سورية من الوجه الآخر
أحمد بسام ساعي
"في جنوب مدينة أنطاكية، عند التخوم الشماليّة للأقرع، الجبل الذي يشكّل جداره الجنوبيّ مَعلَماً هامّا في المشهد اليوميّ لأبناء اللاذقيّة، التقيت أفراد أسرتي القادمين إليّ من وراء حدود الوطن، بعد فراق عشر سنين، وهناك، من خلال الوجه الآخر للأقرع، استطعت أن أستحضر الوجه الآخر لسورية، ذلك الذي غاب حتّى عن ذاكرة المقيمين فيها"
مِن خلْفِ الأقرعْ
مِن خلْفِ الجبلِ المترامي الأطرافِ الأمنعْ
ألمحُ بلدي أوضحْ
يبدو المسرحُ لي أفسَحْ
ولساني أفصحْ
* * *
مِن خلفِ السنواتِ العشرِ وراءَ حدودِ الوطنِ الأمّْ
أتبيّنُ أين البلسمُ في وطني الآنَ وأين السُّمّْ
مِن خلْفِ صخورِ الجبلِ الصُّمّْ
أُبصِرُ بصفاءٍ طِيبَ بلادي
يتطهّرُ مِن أغلالِ الكُرْهِ، طعامِ الناسِ اليوميِّ، فؤادي
وأعود إلى الماضي وأنادي..
أستحضرُ ذكرى يونُسَ، حيدرَ، عدنانَ، سُليمانَ، وحمدانَ وباقي الأسماءْ
نماذجُ مِن طُهرٍ وصفاءْ
غنّيتُ وإياهمْ لطفولتنا أحلى الأنغامْ
وسَرَحْنا، ومرِحْنا
ورتَعْنا وزرعْنا في أرض المدرسةِ وعندَ النبعِ وخلفَ التنّورِ الأحلامْ
ونَمَوْنا وشبَبْنا.. والأحلامُ هي الأحلامْ
والأفئدةُ هي الأفئدةُ.. صفاءٌ ونقاءٌ وسلامْ..
حتّى هبَّ الريحُ الأصفرْ
وأزاحَ قلوباً عن موضعِها.. فتَبدّلَ إنسانٌ وتغيّرْ
ونسِينا.. وتباعدْنا.. غابتْ أحلامُ طفولتِنا خلفَ سَحاباتِ الدمْ
ونسِينا.. وتجاهلنا الدِّينَ.. التاريخَ.. الطُّهرَ البشريَّ بأحداقِ طفولتِنا
لم نذكُرْ غيرَ خصومتِنا
ونسِينا قولَ رسولِ اللهْ:
"مَن آذى ذِمّياً آذاني"
من آذى شيعيّاً سُنّياً علويّاً صوفيّاً سلفيّاً بعثيّاً إخوانيّاً.. آذاني.. آذاني..
يحتلّ الشيطانُ مكاني
ويقودُ حصاني
ويزيّفُ للناس لساني، ويقولْ:
اِغتَلْ، اُقتُلْ، فجِّرْ، دمِّرْ، عذِّب، شرِّدْ، اُحكمْ بالإعدامِ غيابيّاً وحضوريّاً..
لا تتركً للرحمة فرصةْ
اِزرعْ في كلِّ فؤادٍ غصّةْ
واكتبْ في كلِّ سجلٍّ للأحقادِ وإهدارِ الأنفسِ قصّةْ
لا تُبْقِ لمن بَعدَكَ حِصّةْ
هي آخرُ فرصةْ.. آخرُ فرصةْ
* * *
يتراجعُ قمرُ الفرَحِ من الوطنِ وينتشرُ حريقُ الأحزانْ
يتراجعُ ظلُّ الإنسانْ
تنحسرُ ظلالُ الرحمنْ
وتنبُتُ في الأرضِ وتمتدُّ.. وتمتدُّ قرونُ الشيطانْ
ينكمشُ عن الأحبابِ الحبّْ
ويسودُ الرُّعبْ
تتوارى تحتَ تلافيفِ الغضبِ وخلفَ جنونِ الثأرِ الحكمةْ
وتُغطّي الأبصارَ الظلمةْ
وتضيعُ الأمّةْ
* * *
غنّيتُكَ يا وطني.. غنّيتُكَ زمنا:
أعطُوني حبّاً.. وخذوا وطناً ومُنى
أعطوني كُرهاً.. وخذوا وهَناً وفَنا
والسرّْ:
أنّا ننسى أنّ لنا الظاهرَ في الناسِ وللهِ الباطنْ
وأنّ الناسَ لدائنْ:
قلْ للكافرِ: مؤمنْ. مؤمنْ. مؤمن.. يغدو المؤمنْ
قلْ للمؤمنِ: كافرْ. كافرْ. كافرْ.. يغدو الكافرْ
للغادرِ.. يغدو المخلصْ
للمخلصِ.. يغدو الغادرْ
والحاصلُ أنّك أنتَ الخاسرْ.. أنتَ الخاسرْ
دعني مِن كلِّ الشُذّاذْ
هذا سُنّيُّ شاذّْ
هذا شيعيُّ شاذّْ
هذا علويٌّ صوفيٌّ سلفيٌّ بعثيٌّ إخوانيٌّ عربيٌّ عجميٌّ شرقيٌّ غربيٌّ شاذّْ..
يتساوى الشُذّاذُ بنظرِ العالمِ والتاريخْ..
ويبقى الجوهرُ عندَ اللهِ اثنانْ:
الإنسانُ الإنسانُ.. والتوحيدُ لربِّ الإنسانْ
* * *
"من قال لا إله إلاّ الله وجبتْ له الجنّة"
كلٌّ قائلُها ومردّدُها
لا تبقى بين الأطرافِ حدودْ
تنهار أمام الحبِّ سدودٌ وسدودْ
يتساوى العَرَبُ العَجَمُ الصمُّ البكمُ البيضُ السّودْ
يقتربُ المأكولُ من الآكلْ
يقتربُ المقتولُ من القاتلْ
ويبقى في المَيزانْ:
أيٌّ منّا الإنسانْ
وأيٌّ منّا وحشُ الغابْ
أيٌّ منّا يتذكّرً، حين يقرّرُ أن يقتلَ، أنّ المقتولَ أبٌ، كالقاتلِ، زوجٌ، ابنٌ، أختٌ، أمٌّ، إنسانٌ يحلمُ بالحبِّ وبالأحبابْ
أيٌّ منّا يرفع عن هذا الوطنِ المُثخَنِ أتراحاً وجراحاً وعذابْ
ليَعُمَّ سلامْ
ويسودَ الأرضَ المفجوعةَ بالأبناءِ هوىً ووئامْ
* * *
أوقِفْ ما يجري في أرضي، في أرضِكَ، من آلامْ
أرضي أرضُكْ.. عِرضي عِرضُكْ.. نبضي نبضُكْ..
حاذِرْ.. كفُّكَ تقطعُ كفَّكْ
حاذرْ.. نفْسُكَ تُزهِقُ نفْسَكْ
بعضُكَ يقتلُ بعضَكْ
تَهْرُبْ؟.. اُهرُبْ مِن جسمِكْ
تتنصّلْ؟.. اُخرُجْ مِن جِلدِكْ
جسمي جسمُكْ.. جِلدي جِلدُكْ.. مرَضي مرَضُكْ.. موتي موتُكْ
* * *
عدْ للجوهرْ..
عودوا أطفالاً
عودوا – أستحلفُكمْ – للعمرِ الأطهرْ
اُنسُوا نزَعاتِ النفسِ القاتلةَ ولغةَ السيفِ... الداءَ الأكبرْ
اُطووا صفْحاً عن تاريخِ الريحِ الأصفرْ
اُنسُوا الصفَحاتِ السّودَ وظِلَّ القهرِ وأخْذَ الثأرِ وباقي الأدواءْ
أَلغُوا الأسماءْ
اَلأسماءُ مُصيبتُنا.. أَلغُوا الأسماءْ
أسماءَ الفِرَقِ الدينيّةِ والأحزابِ، أقاليمِ الوطنِ، المدنِ، الأريافِ، الأشكالِ، الألوانْ ولْنتذكّرْ قبلَ فواتِ أوانْ
أنّا بلدُ الطِّيبةِ والطُّهْرْ
بلدٌ عانقَ فيه الجبلُ البحرْ
وائتلفتْ فيه الأضدادُ على مرِّ التاريخِ وهان الصعبُ ولانَ الصخرْ
واستفتُوا بسطاءَ قُرانا ومدينتِنا عبرَ الدهرْ
يا أهلَ العصرْ
* * *
مِن خلفِ الأقرعْ
يبدو الجوهرُ لي أسطعْ
والواقعُ أنصعْ
وأرى في وطني الغائبِ عن نظري..
اَلعالمَ أجمعْ