لغةٌ من المِرّيخ
لغةٌ من المِرّيخ
أحمد بسام ساعي
يا حضراتِ السادةْ
إنّي المدعوّ القرنَ العشرينْ..
أعترفُ وأُقِرُّ وأُقسِمْ
ويدي فوق التوراةِ وفوقَ الإنجيلِ وفوق القرآنْ
أنّ الماثلَ في القفصِ أمامي الآنْ..
خلفَ القضبانْ
والمدعوَّ فِلسطينْ
كان كأيِّ مواطنْ..
يربطُه بالتاريخٍ وبالعالمِ ألفُ رِباطٍ ورباطٍ ورباطٍ..
ويعيشُ ويحيا في أمنٍ وسباتٍ ونباتْ..
لمئاتِ قرونٍ ومئاتٍ ومئاتْ..
مِن قبلِ ولادة موسى أو منذ أبينا آدمْ
في حيٍّ معروفٍ وعريقٍ جداً من أحياءِ العالمْ
يُدعى الشرقَ الأوسطْ
هُويّتُه الشخصيّةْ:
صادرةٌ عن دائرةِ الأحوالِ المدنيّةْ
تاريخُ الميلادْ: قبل الميلادْ
رقمُ الخانةِ والمسكنْ: في أعماقِ التاريخِ مدوّنْ
في ذيلِ شهادةِ ميلادِهْ،
وبكلّ لغات الأرضِ مؤكَّدْ،
توقيعُ الوالدِ والوالدةِ وأكابرِ أجدادِهْ:
موسى ويسوعٍ ومحمّدْ
إنّي، وأنا الواقفُ كي أشهدَ للمحكمةِ بما كنتُ أشاهدُ أو أسمعُ أو أصنعْ
أعترفُ الآنَ أمامَ العالمِ أجمعْ
أنّي باشرتُ وأشرفتُ على تنفيذِ الإعدام بهذا الفردِ وتدميرِ بنائِهْ
ولقد جُنِّدْتُ، مع العَمْدِ وسَبْقِ الإصرارِ، لأمحوَ من كلِّ سجلاّتيْ..
الماضيَ والحاضرَ مِن أسمائهْ
ومحوِ ملايين البشرِ الموتى المدفونينْ..
والأحياءِ المولودينْ..
تحتَ سمائهْ
سمَّوني قرنَ الحرّيةِ والديموقراطيّةِ وحقوقِ الإنسانِ ومناهضةِ اللاساميّةْ
وأنا أعترفُ هنا وأُقِرُّ بما صنعَ العالمُ بمواطنِهِ الساميِّ المسكينْ
المدعوِّ فلسطينْ..
طعَنتْهُ حِربةُ غدْرٍ ساميِّ، فتهاوَى تحتَ السكّينْ
هذا ينتزعُ لسانَهْ
ذاكَ يشُدُّ وَثاقَهْ
هذا يقطعُ يدَهُ.. ذلكَ يفقأ عينيهِ.. وذلك يبتُرُ ساقَهْ
هذا يقترحُ الإعدامَ له خنقاً..
وهذا حَرقاً..
وذلك، إشفاقاً منه، شنقاً..
لا تبديلْ..
لا تخفيفٌ للحُكمِ ولا تأجيل..
صدرَ الحُكمُ بإجماعِ كبارِ الجزّارين
إنّي المدعوُّ القرنَ العشرينْ
هتفوا في زمني: تحيا الحرّيةْ
فتحرّرَ، حقّاً، شعبٌ آمنْ..
مِن بيتِ حانٍ يؤويه ومِن سقفٍ حامٍ..
ليعيشَ مسلسلَ أهوالٍ أسطوريّةْ..
ومآسٍ بشريّةْ..
باسم الحرّية
هتفوا في زمني: تحيا الديموقراطيّةْ..
يحيا توزيعُ السُّلْطةْ
فسرقوا شعبَ فلسطينْ.. واغتالوا صوتَهْ
هتفوا بمناهضةِ اللاساميّةْ
والساميّون هنا وُلِدوا وهنا عاشوا وهنا اغتالتهمْ "فِرَقُ الشرَفِ" الصهيونيّةْ
(ساميّةُ) قلتُمْ؟.. هه.. أيّةُ ساميّةْ؟
ألقُوا نظرةَ تحقيقٍ تحت ترابِ فِلسطينَ القُدسيّْ..
هذا وجهٌ ساميٌّ وثنيٌّ عربيّْ..
هذا وجهٌ ساميٌّ ويهوديٌّ.. عربيّْ..
هذا وجهٌ ساميٌّ ومسيحيٌّ.. عربيّْ..
ذلكَ وجهٌ آخرُ ساميٌّ إسلاميٌّ عربيّْ..
ساميٌّ يتلوهُ ساميٌَ يتلوهُ ساميٌّ تحت ترابِ فِلسطينْ..
أمّا ما فوق ترابِ فلسطينَ الآنْ..
فوجهٌ مزهوٌّ كالطاووسِ يزمجرُ ويعربدُ ويُصِمُّ الآذانْ:
هذي إسرائيلْ..
نماذجُ مِن "نُبْلٍ" معروفٍ وأصيلْ..
روسيٌّ.. أمريكيٌّ.. أوروبّيٌّ.. أفريقيٌّ.. مِن كلِّ قبيلْ..
لم يَسبِقْ أن قتلَتْ أحداً..
لم يسبِقْ أن نهبَتْ بلداً..
لم تَهتِكْ عِرْضاً..
لم تجرِفْ أرضاً..
لم تقطعْ شجراً..
لم تهدِمْ حَجَراً..
لم تُؤذِ بَشراً.. لم لم لم لم لم...
ولهذا.. ولهذا.. ولذاك..
يُبعَثُ قابيلْ..
ولْيسقطْ ولْيَنطَحْ حيطانَ الدنيا هابيلْ..
وعاشتْ إسرائيلْ..
يتراجع هابيلْ
يتمطّى قابيلٌ كالأفعى في أرضِهْ..
يحرمُهُ من أن يتنفّسَ في روضِهْ
يمتصُّ ويسرقُُ كالعلْقةِ من دمِهِ.. يتسلّلُ في نبْضِهْ
يتلظّى محترقاً هابيلُ..
يتوسّلُ للغربِ وللشرقِ لعلّ الصخرَ يلينْ:
أين فِلسطينْ؟.. أرجـــــوكم.. أين فِلسطين؟..
لا يَلْقَى غيرَ قلوبٍ صخريّةْ..
وعيونٍ جامدةٍ حجريّةْ..
لا يسمعُ إلاّ صوتَ الأممِ المتّحدةْ..
تُمطِرُهُ بقراراتٍ وخطاباتٍ ملتهبةْ:
لا تخشَوا شيئاً يا أبنائي أبناءَ القرنِ العشرين..
كونوا في الشرقِ على ثقةٍ ويقينْ..
لا ظلمَ اليومَ ولا قهرْ..
وتهمسُ في أذُنِ النخّاسْ: (طبْعاً.. باستثناءِ فلسطين).. آمين..
لا قتلَ اليومْ ولا تعذيبَ ولا غدرْ..
وتهمسُ في أذُنِ النخّاسْ: (طبْعاً.. باستثناءِ فِلسطينْ).. آمينْ..
لا يُحرَمُ طفلٌ مِن أمٍّ.. من مدرسةٍ.. من ألعابٍ.. من ماءٍ وترابٍ وهواءْ..
(طبعاً باستثناءِ فِلسطينْ)
لا يُمنعُ شيخٌ.. اِمرأةٌ.. ومريضٌ من مأوىً وطعامٍ وكساءٍ ودواءْ..
(باستثناءِ فِلسطينْ)
لا يُخرَقُ شرعٌ.. لا يُهلَكُ ضَرْعٌ.. لا يُتلَفُ زرعٌ.. لا لا لا لا..
باستثناء فِلسطين.. باستثناءِ فِلسطين..
القانونُ المعمولُ به في هذا العالمْ..
لا شأنَ له بفلسطينْ..
فِلسطينُ اسمٌ خارجَ خارطةِ العالمْ
خارجَ أيِّ مواثيقَ وأعرافٍ إنسانيّةْ..
لنَقُلْ إنّ فِلسطينَ مجرّدُ ظاهرةٍ فلكيّةْ....
شيءٌ كالنيزكِ آتٍ مِن سُحُبٍ ومجرّاتٍ كونيّةْ..
كانت لا أكثرَ مِن بلدٍ، لنَقُلْ، في المرّيخْ..
ينطبق عليه ما ينطبقُ على أيِّ بلدٍ في المرّيخْ..
ظلمٌ.. غصبٌ.. هدمٌ.. حرقٌ.. قتلٌ..
هي أشياءٌ لا يَُمكِنُ أن تُفهَمَ بمعاجمنا البشريّةْ
إنّا نتعاملُ مع شعبٍ ليس من الكرةِ الأرضيّةْ:
مخلوقاتٍ بدماءٍ مختلفةْ
بعروقٍ وجلودٍ وعظامٍ مختلفةْ..
تفرحُ.. تَغضَبُ.. تشعُرُ.. تتألّمُ.. تولَدُ وتموتُ بطرائقَ تختلفُ تماماً عنّا نحنُ بني آدم
تتكلّمُ لغةً أخرى غيرَ لغاتِ العالَمْ
ذبحٌ؟ لا تَقلَقْ.. هي لا تشعرُ بالسكّينْ..
تشريدٌ؟ لا تهتمّْ.. هي مُوْلَعةٌ بالوحلِ وبالطينْ
ضربٌ؟.. هي تستمتعُ بالسَّوطْ
موتٌ؟.. هي تحيا بالموتْ
ذلٌّ؟.. الذلُّ هو العطفُ عليها
حِرمانٌ؟.. الحرمانُ هو الفوزُ لديها
هدمٌ.. حرقٌ.. تجريفٌ.. تخريبٌ.. قتلٌ للأطفالِ وللعٌزَّلِ؟ لا تحزَنْ.. لا تحزَنْ..
ستكون بهذا أحسنْ..
أحسنُ بكثيرٍ.. بكثيرْ..
نحن على ثقةٍ ويقينْ..
اِنْسَ فِلسطينْ.. اِنْسَ فِلسطينْ..
نعم.. إنّي المدعوُّ القرنَ العشرين
أشهدُ أنّ الأممَ المتّحدة.. لم تجمعْ يوماً أمماً متّحدةْ..
بل غرباً ومؤامرةً وولاياتٍ متّحدةْ
الأممُ المتّحدة؟!.. هه..
يترنّحُ صوتُ الحقِّ على أعتابِ الأممِ المتّحدةْ
تتهاوى أحلامُ المظلومين مروّعةً مرتعدةْ
كم من بلدانٍ وشعوبٍ غُدِرَتْ
كم مِن آمالٍ وُئدتْ
وحقوقٍ هُدرَتْ
على أعتابِ الأممِ المتّحدةْ
ويلٌ للبشريّةْ..
ويلٌ للبشريّةِ من مصطلحاتِ شياطينِ الإنسِ اللغويّةْ
حين تُسمَّى الفوضى حرّيةْ
وتُسمَّى دعوةُ من يطلبُ إرجاعَ الحقِّ لصاحبِه لاساميّةْ
ويُسمَّى بيعُ الأمّةِ كاملةً للفردِ أو الشرِكاتِ البتروليّةِ ديموقراطيّةْ
ويلٌ للإنسانيّةْ..
حين تتوهُ ويختلطُ عليها الحابلُ بالنابلْ
حينئذٍ..
لا تُتْعِبْ نفْسَكَ وتجادلْ وتُحاولْ..
وابحثْ عن لغةٍ خارجَ دائرةِ المنطقِ والتاريخْ
عن لغةٍ في المِرّيخ
لا تلفظْ كِلْمةَ خيرْ.. قد تعني عندهمُ الشّرّْ
لا تلفُظْ كِلْمةَ طُهْرْ.. قد تعني عندهمُ العُهْرْ
اِبحثْ عن لغةٍ أخرى واخرجْ من لغتِكْ
اِبحثْ عن عقلٍ لا عقلٍ واخرجْ مِن عقلِكْ
هيّا.. اُخرُجْ مِن تلكَ الأبوابْ..
لم يبقَ على وجهِ الأرضِ مكانٌ للأغرابْ
أنتَ من الأغرابِ.. ألا تُدركْ؟.. أنتَ من الأغرابْ..
عقلٌ.. عدلٌ.. شرفٌ.. عُرْفٌ.. قانونْ؟!!
أنتَ إذنْ مجنون..
مجنونٌ خالصْ..
مجنونْ..
كـــــــان المنطقُ يوماً يحكمُ هذا العالمْ..
حين حضارتُه كانت تُكتَب في كلِّ الأرضِ من الجهةِ اليمنى لليسرى
أمّا حين غدتْ تُكتبُ في هذا العصرِ من الجهةِ اليسرى لليمنى..
فقد ظلّ المنطقُ يعني المنطقَ إلاّ..
إلاّ حين نُطِلُّ على بوّاباتِ الشرقِ الأوسطْ..
حيثُ الثعبانُ الأرقطْ..
هناكْ.. يتغيّر، يُلغى، يُهمَلُ، يُلقَى في المستنقع كلُّ قرارٍ ومخطّطْ..
أنتَ هنا في إسرائيل..
وليس أمامَكَ إلاّ العفوُ والاستغفارُ والاستعذارُ وبَوسُ الأرجلِ والتدليلْ..
أنتَ هنا في إسرائيلَ.. ألا تفهمْ.. في إسرائيلْ..
لا استنكارَ يجوز هناكَ ولا استجوابَ ولا تهديدَ ولا توبيخْ..
.. وحسَبَ اللغةِ الهابطةِ من المِرّيخْ..
تسقطُ كلُّ الأرقامِ وحساباتِ البشرِ وتَبْطُلُ كلُّ معادلةٍ أو فرضيّاتٍ ريّاضيّةْ..
وتُجمَّدُ كلُّ قوانينِ الذَّرّةِ والفيزياءِ وأينشتاينَ ويُلغى تاريخُ الكيمياءِ العُضْويّةِ والحيويّةْ
وبهذا..
ما عاد الوطنُ المدعوُّ فِلسطينَ.. فِلسطينْ
ولا الإنسانُ المولودُ عليه مخلوقاً من لحمٍ أو عظمٍ أو طينْ
إنّي المدعوُّ القرنَ العشرينْ
أشهدُ أشهدُ أشهدْ..
ولا أتردّدْ..
أنّ الأبعادَ المعروفةَ للكونِ قد انقلبَتْ
ودورةَ كوكبِنا الأرضيِّ قد انعكسَتْ
فالشمسُ غدَتْ تَغْرُبُ في مَشْرِقِها..
وتُشْرِقُ من مَغْرِبِها..
وأنّ على العالمِ أجمعْ..
أن يخضعَ للأمرِ الواقعِ في هذي الأرضِ وأنْ يركعْ،
مسحوراً مسلوبَ الفكْرِ، لفُوهةِ مِدفعْ
حُبلى بالويلِ وبالتدميرِ وبالتضليلْ..
تُسمَّى إسرائيلْ
يا أهلَ العدلِ وأهلَ العلْمِ وأهلَ الدّينْ..
هل من شرفٍ متبقٍّ للقرن الحادي والعشرين
يمحو عن وجهِ العالمِ يوماً
عارَ القرنِ العشرينْ؟