ولاية الفقيه العامة ليس بسيطاً ولا ضيقاً، ولا أدري كيف يستطيع الفقيه الجامع للشرائط الذي يرى (الأمور الحسبية) إدارة شؤون المجتمع وحفظ نظامه بناءً على هذا التصور، ولكم أن تتخيلوا حاكم يقود دولة وهو ملتزم بهذا القيد، إذ كيف يستطيع تحديد النسل أو توسعة الشوارع أو وضع الضرائب دون إجبار الناس عليها، وذكرت هذه الأمثلة لأن هذه المسائل من ضمن الأمور التي يكون مقتضى الأدلة الأولية عدم الجواز، لأن الناس مسلطون على أموالهم[56].

رابعاً: تجاهل تهيئة مقدمات القيام بالأمور الحسبية

إذا كانت الأمور الحسبية تشمل كل ما من شأنه حفظ النظام واستقرار الحياة، فإن هذا بحاجة لمعرفة النظم التي من خلال تطبيقها يتم حفظ الحياة واستقراراها، لأنه إذا كان المجتمع مجتمعاً دينياً فلابد أن تكون نظمه قائمة على أساس الموزين الشرعية، ولذا فمن يتولى المسؤولية لكل أمر يتعلق باستقرار الحياة لابد وأن يمتلك رؤية واضحة لهذه النظم والوسائل المتاحة التي سوف يستعملها للوصول لهذا الأمر، لأن تنفيذ كل ذلك لابد أن يكون من ضمن مسؤوليات الفقيه الجامع للشرائط حتى وإن كان من غير القائلين بالولاية العامة وقائل بالأمور الحسبية، لأن هذا الأمر كما هو واضح يُعد من مقدمات القيام بالأمور الحسبية.

ولأجل ذلك لكي يستطيع الفقيه القيام بالأمور الحسبية لحفظ نظام المجتمع لا بد له أن يعرف الوسائل الممكنة للتطبيق للوصول إلى هذه النتيجة، والإشكالية هنا أن الكثير من الفقهاء القائلين بالأمور الحسبية لم يهيئوا مقدمات القيام بالأمور الحسبية، والتي من أهمها معرفة الوسائل الممكنة للتطبيق، إذ لا يكفي فقط الاعتماد على المتخصصين والخبراء في المجالات التي يحتاج إليها لحفظ النظام الاجتماعي، لأنه في بعض الحالات قد يختلف هؤلاء الخبراء والمتخصصين فيما بينهم، ولابد حينها من الترجيح بين آرائهم، وإذا كان الفقيه جاهل تماماً بهذه الأمور فعلى أي أساس سوف يرجح؟! فمثلاً لو أراد الفقيه حفظ النظام الاقتصادي للمجتمع، واعتمد في ذلك على آراء مجموعة من الخبراء السياسيين، ومجموعة من الخبراء الإداريين والماليين والاقتصاديين والاجتماعيين و... إلخ واختلف هؤلاء فيما بينهم، فهنا لابد أن يكون الفقيه على علم بالقواعد العامة التي لها علاقة بهذا الموضوع حتى يستطيع أن يقرر أي رأي من هذه الآراء سيرجح[57].

لذلك فحتى القائلين بالأمور الحسبية لابد أن يكون لديهم معرفة بكيفية تطبيقها، ولكن المشكلة أن ذلك غير متوفر ومتحقق لدى الكثير من الفقهاء القائلين بالأمور الحسبية، وذلك لأن هؤلاء قد فرضوا قراءة معينة للدين تركزت على (الفقه والأصول) وابتعدت كل البعد عن هذه المجالات[58].

وبناءً على ما سبق، فلا يقول قائل بأنه في نهاية المطاف يتساوى القائلون بالولاية العامة مع القائلون بالأمور الحسبية، لأن هذا الكلام لا أساس له من الصحة، فالمسألة ليست مختصة بمعرفة الأهداف والعناوين فحسب، وإنما في معرفة الوسائل التي يمكن اعتمادها لتطبيق هذه الأهداف والوصول إليها، ولذلك لابد أن يكون الفقيه القائل بالأمور الحسبية عافاً بزمانه كما جاء في الروايات "العارف بزمانه لا تهجم عليه اللوابس"، أي عارف بما يقوي نظم مجتمعه وبما يضعفه، ولا ملازمة بين أن يكون العالم أعلم في الفقه الأصغر (الحلال والحرام)، وبين أن يكون عالماً بالمجالات الأخرى، فقد يكون عالم في الفقه الأصغر، ولكنه جاهل فيما من شأنه حفظ المجتمع واستقراره، وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال يا ابن رسول الله أيكون العالم جاهلاً؟ قال: نعم, عالم بما يعلم وجاهل بما يجهل"[59].

ولهذا فإنه حتى وإن صدق هذا الأمر نظرياً -وهو أنه لا فرق بين القائلين بالولاية العامة والقائلين بالأمور الحسبية- فهو من الناحية العملية غير صحيح كما هو واضح، وإلا فأين دور القائلين بالأمور الحسبية في إدارة المجتمعات، لأنه إذا كانوا يرون الولاية لهم في كل أمر دخيل في استقرار الحياة، فلماذا لا نرى أية مظاهر واضحة لهم في هذا الجانب، ولو كان ذلك تحت عنوان الأمور الحسبية وليس عنوان الولاية العامة.

وهناك أمر آخر ربما يعوق تهيئة المقدمات للقيام بالأمور الحسبية في المجال الاجتماعي، وهو أن الرؤية الفقهية التقليدية السائدة قائمة على النزعة الفردية للفقيه، ومما لا شك فيه بأن هذه الرؤية الفردية تؤثر على قدرة الفقيه على إدارة أمور المجتمع، وحول هذه الرؤية يقول الشيخ محمد مهدي شمس وهو ينقد بعض الإشكاليات التي تعاني منها مناهج الاجتهاد برأيه، والتي وصفها بأنها كما يبدو تعاني نقصاً منهجياً، إذ يذكر مثالاً على ذلك قائلاً: "ما تعارف عليه الفقهاء من اعتبار أن آيات الأحكام في القرآن الكريم هي خمس مئة وبضع آيات بينما نحن نلاحظ أولاً: أن نسبة الخمس ماية، نسبة آيات الأحكام إلى جميع كتاب الله العزيز هي أقل من العشر، وهو أمر مثير للتساؤل أن يكون أكثر من تسعة أعشار الكتاب الكريم مواعظ وقصصاً وعقائد وأن تكون آيات الأحكام أقل من عشر، أمر مثير للتساؤل، علماً بأن آيات العقائد المباشرة هي أقل بكثير من العشر أيضاً، يبقى كل ما بقي، أكثر من ثمانية أعشار الكتاب الكريم قصص ومواعظ، إنه أمر يحتاج إلى بحث. في التدقيق"[60].  

          ومن ثم يتحدث عن رأيه بقوله: "أدعي، والله تعالى أعلم ونسأله العصمة، أن آيات الأحكام هي أكثر بكثير مما تعارف عليه الفقهاء والأصوليون، وفي تقديري قد تتجاوز الألف آية ...إن الفقهاء رضوان الله عليهم والأصوليين القدماء جزاهم الله عنا خيراً، انطلقوا في تعاملهم مع القرآن باعتباره مصدراً للتشريع من خلل أو من ضيق في الرؤية المنهجية جعلتهم يرون فقط آيات الأحكام المباشرة التي يتعاطونها، وهي ما يتصل بفقه الأفراد؛ عبادات الفرد، تجارة الفرد، جريمة الفرد، الأسرة، لا أعرف لماذا غفلوا عن البعد التشريعي للمجتمع وللأمة في المجال السياسي والتنظيمي وللعلاقات الداخلية في المجتمع وعلاقات المجتمع مع المجتمعات الأخرى غير المسلمة، لا أدري"[61].  

          ومما لا شك فيه أن هذه الرؤية قد تكون أحد القيود على عملية القيام بالأمور الحسبية في المجال الاجتماعي والسياسي (خارج الأطر الفردية) على أكمل وجه، وذلك نتيجة لتحكم الرؤية الفقهية التقليدية السائدة المعتمدة على الفردية من جهة، ونتيجة لعدم التركيز على ممارسة العمل خارج الإطار الفردي من ناحية الأخرى، إذا من الطبيعي أن يشكل ذلك عائقاً أمامهم، علماً بأن الشيخ الكوراني في كتابه عصر الشيعة يشرح الفرق بين العلماء الذين يرون الولاية العامة وبين غيرهم بقوله: "فالخلاف بين الاتجاهين: في العمل السياسي والثورة لإقامة حكم إسلامي، وفي تسلم العلماء للسلطة مباشرة، أو بقائهم موجهين وناصحين فقط"[62]. ويقول في مورد آخر: "... والسيد السيستاني لا يقول بها   –يقصد الولاية العامة- وقد أفتى بأن يحكم الشعب العراقي نفسه عن طريق الإنتخابات، وأعطى الشرعية لمن ينتخبه الشعب، ونصح العلماء وطلبة العلم أن لا يدخلوا في الحكم ومؤسساته، إلا بقدر الضرورة التشريعية أحياناً"[63].

          ولا أظن بأن هناك من يرى أنه لا فرق بين من يمارس السلطة والحكم مباشرة وبين من يكتفي بممارسة النصح والتوجيه فقط أو يدخل في الحكم بقدر الضرورة التشريعية في بعض الأحيان؟ كما لا أظن أيضاً أن هناك من يرى أن الفرق بينهما بسيط وفي مساحة ضيقة وأن كلاهما يقوم بإدارة شؤون المجتمع كما يقول السيد الخباز.

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمة الختام

تحدثنا في هذا الموضوع عن ما أسميته بإشكالية (التثقيف العكسي) على مضمون الولاية العامة، وكذلك عن المسكوت عنه من قبل السيد الخباز بخصوص الفرق بين الولاية العامة والأمور الحسبية، ولا أدعي بأن كلامي كان تاماً وكاملاً، بل إنني لا أشك بأنه لا يخلو من القصور ونقاط الضعف ولو في بعض النواحي،  فهذه طبيعة البشر العاديين من غير المعصومين (ع)، كما لا أقول بأن ما طرحه السيد الخباز بخصوص مسألة الأمور الحسبية خاطئ بكامله أو أنه متفرد به ولم يقل به أحد غيره، فهذا الأمر لا أقول به ولا أدعيه أيضاً، بل إنني أؤكد بأن هناك العديد من الأطروحات التي قد تقترب في بعض جوانبها مما طرحه السيد الخباز، ولذلك فإنها مشمولة أيضاً بما ذكرته في مناقشتي لأطروحات السيد الخباز في الجوانب المشتركة التي تعرضنا لها.

[1]  راجع كتاب التنقيح في شرح العروة الوثقى، ج1، التقليد، ص357.

[2] راجع كتاب عقائد الإمامية للشيخ المظفر ص18.

[3] راجع محاضرة (كيان المرجعية صمام الأمان) للسيد منير الخباز.

[4] راجع المصدر السابق.

[5] راجع كتاب معجم رجال الحديث، للسيد أبو القاسم الخوئي  ج 14،  ص32.

[6] راجع المصدر السابق، ج14،ص32 وما بعدها.

[7] يمكن الرجوع إلى كتاب الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، يحيى محمد ص79 وما بعدها لمعرفة وجهة النظر العلمية في الروايات التي يستدل بها على مسألة التقليد.

[8] راجع محاضرة (كيان المرجعية صمام الأمان) للسيد منير الخباز.

[9] راجع كتاب التنقيح في شرح العروة الوثقى، للسيد الخوئي ج1، التقليد، ص357.

[10] راجع كتاب التنقيح في شرح العروة الوثقى ج1، ص167-168.

[11] راجع كتاب ارشاد الطالب للشيخ التبريزي ج3، ص33.

[12] راجع محاضرة السيد الخباز (كيان المرجعية صمام الأمان) علماً بأني قمت بنقله بتصرف في الترتيب والتبويب.

[13] راجع كتاب المعالم الجديدة للأصول، للشهيد الصدر، ص115.

[14] راجع كتاب الرافد في علم الأصول، تقريرات السيد منير الخباز لأبحاث السيد السيستاني، ج1، ص17-18.

[15] راجع المصدر السابق، ج1، ص18-20.

[16] راجع المصدر السابق، ج1، ص58-63.

[17]راجع كتاب التجديد في الفكر الإسلامي، للشيخ محمد مهدي شمس الدين: ص22 دار المنهل اللبناني، الطبعة الأولى 1997-1418هـ.

[18] راجع المصدر السابق ص19.

[19] كذلك يمكن الرجوع إلى كتاب بعنوان (العقل العملي في أصول الفقه جذوره الكلامية والفلسفية)، تأليف ميثاق العسر، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى بيروت 2012م ، حيث يبحث فيه تأثير علم الكلام والفلسفة في مسألة العقل العملي المبحوث عنه في علم الأصول.

[20] راجع كتاب الفقه والاجتهاد.. عناصر التأصيل والتجديد والمعاصرة للدكتور علي فيض ج1 ص165-166 ترجمة حسين الصافي، الطبعة الثانية2010 لمركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي- بيروت، لبنان.

[21] راجع المصدر السابق ج1، ص167.

[22] راجع المصدر السابق ج1، ص171.

[23] راجع المصدر السابق ج1، ص171 نقلاً عن معالم الدين، ص225.

[24] راجع المصدر السابق، ج1، ص171 نقلاً عن القوانين المحكمة، ج2، ص218.

[25] لمعرفة رأي السيد الحيدري في هذه المسألة يمكن الرجوع إلى كتاب مشروع المرجعية الدينية وآفاق المستقبل ص83-84.

[26] راجع محاضرة السيد الخباز المعنونة بـ (كيان المرجعية صمام الأمان).

[27] راجع كتاب نظريات السلطة في الفكر السياسي الشيعي المعاصر، د.علي فياض ص171 وما بعدها.

[28] راجع كتاب محمد الصدر كفاح الجماهير، تأليف عبداللطيف الحرز ص362-363.دار الفارابي- بيروت-لبنان الطبعة الأولى 2009م.

[29] راجع كتاب نظريات السلطة في الفكر السياسي الشيعي، ص240.

[30] راجع كتاب معالم المرجعية الرشيدة للسيد الخباز، ص8.

[31] راجع كتاب نظريات السلطة في الفكر السياسي الشيعي المعاصر، نقلاً عن كتاب صلاحيات الحاكم وسلطاته الشيخ محمد مهدي الآصفي ص375.

[32] راجع كتاب ارشاد السائل للشيخ التبريزي، ج1، ص41.

[33] راجع محاضرة (كيان المرجعية صمام الأمان).

[34] راجع على سبيل المثال لا الحصر كتاب (بحوث في ولاية الفقيه)، لمركز نون، ص68.

[35] راجع كتاب معالم المرجعية الرشيدة، ص9.

[36] راجع المصدر السابق 10-13.

[37] راجع المصدر السابق، ص13.

[38] راجع كتاب معالم المرجعية الرشيدة ص13.

[39] راجع محاضرة (كيان المرجعية صمام الأمان) للسيد منير الخباز.

[40] المراد من الدليل الشرعي اللفظي: هو الدليل الواصل إلينا عن طريق القرآن الكريم أو الأحاديث الواردة عن المعصومين عليهم السلام.

[41] راجع كتاب التنقيح في شرح العروة الوثقى، ج1ـ ص360.

[42] راجع كتاب المستند في شرح العروة الوثقى تقريرات الشيخ مرتضى البروجردي لأبحاث السيد الخوئي، ج12، ص86.

[43] راجع المصدر السابق ، ج12، ص89.

[44] لتفاصيل أكثر راجع بحث خارج الفقه للسيد كمال الحيدري، مفاتيح عملية الإستنباط الفقهي، الدرس (162) وما بعده وكذلك الدرس (283).

[45] راجع كتاب عوائد الأيام للشيخ النراقي، ص188.

[46] راجع كتاب مهذب الأحكام للسيد السبزواري ج16، ص367.

[47] لمعرفة تفاصيل هذه المسألة يمكن الرجوع إلى  بحث خارج الفقه، مفاتيح عملية الاستنباط الفقهي، للسيد كمال الحيدري الدرس (344).

[48] راجع كتاب إرشاد الطالب إلى التعليق على المكاسب للشيخ التبريزي  ج 3، ص 36 -37 ، مطبوعات إسماعيليان، إيران قم 1411هـ.

[49] راجع المصدر السابق، ص45.

[50] راجع كتاب صراط النجاة للسيد الخوئي ج3، ص358، السؤال: س1096.

[51] راجع المصدر السابق ج1، ص10.

[52] راجع كتاب إرشاد الطالب إلى التعليق على المكاسب، ج3، ص25 و26.

[53] راجع كتاب معالم المرجعية الرشيدة ص15.

[54] راجع كتاب إرشاد الطالب إلى التعليق على المكاسب، ج3، ص40.

[55] راجع المصدر السابق،  ج 3، ص 36 -37.

[56] راجع ما ذكره السيد كمال الحيدري في كتاب معالم التجديد الفقهي.. معالجة إشكالية الثابت والمتغير في الفقه الإسلامي  بقلم الشيخ خليل رزق ص111 وما بعدها.

[57] فكرة الكلام السابق بكامله للسيد كمال الحيدري وقد شرحها في بحث خارج الفقه، مفاتيح عملية الاستنباط الفقهي، الدرس (284).

[58] راجع المصدر السابق.

[59] راجع المصدر السابق.

[60] راجع كتاب التجديد في الفكر الإسلامي للشيخ محمد مهدي شمس الدين ص18.

[61] راجع المصدر السابق ص18.

[62] راجع كتاب عصر الشيعة للشيخ الكوراني ص115.

[63] راجع المصدر السابق، ص322.

clip_image001_f41ca.jpg

clip_image002_276a7.jpg

أقام المجلس الملّي الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا ونادي حيفا الثقافي أمسيةً ثقافية احتفاء بالشاعر تركي عامر توقيع كتابه "أكل الولد التّفّاحة"، بتاريخ 28-11-2015 في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، وسط حضور كبير من أدباء وشعراء وأقرباء وأصدقاء، وقد تولت عرافة الأمسية الشاعرة والإعلامية سوزان صيداوي دبّيني، فقدّمت مقتطفات من سيرة الشاعر تركي، ثمّ دعت تواليًا كلّا مِن:      د. بطرس دلّة في مداخلة نقدية، والفنّان سالم درويش غنّى (جدّي يوسف) من كلماته وألحانه، والشّاعر نزيه حسون، وفاصل شعريّ مع تركي عامر للمقطع الأخير من معلّقة "أبالسة السماء"، ثمّ مداخلة الأديبة د. راوية بربارة، والشّاعر الزجال نجيب سجيم، والأديبة هيام أبو الزلف حاورته ارتجاليا، وأمل أبو فارس ألقت قصيدة "مديح الكعب العالي" للشاعر تركي عامر، وذكاء حيحي حيّتْ زميلها تركي عامر في مهنة التدريس سابقا، وإليانا حفيدة تركي عامر تلقي مقطعًا من قصيدة كتبها يوم مولدها، وفي نهاية الأمسية شكر المحتفى به الحضور ومدير النّادي الأستاذ المحامي فؤاد نقّارة وكلّ المتحدّثين، وألقى باقة  من نصوصه، ثمّ تمّ التقاط الصور التذكاريّة!

عرافة سوزان صيداوي دبيني: سلامٌ للقلب المفعم بالأحاسيس المُرهفة، وللرّوح الهائمة في سماء الثقافة والأدب، ومساؤكم خيرٌ وشعرٌ. مساؤكم شهوةُ الحرفِ لقلوب العشاق. مساؤكم تغريدةُ عصفورٍ على غصنٍ لحظةَ التقاء. مساؤكم كما أنتم جميلٌ، مُفعمٌ بالطهر والنقاء.

السيّدات والساده الحضورُ الكرام، أهلًا بكم في هذه الأمسية التي من خلالها نحتفي بشاعرنا صاحب الكلمةِ المميزةِ والمتميزة والقلب الطفوليّ تركي عامر، الشاعر اللبناني الفلسطيني الذي اخترع له لغة فيسبوكية خاصّة، (يا حبيب هارتي، عقبال عند النيدرز يا فرنداتي/ يا حبيب قلبي، عقبال عند العايزين يا أصدقائي) ورسم البسمة على الوجوه وفي القلوب، وسلبَنا وجذبَنا بخفة ظلّه وإبداعاته الراقية المميّزة، وأدخلَ نكهة خاصّة لأدبه وقصائده، ببصمتهِ التركيّةِ العامريّة، وهو صاحبُ فلسفةِ "لا حياةَ دون خيال"، وأبدع حين قال: (أخربشُ أو لا أكون.. هيَ الريحُ تأخذُ روحي.. إلى جنّةٍ أو جنون).

هذا المشهدُ الرائعُ يُسعدُ الروحَ ويُبهج القلب، في عصرٍ أصبحنا فيه أسرى لأذرع الشبكة العنكبوتيّة، والتي امتدّت لتطالَ وتسيطرَ على كلّ زاوية من حياتنا، حتى بتنا نعتقد أنّ زمن المنتديات والندوات وعشاق الكلمة والقلم ورائحة الورق قد انتهى، وسعيدةٌ جدّا أنه لم ينتهِ ولن، والدليل هو ما نراه هنا الليلة من هذا الجمهور الرائع، وما يفعله المحامي فؤاد نقارة وزوجته السيده سوزان من مجهود لتحدّي الشبكة وأذرعها العنكبوتيّة وتخليصنا منها، وإعادتنا إلى زمن الرّقيّ والكلمة والشعر، وهو مجهود جبّار مُبارك يستحقّ أسمى آيات الشكر والعرفان، فهو رئيس نادي حيفا الثقافيّ الذي أصبح يستقطب عددًا كبيرًا من الشعراء والأدباء ومُحبّي الشعر من كافة أنحاء البلاد. في سنوات خلت كنّا نجتمع أسبوعيًّا تقريبًا زملاء الحرف وعشاق الكلمة في ندواتٍ مُتنقلة، زرنا من خلالها جميع المدن والقرى تقريبًا، فنشارك ونتشارك بالكلمة الراقية الهادفة، فالأدب هو الوسيلة الأرقى لنشر الحكمة والمعرفة والتعبير عن العواطف والألم والقهر والظلم.

أمّا الشعرُ فهو مصفاة الروح، يعتصرنا ليُخرِج منّا أسمى المشاعرِ مُقطّرةً قطراتٍ قطراتٍ على شكل كلمات. شكرًا للحضور الجميل، وللشاعرات الأديبات والأساتذة الشعراء والأدباء الذين سينيرون الليلة روحَ القصيدة وقصيدة الروح، مِن خلال مداخلاتهم، وهم جميعًا من الأسماء المرموقه المعروفة. المجموعة الشعريّة (أكل الولدُ التفاحة) تعيدنا للوهلة الأولى، إلى أيّام الدراسة والصفّ الأوّل، حين كانت المعلمة تكتب على اللوح أكل الولد التفاحة، ونحن نُردّد وراءَها كما فعلتُ أنا شخصيًّا حين قرأت العنوان، فشكرًا تركي، كونَكَ أعدت لنا ولو للحظاتٍ زمن الطهر والبراءة، فلك هذا القلب الطفوليّ والوجه الضاحك أبدًا.

الشاعر تركي عامر يكتب الشعر باللغتين الإنجليزيّة والعربيّة، بالفصيح وباللهجة المحكيّة، ويكتب المقالة النقدية الساخرة، ولد يوم 29- 12- 1954 في قرية حرفيش في الجليل الأعلى، وفيها درس الابتدائيّة، والثانويّة في قرية ترشيحا، ثمّ تابع تعليمه في جامعة حيفا، وحصل على اللقب الأوّل في الخدمة الاجتماعيّة عام 1977، وعلى دبلوم صحافة واتصال عام 1983، وعام 1999 منحته الاكاديميه العالميه للفنون والثقافه دكتوراه فخرية في الأدب من جامعة في المكسيك. بدأ مشواره مع القلم منذ مطلع سبعينات القرن الماضي، وقد شارك في عدّة مؤتمرات عربيّة وعالميّة، ابتدأها عام 1996 في اليابان، سلوفاكيا، المكسيك، اليونان، الولايات المتحدة الأمريكيّة، جمهوريّة مصر العربيّة، ومهرجانات عديدة هنا في البلاد. ترجمت بعض أشعار تؤكي عامر إلى عدّة لغات أجنبيّة. عمل مُدرّسًا لموضوع الخدمة الاجتماعيّة وللغة الإنجليزيّة حتى عام 2000، فعمل أمين مكتبة المدرسة الإعداديّة والثانويّة. أنشأ موقعًا إلكترونيًّا باسم "ورقستان". وحاليًّا، هو متفرّغ للأدب.

المؤلفات الشعريّة: *ضجيج الصّمت، شعر بالفصحى، 1989/ *نزيف الوقت، شعر بالفصحى، 1990/ *استراحة المحارب، شعر بالفصحى، 1991/ *فجيح الضّوء، شعر بالفصحى، 1993/ *من حواضر الرّوح، شعر بالفصحى، 1996/ *سطر الجمر، شعر بالعامّيّة، 1997/ *لن أعود إلى المرعى. 2004/ *أكل الولد التفاحة. شعر بالفصيح. صدر في الجزائر، 2010/ *لن أعود إلى المرعى، شعر بالفصحى، 2004 / *العائلقراطيّة، مداخلات في الاجتماع والسياسة، 1984 / *صباح الحبر، مداخلات في الأدب والثّقافة، 1994/ *صواريخ عابرة للقرارات. نصوص 2008/ *من معجم شعراء فلسطينيي ال 48. الذي سيصدر قريبًا، وصدر له بالإنجليزية ديوانان: Arabian Nightmares.1988 /  و White Leaves  . 2001.

(أكل الولد التفاحة) صدر في طبعته في الجزائر عام 2010 ، والطبعة الثانية في فلسطين عام 2013. تركي عامر كتب القصيدة العموديّة والتفعيليّة والنثر والعاميّة، كتبنا بكلّ حالاتنا وأحاسيسنا، عاش القضيّة وآلام المجتمع، ونزفَهُ حبرًا على الورق، فهو روح القصيدة لهذه الليلة، وصهيل كلماته يلامس شغاف القلب.

مداخلة د. بطرس دلة: (أكل الولد التفاحة) للشاعر تركي عامر هي مجموعة شعريّة نثريّة، لأديب يبحث عن الإبهار ولا عيب في ذلك! لأن فيه فلسفة خاصّة في الإبداع، وهي التمسّك بالخيال الواسع حدّ الابهام! فيطرق مواضيع مختلفة بهمسة رقيقة، وتلميح ذكيّ بقليل من الكلام، لأنّه يؤمن أنّ في الإيجاز بلاغة، ويضع النقاط على الحروف في سرحات لغويّة رشيقة وسريعة عندما يتساءل مثلا: مَن قتل رفيق الحريري!

تركي أيّها الصديق! أنت تنتمي الى عائلة عامّة الشعب، وتصرخ صرخة المعذبين في الأرض، ومع ذلك لا تنسى الوطن والوطنيّة، لأنك تبحث دائمًا عن الحق، حقّ الشعب العربيّ الفلسطينيّ في وطنه السليب، ولكنك لا تجد الطريق الى تحقيق هذا الحق! هكذا وجدنا أنّ حياة الإنسان القائد رفيق الحريري الذي اغتالته الأيدي الآثمة، تتحوّلُ إلى شريط سينمائيّ تسجيليّ، يحظى بثلاث جوائز في مهرجان كان والقاهرة ورام الله! وتمعن  في التجديد بأسلوبك المميّز ومفاجآتك غير المتوقعة، فتمتعنا عندما تبحث عن العوالي؛ كالباب العالي، والصمت العالي، والكعب العالي، والصوت العالي، والسّدّ العالي، والسقف العالي، والظّلّ العالي، وتبالغ في خربشاتك على الغبار، فتكرّس لها ثلاثا وثلاثين صفحة، بينما تختصر في غيرها!

أيّها الصديق! ما برز في هذه المجموعة من المتناقضات بشكل واضح هو تلك المقابلات الجميلة، كما في قولك (ص. 14): "أدمَنوا، عمِلوا الصالحات ولم يؤمنوا، علموا الطالحات ولم يعملوا"!

و (ص. 20): قطعة سما حمراء يتجاذبها ثوران هائجان سورياني وسوريالي، وكلاهما سور! أه يا نيالي!  والتّناص لديك كثير مع تحريف بسيط أحيانًا كقولك (ص. 23): رأس الحكمة مخافة الماما! ولا تكن قاسيون فتكسر، ولا تكن طبيب عيون فتبصر! والقول التالي الذي فيه الكثير من الشقاوة: تُغنّي مِن كلّ المطارح، إلّا من الحنجرة! هذه الشقاوة المُحبّبة لا يُجيدها أحد سوى تركي عامر!

فكيف يُعرّف ديالكتيك الدين الماركسيّ؟ "المادّة مُحرّكة التاريخ، والتاريخ يُقوّد الجغرافية! أهي مومس"؟! يبزر المعنى المبطّن بكلمات بسيطة، جوهرُها خروج عن المألوف، ومحاولة لتشخيص حياة كلّ إنسان!

ومرّة أخرى (ص. 40) يقول: ولكنني يا قصيدة لست ألاقي/ إلى البحر دربًا يليق بثوبي/ إلى الحرب ثوبًا يليق بدربي! إنّه ينتقد العالم العربيّ والجيوش العربيّة، ويعود بعد هذا التجريح المبطن ليحلم حلمه القديم، ويكتب قصيدته بحبر نقيّ بلون السماء! أي بدون انحطاط!

وفي خربشاته على شاطئ الشمس يعود إلى التناص (ص. 50): أريد ما أريد/ فالروح عارية.. وإذا فسد الملح، فبماذا نملّح روحك يا ولدي؟!

ثمّ هذا النبأ العاجل يَصوغه بالشكل التالي: في ظلّ موجة الجهاد "ضدّ الإرهاب"، قرّرت فلسطين بغية الاعتراف بها عضوة في الأسرة الدوليّة إرسال فريق من الاستشهاديّين، للمساهمة في نشر الديمقراطيّة في العراق! وقد طلب الرئيس الأمريكيّ تبديل عبارة استشهاديّين، لعرض الموضوع على إسرائيل! تركي إذن، شاعر موهوب ضليع في قواعد اللغة، مُبتكِرٌ إلى حدود المستحيل، مُؤمنٌ بالحداثة وما بعد الحداثة، ناقمٌ على الأنظمة العربيّة كما ذكرنا، وعلى أعداء التطوّر والرّقيّ! ولمّا كانت كتاباته شبيهة بالبرقيّات السريعة التي تعتمد على المعلومات الواسعة، فإنّ ترجمة ما كتب ستكون صعبة على القارئ الأجنبيّ إلى حدّ الفشل، لأنّه كيف سيفهم ذلك القارئ ما يكتبه بالمختصر السريع، إذا لم يكن يعرف شيئًا عن الرشيد، وأبي نوّاس، وابن هانئ وزبيدة وابن رشد وغيرهم؟!

أيّها الشاعر الذكي، عندما ينزف الوقت حبرًا على يراعك، تتجلّى مواهبك الدفينة في فكرك، يا مَن سحرت الحرف ليكتب أحلى الكلمات، وعندما يَمرّ شهر اللوز، ويُزهر الجلّنار في حديقة البيت لونًا أرجوانيّا، تتماهى مع نسيمات الصباح فنّا مُموْسقا، وأغنياتٍ كانت تتردّد في سفوح الجرمق، مُنحدِرةً نحو الوادي بلحن سماويّ لم تعرفه آلهة الفينيق وجوقات المُنشدين من رهبان الأديرة!

وعندما تقف لتلقي قصائدك المميزة بلغة لا عيب فيها، فسوف تكون متمكنا من قواعدها وعروضها كما عهدناك، فلن تفوتك فائتة ولا يشوّه ألفاظك لحن نصفّق لك كما تصفّق أوراق الصفصاف المتمسكة بفروعها، فلا تتساقط إلّا عند الخريف! أنت أيها الصديق الوفيّ والمبدع الحقيقيّ، لك في قلوبنا معزّة خاصة، لأنّ في أناشيدك الكثير من محبّة الحياة، ولأنّك عاشق مُتيّم بهذه الحياة، ومعطاء بغير حدود، وتحترم الآخرين كما تحترم ذاتك، ولأنّ لك نهجًا مميّزًا في التعامل المتفاني مع الآخرين. كلّ ذلك يجعلك قريبًا منّا حتى ولو بعدت السكنى، وما أبدعته حتى الآن هو خمرة معتقة تعلن اللحن السماويّ، تمامًا كما يخرج النهاوند من رحم الوتر، وكما تغنج النايات في الأماسي الساهرة، فنحن معشر الكتاب ضمير هذه الأمّة ووجدانه وقادتها، ونعرف جيّدا أنه لا خير في أمّة لا ضمير لها! هكذا أصبح إبداعك خبز الحياة للجياع من أبناء شعبنا.

أيّها الأحبّة! عندما ينبض القلب حبًّا، كمَن يعزف قيثارًا قد حفظ اللحن، فعزيزنا تركي يبدو كعريس في ليل الزفة، يحمل باقة حبّ وزهر وأحلام ورديّة، ويُناجي ربّة الشعر أن تنزل ترقص وآلهة مخمورة، وينتفض القلم يدغدغ أحلام الأحباب! تتردّد كلماته في سحر الحروف، تزيّن نصّا، ترسم حلمًا ورديًّا، وخيالات ورؤى تمضي في شبق نحو الأروع والأجمل، يا من داعبت خيالات العشّاق، سحرت الجمع بنصّ فيروزيّ علويّ البسمات، أنت خلقت الكلمات الحبلى بمعاني الشوق، وسخّرت القلم وموسقت الحرف نشيدًا، وكنت المبدع والفنان وصديقا رقيقا تهفو له كل النسمات، فتحيّة خالصة لك! اتمنى لك كل الخير والحياة

كلمة د. راوية بربارة/ تركي عامر خدشَ حياءَ النصِّ: مساءٌ تشرينيٌّ يراوحُ بينَ عبثِ الواقعِ وكذبِ الاحتمالاتِ، فكيفَ لا تُمطرُ السماءُ رذاذَها ونحن نحتفي بمطرِ الإبداعِ؟ كيفَ تصفرُّ الأوراقُ وتتلاعبُ بها الريحُ في كلِّ وادٍ، وشجرةُ الشِّعرِ وارفةٌ ما زالت تحملُ إلينا الثمرَ وتُزهرُ؟ مساءٌ مراوحٌ بين عبثيّةِ اللامعقولِ شعرًا ونثرًا في نصوصٍ حتّى لو أكلَ الولدُ منها...لما شبعَ، ولما عرفَ طعم ما ذاق!

"كان جائعًا/ أكلَ الولد التفاحة/ في حصّةِ القواعد/ ضُرِبَ على قفاه/ قبل أن يشبَعَ/ طُرِدَ وشريكتَهُ منَ المدرسةِ/ بتهمةِ النتشِ قبل التقشير/ (وفي روايةٍ أخرى:/ بتهمةِ القذفِ والتشهيرِ)/ وذلك جرّاءَ خطأٍ بشريٍّ  في الإعرابِ/ لم يُسمَح لهما/ بتوكيلِ محامٍ / جنائيّ (ضرسُهُ طيّب)/ وبعدَ أن أُذِنَ لهما / بممارسةِ حقّ الصمتِ/ قال لهما المعلّم:/ لا أريد أن أراكما هنا/ قبل يوم القيامةِ (أكل الولد التفاحة، ص. 33)

فلماذا أكلَ الولدُ التفاحةَ؟ ألأنّه كان جائعًا إلى المعرفةِ. والجوع إلى المعرفةِ مقيتٌ، شرهٌ، إنْ لم تِسكتْهُ أسكتَكَ، والجوعُ إلى المعرفةِ يجعلُكَ ترتكبُ الخطيئةَ الأولى، في الإعراب، فتبدِّلَ الوظائفَ النحويّةَ وتُطرَدَ من مدرسةِ الواقعِ إلى يومِ القيامةِ...

"ضربَ زيدٌ زينبَ! ضربَ: فعلٌ ماضٍ في غيِّهِ مبنيٌّ على العنفِ. زيدٌ: فاعلٌ مفترٍ مرفوعٌ على كفوفِ الراحةِ، وعلامةُ رفعِهِ الدمعةُ المتساقطةُ مِن عينِ "زينب". زينب: مفعول بها مغلوبٌ على أمرها، وعلامةُ غُلبِها الكدمةُ المستترةُ تحت جلدِ الروحِ" (ص. 128)

ألم يكن تركي ذاكَ الولد الذي أكلَ تفّاحةَ النّصّ بذكاءِ فاعلٍ ترك المفعول به مقضومَ الطّرَفِ...ليروي لنا حكايةَ الخلقِ والشّرَفِ والطردِ منَ الجنّةِ، والعيش هنا تحتَ وارفِ "نثشِعريّتِهِ"، هذا المجرمُ، "مجرم الحبرِ"، الذي اجترحَ الخطيئةَ واختفى، ليحمّلَنا وِزرَ كلماتِهِ وما وراءَ كلماتِهِ، وقد اعترفَ "بجريمتِه" حينَ قال: "ندقّ الحبرَ وشمًا على أصابع الروح: سأظلُّ ألعبُ بدم القصيدةِ إلى أن تشِفَّ الورقةُ حتّى الموت، وتصبحَ قادرةً على مقارعةِ الحياةِ" (ص. 126)

إذًا هكذا تحيي الأمواتَ الأوراقَ وهي رميمٌ لتقارعَ الحياةَ بنصوصِكَ وأفكارِكَ، فتكون لكَ الكتابةُ منفذًا ومخرجًا وحجّةً وسببًا للبقاءِ على قيدِ الحلمِ؛ "تغريني الكتابةُ بحبرٍ أبيضَ، على ورقٍ أبيضَ. لكنَّ القلمَ، ربّما لطبيعةٍ مشاكسةٍ في الدمِّ، أو لتوليفةٍ غامضةٍ في الحمضِ النوويِّ، يجري بما لا يشتهي الحلُمُ" (ص. 87) قارعْ بيضَ أوراقِكَ، لكن لا تتركْنا أوراقًا بيضًا، خذنا معكَ قرّاءً يستلذّون ركوبَ الخطرِ. أوَليسَت نصوصُكَ خطرًا على العاديِّ والمألوفِ المعروف؟ كيفَ تجيزُ لنفسِكَ الخروجَ من دائرةِ المتعارَفِ عليهِ؟ ألا تخشى لومةَ لائمٍ، ولا حبرَ ناقدٍ؟ لا تخشَ! لأنّهُ أنْ تجترحَ الجرأةَ يعني أن تكونَ مبدعًا مميَّزًا، فهل اجترحَ "تركي" جرأةً في كتاباته؟

تركي خدشَ حياءَ النصِّ، وأحرجَهُ، فأخرجَهُ عن المألوفِ، وجرّحَهُ بمِبضَعِ شاعرٍ متمكّنٍ لا يخشى للرقيبِ عينًا، ولا للناقدِ لسانًا، فهو لا يهابُ سطوةَ القافية ولا عُقدةَ الوزنِ والكيلِ، ولا التصريع يُغلقُ دفّتيْهِ، ولا الترصيع يتصنّعُهُ، ولا الضرب ولا العروضَ يُشغِلُ عِرضَ القصيدةِ وشرَفَها وعرضَها وطولَها، بل يتفلّتُ معَ الريحِ، يقبضُ على الكلمةِ بإعصارِ المبدعِ لتدوخَ وتلفَّ، بما قبلها وما بعدها، وترتطمَ وتحطّمَ القوالبَ المتعارَف عليها، فتضجَّ وهي صامتةٌ، عاديّةٌ، صغيرةٌ، تقلبُ المفاهيمَ، فلا يتوقّع القارئُ نبضَ حروفِها، ولا نبضَ نعتِها، ولا نبضَ إضافتِها.. فيُخلَقُ نصٌّ جديدٌ يقتل القارئَ بقوّةِ جرأتِهِ ويحييه بغرائبيّتِهِ.

"منزّهةً عن الحلُم، تطرحُ أسئلةً يجيب عليها الدينُ أو العلمُ أو الدولةُ، هل تكونُ قصيدةً؟" (ص. 133)  "قبل خمسين عامًا، قصيدةُ نثرٍ تبحر إلى شواطئِنا. تقوم القيامة: غزوٌ ثقافيٌّ، استعمارٌ حضاريٌّ، مؤامرةٌ على اللغةِ العربيّةِ. بعد خمسين عامًا، "قصيدة" إصلاحٍ تنوي الإبحارَ إلى شواطئنا. صواريخُ عموديّةٌ وقذائفُ مفَعْلَنةٌ تنامُ عن ثعالبِها" (ص. 133)

وما بين الخمسينيْن، قبلَها وبعدها، ما زلنا نكتب العموديَّ المقفّى الموزونَ، والمنثورَ شعرًا، والموزونَ نثرًا، وما بينهم ونتجادلُ، ونقبلُ ونرفضُ، وتكونُ اعتباراتُنا جمّة، فهذا يقبلُ النثرَ المسجوعَ، وذاك يرفضُ الشِعرَ المنثورَ، وما بينهما لا يحكمه برأيٍ إلّا الإبداعُ الحقُّ الذي يفرضُ نفسَهُ، بعيدًا عن إشكاليّةِ المبنى وعن القوانين المعتمَدة، قريبًا من القلب والعقلِ، كتلك النصوص المجنونة الجريئة التي تتكاملُ بجرأةِ الطرحِ، فتطرحُ مواضيعَ يوميّة عاديّة، دينيّة دنيويّة، اجتماعيّة سياسيّة؛ فمثلًا يقول تركي عامر عن الربيع العربيّ: "ربيعٌ بلا شعوبٍ، خريفٌ آخرُ، يحاولُ إخفاءَ التجاعيدِ عن عينِ المرآةِ. رائحةُ الوقتِ صارت بطعمِ القيامةِ" (ص. 124)، فعلى عاديّة الطرح السياسيّ تأتي الكلماتُ ممزوجةً بفكرٍ يقولُ مقولتَهُ، وحبرٍ له بصمتُهُ.

ليسَ كلُّ مختلِفٍ جميلًا، بل ذلك المختلِفُ الذي لا تتوقّعُ إلى أين يأخذُكَ في قراءَتِهِ، فلا أنتَ يا تركي تُقلّدُ.. ولا أنت تفتعلُ الكلمةَ وتجمّلُها، بل هي ملَكَةٌ وموهبةٌ وثقافةٌ وتطويرٌ ذاتيٌّ وقراءاتٌ، جعلتْكَ قادرًا على هذه الكتابةِ المميّزةِ في زمنِ المتضادّاتِ، في زمنٍ إمّا ينحرفُ كتّابُهُ نحو التزمّتِ أو نحوَ الانفلاتِ، فتأتي كلماتُهم وكتاباتُهم إمّا تقليدًا وإمّا مجرّدَ كلامٍ لا جمالَ فيه ولا شاعريّة. أمّا أنتَ لأنّك أبدعتَ "لا تقل الله في قلبي، لكن قل: أنا في قلب الله"، أنا في قلوبِ قرّائي، أنا في قلبِ الحدثِ الإبداعيِّ، أنا في قلبِ الأمورِ رأسًا على عقبٍ معروفٌ، ومعروفيٌّ أنا وشاعرٌ، فاقرأوني!

اقرؤوني لأنّ قصيدتي "دائرةٌ على حلِّ شِعرِها، لا يهمُّها شرائطُ شائكةٌ، ولا شروطٌ مشربَكَةٌ. تدخلُ في غفلةٍ منّي، حقولَ أحلامٍ ممنوعة. تورّطني مع "أولياء" موالين لـِ "أوصياءَ" مقطّعين موصَّلين" (ص. 79)

اقرؤوني ولا تلحقوا بي على صهوةِ جيادِ طلباتِكم وتوقّعاتِكم، "فمهرةُ حبري، فقط إذا كانت وحيدة، تبرطع في مروجِ الروحِ. لا تستطيعُ الكتابةَ وثمّةَ مَن يهدرُ عِرقَ أذُنِها، خصوصًا إذا كان يقصقصُ بزرَ بِطّيخٍ يكسّرُ بعضَهُ" (ص. 79).

فمن تفّاحةِ الخلقِ إلى حلاوة بِطّيخِ صياغتك، أتمنّى أن تبقى دائم الإبداع، لنقضمَ تفّاحَ النصِّ ولا نُطردَ من جنّةِ التذوّقِ الأدبيّ.

مداخلة نزيه حسون الشغريّة/ معارضة قصيدة تركي عامر/(على أشكالها تقعُ الطيورُ): ويُفعمُ نبضَها عشقٌ يمورُ/ تُبلّلُنا القصائدُ يا رفيقي/ كما الأنسامُ تغمرُها العطورُ/ وتجعلُنا ملائكةً تُغنّي/ وفوقَ الماءِ في غنجٍ تسيرُ/ أطرّزُها حنايا الرّوحِ شعرًا/ إلى عينيكَ أسرابًا تطيرُ/ وأسكبُها القصائدَ لحنَ شوقٍ/ لترقصَ حينَ أتلُوها الدّهورُ/ نسيرُ إلى القصائدِ نبتغيها / وأنت إليكَ في شغفٍ تسيرُ/ وتَسكبُ ما تيسَّرَ من حروفٍ/ فتزهرُ حينَ تسكبُها السّطورُ/ تنامُ وملءَ جفنيكَ ارتياحٌ/ فتأتيكَ الشّواردُ والشّذورُ/ وتعشقُهُ الجمالَ بكلِّ نبضٍ/ فأنتَ لرايةِ الأنثى النّصيرُ/وتغزلُ في النّساءَ سطورَ عشقٍ/ يكادُ لسحرِها يشفى الضّريرُ/ فتعشقُكَ النّساءُ ولا تبالي/ وتعرفُ أنَّكَ الرّجلُ الخطيرُ/ رقيقُ الرُّوحِ تملكُ نبضَ طفلٍ/ ومنْ قلبٍ إلى قلبٍ تطيرُ/ لتزرعَ في شغافِ النّاسِ حبًا/ فيسري في حناياها الحبورُ/وتنطقُها الحقيقةَ في تحدٍّ/ ولا يثنيكَ سلطانٌ يجورُ/ إلى الحرِّيّةِ الحمراءِ ترنُو/ وضدَّ الظّلمِ في عزٍ تثورُ/ بنيتَ الشّعرَ بيتًا تلوَ بيت/ وما أغرتْكَ في الدّنيا القصورُ/ إلى حيفا أتينا الشّعرَ نشدو/ كما تشدو البلابلُ والطيورُ/ نُـكحّلُ جفنَها البحريّ شعرًا/ فيشرقُ في مباسِمِها السّرورُ/ وتبدو كالأميرةِ في سناها/ جمالُ الرّوح منها نستعيرُ/ وحيفا ربّةُ العشّاقِ سحرًا/ يتوهُ بحسنِها الصبُّ الأميرُ/ ويثملُ حينَ كرملُها يُغَنِّي/ كأنَّ نشيدَ كرمِلِها خمورُ/ وحيفا في الفوادِ لها هيامٌ/ وحيفا في الضّلوعِ لها سريرُ/ وأعصرُها شغافَ الرّوحِ عطرًا/ لتعبقَ في جدائِلِها العطورُ/ وإنْ طلبَتْ شراييني أقطّعُها/ وإنْ شاءَتْ على قلبي تسيرُ/ فهذا القلبُ مجنونٌ بحيفا/ وهذا القلبُ في حيفا أسيرُ/ ولكنّي ورغمَ العشقِ يغمرُني/ أراها اليومَ نافرةً تجورُ/ أراها اليومَ يا تركي تجافي/ وكم كانَتْ لأحضاني تطيرُ/ فتتركُني وتتبَعُكَ انتشاءً/ فأنتَ اليومَ فارسُها الكبيرُ/ (على أشكالها تقعُ الطيورُ)/ وبالأشواقِ تعتمرُ الصّدورُ/ أيا تركي وتبدو مثلَ شمسٍ/ وقلبي حولَها أبدًا يدورُ/كأنّك في سماءِ الشّعرِ بدرٌ/ تغيبُ لسحرِ طلّتِهِ البدورُ/ أبا حَسَنٍ وأنتَ الحُسْنُ يسري/ وفي أعماقِنا أبدًا تنيرُ/ قصيرٌ أنت جسمًا ليسَ إلّا/ وتعلو في السّماءِ كما النّسورُ/ وبعدَ رحيلِ شوقي عن حِمانا/ فأنتَ لدولةِ الشّعرِ الأميرُ/ ويا تركي وأنتَ رفيقُ عمرٍ/ وهذا العمرُ لو تدري قصيرُ/ لترثِيَني بشعركَ يا رفيقي/ غداةَ تضُمُّ جثماني القبورُ

كلمة تركي عامر: تحيّة للجمهور: مَسَاءُ الْمَحَبَّةِ يَا أَصْدِقَائِي!/ كَأَنِّيَ دَاخِلَ حُلْمٍ تَقَمَّصَ عِلْمًا وَأَعْلَنْ أَنَّ سَمَائِي/ عَلَى الْأَرْضِ حَطَّتْ/ بِكُمْ صَارَ هَذَا الْمَسَاءُ نَهَارًا بَهِيًّا/ فَطَابَ مَسَائِي/ لَكُمْ كُلُّ حُبِّي وَحِبْرِي/ وَشُكْرًا لِهَذَا الْحُضُورِ وَهَذَا الْبَهَاءِ.

تحيّة فؤاد نقّارة: إِلَى حَيْفَا دَعَا رُوحِي فُؤَادُ/ فَرِحْتُ فَرَاحَ يَسْبِقُنِي الْفُؤَادُ/ وَصَلْتُ كَنِيسَةً للحُبِّ فِيهَا/ عِبَادٌ مِنْ دَمِي نِعْمَ الْعِبَادُ/ بَنَيْتُمْ فِي حِمَى حَيْفَا صُروحًا/ تُحَبُّ وَلَيْسَ تَنْسَاهَا الْبِلَادُ/ وَهَذَا الْيَوْمَ نَادِيكُمْ دَعَانِي/ إِلَى عُرْسٍ يَعُودُ وَلَا يُعَادُ/ فَشُكْرًا يَا أَخِي وَاللهِ إِنِّي/ مَدِينٌ لَنْ يُفَارِقَنِي السُّهَادُ/ مُعَلَّقَةً إِذَا مَا قُلْتُ فِيكُمْ/ أَظَلُّ مُقَصِّرًا تَبَّ الْمِدَادُ.

تحيّة لسوزان دبّيني: جَاءَتْ سُزَانُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ فَرْحَانُ/ وَلَيْسَ سِرًّا بِهَا التَّوْقِيعُ يَزْدَانُ/ تُرَتِّبُ اللَّيْلَ إِعْلَامِيَّةٌ ثِقَةٌ/ عَلَى الْهَوَاءِ لَهَا صَوْتٌ وَسُلْطَانُ/ بَصْمَةُ رُوحٍ وَلَا تَمْحُو مَعَالِمَهَا/ رِيحٌ، وَقَبْلُ لَهَا فِي الشِّعْرِ قُصْدَانُ/ شُكْرًا لِصَوْتٍ تُحِبُّ الْأُذْنُ بُحَّتَهُ/ بِصَوْتِكِ الْقَلْبُ يَا سُوزَانُ سَكْرَانُ.

تحيّة لبطرس دلة: لِبُطْرُسَ هَذِي التَّحِيَّةْ: مُعَلِّمَ مَنْ عَلَّمُونِي سَلَامٌ عَلَيْكْ/ سَأُهْدِيكَ مَاذَا وَأَنْتَ الْهَدِيَّةْ؟/ جَمِيلُكَ دَيْنٌ ثَقِيلٌ/ فَكَيْفَ يُرَدُّ إِلَيْكْ؟/ أَبًا لِلرَّعِيَّةْ/ نُرَسِّمُكَ الْيَوْمَ. حُجَّتُنَا/ عَلَى صَخْرَةِ الْأَبْجَدِيَّةْ/ بَنَيْتَ لَنَا يَا أَبَانَا/ كَنِيسَتَنَا الْعَرَبِيَّةْ.

تحيّة لنزيه حسّون: أُحِبُّكَ يَا ابْنَ أُمِّي مِلْءَ قَلْبِي/ وَطَيَّ الْقَلْبِ مَنْزِلُكُمْ كَبِيرُ/ عَلَيَّ اللهُ فِي حُبِّي شَهِيدٌ/ وَيَعْلَمُ مَا تُخَبِّئُهُ الصُّدُورُ/ وَقَعْتُ بِحُبِّكُمْ وَالْحُبُّ أَعْمَى/ عَلَى أَشْكَالِهَا تَقَعُ الطُّيُورُ.

تحيّة لسالم درويش: درويش بْعدّك خيّي/ بإِسمك وبفعلك درويش/ فنّك دينو الحرّيّة/ سالم رح يبقى ويعيش/ ريّس عندك بحريّة/ ولْفردك نحنا خراطيش/ جدّي يوسف غنّيّة/ لكن ما عنّا طرابيش/ كان بيسرقلك هيّي/ لو شافا سيّد درويش.

تحيّة لراوية بربارة: أَنْتِ يَا رَاوِيَةْ،/ فِي عِمَارَتِنَا حَجَرُ الزَّاوِيَةْ./ حُلْوَةٌ بِجَمِيعِ الْمَعَانِي/ مُنِيرُ تَمَهَّلْ أَخِي نِيَّتِي صَافِيَةْ/ أُمَّ حَنَّا أُحِبُّكِ أُخْتًا لِرُوحِي/ وَزَوْجًا لِأَغْلَى صَدِيقٍ سَيَبْعَثُنِي حَافِيَا/ فَوْقَ سَطْرٍ مِنَ الْجَمْرِ أَبْحَثُ عَنْ قَافِيَةْ/ مِنْ جُمَانٍ تَلِيقُ بِعَيْنَيْ أَدِيبَتِنَا رَاوِيَةْ.

هيام أبو الزّلف: لَهَا فِي الْقِرَاءَةِ عَيْنُ الصُّقُورْ/ تَصُولُ تَجُولُ وَلَا يَعْتَرِيهَا غُبَارُ غُرُورْ/ تَرَى مَا وَرَاءَ السُّطُورِ سُطُورًا وَرَاءَ سُطُورْ/ هُيَامُ شَقِيقَةُ رُوحٍ/ رَفِيقَةُ رِيحٍ/ بِحُبٍّ تُحَاوِرُ شِعْرِي/ وَلَيْسَتْ تَضِنُّ بِصِدْقِ الشُّعُورْ.

تحيّة لنجيب سجيم: هوّي غريب الدّار لكنّو قريب/ ويخرب شطانو للقلب أكثر قريب/ الشّيطان يا خيّي غريب ومش حبيب/ لكن شيطان الشّعر م بعدّو غريب./ دخلك يَ ألله وْيا سميع ويا مجيب/ بتبعث لعنّا ناس مَ بتعرف تجيب؟/ ابعثلك حدا ع الأرض مَ بيشبه حدا/ قلّي ولك ع الأرض في عندك نجيب.

تحيّة لحفيدتي ليانة: هاي البنت اللّيوني/ بتسوى كلّ المسكونة/ بقلبي أحلى أيقونة/ وصارت تفهم ع جنوني/ هيّي ومايا ويزّوني/ والله أغلى من عيوني/ سيدون مجنون بستّون/ وستّون فيّون مجنونة.

شكرًا حتّى السّماء. إلى لقاء وبقاء ونقاء على دروب المحبّة والعطاء.

القدس: 3-12-2015 ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية في المسرح الوطني الفلسطيني ديوان"دمعة تخدع ظلها" للشّاعر احسان موسى أبو غوش الصّادر عام 2015 عن المؤسّسة الفلسطينيّة للنّشر والتّوزيع والطباعة في رام الله.

clip_image002_ea9d6.jpg

بدأ النّقاش ابراهيم جوهر:

دمعة (إحسان أبو غوش) التي تخدع ظلها

تسعى لانسجام مع الذات بعيدا عن الاغتراب الإنساني

في عالم طاحن لجمال الفراشات والربيع والحياة بتغوّله وولوغه يقدّم الشاعر (إحسان موسى أبو غوش) ديوانه الشعري الذي اختار له عنوانا ذا دلالة هو (دمعة تخدع ظلها).

الدمعة الإنسانية المرهفة لدى الشاعر تسعى لخداع وجهها الآخر كما هو حال الإنسان المغترب عن عالمه وهو لا يجد فيه ما يحقق أحلامه.

وزّع الشاعر قصائده على أربع مجموعات وفقا لمضامينها ورسائلها، وهي: تأملات- ومضات شعرية وبصيص أمل، ووطنيات- زبد على مهد القصيدة، وغزليات- نحو ظلها الآخر، ونثريات.

ويمكن أن يستشف القارئ روح الشّاعر الثائرة في احتجاجها وفي وفائها للرّوّاد الأوائل وفي سعيها للحياة. 

وتبرز ثقافة الشّاعر من خلال تناصّه مع عدد من الشّعراء والفلاسفة والأدباء الذين وجد فيهم ما يعبّر عن حالته الشّعورية والواقعيّة.

كتب الشّاعر إحسان أبو غوش القصيدة العموديّة وقصيدة التّفعيلة إلى جانب النّثر البعيد عن الشّعر وكأنّه يسعى لإيصال رسالته بأكثر من قالب واحد وحيد.

وقال نمر القدومي:

" دمعة تخدع ظِلّها "

قد يعلو بنا الشاعر إلى عالم الفضاء المجهول، ويحوم  بأسئلته المبهمة والمستعصية عن الاجابة، وقد يسبح في محيطات عميقة مستخدما تركيبات اللغة الصّعبة ليحول بيننا وبين العوم في مياهه. كان من الأجدر أن يجول بالقاريء يدا بيد في بستان من الورود المتناسقة الألوان عَطِرة الرّائحة؛ حتى نستوعب وننتشي من جمال المكان والزمان على أرض كوكبنا.

الشّاعر "إحسان أبو غوش" في كتابه " دمعة تخدع ظلّها " الذي صدر مؤخّرا عن المؤسسة الفلسطينيّة للنّشر والتّوزيع، ويقع في (117) صفحة من الحجم المتوسط، إحتوى معظمه على الشعر العمودي وبعض النّصوص الأدبيّة الموزّعة ما بين فلسفة الكون والحياة، آلام الوطن، مرارة الهجرة، الظلم والظالم ويستذكر الشّاعر الرّاحل "سميح القاسم" في وِقفةٍ جميلة لإحياء ذكراه.

هناك من الكتب والرّوايات ما إن أمسكتَ بها، لن تتركها حتى تنتهي من قراءتها كاملة مهما طال بك الوقت. أمّا ديوان شاعرنا "أبو غوش" فقد احتاج منّي بعض الإستراحات، وذلك لثقل العبارات وإنهمار الكلمات الصّعبة المستخدمة، خاصة وأنّ الشّعر العموديّ مُتعب جسديّا.

رسم الكاتب ألوانا عديدة ومتنوّعة في سرد العناوين، والمبوّبة حسب مذاقه الشّخصيّ، ما بين الخيال والواقع، المجهول والمعلوم، الرّوح والجسد والوطن ومآسيه. ولم يستغن الكتاب عن دروب الغزل المُحافظ .

لكن دعونا سويّة نقف على الأسلوب الذي اتبعه الشّاعر هنا، وكذلك غيره من الكتّاب الذين يسبحون في معاجم الكلمات اللغويّة والنّحويّة، ويمطروننا بغزير من المفردات الشّائكة المرصوصة، والتي باعتقادي تزيد من الأمور صعوبة وتعقيدا، إنَّ الكلمات والمعاني التي تلمس الرّوح ويخفق لها القلب، هي ما يبحث عنها القرّاء في وقتنا العصيب هذا .

إلاّ أنّني استمتعتُ بالنّثريات في آخر كتابه، فقد استخدم الشّاعر أسلوب الفلسفة التي عهدناها عند فلاسفة الزّمان القديم وكتاباتهم، ولا شكّ أنّه متأثّر بهم . فسؤاله عن قيمة الحياة عندما تُقطع شعرة معاوية، ليسرد لنا عن الصّراع الذي يسكن كلّ نفس بشريّة، ما بين تحقيق حلم واقعه مرّ، وبين ما تعيشه من واقع كحلمٍ جميل.

الزّمكان الغريب والذي يستفحل في العالم الإفتراضيّ لكلّ واحدٍ منّا؛ (زمن) الأقوياء الذين يخطّون التّاريخ من منظورهم المنحاز، و(مكان) التناقضات التي نعيشها في حياتنا، والبحث المُضني عن الإعتدال بين الخير والشّرّ حتى ترتاح الرّوح.

لن ننكر أنَّ كلاً منا يرسم في عالمه الخفيّ دنيا كاملة متكاملة جميلة أفلاطونيّة، فيجد تلك الرّاحة والسّعادة التائه عنها بين الأوراق المتناثرة وسط الرّكام.

الشّاعر هنا يحثّك على تفجير الغضب الذي بداخلك للكشف عن ذلك السّرّ الدّفين واخراجك من ذلك الحلم المزعج. قمّة الجمال في هذه الفلسفة الحياتيّة ألاّ نقطع شعرة معاوية، وأن نبقي رابطا خفيّا بين البشريّة، فالدّنيا مفاجآت وكم من عدو أصبح صديقا.

وتناول الكاتب علاقة الإنسان بالكون الشّاسع العظيم الذي نعيشه في تساؤلات كثيفة غاية في الأهميّة. ويفنّد لنا أنَّ حلم اللانهاية يقضّ مضجع عقولنا، ولا أمل منه.

ويضيف أننا نعيش زمنا داخل زمن، زمن لا ينضب وآخر نخطّه بأيدينا ونعيش عمرنا الكامل فيه، وينتهي بأممٍ تحت التّراب . وفي حكمة رائعة، ينصحنا الكاتب على عدم البحث في مكنون الأشياء وألاّ نجردها من صفاتها، فنصل إلى درب محكم الإغلاق .

كُن إنسانا قبل أن ترتدي رداء ليس على مقاسك.. كُن أنتَ قبل قوميتك أو حزبيتك.. حاول أن تكون كفّة الخير هي الرّاجحة في عصرٍ رجحت فيه كفّة الشّرّ والسّواد.. إبحث جاهدا عن الهدف الأسمى من وجودك واعمل به ..

الدّمعة هنا خدعتْ حاملها وخدعتْ ظلّها، وتتساقط مُغلَّفة دون دراية صاحبها، فكانت النّهاية البرّاقة لما كتب "إحسان أبو غوش".

وقال عبدالله دعيس:

هل يمكن أن تكون الدّمعة خادعة؟ وإن خدعت الدّمعة الآخرين، فهل تخدع ظلّها الذي يلازمها وما هو إلا صورة عنها؟ هذا العنّوان المحيّر لديوان إحسان موسى أبو غوش يوحي للقارئ بأنّه سيقتحم نصوصا محيّرة وصورا متناقضة معقّدة، لكنّه ما أن يبدأ بقراءة قصائد الديوان حتى يجد نفسه على شاطئ بحر هادئ، ويجد الأشرعة معدّة لحمله بسهولة ويسر؛ ليضع يديه على المعاني الذي يريدها  الشّاعر دون عناء ومشقّة. 

يبدأ الشّاعر ديوانه بمجموعة من التأمّلات في الكون والرّوح والحبّ والزّمن، ويخوض بحرا خاضه قبله كثيرون، لكنّهم لم يجدوا قاعه ولم يكتشفوا أسراره. فالكون واسع لا نعرف حدوده، والرّوح لا يعلمها إلا بارئها، والحبّ تغنّى به الشعراء على مدى العصور والأزمان، فهل يستطيع شاعرنا أن يخوض هذا البحر الهائج المتلاطم؟ 

يتأمّل الشّاعر الكائنات وهي تمرّ مرورا سريعا في هذا الكون وتذهب وكأنها لم تكن، وتنتهي وتغيب قبل أن تستطيع أن تفهم ما يدور حولها؛ فيقف محتارا أمام مفهوم الفناء وعبثيّة هذه الحياة، ويخاطب الموت ويطلب منه التأنّي وهو يرى سرعة الحياة ويقول له: يا موت قف هنيهة. 

لكنّه يبتعد عن النّظر إلى الأشياء بمادّيّة بحتة، فلكل شيء روح، وإلا لما كان هناك معنى للحياة وللقصائد. فالأمومة هي أروع ما وُجد على وجه هذه الأرض، أمّا الصداقة الحقيقيّة فلا وجود لها في نظره. وينظر الشّاعر إلى الحبّ نظرة عميقة روحانيّة، فالحبّ في نظره هو التّضحية والدّموع بعيدا عن الشّهوات. ثم يعود الشّاعر لمعضلة الفناء، ويرى الزّمن وهو يمرّ سريعا والكائنات وهي تجري نحو النهاية، لكن هل هناك معنى للحياة من غير مرور الزّمن؟ وهل الفناء هو مدخل لحياة جديدة؟ معضلة الحياة والفناء تشغل الشّاعر وتزيد من حيرته.  

يرى الشّاعر في قصائده روح الأشياء وجوهرها، فهو يرقب النّاس وهم يلهثون وراء الحداثة والمدنيّة ويتمسكّون بقشورها، بينما يتخلّون عن أصالتهم، كالأسير الذي يلحق ظلّه الذي لن يقوده إلى مكان أبعد من جدران زنزانته. فالنّاس يفنون حياتهم في بحثهم عن متعة الجسد الذي يشبّهه الشّاعر بالذَكر بسطوته وجبروته، أمّا الرّوح التي يغفل النّاس عنها، فهي الأنثى الرّقيقة الجميلة، فالاعتناء بحاجات الجسد وإهمال الروح يجرّد الدنيا من بهائها. وفي خضمّ هذا الصّراع ينسى الإنسان الرّحمة، التي تتجسّد في معنى البسملة، ويلجأ إلى العنف حين لا يوجد مكان لاختلاف الآراء.

ويعنون الشّاعر للمجموعة الثّانية من قصائده بِ (وطنيات: زَبَد على مهد القصيدة) متناصّا مع قوله تعالى: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْض." وما الزّبد هنا إلا العدوّ الذي ظنّ أنّه دمّر روح هذا الوطن، عندما بنى حضارة زائفة على أرضه لا تلبث أن تذهب جفاء؛ فوجوده على هذا الأرض تماما كالزّبد الذي يصاحب المياه الجارية، لا وزن له وإن علا وامتدّ. 

وطنيّات شاعرنا جميلة تثير المشاعر بلطف، وتفضح ظلم المحتلّ وجبروته دون أن تصف فظائع الاحتلال وصفا مباشرا منفّرا. فهو يذكر القرى التي دمّرها الاحتلال ومحاها عن خريطة الوطن لكنّها تبقى حيّة في قلوب أبنائه، ويرثي قرية عمواس رثاء مؤثّرا، ويصف المعاناة على حواجز الاحتلال وسوداوية جنوده الذين يمنعون الحركة. ثمّ يرسم الشّاعر صورة مؤثرة لبراءة الطّفل المحروق في فلسطين، والطّفل الغريق على سواحل اللجوء، حتى يظهر بشاعة قاتلهم. 

بحرقه طفلا أماتوا الطّفولة!

بقتله روحا أزالوا الوداعة!

فمن يتفنّن نَصّ البقاء؟

ومن يأمر النّار 

كوني سلاما وبردا على

جسد لصغير رضيع؟

وفي قصائده الوطنيّة يعمد إلى إدارة حوار بين الضحيّة والجلاد، وبين السّجين والسجّان، يفضح فيه بأسلوب أدبيّ جميل بشاعة الاحتلال وتفاهة حججه الواهية، فنرى الطفل الشهيد وهو يخاطب قاتليه قائلا:

لماذا تودّون قتلي إذا؟!

لكوني أنا لست أنت؟

لسمرة عينيّ؟ لجسمي النّحيل؟ لاسمي المقدّس؟

لرسمي العروبيّ؟ لعطفي لأرضي؟ لقدسي؟

ونلحظ أنّ الشاعر يوظّف الأسطورة في بناء قصائده وصوره الشّعريّة، ولا يكتفي بالأساطير اليونانية بل يتعداها ويستلهم بعض الأساطير العربيّة والبابليّة والكنعانيّة، ويتناصّ مع القرآن الكريم، ويستخدم بعض أسماء الفلاسفة والشّعراء والمشاهير؛ ليدل على فكرة معيّنة. فنراه يذكر ميكافيلي ونتشه وجيفارا ودرويش، وهذا يدلّ على سعة اطّلاعه وثقافته. لكن في بعض النّصوص نلحظ التكلّف في إقحام الأسطورة بما لا يخدم النّص. تأمّل قوله في قصيدة (في الزّنزانة:

أوديب سالب روح والده

ألا يعدو إلى زنزانتي ليزورني

ويريحني من سيّد

يدعى زمن؟

فما علاقة أسطورة أوديب بعذابات السجن؟

بينما نجده موفّقا عندما استحضر اسطورة جلجامش الذي يبحث عن الخلد في قصيدة (حرقوك طفلا) فحيرة جلجامش حينما رأى صديقه أنكيدو ميّتا، تتضاءل أمام حقيقة حرق الرّضيع، وأيّ خلد سيجد جلجامش أعظم من خلد وهبه الأعداء للشّهيد عندما حرموه نعمة الحياة بوحشيّة وساديّة.

ويختم الشّاعر ديوانه بمجموعة من القصائد الغزليّة، والتي تتنوع بين القصيدة العموديّة والشّعر الحرّ، يحاول فيها أن يخرج عن النّسق العامّ للديوان في تأملاته الكونيّة وقصائده الوطنيّة. في هذه القصائد، لم ألمح العاطفة الجيّاشة التي امتازت به قصائده الوطنيّة ولم أرَ ذات المستوى من الموسيقى والصّور الفنّية.

ويتساءل الشّاعر في نهاية كتابه وبنصّ نثريّ، ماذا بعد؟ لنراه ما يزال حائرا فيما وراء الكون وفي معضلة الموت والحياة والفناء فيقول:

"ومن أكون في ظلّ هذا الزّمن وذاك الكون؟ هل أنا الطفل الرّضيع أو هذا الشّابّ اليانع أو ذاك الشّيخ الذي اشتعل رأسه شيبا؟ وماذا سأكون بعد أن يواريني التّراب؟"

أمّا سوسن عابدين الحشيم فقد كتبت:

من القراءة التحليلية للكتاب والذي يجمع بين النثر والشّعر، نجد أنّ الشّاعر اتّجه اتّجاها روحانيّا بعيدا عن المادّة، متّبعا أسلوب الخطابة؛ ليوضح البعد الانسانيّ الفلسفيّ في الحياة، وقد قسّم كتابه إلى أربعة أقسام وفي كل قسم يتأمّل الشّاعر ويفكّر ويسأل ، تساءل في أوّل الكتاب عن الكون وماهيّته، وانتهى بنفس السّؤال غريب أمرك أيّها الكون! ما الهدف الأسمى من وجودك؟ وبعد تحقيقه ماذا بعد؟ هنا سأسلّط الضّوء على فلسفة الوجود أو الوجوديّة والتي حيّرت كثيرا من الفلاسفة؛ ليبحثوا ويفكّروا بماهيّة الكون والوجود الانسانيّ، ليكون الانسان انسانا وله وجود فعليه أن يتفكّر وأن يتأمّل في هذا الكون، ففي ص ٩ نجد الكاتب يسأل ويجيب عن أسئلته عن الكون والكائنات الموجودة، فيه ويخرج بنتيجة أنّ الكلّ فان والبقاء له وما يبقى بسطر الذّاكرة"، يستفسر الشّاعر بلغة سلسة مستخدما صور الحياة الطبيعيّة التي خلقها الله في هذا الكون، فيلجأ إلى الرّوح وارتباطها بكلّ شيء في الحياة في مسألة الحبّ والزّمن والصداقة والأمومة والحداثة، كما يسأل عن الموت فيقول له مخاطبا " يا موت قف هنيهة، مت ولو للحيظة لأعيد أحلاما بلمسات المساء" كأنّ الكاتب يريد أن يوصل إلى قرّائه مفاهيم الحياة المتناقضة الحياة والموت، الرّوح والجسد، فسلفة الحياة والرّوح عنده تبدو واضحة في قوله" لو كان عالمنا بلا روح فلا معنى لمعنى الأضحية!فكل شيء في الحياة له ضدّ في المقابل، ففي نصّه "حوار مع سجّان، نراه بكل عزم وثقة يتباهى بعروبته وانسانيّته فينهي نصّه "نحيا حبّا معنى عطرا نحيي فينا قلب الإنسان"، نحن موجودون ولا أحد باستطاعته الغاء هذا الوجود لشعب له ارادة وكرامة وعزّة، له حقّ الحياة وحقّ الطّفولة ببراءتها المغتصبة، لقد حرقوا الطفولة بحرقهم لمحمد، فيخاطب الشّاعر المحتّل في ص ٥٩، لماذا تودّون قتلي إذن؟ لسمرة عينيّ؟ لجسمي النّحيل؟ لاسمي المقدّس؟ لرسمي العروبيّ؟ لعطفي لأرضي؟ لقدسي؟ لنسلي المؤرّخ؟ لرأيي الصّريح ؟ لعرضي المبجّل؟ وجودي، كياني، بهائي، عزائي، رجائي، شقائي، لقوميّتي ، أم لأمر مدبّر، فيجيب على تساؤلاته ب "تفكر تدبّر ولا تتكبّر! وهنا يعود الشّاعر إلى مبدأ الوجوديّة، ونلاحظ الكاتب تأثّره بكبار الفلاسفة أمثال ارسطو وديكارت وسارتر ودانتي، وبالقصص العالميّة مثل جلجامش والأساطير اليونانية هوميروس وأوديب، والفلاسفة العالميين أمثال ميكابيلي و نتشه، لكنّه لم يتطرق لاظهار فلسفتهم وترابطها في افكاره، ونجد الكاتب في بعض أبياته يذكر قصصا قرآنية مثل قصّة نوح ويوسف، فلا شكّ أنّ الشّاعر يملك ثقافة عالية وظّفها في نصوصه الشّعرية والنّثرية، ليلخص ما يجول في نفسه من أفكار فلسفيّة وطنيّة وروحانيّة، ليربطها معا محاولا كشف الذّات الانسانية ببساطتها وصدقها وروحانيتها  فيقول على غلاف كتابه "كن فراشا ليلكيّا يحمل الرّوح إلى جلّ ربيعه، كن مياها بشفافيتها تكشف ذاتك، كن مدادا يرسم الصّدق بحرفه، كن كفينيق يعيد  السّنبلة".

وقالت نزهة أبو غوش:

          تضمّن الدّيوان قصائد من الشّعر الكلاسيكي وشعر التّفعيلة، وبعض النّصوص النّثريّة.

اخترت قصيدة  تفعيليّة" في الحاجز" ص  43- 39؛ من أجل تحليلها. 

القصيدة على ايقاع البحر المتقارب.

حاول الشّاعر إِحسان أبوغوش في ديوانه البكر أن يبتعد عن الغموض في تعابيره، حيث نجد أنّها  تزداد اتّساعًا، وجماليّة " على بعد ميل وخمسٍ وكعبينِ هناك سذاجة جنديٍّ... على بعد مترٍ وسبع ورمشين"، هنا يبدو الاتّساع  الذَكي في رموز مقاييس المسافة الّتي تبتعد عن الحاجز. لقد انتقى الشّاعر كلماتِه بدقّة واتقان، ربّما  نلحظ فيها أيْضًا التّجديد في المعاني المألوفة، فسدرة المنتهى مثلًا، تُعرف بأنّها شجرةٌ عظيمة تقع آخرُ مكان  بالجنّة. . لقد كان رائعًا اختيار الشّاعر لهذه العبارة للتّعبير المبالغ به لوصول الطّير لمنطقة الأمان بعد أن حجز طويلًا على الحاجز، والطّير هنا هو الرّمز للفلسطينيّ المكبّل المحجوز من الحرّيّة. 

عند قراءّتنا لكلمات الدّيوان، نشعر بعبارات استفزازيّة تستفزّ القارئ ، وتخلق لديه مزيدًا من التوتّرً، هذه العواطف خلقها الشّاعر توافقًا مع روح الزّمن الّذي يحياه الفلسطيني اليوم خلف حاجز يكبّل كلّ نفَس فيه، وهذا ما يسميه النّقاد ب " اشعاع روح العصر" في القصيدة. نحو: " مكانك قف أيّها الشّيخ /واخلع حذاءَيك وانفض غبار الموت......لأنّك عن السّراط تمرّ جحيمًا لدانتي" ..." هناك فتاة تجاوزت النّكساتِ/ تؤجّل وضع الجنين/ بعيد الحواجز....

لدى الشّاعر أبو غوش نلحظ الطّاقة الشّعريّة المتفجّرة بالقصيدة، حيث أنّه في تعبيره يحاول أن يبحث عن التّميّز: " سنحفر صخر الحواجز/ برموش العيون/ وندفن جهل النّفوس/ بقعر الحفر/ فلا  ذنب...إِلا إِذا شاء ربّ القدر. 

تزدحم لغة القصيدة" في الحاجز"  بعمق الاحساس البلاغي، حيث الاستعارات والتّشبيهات، والكنايات، ممّا أضاف جماليّة للّغة القصيدة ، نبضًا وايقاعًا موسيقيًّا داخليًّا ينمو عن  طموح الشّاعر احسان نحو الاحتراف.

استخدم الشّاعر في قصيدته الرّمز، حيث وظّفه بشكل جماليّ فأضاف للمعنى عمقًا وتميّزًا ني. هناك الرّمز الكلّي، والرمز الجزئي:

 حيث أنّ القصيدة كلّها عبارة عن كناية، أو رمز للفلسطيني المكبّل بأرضه،  الفلسطيني المحتلّ، المحجوز، المعرّض لأنواع التّسلّط.

أمّا الجزء الثّاني فهو الرّموز الدّاخليّة في نصّ القصيدة: 

الهويّة، اللون، الابجديّة، جذع الشّجر، الطّير، تردّد الأصوات، بلاد الظلام...وغيرها

الأصوات في القصيدة: لقد تميّزت القصيدة بكثرة الأصوات الّتي تُردّدُ على الحاجز.نشعرها تردّد من كلّ صوب:

صوت الجنديّ بعنجهيّة وكبرياء" مكانك قف أيّها الشّيخ..... فلا عيش للعيش عند الحواجز الا اذا شاء القدر"

أصوات الباعة المتجوّلين رغم صمت السّماء تتردّد أصواتهم فتخلق نوعًا من الضوضاء. بائع التّين ينادي على بضاعته، وبائع الزّيت، كذلك أصوات المشاة، وأصوات الأطفال، وصوت المرأة الّتي أجّلت ولادتها بينما تعبر الحاجز، نكاد نسمعها تخاطب جنينها: مهلًا يا صغيري، تمهّل قليلًا. أرجوك يا ألله صبّره في بطني حتّى يأتي الفرج. 

صوت صدى الموت، صوت الزّير سالم، وأصوات جنود عمرو في المعارك الّتي تصلصل بها السّيوف.

هناك أصوات جحيم دانتي، كم هي مرعبة تلك الأصوات!   نكاد نسمع تردّد كلّ هذه الأصوات في عقولنا وقلوبنا وضمائرنا الّتي ترفض هذا الواقع المفروض علينا.

وشارك في النّقاش عدد من الحضور منهم: محمد عمر يوسف القراعين، ديمة السّمان وجميل السلحوت.

clip_image002_7c700.jpg

يتساءل كثيرون عن جدوى كتابة وتدوين بعض جوانب تراثنا الشعبيّ القوليّ، فبعضهم يعتبرون ذلك من باب التّسلية، وبعضهم الآخر يستنكر عمليّة التّدوين على اعتبار أنّها تسجّل لمراحل "تخلّف" من حياة شعبنا وأمّتنا، وبعضهم يستنكر مضمون هذا التّراث؛ لأّنّه لم يعد يناسب المرحلة المعاشة، وبعضهم يهاجم الكاتب الذي يقوم بعملية التّدوين معتبرا أنّ المضمون الذي جاء في جزئيّة التّراث المدوّنة يمثّل موقف الكاتب.

ولهذا ولأسباب أخرى كان لا بد من الوقوف وقفة عابرة ومختصرة مع التّراث، لأنّ التفصيل في ذلك يحتاج الى مجلدات.

وفي البداية دعونا نتساءل عن مفهوم التّراث الشعبيّ، وللإجابة على هذا السّؤال يجب أن نعود إلى الأصل اللغويّ لكلمة تراث، فهي مشتقّة من الفعل ورث يرث، وهو ما ورثه الأبناء عن الآباء والأجداد، واقتران التّراث بالشّعب ومصطلح التّراث الشّعبيّ يعني ما ورثناه من حكمة الآباء والأجداد، مع التّأكيد على أنّ كلّ حضارتنا السّابقة لجيلنا هي إرث الآباء والأجداد، فالدّين ورثناه عن أبائنا وأجدادنا، فكمسلمين مثلا فإنّ الوحي نزل على الرّسول محمّد صلوات الله وسلامه عليه، واكتمل الدّين الاسلإميّ في عهد النّبوّة، ونحن ورثنا هذا الدّين أبا عن جدّ وجيلا بعد جيل، وكذلك الحال بالنّسبة للدّيانات الأخرى، والكعبة المشّرفة والمسجد النّبويّ الشّريف والمسجد الاقصى وغيرها، وكذلك كنائس القيامة في القدس والمهد في بيت لحم والعذراء في النّاصرة وغيرها هي ما ورثناه عن أبائنا وأجدادنا.

والأدب الرسميّ الفصيح بدءا من الشّعر الجاهليّ والمعلقات السّبعة مرورا بشعر صدر الدّولة الاسلاميّة والعصور اللاحقة إلى الجيل السّابق لنا، يضاف إليه عيون أمّهات الكتب في مختلف المجالات، كلّها ممّا ورثناه عن الأباء والأجداد ومبدعوها معروفون بالإسم .

وما يهمّنا هو التّراث الشّعبيّ وهو مجهول القائل، بل هو ابداع شعبيّ جماعيّ، أو ربّما أبدعه شخص بعينه فاستساغه الشّعب وردّده دون ذكر قائله، وقد أطلق الباحثون الغربيّون على الأدب الشّعبيّ "علم الفلكلور".

والتّراث الشّعبيّ ينقسم إلى قسمين هما:

- التّراث العمليّ: وهو ما يتعلق بالحضارة العمليّة المادّيّة الموروثة مثل الأبنية والمدن والقرى والحصون، والأزياء الشعبيّة، وأدوات المطبخ، أدوات الزّراعة، والآلات الموسيقيّة ......الخ.

- التراث القولي: وهو الأقوال الموروثة مثل الأمثال، الحكايات، الأغاني ...الخ

التّراث جزء من الهوية الوطنيّة:

والتّراث في مجمله هو حضارة الآباء والأجداد، ولا يمكن لشعب أن ينتج حضارة إذا لم يعرف الاستقرار، وأمّتنا العربيّة أورثت العالم أجمع حضارة كانت الرّائدة في مختلف المجالات، بل تربّعت على عرش الحضارة العالميّة دون منازع حتى القرن الرّابع عشر الميلادي، أي بداية نشوب  الصّراعات داخل أقاليم الدّولة.

ونحن كفلسطينيين وكجزء من الأمّتين العربيّة والإسلاميّة، ورغم المؤامرات التي حيكت ضدّ بلادنا، وكثرة الغزوات التي تعرضنا لها عبر التّاريخ، إلا أنّنا ساهمنا مساهمة ملحوظة في بناء الحضارة الانسانيّة، والمراقب المحايد لفلسطين التّاريخيّة سيجد أنّها أشبه ما تكون بمتحف كبير يحوي في جنباته كنوزا حضاريّة، بناها الآباء والأجداد عبر التّاريخ، وهذه الحضارة هي جزء رئيسيّ من مكوّنات الهويّة الوطنيّة الممتدّة تاريخيّا، وإذا كان الآخر ينبش باطن الأرض بحثا عن شيء ولو ضئيل؛ ليثبت وجوده التّاريخي في هذه البلاد، فإنّ مئات المدن والقرى والمساجد والكنائس، والزوايا والتّكايا والقصور والحصون والكهوف وآلاف المنحوتات والرّسومات تقف شامخة أمام البعيد والقريب وشاهدة بأن هذه الدّيار تأبى أن تكون إلا فلسطينيّة عربيّة.

ولا يخفى على أحد أنّ تراثنا الشّعبيّ يتعرّض لعمليات طمس وتشويه وسرقة، ويحاول الآخر أن ينسبه إليه بعد أن يجرّدنا منه في محاولة لإثبات وجوده ونفي وجودنا، وهناك عشرات الأمثلة على ذلك، وقد جاءت هذه المحاولات المعادية مصاحبة لنكبة الشّعب الفلسطينيّ وتشريد ملايين الفلسطينيين في أصقاع الأرض، وعدم وجود دولة وطنيّة ترعى شؤون الفلسطينيين، فإنّ ضياع التّراث الفلسطينيّ أصبح مسألة جديّة، ومن هنا تنبع أهمية جمع التّراث الفلسطينيّ ووضع الجانب العمليّ منه في متاحف، وتدوين القوليّ واخضاعه للبحث والدّراسة ونشره.

وقد يتساءل البعض مثلا من باب الرّدّة الثّقافية، أو الانسلاخ عن الجذور، أو من باب الجهل في جدوى جمع والحفاظ على أشياء تراثيّة عفا عليها الزّمن؟ مثل ماذا نستفيد من"الطابون" ومن "الصّاج" اذا وضعناهما في متحف، ونفس الشّيء المحراث البلديّ وغيره؟ وأنا أقول أنّ "الطّابون" و "الصّاج" -الذي كان يُعدّ عليه خبز "الشراك"- اللذين استعملتهما أمّهاتنا وجدّاتنا، يحقّ لنا أن نفخر بهما، لأنّ غيرنا لم يكن يعرف الخبز في تلك المرحلة، وهذا لا يتناقض مع استعمال زوجتي وابنتي للفرن الكهربائيّ مثلا في هذه المرحلة، واستعمالنا للمحراث البلديّ لحراثة أراضينا على الحمير والبغال والبقر هو موضع فخر لنا، سابقا والآن ولاحقا، فبلادنا فلسطين جبليّة، أجزاء كبيرة منها لا يمكن استعمال الآلات الزراعيّة الحديثة فيها لوعورتها، وبما أنّ شعبنا شعب مزارع فإنّه لا يترك أرضه الجبليّة دون استغلال، ولا سبيل أمامه لحراثتها إلا بهذه الطرق، وقد سجّل الكثير من السّائحين إلى هذه البلاد اعجابهم بقدرة الانسان الفلسطينيّ على استغلال أرضه الجبليّة، وتحويلها إلى حدائق غنّاء رغم وعورتها، وهذا بالطّبع لا ينفي استعمال الألات الحديثة في السّهول.

أمّا بالنّسبة للتّراث الشّعبي القوليّ، فإنّنا مطالبون أيضا بجمع وتدوين هذا التّراث بما له وما عليه، بايجابيّاته وسلبيّاته، وما قد يعتبره البعض سلبيّا في عصرنا هذا لم يكن كذلك في عصره.

ويجدر التّنويه هنا أنّ تراثنا الشّعبيّ تراث طبقيّ، فكلّ طبقة اجتماعيّة أفرزت تراثها من أغان وحكايات وأمثال ونوادر وعادات وتقاليد .......الخ. ومن السّذاجة بمكان أن يرى البعض أنّ من يدوّن جانبا من جوانب التّراث، ويقوم بنشره إنّما يعبر عن نفسه، فمثلا الأغنية الشعبيّة الغزليّة التي قالها أحد الأعراب والتي يصف فيها حبيبته بقوله:

بوزك يلمع مثل بوز البسطار وحبّك في قلبي مثل دبيك البغال 

لا يمكن ان نصف ناقلها بأنّه قائلها، وكذلك الحال بالنّسبة للحكايات الشّعبيّة التي تحمل مضمونا سلبيّا من المرأة مثلا، وكما قالوا ناقل الكفر ليس بكافر ..وهكذا.

 وعودة إلى كتاب الحكواتيّ عبد الحكيم سمارة هذا، حيث نلاحظ أنّه بذل فيه جهدا بحثيّا واضحا، فجاءنا بخليط من الأمثال، الحكايات، الأقوال، النّوادر والفكاهة الشّعبيّة، وجاءنا بأمثال تكاد تكون معروفة في العالم العربيّ كلّه، وجاءنا بأخرى محلّيّة لا يعرفها إلا أبناء منطقتها فقط" كالأمثال من قرى عقربا، كفر مالك وعرب السّواحرة" وليته بذل جهدا في هذا المجال وجمع الأمثال الشّعبيّة الفلسطينيّة المحلّية، والموجودة في كلّ قرية ومدينة وتجمّع سكّاني فلسطينيّ متجانس. ورغم الملاحظات العديدة حول الأسلوب والصّياغة والأخطاء اللغويّة والمطبعيّة، والخلط بين اللغة الفصحى واللهجات المحكيّة، إلا أنّ ما قام به من جهد في تجميعه وتدوينه يستحقّ الاشادة.

*هذا هو تقديمي لكتاب "الغراب والبومة وابن الحكومة" للكاتب عبد الحكيم سمارة الذي صدر مؤخرا عن منشورات "شمس-جت- المثلث الفلسطيني".

رُؤى ثقافيّة 186

نتوقف في هذا المقال عند ظاهرة الأمراض التي ألمـَّت بالفراعنة؛ فقد رأينا في المقالات السابقة أن الفرعون الأوّل الذي قدَّرنا أن موسى عاش صِباه في عهده (تحوت موسى الثاني)، اعتلّ فور اعتلائه العرش، ومات في الثلاثين من العمر، ومومياؤه تدلّ على أنه كان مصابًا بمرض جلدي.  وكذلك ابنه (تحوت موسى الثالث)، وحفيده (أمنحُتِب الثاني)، الذي قدَّرنا أنه فرعون الخروج.  ثمَّ إن ابن هذا الأخير، (تحوت موسى الرابع)، الذي تولَّى بعد أبيه، وعقِب خروج بني إسرائيل المفترض، لم يكن وريث العرش، بل وصل إليه بحيلة رؤيا مناميَّة، ادَّعَى أنه جاءه فيها البشير من (أبي الهَول) بأحقيّته بتاج مِصْر!  وقد كان خامل الذكر سياسيًّا، عليل الصحة، هزيل الجسم بصورة لافتة، كما دلّت على ذلك مومياؤه، وسرعان ما توفي شابًّا في الثلاثين من العمر، وذلك بمرض غير معروف.(1)  وربما قال قائل إنه إلى هذا كانت إشارة "التوراة" إلى ما حذَّر الله به فرعون قائلًا: "فَقُلْتُ لَكَ: أَطْلِقِ ابْنِي لِيَعْبُدَنِي، فَأَبَيْتَ أَنْ تُطْلِقَهُ. هَا أَنَا أَقْتُلُ ابْنَكَ الْبِكْرَ."(2)  وظاهرة تلك الأمراض دعت بعض الدارسين إلى افتراض أن هذا كله كان عن مرضٍ عائليّ.(3)  غير أن المؤمن بما جاء في "التوراة" و"القرآن" حول ما أصاب المصريِّين من أمراض- والآخِذ بفرضيَّتنا حول فرعون التسخير والخروج- يمكن أن يكون له تفسير آخر لتلك الظواهر الصحيَّة.  فحسب (سِفر الخروج) أن الأوبئة ضربت المِصْريّين، ومنها "الدُّمَّل"(4)، ضِمن آيات موسى وهارون لإنذار فرعون:

"ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى وَهَارُونَ: "خُذَا مِلْءَ أَيْدِيكُمَا مِنْ رَمَادِ الأَتُونِ، وَلْيُذَرِّهِ مُوسَى نَحْوَ السَّمَاءِ أَمَامَ عَيْنَيْ فِرْعَوْنَ، لِيَصِيرَ غُبَارًا عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ. فَيَصِيرَ عَلَى النَّاسِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ دَمَامِلَ طَالِعَةً بِبُثُورٍ فِي كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ". فَأَخَذَا رَمَادَ الأَتُونِ وَوَقَفَا أَمَامَ فِرْعَوْنَ، وَذَرَّاهُ مُوسَى نَحْوَ السَّمَاءِ، فَصَارَ دَمَامِلَ بُثُورٍ طَالِعَةً فِي النَّاسِ وَفِي الْبَهَائِمِ. وَلَمْ يَسْتَطِعِ الْعَرَّافُونَ أَنْ يَقِفُوا أَمَامَ مُوسَى مِنْ أَجْلِ الدَّمَامِلِ، لأَنَّ الدَّمَامِلَ كَانَتْ فِي الْعَرَّافِينَ وَفِي كُلِّ الْمِصْرِيِّينَ. وَلكِنْ شَدَّدَ الرَّبُّ قَلْبَ فِرْعَوْنَ فَلَمْ يَسْمَعْ لَهُمَا، كَمَا كَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى."(5)

فلماذا يستبعد بعض الدارسين أن يكون وباءٌ قد اجتاح هؤلاء، بقطع النظر عن سببه، إعجازيًّا كان أو غير إعجازيّ؟

بذا فكأن (أمنحُتِب الرابع/ أخناتون، -1336/  1334ق.م)  إنما تأثَّر في ثورته الدِّينيَّة اللاحقة بعاملَين: دعوة موسى التي أدرك آثارها وأخبارها من عهد أبيه (أمنحُتِب الثالث)، وجدَّيه الأدنَين (تحوت موسى الرابع)، و(أمنحُتِب الثاني)، وما لعلّها وقعت من أحداثٍ إبّان الخروج وأعقابه، ممّا دفعه لإعادة التفكير بجرأة في عقائد المِصْريِّين، فوُصم بالهرطقة، وانقُلب على توجّهه التوحيدي.  والمؤرخون يشيرون إلى أن حركة الإصلاح الدِّيني كان تيّارها قد بدأ بعد (أمنحُتِب الثاني) مباشرةً، منذ عهد ابنه (تحوت موسى الرابع)، وذلك نحو الاتّجاه إلى التوحيد(6)، وصولًا إلى نضج هذا التيار في عهد (أخناتون)، الذي انقلب عليه لاحقوه من الفراعنة، عائدين إلى ما وجدوا عليه الأسلاف قبل (تحوت موسى الرابع).(7)  فماذا يعني هذا (بداية التوحيد بعد وفاة أمنحُتِب الثاني)؟  ألا يشي بأنه بأثر الدعوة الموسويَّة، وما تمخّض عنها من آثار في الوجدان المصري، في عهد (تحوت موسى الثالث)، فرعون الاضطهاد، و(أمنحُتِب الثاني)، فرعون الخروج؟!  يبدو ذاك.

من هذا يتضح أن رسائل الاستغاثة التي وردت إلى (أخناتون) من الكنعانيين في فلسطين تنسجم مع هذا التحليل؛ إذ يكون قد مضى على خروج العبرانيّين من مِصْر نحو 60 سنة.   فهي تعبِّر عن وصول هؤلاء الخارجين إلى فلسطين وبدئهم في مناوشة الكنعانيِّين عن أرضهم.  لكن أخناتون لم يُعِرهم التفاتًا لأنه من جهة كان مشغولًا بالإصلاح الدِّيني الداخلي، ومن جهة أُخرى كان يبدو على مِلَّة توحيديّة تقترب من دعوة موسى، وليس خصيمًا لها، كسابقيه ولاحقيه من الملوك.

ثمَّ جاءت لوحة (مرنبتاح، -1203 ق.م)، التي تشير إلى انتصاره على أرض كنعان وإسرائيل معًا، والقائلة: "إسرائيل ضائعة، وبذرتها عقيم، أو لا تنمو"، لتدلّنا على أن الصراع مع أولئك الفارِّين من مِصْر كان ما يزال مستمرًّا، بعد قرابة قرنَين.  غير أن ذلك النصّ يحمل دلالات على أن العبرانيِّين قد صاروا يمثّلون قوة خارجية- إلى جانب الكنعانيِّين والحثيِّين- وأنهم أصبحوا كيانًا مستقلًّا عن مِصْر؛ ولذلك قال: "وخربت إسرائيل"، كما وصفهم بالتِّيه والضياع.  وفي هذا إشارات واضحة إلى أنهم باتوا خارج مِصْر، وأنهم صاروا كيانًا يُحسب له حساب، وأن خروجهم، إذن، كان قبل عهده بأمد طويل.

ثمَّ إذا رجعنا إلى "العهد القديم"، كما يقول كاتب المقال أ.د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي، وجدناه قائلًا: "وَكَانَ فِي سَنَةِ الأَرْبَعِ مِئَةٍ وَالثَّمَانِينَ لِخُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِمُلْكِ سُلَيْمَانَ عَلَى إِسْرَائِيلَ، فِي شَهْرِ زِيُو وَهُوَ الشَّهْرُ الثَّانِي، أَنَّهُ بَنَى الْبَيْتَ لِلرَّبِّ."  فإذا علمنا أن سليمان توفي في بدايات القرن العاشر قبل الميلاد، بدا هذا التاريخ منسجمًا مع تقديرنا خروج العبرانيِّين في عام 1401ق.م.  ويكون بناء الهيكل عام 921ق.م تقريبًا: [1401- 480= 921ق.م].  وهنا لا بُدّ من إعادة النظر في تاريخ وفاة سليمان أيضًا، الذي يُذهب فيه إلى أنه 925ق.م، أو قبل ذلك.  فإذا صحّ ما تقدَّم، لزم أن تكون وفاة سليمان بعد 920ق.م بسنوات، فهو- على كلّ حال- لم يُعمَّر طويلًا، بل توفي عن نيِّف وخمسين سنة.(8) 

أمَّا ما ورد في "التوراة" من أن "إِقَامَة بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أَقَامُوهَا فِي مِصْرَ كَانَتْ أَرْبَعَ مِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً"، ففيه نظر، وقد يبدو تقديرًا ارتجاليًّا خاطئًا.  ولعلّ إقامتهم في مِصْر لا تتجاوز قرنَين ونصف، خلال حكم (الهكسوس)، ثمَّ جاءت الأسرة الفرعونيَّة الثامنة عشرة فطردت الهكسوس، وسرعان ما لَحِق بهم العبرانيُّون، بعد سبعة ملوك، وذلك في عام 1401ق.م تقريبًا.  على أنه ينبغي أن تؤخذ الأرقام التي ترد في "التوراة"، وفي "العهد القديم" عمومًا، بتحفّظ شديد، لا بدلالاتها الحَرفيَّة.  ذلك أنه- فضلًا عن المبالغات الفاحشة في الأرقام الواردة في حروب بني إسرائيل، وما تُساق فيها من أرقام خياليَّة، الهدف منها التهويل والترهيب- يُلحظ أن الرقم "أربعة" بخاصَّة كان يمثِّل رقمًا نمطيًّا يتكرّر في "العهد القديم"، على نحوٍ لافت، وكأنه لا يعني حقيقة الرقم، بل تعظيم العدد؛ فهو يبدو من هذه الناحية مثل الرقم "سبعة" في العربيَّة القديمة.  فأنت تجد، مثلًا، القول: إن مطر الطوفان استمرّ "أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً".  وإن أَرْفَكْشَاد عاشَ أربعَ مِئَةٍ وثلاثَ سِنينَ، وعاشَ شالَحُ أربعَ مِئَةٍ وثلاثَ سِنينَ، وعاشَ عابِرُ أربعَ مِئَةٍ وثلاثينَ سنة.  فعُمْر الأخيرَين هو نفسه عُمْر إقامة بني إسرائيل في مِصْر!  وقال الرب لإبراهيم: "اعْلَمْ يَقِينًا أَنَّ نَسْلَكَ سَيَكُونُ غَرِيبًا فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ لَهُمْ، وَيُسْتَعْبَدُونَ لَهُمْ. فَيُذِلُّونَهُمْ أَرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ".  "وَكَانَ إِسْحَاقُ ابْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمَّا اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ زَوْجَةً".  "وَلَمَّا كَانَ عِيسُو ابْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً اتَّخَذَ زَوْجَةً". "وَكَمُلَ لِيعقوبَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، لأَنَّهُ هكَذَا تَكْمُلُ أَيَّامُ الْمُحَنَّطِينَ".  وكانت "إِقَامَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مِصْرَ أَرْبَعَ مِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً"، "وَأَكَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْمَنَّ أَرْبَعِينَ سَنَةً".  "وَكَانَ مُوسَى فِي الْجَبَلِ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً".  وكان بناء الهيكل "فِي سَنَةِ الأَرْبَعِ مِئَةٍ وَالثَّمَانِينَ لِخُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ". وهكذا كان الرقم "أربعة" يتردّد بطريقةٍ تجعل حقيقة معناه محلّ شكّ. 

وفي المقال الآتي نُفصِّل القول في علاقة بني إسرائيل بالهكسوس، وحقيقة إقامتهم في مِصْر.

________________________________

(1) انظر: ديورانت، وِل وايريْل، (1971)، قِصَّة الحضارة- الشرق الأدنى، ترجمة: محمَّد بدران (بيروت: دار الجيل)، ج2 م1: 80؛ موسوعة "الويكيبيديا": 

https://ar.wikipedia.org/wiki/تحوتمس_الرابع

(2) سِفر الخروج، 4: 23.

(3) انظر: بوكاي، موريس، (1990)، التوراة والإنجيل والقرآن والعِلْم، ترجمة: حسن خالد (بيروت: المكتب الإسلامي)، 269.

(4) الوارد في الآية القرآنيَّة، (سورة الأعراف، الآية 123): "القُمَّل". 

(5) سِفر الخروج، 9: 8- 12.

(6) مفهوم «التوحيد» هنا لا يُطابق مفهومه الإسلامي.  فكثيرًا ما نقف على القول بـ«التوحيد» في اللاهوت المِصْري القديم، حتى ليبلغ الزعم في ذلك إلى القول بالاعتقاد في «إلهٍ أحدٍ فردٍ صَمَد»! (انظر مثلًا: استيندرف، (1923)، ديانة قدماء المصريِّين، تعريب: سليم حسن (مِصْر: مطبعة المعارف)، 33).  ويزداد الإلحاح على ذلك لدى الحديث عن (أخناتون) وحركته الدِّينيَّة.  وتعليل ذلك أن الكاتب إمّا ذو خلفيَّة مسيحيَّة، لها تصوّرها الخاص للتوحيد، أو أن ذلك بمعنى توحيد بلدات مِصْر في تصوُّرٍ واحدٍ للآلهة الوثنيَّة، كما فعل أخناتون في جعل (آتون)، الإله الرسمي الوحيد لمِصْر، بل للعالم أجمع، وتنحيته (آمون) وغيره من الآلهة، وتغيير اسمه- الذي كان مقترنًا بآمون: (أمنحُتِب)- إلى (أخناتون)، المقترن بآتون، ونقل عاصمته من (طِيبة)، مدينة آمون، إلى (أختاتون)، في (تلّ العمارنة).  وآتون هو (الشمس)، التي عبدت في الديانات الوثنيَّة القديمة.  و(استيندرف، 127) نفسه يحذِّر من مقارنة مفهوم التوحيد الساذج لدى أخناتون بالتوحيد الموسوي، بَلْهَ نِسبة العقيدة الموسويَّة إلى مقتبَسٍ مِصْريّ.  وإنْ كان هذا لا ينفي ملامح من التأثّر والتأثير، في المستويات الثقافيَّة على أقلّ تقدير.

(7) انظر: حسن، سليم، (1992)، موسوعة مِصْر القديمة، ج5 (السيادة العالمية والتوحيد)، (القاهرة: الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب): ص4.

 (8) مَلَك 40 سنة.  (انظر: العهد القديم، سِفر الملوك الثاني، 11: 42؛ الطبري، (1967)، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف)، 1: 503).  ومن الطريف هنا أن نجد في كتاب (ابن كثير، (1998)، البداية والنهاية، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي (القاهرة: دار هجر)، 2: 356)، عند الوقوف على المعلومة المتعلِّقة بالمُدَّة التي حكم فيها (سليمان)، ومتى بنى الهيكل، أو (بيت المقدس)، إحالة القارئ إلى (الطبري)، وكأنه مصدر معلومة (ابن كثير).  والحقّ أن مصدرهما معًا هو "العهد القديم"، فعنه اغترفا في التاريخ وفي التفسير، ونقلا من الحقائق والأساطير، وإنْ لم يوثِّقا، بل اكتفيا بعبارة: "فيما ذُكِر". 

‫#‏الآثار ‫#‏التاريخ ‫#‏مصر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «العابثون بالتاريخ!: 34- شهادة العاديّات المِصْريَّة- 4»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الثلاثاء 1 ديسمبر 2015، ص34].

المزيد من المقالات...