الشعر العربي في عصر الدول المتتابعة الفصل الخامس

الفصل الخامس

الشعر الاجتماعي في عصر الدول المتتابعة

الفصـــــــــل الخـــــــــامس

الشعر الاجتماعي في عصر الدول المتتابعة

إذا كانت المدائح والمراثي والأهاجي تنم عن بعض الأحوال السياسية في المجتمع، فإن الشعر الاجتماعي يكمل الصورة التي يحياها أبناؤه، فهو يتحدث عن أوضاع العاملين في الدولة، وقد يتطرق خلال ذلك إلى ذكر المسؤولين لما لهم من دور في هذا المجال، ويحكي أوضاع أهل الذمة منهم، ويكشف عن العلاقات الاجتماعية السائدة التي ينم عنها شعر الإخوانيات، كما يصور الشوق والحنين الذي يعتلج في القلوب ولاسيما إبان الغربة والهجرة، ويسلط الضوء على العلاقة بين الرجل والمرأة، ويتحدث عن ظاهرة المكيفات ما حل منها وما حرم .

وسأوضح هذا كله من خلال ما سطر في كتب ودواوين شعراء هذا العصر.

أولاً أوضاع العاملين في عصر الدول المتتابعة :

وتعني الحديث عن أحوالهم في إيجابياتهم وسلبياتهم، وعن أخطائهم والمظالم التي يتعرضون لها، والمساعي من أجل رفعها عنهم، وأحوال القضاة وأدوارهم الاجتماعية والسياسية، وأهل الذمة وتغلغلهم في وظائف الدولة والشكاوى من كثرة جرائرهم.

وكأن هذه القصائد رسائل شكر توجه لمن قضى على المتلاعبين بمقدرات الشعب أو قدم له خدمة جلّى، أو هي نفثات مصدورين أحسوا بالضيق إحساساً عميقاً فراحوا ينتقدون المسؤولين لسوء تردي الأوضاع الاجتماعية.

  من ذلك كلمة شكر قدمها«أحمد الوراق الحلبي» إلى والي حلب محمد باشا العظم([1]) حين أبطل بدعة الدومان عن حرفة الجزارين التي أوغرت الصدور لما فيها من غلاء في ثمن اللحم، وقبض على رئيسهم وقتله رأفة بالرعية ، وكان فيها :

بما يُوْلِيْهِ من كرمٍ وجود

 

ومن يبغِ المكارمَ لا يبالي

ينلْ حمداً مع المدحِ المزيدِ

 

ومن يولِ الجميلَ لكلّ عافٍ

ومنها :

بخسرٍ مُؤْلمٍ كبدَ المريرِ

 

وأذهبَ بدعةَ الدُّوْمان تسمى

بسكينِ المظالمِ والحُقود ([2])

 

فكم مَنْ ذبحَ الفقيرَ بغيرِ جُرْمٍ

وعندما حاصر حسين بن جانبولاذ حلب كان القضاة مفزع الأهالي في محنتهم هذه، فقد سعوا إلى فك الحصار، وبرز منهم القاضي شريف أفندي، إذ كان لمساعيه اليد الطولى في إنقاذ الشعب من محنته، فقال ابن الجزري مشيداً به:

سالكٌ بين عِطْفٍ ورداءِ

 

وردَ الشهباءَ يوماً والردى

وهم بين عنادٍ وعناء

 

أخرجَ الطاغينَ منها عُنْوةً

جرَّعَ الرائِي لها ميماً وراء

 

فَحَلَتْ بالعدلِ من بعد ما

قد أطالَ الفكر في رد القضاء([3])

 

من يساويك بقاض في العلا

ولما اختار ناظر النظار في دمشق الشاعر «أحمد البكري»([4]) للعمل في بيت مال المسلمين استعفى منه وكتب إليه، مبيناً له أنه يشكره على اختياره لهذه المهمة، لكنه لا يحب أن يختلف مع الناس لأنهم يطمعون بالمال والعقار، ولأن رزقه بيد الله، ولفقرُه أحب إليه وأعز لنفسه من استعباده بهذا المنصب الرفيع، يقول في ذلك:

تَمَلُّكُ رقِّ الحُرِّ بالثمنِ الغالي

 

أتتني أيادٍ منك في طيِّ بعضِها

لها أنت مسؤولٌ فلا تُلْغ تَسْآلي

 

وقد بقيَتْ لي بعد ذلك حاجةٌ

فهذا على أرضٍ وهذا على مالِ

 

وصُنْ ماءَ وجهي عن مشاقَقَةِ الورى

فو اللهِ مالي نحوها وجهَ إقبال

 

ولا تتأَوَّلْ في سؤاليَ تركَها

لراحةِ قلبي من زماني بإقلالي

 

ورزقيْ يأتينيْ وإني لقانعٌ

ولبسيَ أسمالي مع العزِّ أسمى لي

 

وحالي حالٍ بافتقارٍ يصونني

وأرضى ببالي الثوبِ مع راحةِ البالِ

 

وتجبرُ وقتي كسرةُ الخبزِ وحدَها

لتغتنموا أجري ورأيكُم العالي([5])

 

فهذي إليكم قصتي قد رفعتُها

وهناك شعراء ينددون بالجوانب السلبية في المجتمع، كما فعل البوصيري في مدحته لأحد السلاطين، إذ حكى عن جور أحد القضاة المرائين من أمثال أحدهم ويدعى العماد، وبين أنه كان يدعي أنه صائم، ولو كان يخاف المولى لما ظلم الرعية، يقول :

يُرجى لدفعِ العظائمْ

 

ما في الزمانِ جوادٌ

يُدعى ويا خيرَ حاكم

 

سواكَ يا خيرَ وال

بأنه اليومَ صائمْ

 

إن العمادَ أرانا

ولا يخافُ مآثِمْ

 

وليس يرجو ثواباً

أنْ لا صيامَ لظالم

 

وليس يخفى عليه

غداءَنا وهو راغم([6])

 

فخُذْ لنا اليومَ منه

 وعندما زوّر «عيسى النابلسي»([7]) خطوط الناس ولاسيما المسؤولين سجن على جريرته فكتب إليه خليل بن أيبك الصفدي يواسيه على سجنه ويحزن لمصابه ويقول:

من الدهرِ في سجنٍ فلا كان من كَنِّ

 

خليلٌ أتى مِصراً وعيسى مُحَجَّبٌ

إذا ادخروه للردى باتَ في جفنَ

 

لئن كانَ في سجنٍ فكلُّ مهنَّدٍ

نقمْتُ الرضا حتى على ضاحكِ المُزْنِ

 

حنانَيْك إني فيك من شدةِ الأسى

فشارِكْه أيضاً في الدخولِ إلى السجن([8])

 

أعيسى لقد شاركْتَ في الحسنِ يوسفاً

ولست أدري كيف يحزن الصفدي على صديقه، وصديقه خائن للأمانة مزوّر لخطوط المسؤولين.

وهذا إبراهيم العاملي يشتكي أيضاً من قسوة القضاة إذ يأكلون أموال الناس بغير حق، وينهبونها بجشع شديد، وهم يتهالكون على شهوات الدنيا ويدّعون التقوى والصلاح، يقول في ذلك:

في مِلَّةِ الإسلامِ شرُّ قُضاةِ

 

وانظُرْ بعينِ العقلِ ما يقضي به

قعدَ الزمانُ بهم عن الأَقْوات

 

من قهرِ أيتامٍ وظلمِ أراملٍ

مَرَّتْ بساحتِه صِغارُ شِياةِ

 

وثبوا على الأموال وِثْبَةَ ضَيغَمٍ

للدين بين هَنٍ وبين هَنات

 

ميلاً إلى الدنيا فكم من مَصْرعٍ

وبظُلْمِهِمْ في مُحكَم الآيات([9])

 

فاحكمْ كما حكمَ الكتابُ بذمِّهِمْ

وقد يتعرض بعض الموظفين إلى الجور «فأحمد بن محمد الكواكبي»([10]) عزل من التدريس ونفي إلى جزيرة قبرص ظلماً، أو هكذا شعر، فتوجه إلى العاصمة إسلامبول «إستانبول» بعد أن ألف كتاباً باسم السلطان أحمد عرفه على واجباته تجاه الرعايا، وما يجب عليهم، كما نظم قصيدة في مدح الصدر الأعظم عرض فيها ما أصابه من جور وفقر حتى غدا منسيا بين الناس ، وبين أن لا منقذ له مما يعانيه إلا السلطان الذي عرف عنه أنه ينصر دينه ، يقول في ذلك:

بالعزلِ ظلماً جابراً مكسورا

 

والعبدُ يعرضُ حاله فلقد غدا

في قعر دار لا يريدُ سميرا

 

فغدا يكابدُ هَمَّهُ وغُمومه

أضحى بنُصْرةِ دينِه مشهورا

 

يدعو لسلطان البسيطةِ والذي

في خدمةٍ تَدَعُ الفقيرَ أميرا

 

بعُلاك يرجو أن يكون مُؤَيَّداً

من كلِّ مِصرٍ أن يُرى مَهْجورا

 

أيحلُّ مَنْ كانت تراجِعُه الورى

مما دهاهُمْ مُنقِذاً ونَصيرا

 

وامنُنْ على قومٍ كرامٍ لم يرَوْا

حالَتْ إلى حالٍ أراهُ خطيرا ([11])

 

كانوا بحالٍ في الغنى متوسِّطٍ

ويصف البوصيري فقره في شكوى قدمها إلى وزير، علّه يرأف بحاله، ويبين شدة العسر الذي يعانيه، حتى إن أولاده باتوا يشتهون الكعك، وحسبوا أن أباهم يعمل بالسخرة، واختلفت زوجته معه في شجار عنيف سببه الفقر يقول واصفاً حاله:

أيامُه طايعةٌ أمرَهْ

 

يا أيها المولى الوزيرُ الذي

،حاشاك، من قومٍ أولي عُسْرة

 

إليك نشكو حالَنا إننا

عايلةٌ في غاية الكثرة

 

في قلةٍ نحن ولكن لنا

كانوا لمن أبصرهم عَبْرة

 

صاموا مع الناس ولكنهمْ

في يد طفلٍ أو رأوا تمرة

 

فارحمهمُ إن عايَنوا كعكةً

بشهقةٍ تتبعها زفرة

 

تشخصُ أبصارُهم نحوها

قطعْتَ عنا الخيرَ في كرَّة

 

كم قائل يا أبا منهم

تخدمُهم يا أبتا سخرة ([12])

 

وأنت في خدمةِ قومٍ فهل

أما حديثه مع زوجه فسأذكره إبان الحديث عن العلاقة بين الرجل والمرأة.

كما يندد الشاعر «عبد الملك الأرمنتي»([13]) بمهنة الوراقين، إذ يتعرض صاحبها للفقر ولسوء التعامل، فالناس لا يوفّونه حقه مما يضطره إلى أن يتصرف تصرفات تقلل من مكانته في أعين الناس، فضلاً عن رقابة الدولة لما يخط، وعبوس المسؤول عن هذا الأمر، ولا يصبر على هذه المهنة إلا محتاج يضطر إلى السكوت على أي حال، يقول في ذلك:

يسمونه سوقَ الوراقةِ ما يجدي

 

أيا سائلاً حالي بسوقٍ لزمتُه

على أحدٍ من سائر الخلقِ من بعدي

 

خذِ الوصفَ مني ثم لا تَلْوِ بعده

وخسةَ طبعٍ في التقاضي مع الحقدِ

 

يكسبُ سوءَ الظن بالخلقِ كلِّهِمْ

يرى منهم واللهِ كلَّ الذي يُرْدي

 

وإن خالفَ الحكامَ في بعضِ أمرِهم

يُشَنْطِطُ بين الرسْلِ في حاجةِ الجندي

 

ويكفيه تَمْعِيْرُ النقيبِ وكونُه

فهذا معاشٌ ليس يُحصل للفرد

 

وإن قال إني قانعٌ بتفرُّدي

فصابرْ عليه لا تعيدُ ولا تُبْدي ([14])

 

وإن كنْتَ مقهوراً عليه لحاجةٍ

وقد اضطر الفقر بعض الشعراء أن يتكسبوا بهجاء الآخرين، حتى بات الناس يعطونهم خوفاً من لسانهم أو طمعاً بمديحهم، ولكن الشاعر «أحمد بن قرصة» ندد بهؤلاء ولم يمدح إلا الكرماء الذين يستحقون كلمته، أما اللئام فإنه لا يثني عليهم حفاظاً على أهمية الكلمة، يقول في ذلك:

بهجائِهم وتحمَّلوا الأوزارا

 

مالي أرى الشعراءَ تكسبُ عارا

أشعارَ لما أرْخصوا الأسعارا

 

مدحوا الأخسّاءَ اللئامَ فضيَّعوا الـ

فأبَتْ عُتُوّاً عنه واستِكبارا

 

ولكم دعا مدحي نوالَ معظّمٍ

أوصافُه تستغرقُ الأشعارا ([15])

 

حتى وجدْتُ لها إماماً عالماً

و مما يدخل في هذا المجال تنديد الشعراء باستخدام أهل الكتاب في الوظائف الحكومية، ولاسيما في أماكن يتلاعبون فيها بمقدرات الشعب المادية، وقد نبه البوصيري إلى هذا الخطأ الجسيم الذي حلّ في البلاد، ولعله كان بعد الحملات الصليبية، إذ صاروا يأكلون أموال الرعية ويمتصون خيراتهم الكثيرة التي تشبه لبن الجاموس في كثرتها، وينهبون غلالهم كالحشرات المتطفلة. قال يحذر قومه مغبة هذا التصرف غير الحكيم:

كالصبح يجلو ضوءُه التغليسا

 

ونصيحة أعربْتُ عنها فانثنَتْ

لو كان جامعَها يكون كنيسا

 

إن النصارى بالمحَلَّةِ ودُّهُمْ

فاصرِفْه عنها واصفَعِ القِسِّيسا

 

صرف الإلهُ السوءَ عنك بصَرْفِهِ

لو يُحْلَبون لأَشْبهوا الجاموسا

 

يرعَوْن أموالَ الرعيةِ بالأذى

سُوْساً وقد أمِنوا عليها السوسا([16])

 

الله أرسلهُمْ على أقواتِهم

منها كبيتي فارغاً مكنوسا([17])

 

ملأت بيوتَهم الغلالُ فلا ترى

كما حذر الشاعر «أمين الجندي » السلطان «محمود الثاني» من امتداد نفوذ النصارى واليهود في بلاد الشام ولاسيما في فلسطين، ويعد من أوائل من حذر العثمانيين منذ مطلع القرن الثامن عشر الميلادي الثالث عشر الهجري من أخطار هؤلاء الشراذم ومطامعهم، وقد دعا الشاعر إلى ردعهم بلهجة غاضبة قوية، وبين ما يعانيه الشعب من جشعهم وتغلغل نفوذهم في الوظائف الإدارية، وفضح علاقاتهم بالوزراء وبولاة الشام، ومكرهم بالمسلمين وخياناتهم، وإصرارهم على الكتابة باللغة العبرية في السجلات الرسمية، وعجب من تسلمهم وظائف تتعلق بالحج، كما أشار إلى عزلتهم في المجتمع، وإلى شحهم وتعاملهم بالربا، وهذا ما أودى بالاقتصاد وجعلهم يتحكمون في مصائر البلاد والعباد([18])، وكان اليهود يماطلون في أداء ما عليهم من ديون وقد اشتكى ابن الجزري لقاضٍ حكم له على يهودي، ولكن هذا لم يؤده حقه فقال له:

على أولي البغيِ حقاً جَحْفَلٌ لجِبُ

 

كأنما كلُّ عُضْوٍ منك لما سطا

واللهُ يشهدُ فيهم أنهم كذَبوا

 

أنّى تصدِّقُ في أموالِهم نفرٌ

إلى عبادةِ عِجل إنه عَجَبُ

 

وكيف تُمْهِلُ في الميقاتِ مَنْ عجِلوا

أن يَعبدَ العبدُ رباً خلفه ذنب ([19])

 

وإن أعظمَ ذنب لا خلاف به

ولعل سوء تصرفات اليهود جعلت الإمام «المهدي بن أحمد»([20]) يخرج اليهود من صنعاء في سنة 1091هـ ويهدم كنيساً لهم فيها وقد عمر مكانه مسجداً لله، ولهذا أشاد به الشاعر «محمد السحولي»([21]) فقال:

وخيرُ داعٍ مِنْ بني القاسمِ

 

إمامُنا المهديُّ خيرُ الورى

لها دويٌّ قبلُ أو قاسمي

 

له كراماتٌ سَمَتْ لم تكنْ

يهودَ صنعا أخبثَ العالمِ

 

لو لم يَمُنَّ منها سوى نفيهِ

لساجدٍ لله أو قائمِ

 

وجعْلِ بيعَتِهمْ مسجداً

واتَّفَقَ التاريخُ في غانمِ ([22])

 

قد فاز بالأجرِ بها غانماً

وهكذا أوضح الشعر الاجتماعي أن الشعراء كانوا رسلاً من قومهم إلى المسؤولين ينصحونهم بالمعروف ويحذرونهم من الأخطار الاجتماعية التي تضر بالأمة، ولم يكونوا مداحاً للقصر بعيدين عن مجتمعهم وشعبهم كما ادعى بعض الدارسين الذين أرادوا أن يصموا الشعر القديم ليروجوا لأفكارهم وآرائهم([23]).

 

ثانياً الإخوانيات :

هي شعر ينم عن العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك العصر، كما يعبر عن حرارة العاطفة تجاه الآخرين، والمشاعر الإنسانية نحو من تربطهم بالشاعر روابط ومعان اجتماعية، كالتهنئة والصداقة والمداعبة، وقد تأتي على شكل رسائل متبادلة، وتسمى حينذاك مطارحات وفيها يحرص الثاني على أن يوافق الأول في الوزن والقافية، فيشابه بذلك المعارضات الشعرية،وقد تحوي بعض النثر ،  ويمكننا أن نضم إليها الأسئلة العلمية والألغاز وتقريظ الكتب ،وما بين الشاعرين من مداعبات ،أو عتاب واعتذار ، لأن المشاعر التي تشد المرء إلى أخيه ليرسل إليه ألغازه وتقريظه هي مشاعر الأخوة الإنسانية، وأما الأسئلة فتقوم على إجلال العلماء واحترامهم.

 والإخوانيات قد تشابه المدائح وتعد منها إلا أنها تكون بين متساويين في المنزلة أو متقاربين، وليس الغرض منها الحصول على مغنم مادي، وإنما إظهار الأخوة بين من تربطهم «قرابة الأدب» كما يقول «د.عمر موسى باشا»([24]).

وقد تعبر الإخوانية عن واقع سياسي أو اجتماعي مرير بأسلوب ساخر أو مباشر أحياناً.

 فمن الإخوانيات التي جاءت رسائل متبادلة ما كتبه خليل الصفدي إلى صديق له ، وكان قد انقطع من الديوان:

لبُعْدِك بعد القربِ والأُنْسِ دائبُ

 

أمولايَ نجمَ الدين أوحشْتَ خاطراً

لفَقْدِكَ لما غبْتَ عني السحائبُ

 

فنارُ الجوى لم يطفِها من مدامعي

وما حالُ أفْقٍ نجمُه عنه غائبُ([25])

 

وقد أظلمَ الديوانُ بعدكَ وحشةً

فأجابه :

وفي كلِّ وقتٍ من نداهُ غرائبُ

 

أيا مالكاً، لي من عُلاه رغائبٌ

فقلبي عليها دائمُ الوجدِ ذائبُ

 

أتتْنيَ أبياتٌ حِسَانٌ لطائفٌ

لنا من أياديك الكرامِ عجائبُ([26])

 

وأنت الذي ما زلْتَ كالبحرِ للورى

وقد تستمر الرسائل تترى بين الأخوة المتحابين، ويعبر كل منهما للآخر عن شوقه إليه، وحبه له([27]).

وقد تكون الإخوانية مطارحة تجمع الشعر والنثر، وذلك على نحو ما كتبه «الأرجاني الصغير»([28]) لبعض أحبابه: «سيدي كفيت النوائب، ووقيت عوادي الغوادي وتبرأت من غث عيث([29]) الأنواء ومن تراكم ركامها المفضي إلى الإقواء، وتنهي أنه ما خفي عنه ما أتى في هذا العام من حال الشتا ومطره الجاري لتموج البحر العجاج … فبالله أسرعوا بالجواب، فالعين متلمّحة، والقلب في وجل لا زالت قائمة بخدمتكم الأقلامُ والبراعة منشئ في البدأ والختام.

وتسرْبَلَتْ سُبُلُ الدواجي([30])

 

إن صَفَّقَتْ طُوْرُ الدياجي

كأنما هو فوقَ عاجِ

 

فهلالُها مثلُ اللُّجَيْنِ

فلما وصل إليه كتب الجواب نثرا وشعرا على الروي نفسه([31]).

وهناك إخوانيات تتخذ شكل التهنئة بمناسبة ما، فالشاعر «إبراهيم الباجوري»([32]) يهنئ صديقاً له بمناسبة عودته من الحج فيقول له:

أدى فريضةَ حجِّهِ المبرور

 

طوبى لمن بمقام إبراهيمَ قد

تمَّتْ شعائرُه بلا تقصير

 

وسعى وطاف بكعبة الطولِ الذي

قد فاتَ من مندوبِه المنذور

 

فلْيُهْنِهِ الإقبالُ وليقْض الذي

في خجلةٍ من جفنِها المكسورِ ([33])

 

وإليه أهدي بنتَ فكرٍ تنجلي

وقد تأتي القصيدة الإخوانية على شكل مداعبة للآخرين، بحيث تنأى عن الجدية إلى الترويح عن النفس لإزاحة العناء عنها، وإثارة الضحك الذي ينقل الحياة العابسة إلى لحظات مرحة تنسى بها الهموم وتخفف الآلام .

     فالشاعر «عبد الغني النابلسي» في رحلته إلى طرابلس، كان يصحبهم رجل ليدلهم على الطريق، وكان يركب بغلة، وكانت كلما صعد جبلاً أو نزل وادياً وقفت به بغلته فنزل، فصار الصحب يمزحون معه، فقال النابلسي:

عند أربابِ الكمالِ

 

قالتِ البغلةُ قولاً

ذيلَ هاتيك الجبالِ

 

كلما قلْنا قطعْنا

في مناراتٍ طوالِ

 

نلتقي وَعْراً ونرقى

مشرفٍ قالتْ نزالِ ([34])

 

وإذا جئْنا لوادٍ

وفي الرحلة نفسها نزل مع صحبه في قرية عانوت في الطريق بين صيدا وبيروت وناموا ليلة، فأزعجتهم البراغيث ولم يناموا حتى السحر فقال:

وما نمنا بليلٍ كالليالي

 

نزلنا أرضَ عانوتَ فنمنا

رعَتْنا بالخراطيمِ الطوالِ

 

براغيثٌ كأفيال قصارٍ

إلى الأقدامِ حتى للنعال

 

لنا أكلَتْ جميعاً من رؤوسٍ

فأصبَحْنَا كأمثالِ الخيال ([35])

 

وحتى نومُنا أكلَتْه أيضاً

وقد تتخذ الإخوانية شكل مواساة على مأساة أو نكبة حلت بصديق ما، فالشاعر «الحاج عبد القادر بن السنوسي الدحاوي»([36]) أرسل إلى صديق له كان الحاكم قد سجنه، رسالة يحثه فيها على الصبر في هذه الدنيا التي تنكب الناس بلأوائها، ويبين له أن مصير الصابرين سيكون حميداً بإذن الله في الدار الآخرة، ثم دعا له بالفرج والخلاص من الخطب الذي يعاني منه، يقول له:

ولا تَرُعْكَ بما فاجَتْك وهران

 

عوِّلْ على الصبر لا تُفْزعْك أشجانُ

بلى هي الدارُ أغيارٌ وأحزان

 

أما هي الدارُ لم تؤمَنْ غوائلُها

ولا بأوسطَ من خانته إخوان

 

ما أنت أولُ من دَهَتْ ولا آخرٌ

للمتقين وصدقُ القولِ قرآنُ

 

إن العواقبَ في القرآنِ ثابتةٌ

وما حوالَيْكَ حراسٌ وأعوان ([37])

 

فاللهَ أسألُ أن أراكَ مُنْطلِقاً

وقد تأتي الإخوانية على شكل ألغاز[38] توجه إلى صديق، ويطلب الشاعر منه حلها، أو على شكل تقريظ للكتب أو أسئلة علمية أو مساجلات شعرية فمن الألغاز قول «فتح الله الداديخي»([39]) وقد أرسل لغزاً شعرياً إلى صديقه الكنجي وجاء فيه:

ومَنْ رقى بالمجدِ أعلى مقامْ

 

يا سيداً فاق أولي عصره

حتى المعالي قادَها بالزمام

 

مَنْ حازَ قصب السبق بين الورى

خواصِنا يكثرُ عند العوام

 

أبِنْ لنا: ما اسمٌ إذا قلّ في

وفيه مِصْرَعان تبدو عظامْ

 

بيتٌ له بابان قد أُغلِقا

بدَتْ لرأيها كبدر التمام ([40])

 

رباعيّ التركيب من أحرفٍ

وقد تأتي الإخوانية مساجلات شعرية بين اثنين أو أكثر، فالشاعر «إسماعيل المحاسني»([41]) اجتمع مع زمرة علماء كرام كان منهم الشعراء النابلسي والمحاسني والعطيفي، فأنشد الأول مبتدراً:

نسماتٍ تحكي الوجوه الصِّباحا

 

بعثْنا إلى الرياضِ صباحاً

ضُ بأنوارِهم فتَمْلا البِطاحا

 

ونعِمْنا بسادةٍ تشرقُ الأر

فقال عبد الغني النابلسي:

ـدِ كشمسٍ به سنا الفضلِ لاحا

 

كلُّ شهمٍ ينيرُ في فَلَك المجـ

فأنشد المحاسني:

لكُ منا بلطفِه الأرواحا

 

سيَّما سيدُ الأفاضلِ مَنْ يَمْـ

فقال رمضان العطيْفي:

ملؤوا الكونَ سُوْدُداً وسَماحا ([42])

 

ورِثَ الجودَ عن جدودٍ كرامٍ

ويمكنني أن أعد شعر الاعتذاريات والعتاب نوعاً من شعر الإخوانيات لأن الدافع إليه هو جلب المودة واستدامة وشائج القرب([43])، وإن المرء ليضيق ذرعاً بالحياة إن أحسّ ببعد الناس عنه أو جفوتهم له، وهو يسعى إلى إزالة ماران على قلوبهم تجاهه. ولهذا يقول الشاعر «إسماعيل الحجازي»[44]:

شهيٍّ بألفاظٍ أرقَّ من السّحْرِ

 

ورُبَّ عتابٍ بيننا جَدَّدَ الهوى

وألطف من مرِّ النسيمِ إذا يسري ([45])

 

وأحلى من الماءِ الزُّلالِ على الظَّما

وقد عاتب الشاعر «محمود بن رمضان»([46]) صديقه على هجرانه بلا جريرة اقترفها، ذلك لان هجرانه هذا قد أمضّه وآذاه، وهو يعجب من هذا الفراق والجفاء بعد المودة، على الرغم من أنه كان طيعاً لأوامره، شغوفاً به، يقول:

وحبُّكمْ منتهى الآمالِ والطلبِ

 

هجَرْتُموني بلا ذنبٍ ولا سببٍ

قلبي ببعدِكُم في غايةِ التَّعَب

 

ورُمْتُ بالقُرْبِ منكم راحةً فغدا

أمراً ولا مِلْتُ في حبي عن الأدبِ

 

ومُذْ أطعْتُ هواكم ما عصَيْتُ لكم

بخلاً علي، وأنتم أكرمُ العرب ([47])

 

فما لطَرْفيَ لا يَغْشاهُ طرفُكُمُ

وكتب «محمد بن العرضي» يعاتب صاحباً له على تنكره له بعدما كانا متحابين، ويبين له أن الوشاة كانوا السبب في هذه القطيعة بما افتروه عنه، وحاكوه من نسيج الزور والبهتان، مما أدى إلى نفوره منه، حتى إنه لم يعد يرد السلام عليه، وكأن الشاعر ذكر بهذه المناسبة ازورار سيف الدولة عن أبي فراس الذي أسر دفاعاً عن ابن عمه سيف الدولة، ولهذا نراه يجعل نفسه كالأسير من حب صاحبه الذي جافاه ويبين أنه تعرض من أجله للأسر بل للموت، ثم يطلب منه أن يحكم عليه بالعفو أو بالقتل، فكلاهما أحب إلى قلبه من البعد عنه لأن انصرافه عنه، يعني الموت بالنسبة إليه، يقول في ذلك:

فشمسٌ وأما كفُه فغَمامُ

 

وأبلجَ أمّا وجهُه يُجْتلى

بضائعَ زُوْرٍ ما لهن دوام

 

فقد وجدَ الواشون سوقاً ونفَّقُوا

لديه وحبلُ القُرْبِ وهو ذمام

 

فأصبح شملُ الأُنْس وهو مُبَدَّدٌ

وأَعْرَضَ حتى ما يرد سلام

 

تَزاوَرَ حتى ما يُرَجّى التفاتُهُ

وبعضُ اعتذارِ المذنبين خِصام

 

أُجِلُّكَ أنْ ألقاك بالعُذْرِ صادقاً

وألتذُّ طعمَ الموتِ وهو زُؤام

 

ألم ألقَ فيكَ الأسرَ وهو مُبّرِّحٌ

بما شئْتَ لا يعلو بفضلِكَ ذام

 

هو الذنبُ بين العفوِ والسيفِ فاحتكمْ

حياتي إلا في ذُراكَ حِمام ([48])

 

ولا تَبْلُني بالبعدِ عنك فإنما

وفي الاعتذار إبداء للرغبة في طلب العفو والصفح، لتكون القلوب نقية صافية، فالشاعر «القاسمي الحلبي»([49]) عاتب الشاعر الخفاجي لأنه لم يعُدْه في مرضه ثم تبين له أن الثاني كان مريضاً مثله، فاعتذر له بقوله:

وفَى فشفى امرأً دنِفاً ضعيْفا

 

أتَتْنيَ رقعةٌ من ذي ولاءٍ

ألمَّ به وصارَ له حليفا

 

أبانَتْ منه معذرةً بسُقمٍ

وأوفى من عيادتِه ألوفا ([50])

 

وذاك أبرُّ في سَنَنِ التصافي

وهكذا عبرت الإخوانيات عن روح المحبة والتآخي بأسلوب مباشر حيناً ومتندر تارة أخرى، وقد بدت في أنواع كثيرة على شكل مطارحات اجتماعية أو علمية، أو في عتاب رقيق ينم عن العلاقة الحميدة التي يقف دونها حائل ما إلى أمد غير طويل.

    ثالثاً- الغربة والحنين :

قال الشاعر أحمد بن النقيب الحلبي:

بعضَ أوصافِه لسانُ اليَراعِ ([51])

 

إن شوقي يَجُلُّ عن أن يؤدي

  الشاعر إنسان مرهف الإحساس، متوفز المشاعر، يألف ويؤلف، ويحمل بين جنباته ذكريات حلوة أو مرة،وقد تواجهه مصاعب، أو يطمح إلى منصب أعلى فينأى عن الأحبة والديار ليحقق أمنيته،أوليخلص من واقع مؤلم،ثم لا تلبث لواعج الشوق والحنين أن تلح عليه فيروح يعبر عنها، ويسجل ذبذبات روحه وتواترات وجدانه، وكأن شعره هذا متنفس له من عالمه الذي يعيش فيه ويعاني منه.

ومن قديم كان الطلل والظعن رمزين للشوق والحنين، كما كان البرق والنسيم يذكران بالأهل والديار، وقد شهد الشاعر في عصر الدول المتتابعة على مدى يزيد عن سبعة قرون أفراحاً وأتراحاً في حياته الاجتماعية والسياسية، إذ سعى من أجل العلم فاغترب، وسافر طلباً للمنصب أو للمال، وهاجر هرباً من واقع سياسي مؤلم، أو من عادة اجتماعية متردية وقد ينأى عن الأهل والأحبة لسجن تعرض له، ثم يروح يذكر بين الفينة والأخرى أهله ودياره، ولحظات الوداع، فيحن إليهم وإلى مرابع الطفولة والصبا، ومواطن الذكريات وقد تصله رسائل وهو في مغتربه، فيعبر عنها شعراً ينفث فيه مكامن شجوه…

وهكذا كان الشوق والحنين ينم عنعواطف المحبة أو عن الواقع الاجتماعي بل والسياسي أيضاً، وقد تعددت أسبابه وأنواعه، وسأوضحها لما لها من علاقة بالواقع الاجتماعي في العصر المدروس.

1- أسباب الشوق والحنين :

أ- قد يسافر الشاعر للخلاص من واقع اجتماعي متردٍّ فالشاعر الحلبي «فتح الله بن النحاس» لها كثيراً ثم تاب من مساوئه، ولكنه لم يجد من مجتمعه معيناً إلا القليل من الناس، فرحل إلى دمشق وهو يندد بمسقط رأسه لأن أهله قليلو الوفاء، كثيرو الفساد، وهم يسببون النفور لمن يعيش معهم:

ينبُتُ نبتاً في أرضِها الدَّغَلُ ([52])

 

ومن شقايَ سُكنايَ في بلدٍ

ولم يُضِعْني الحرمانُ والمللُ

 

أضاعني الأهلُ والصديقُ بها

ثيابِ عُجْبٍ من تحتِها عَضَلُ ([53])

 

صحبْتُ قوماً وما صحبْتُ سوى

وفي بلد الغربة دمشق ثم مصر أحسّ الشاعر بلذع الشوق إلى مسقط رأسه فراح يسكب أحزانه في شعر معبر يقول فيه:

لم يرثِه غيرُ جاري دمعِه أحدُ

 

أنا الغريبُ الذي إن ماتَ في بلدٍ

إلا استفاضَتْ دماً من مُقْلتي الكبد ([54])

 

علاقةٌ لي بالشهباءِ ما ذُكِرَتْ

لقد أحسّ الشاعر أن الغربة سكين جزار، وشعر بألم الفراق، وأدرك أن الغربة لا صداقة حميمة فيها، ولئن أدرك الموت صاحبها فإنه لا يجد أمامه من يذرف عليه الدمع، ولهذا فإنه يتألم، ويضوي جسده من هذا الإحساس المقيت، وكأني بالشاعر قد ذكر «مالك بن الريب» الذي جاءه الموت فأحس بوحشة الغربة فراح يقول:

بجنب الغضا أُزْجي القلاصَ النواجيا

 

ألا ليت شعري هل أبيتَنَّ ليلةً

سوى السيفِ والرمحِ الرُّدَيْنيِّ باكيا([55])

 

تذكرْتُ مَنْ يبكي عليّ فلم أجدْ

وهذا الشاعر «أحمد المقري» يقول في غربته، وكان في مصر أيضاً، وقد أحسّ بالذل في أرض غير بلاده، ولم ير صديقاً أو معيناً:

وصِرْتُ بمصرَ مَنْسِيَّ الرُّسومِ

 

تركت رسوم عزي في بلادي

وقلْتُ لها عن العلياءِ صومي

 

ونفسي رُضْتُها بالذلِّ فيها

ولكن الليالي من خُصومي ([56])

 

ولي عزمٌ كحدّ السيفِ ماضٍ

إنه كسالفه يحس في مصر بالوحدة ولقد عاش قبلها في بلاد الشام، ورأى فيها صحاباً ومعجبين بعلمه وأدبه، فلما غادرها إلى مصر لم يجد له صاحباً أو معيناً، فأحسّ بأنه صار منسياً، وعوّد نفسه على الحياة الجديدة التي لا علو فيها ولا مجد، على الرغم من سؤدده وعزيمته الماضية، لأن الليالي لا تبقى على حالها، ولا بد من التعايش مع الواقع.

ب- وقد يكون البعد عن الوطن هرباً من عادة اجتماعية سيئة كعادة الأخذ بالثأر التي فرقت الكثيرين قتلاً وتشريداً. فأسرة الشاعر «حسين بن الجزري» تركت ديارها نتيجة هذه العادة على ما يبدو، لأننا نراه يذكر سوء الظنون، وقتل قابيل لأخيه ، ويبين أن الحياة لا تصفو لأحد إذ لابد من الأحزان والمعاناة ، يقول في ذلك:

فلئِنْ تَرَحَّلَ عنهمُ جدِّي فقد ساءتْ ظنونْ

ولنا بقابيلَ وقتل أخيه مظلوماً يقينْ

أَفَنَعْتِبُ الأيامَ فيما بيننا إنْ عاثَ بَيْنْ

ولكل ذي جَفْن قذًى ولكلِّ ذي قلبٍ شُجونْ ([57])

ويشتاق هذا الشاعر إلى مسقط رأسه جزيرة ابن عمرو، ويضيق من البعد عن موطنه فيندد بالفراق والغربة ويقول:

وطال اغترابي عنهم وتباعُدي

 

لقد طالَ ما بيني وبين عشيرتي

فراق ذوي القربى وقربِ الأباعد ([58])

 

وإن الليالي أقسمت لا تنام عن

1

ج- وقد يكون داعي الشوق سفر من أجل طلب العلم أو المنصب، فالشاعر «شمس الدين ابن المنقار» رحل إلى تركيا ليدرس في معاهدها علّه يحظى بعلم وسيع ومنصب رفيع، ولكنه اشتاق إلى دمشق الفيحاء، فقال يعبر عن حنينه إليها، مبيناً أنه لم يرحل عنها كراهية لها وإنما سعى من أجل علو منزلته العلمية والاجتماعية، ولكن قلبه ظل معلقاً بها وهو يتمنى من المولى سبحانه أن يجمع شمله مع أهله فيها، وحينذاك يزول من قلبه الغم والألم، يقول في ذلك:

إلى الرومِ حين ضرَّ بيَ العُسْرُ

 

ترحّلْتُ عنها غيرَ قالٍ لحسنِها

وقلبي فيها، كيف وهي لي صدرُ؟

 

ففارقْتُها لكن بجسمي وقالبي

ويبدو لعينيْ الصالحيَّةُ والجسرُ

 

متى يجمعُ الرحمنُ شملي بقربها

ألا زال عني الهمُّ والغمُّ والضُّرُ ([59])

 

هناك أنادي فرحةً ومسرةً

د- وقد تكون لقمة العيش إحدى الأسباب التي تحدو بالشعراء إلى الاغتراب، فالشاعر «حسين بن الجزري» رحل إلى تركيا والحجاز لينال من عطايا المسؤولين، ولما لا مته زوجه على كثرة أسفاره عاتبها على ذلك وبين أن الأمور العظام لا تكون إلا للعظام من الرجال وهو يعتمد بعد المولى سبحانه على ممدوحه لأنه إنسان رحيم:

منال الرجا قبل الظنونِ الرواجمِ

 

فخلِّ فدتْكِ النفسُ عَذْلي فلا أرى

لراءٍ، ولم تمدُدْ له كفُّ رائِمِ

 

وأمرٌ حقيرٌ لا يُرى الذلُّ ضمنَه

وفارقْتُ إكراماً ديارَ العواصمِ

 

تركْتُ له قومي لمجدي عاصماً

دخلْتُ حمى حامٍ من الدهرِ راحمِ ([60])

 

يهوِّنُ اعتقادي بالإلهِ وأنني

هـ- وقد تضطر الظروف السياسية المرء إلى البعد عن الأوطان، إذ يشعر المرء بألم الفراق يكوي جسده، فعندما قضى العثمانيون على الحركة الوهابية ونفي أصحابها إلى مصر كتب الشاعر «الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ»([61]) قصيدة من منفاه أرسلها إلى صديقه ليعبر بها عن شوقه إلى الدرعية أرض الهداية والتقى والعلم، وعن أحزانه لدروس هذا العلم في هاتيك الديار التي احتلها العدو ففتك بها حتى صارت النسوة يبكين كالصغار على من فقدنهم، يقول في ذلك:

أتَتْك فقابِلْ بالمُنى والبشائرِ

 

رسائلُ إخوانِ الصفا والعشائرِ

وعهداً مضى للطيِّبيْنَ الأطاهرِ

 

تذكرُنا أيامُ وصلٍ تقادَمَتْ

مُحَصَّنَةً من كلّ خصمٍ مُغامرِ

 

وكانت بهم تلك الديارُ منيعةً

عصائبُ هلكى من وليدٍ وكابر

 

يُذكِرُنِيْهم كلَّ وقتٍ وساعةٍ

لها رنَّةٌ بين الربى والمحاجرِ ([62])

 

وأرملةٍ تبكي بشجوٍ جنينَها

ولما سجن الأمير الصنعاني سنة 1144هـ أرسل إليه صديقه أبيات ينم فيها عن شوقه إليه،فأجابه الصنعاني معبراً عن شكره لهذه الرسالة التي كانت كالنسيم هب من ديار صاحبه فزادت أشجانه بها وخفقت ضلوعه لها، وبين له أنه فقد في سجنه كل شيء حسن إلا الرسائل الأدبية التي كانت تأتيه من أحبته، وهو يرجو الفرج بدعائهم، وكم من دعوة جعلته يرجو الله ويقيم الصلاة داعياً بها أن يزيح الله عن كاهله الشدة، يقول في ذلك:

بنسيمٍ هبَّ من تلك الربى

 

مرحباً يا مرحباً يا مرحباً

ثم لم أقضِ لديهم أَرَبا

 

قسماً لو قطَّعُوني إِرَباً

وفؤاداً خافقاً مُضطرِبا

 

لم أزِدْ إلا غراماً وجوًى

غير ما أَهدى إلينا الأُدَبا

 

قد فقدْنا كلَّ شيءٍ حَسَنٍ

وعسى من فرجٍ قد قَرُبا

 

فعسى الشدةُ تأتي بالرَّخا

فلكَمْ قمْتُ بها مُنْتَصِبا ([63])

 

وعسى من دعوةٍ قد رُفِعَتْ

 

2- أنواع الشوق والحنين :

تعددت أنواع الشوق والحنين، فهناك:

أ- الشوق إلى الأهل :

فالبهاء العاملي كتب إلى والده وهو بمدينة هراة معبراً له عن تلهفه إلى رؤيته لأن غيابه أقض مضجعه، وأذرف دمعه:

هذا الفراقُ بلى وحقِّ المصطفى

 

يا ساكني أرضَ الهراةِ أما كفى

والجَفْن من بعدِ التباعدِ ما غفا

 

عودوا عليَّ فربعُ صَبْري قد عَفا

والقلبُ في بَلْبال ([64])

 

وخيالكُمْ في بالي

  والشاعر ابن الشحنة([65]) اشتاق إلى ابن أخته في حلب، وكان في القاهرة فأرسل إليه أبياتٍ يعبر فيها عن شوقه إليه ، وإلى حلب ذات الهواء العليل والماء النمير الذي يطفئ شربه غليل شوقه، وها هو الآن يحييها ويحزن لفراقها، وقد نحل جسده لبعده عنها واضطراب نومه، وهو يتمنى من أهله أن يتفضلوا عليه بزيارة، يقول في ذلك:

هي الوِرْدُ في نومي وقَوْمي وسَرْحتي

 

إلى حلبٍ واطُوْلَ شوقي وحسرتي

ولطفُ هواها زادَ وجدي ولَوْعتي

 

ففي مائِها الشافي شفاءُ تَوَلُّعِي

وجسمي براهُ البينُ بَرْيَ الخلالة

 

لبعدِهِمُ قد صارَ عَيْشي مُنَغَّصاً

أكابدُ أنواعَ الجَفا والقطيعة

 

وأصبحْتُ صَبّاً في هواهُمْ مُتَيَّماً

كحظيَ أحبابي فجُودوا بَزْورةِ([66])

 

فجسميَ مُعْتَلٌّ ونوميَ ناقصٌ

 

ب- الشوق إلى الأحبة :

والصديق الصدوق كالأهل، يشتاق المرء إليه ويتمنى لقاءه، وقد عبر الشاعر «أحمد الحصكفي»([67]) عن هذا في قوله:

وأبدلَني السهادَ من الرُّقادِ

 

ألا إن الفراقَ سبا فؤادي

وبدَّدَ شملَه في كلِّ وادِ

 

وأجرى بحرَ دمعي من عيوني

مُحالٌ والعُذول لديّ عادِ

 

نزحْتُ عن الأحبةِ فالتَّسَلّي

بناديهم على رُغْمِ الأعادي ([68])

 

عسى الرحمنُ يجمعُنا قريباً

فالشاعر قلق لبعد أحبته عنه، وقد ذرف الدموع غزاراً من شدة شوقه، وهو لا يسلو فراقهم، ويتمنى أن يلقاهم على الرغم ممن يكره ذلك.

ج- الشوق إلى الديار :

ومسقط الرأس، وملعب الذكريات، وملتقى الأحبة ديار يحن إليها الشاعر حين ينأى عنها. فالشاعر «محمد الصائغ»([69]) يشتاق إلى دمشق وربوعها ويتمنى ألا ينأى عنها ذلك لأنه قضى فيها شبابه، أجمل مراحل عمره، وهو يتمنى أن يعود إليها. يقول في ذلك:

شوقٌ أكادُ به جوًى أتمزَّقُ

 

لي نحو رَبْعِكِ دائماً يا جِلِّقُ

أنّى وقلبي في ربُوعِك مُوْثَقُ

 

أشتاقُ منك منازلاً لم أنْسَها

أبداً إليك بكلِّه يتشوّق

 

أدمشقُ لا بَعُدَتْ ديارُك عن فتًى

حباً وذاك أعزُّ شيءٍ يُنْفَقُ

 

أنفقْتُ في ناديكِ أيامَ الصِّبا

ولكلّ جمعٍ صَدْعَةٌ وتَفَرُّقُ

 

ورحلْتُ عنكِ ولي إليكِ تَلَفُّتٌ

بوعود قُربك وهو شوقاً يَخْفُق ([70])

 

ولكم أسكِّنُ عنكِ قلباً طامِعاً

أما الشاعر «إبراهيم الخياري» فقد ذكر في رحلته إلى إستانبول المسماة «تحفة الأدباء وسلوة الغرباء» أشواقه إلى المدينة المنورة مثوى رسول الله r ، الذي فاق شوقه إليه حنينه إلى أهله، وها هو يعبر عن رغبته في إعانته في ديار الغربة عله يعود سريعاً إلى بلاده، وسيكون يوم اللقاء يوم عيد يسرّ به كثيراً، يقول في ذلك:

تلك الربوعُ فآهِ وا إِسعادِ

 

طالَ اغترابي والتنائي عن حِمىً

أخدانُ أُنْسِي بل ولا أولادي

 

لا الأهلُ والأوطانُ مقصودِي ولا

وأجلِّ مأمومٍ لدى الوقاد

 

بل لثمُ سُدَّةِ خير من وَطئَ الثرى

خبري، ومجديْ طارفٌ وتلادي

 

بلدي وموطنُ نشأتي مِنْ مُبْتَدا

وتلافَني من قبل يومِ نفادِ

 

عجِّلْ إلهي بالوُصولِ لسَوْحِه

بل ذاك عندي أكبرُ الأعيادِ ([71])

 

ويكون ذاك اليومُ عيداً سَامياً

د- الشوق إلى الأساتذة ومرابع العلم :

    وهؤلاء بمثابة الأهل لما لهم من فضل عميم على طلابهم ، وقد خلف لنا أدبنا أبيات للشاعر «عبد العزيز بن حمد آل معمر»([72]) كتبها في رسالة إلى صديقه «الشيخ عبد الرحمن ابن حسن آل الشيخ»([73]) يعبر فيها عن شوقـه إليه ، وإلى حلقات الدرس التي كانت تعقد في جنبات الدرعية، وقد هُجّر أصحابها ونُفُوا من ديارهم وانفرط العقد الذي كان يجمع شملهم، يقول في ذلك:

بي الدارُ لا صحبٌ لديّ ولا أهْلُ

 

ذكرْتُكُمُ يا أهلَ وُدّيْ وقد نأَتْ

لأهونُ مفقود لدى مَنْ له عقلُ

 

وما عَرَضَ الدنيا أبكّي إنه

وقهر العِدا للحقّ إذ سيفُه يعلو

 

ولكن أبكّي العلمَ والحِلمَ والحِمى

شيوخٍ وإخوانٍ شبابُهم كُهْلُ

 

وأَبْكِيْ على عَقْدٍ تناثرَ نظمُهُ

خمائلُها للسائلينَ بها حَلّ

 

وللعلم روضاتٌ تَفَتَّحَ زهرُها

وعِقْدُهُمُ بعد التآلُفِ مُنْسَلُّ ([74])

 

وقد أصبحَتْ قَفْراً وأصبحَ أهلُها

 

3- سمات الشوق والحنين :

وهكذا تبدت في قصائد الشوق والحنين، أو ما تناثر منه خلال الفنون الشعرية المتعددة سمات عديدة منها:

أ- ذكر لحظات الوداع :

اللحظات الأخيرة التي التقى فيها الشاعر بأحبة قلبه أعلق في قلبه وأرسخ في مخيلته، ولهذا يرددها الشاعر كثيراً في أقواله، «فأحمد المقري» يذكر أن دموعه كانت تجري في هذا الموقف المحزن الذي أفقده الصبر والسلوان، ويبين أنه وإن نأى جسمه فإن قلبه ليحن إلى الأحبة، وهل يسلو امرؤ عهوداً سالفة كانت من أجمل أيام حياته وأسعدها، يقول:

يوم الوداعِ وإنْ أجرى الدموعَ دما

 

سلا أحبتَه مَنْ لم يذُبْ كمَداً

من بَعْدِكم هُدَّ رُكْنُ الصبرِ وانْهَدما

 

يا مَنْ يعزُّ علينا أن نفارقَهم

فالقلبُ ثاوٍ بها لم يَصْحَبِ القدما ([75])

 

وإن نأى الجسمُ كُرْهاً عن منازلِكُمْ

وهذا الشاعر «مصطفى البابي الحلبي» يتذكر زوجه وهي تودعه، وعيناها تذرفان الدموع وترجو أن ترافقه أو يقيم معها، وقد بين لها أن سفره هذا من أجل استقرار حياتهما، وأنه لا قدرة له على الإنفاق على سفرها لفقره، وقد آلمها الفراق كما أحزنه، فوضعت يدها على كبدها ونظر إليها نظرة المنكسر، وقبّلها وعواطفه تكاد تنطق لسانه بشعر ينم عن أشجانه، يقول في ذلك :

أسًى وتُرَقْرِقُ جَفْناً كَسِيْرا

 

أتتني تُفيضُ من دمعِها

إما مُقاماً معاً أو مَسِيرا

 

رجَتْ إذ أحَسَّتْ بوَقْعِ الفِراقِ

وضَنَّ الصُّوانُ بها أن تسِيرا

 

وقد رضيَ المجدُ ألا أقيمَ

لغير الثَّواءِ جَشَمْتُ السُّفورا؟

 

أرادَتْ ثوائي، فديتُكِ هل

وسِرتُ أُقَلِّبُ طَرْفاً حَسِيرا

 

فردَّتْ على كبدٍ خافتٍ

تعلَّمْتُ نثرَ الدرارِي سُطورا ([76])

 

وزوَّدَني ثغرُها ما به

 

ب- التعبير عن فرحة اللقاء :

قال «صادق البتروني»([77]) يخاطب صديقه وهو بهِجٌ بلقائِه سعيد لرؤيته، بعد أن كان غيابه قد أحزنه وزاد أشواقه:

بشربِ المُدامِ ونَنْفي الكُرَبْ

 

ورَدْنا مَقامَك نُجلي الهُمومَ

وما فيه بُغْيَتُنا والأَرَبْ

 

فلم نرَ فيه الجنابَ الرفيعَ

لغَيْبَةِ شهمِ العُلى والنَّسَبْ

 

فكاد الفؤادُ جوًى أن يذوبَ

وزادَ السرورُ بنا والطَرَبْ ([78])

 

فلما قدِمْتَ أضاءَ المكانُ

 

ج- ذكر مسببات الشوق :

فمناجاة الطائر تذكر الشاعر بأحبته، وكذلك هبوب النسيم من جهة المغترب، ولمعان البرق، وقد عبر الشاعر «أحمد المقري» عن ذلك بقوله:

وميعادُ شوقي أن يَهَبَّ نسيم ([79])

 

فميعادُ دمعيْ أن تنوحَ حمامةٌ

وكذلك «ابن الجزري» ذكر أنه كان يذرف الدمع حينما يسمع صوت الحمائم وهي تنوح في الضحى، أو عند الأصيل:

لذكراه دمعي الخدَّ وهو ذَرُوْفُ

 

سقى الله ربعاً بالعواصمِ ما سقى

صَدُوْحٌ بأفنانِ الأَراكِ هَتُوْفُ

 

تُذَكِّرُنِيْهِ بالأصائلِ والضحى

وكلُّ غريبٍ للبكاءِ ألوف ([80])

 

تنوحُ وأَبْكيها كلانا لغُرْبَةٍ

وهذا «عبد الله بن شهاب التدمري»([81]) يسمع صوت البلبل فيذكر مسقط رأسه، ويحس بأنه وطائره حزينان لبعدهما عن ديارهما، ويروح يناجيه مناجاة رقيقة شجية يطلب فيها منه أن يخفف من غنائه، فلقد أمض غناؤه قلبه، يقول في ذلك:

فشَجا قلبَ المُعَنّى

 

بلبلُ الأوطانِ غنّى

عن سماعِ العُوْد أغنى

 

وغدا يُبدي شجوناً

إذ غدا مثلي مُعَنّى

 

يذكرُ الأوطانَ شوقاً

زادَني التذكارُ حُزْنا

 

قلْتُ مهلاً يا مَشُوْقاً

إنني أصْغَيْتُ أُذْنا ([82])

 

نُحْ قليلاً يا شَبِيْهيْ

والبرق مما يذكر بالأهل والديار أيضاً، وكذلك النسيم العليل يشجي القلب الحزين، فالشاعر «محمد الحرزي»([83]) يناجي البرق الذي لاح له ويشبهه لسرعة حركته بقلبه القلق، ويسأل النسيم أن يأتيه بأخبار الأحبة، وأن يبلغه أشواقه إليهم فقد كاد قلبه يحترق من شدة الوجد، يقول في ذلك:

لا تستقرُّ كقَلْبٍ هزّهُ القَلَقُ

 

يا لامعَ البرقِ إما لُحْتَ مُعْتَرِضاً

نجدٍ على غفلةِ الواشينَ تَتَّفِقُ

 

ويا نسيمَ الصَّبا هل لَبْثَةٌ برُبى

به فإني بما ترويْه لي أثِقُ

 

وسلْ أُهَيْليْهِ عن قلبي وما صَنَعوا

وفي دجا الليلِ من ظلمائِه رَمَقُ

 

وعُدْ إليّ بما ضَمَّنْتَ من خبرٍ

أمسَتْ إليكمْ بنارِ الشوقِ تحتَرِقُ ([84])

 

أبثُّكُمْ أنّ لي من بعدِكمْ كبِداً

 

د- امتزاج الشوق إلى الأهل بالشوق إلى الديار:

فالشاعر «حسام الدين الحميدي»([85]) يذكر صفداً وأحبته فيها وأوقات أنسه معهم، وكان إذا رأى أحداً من أهلها مال إليه وصبا، ونظم في حبها أشعاراً منها قوله:

 

يا صاحبيْ إنْ شئتَ تُوْلِيْني مِنَنْ

 

عرّج على صفدٍ فلي فيها شجَنْ

 

وبها أحبّائي وأهلي والوطنْ

أهواهُمُ في السرِّ والإعلانِ

 

وهُم أعزُّ عليَّ من رُوْحي ومَنْ

 

كم ليلةٍ قد بِتُّ في ساحاتِها

 

أجني ثمارَ اللهوِ من وجَناتِها

 

وأجرُّ ذيلَ صبايَ في عَرَصاتِها

أتُرى يعودُ لنا زمانٌ ثانِ ([86])

 

هل راجعٌ ما فاتَ من لذّاتِها

       

 

هـ- امتزاج الشوق والحنين بالموضوعات الأخرى:

كالإخوانيات، والشكوى والوصف وقد مر أن الشعراء كانوا يتراسلون رسائل إخوانية تنم عن شوقهم إلى لقاء بعضهم بعضاً .

ومن امتزاج الشوق بالشكوى قول «إبراهيم العاملي»([87]) وكان قد هرب من مسقط رأسه جبل عامل في البقاع اللبناني فاشتاق إلى أهله، ومزج الشوق بالشكوى ممن يعاشرهم في مغتربه، فهم جهلاء، ظُلاّم لا يقدرون أحداً، وإن كان معاشرهم ينتسب إلى النيرين، ولعله قصد علياً وأحد ابنيه الحسن أو الحسين يقول في ذلك وهو يذرف الدمع غزيراً متتابعاً كتتابع الخيول المتسابقة:

فيرجعُ بالحِرمان وهو همولُ

 

غريب يمدُّ الطرْفَ نحو بلادِه

كما استَبَقَتْ يومَ الرهانِ خيولُ

 

إذا ذَكَرَ الأوطانَ فاضَتْ دموعُه

وألقى عليَّ الهمّ وهو ثقيلُ

 

وممّا شجا قلبي وأجرى مَدامعي

سواءٌ لديهمِ عالمٌ وجَهول

 

نزولي وقد فارَقْتُكُمْ في عصابةٍ

ولو أنه للنيِّرَيْنِ سَليل

 

سواسيةٌ لا يأمَنُ الجورَ جارُهُمْ

وعند كريمٍ لا يُضام نزيلُ ([88])

 

يُضامُ لدى أبياتِهم كلُّ نازِلٍ

ومن امتزاج الحنين بالوصف حديث المشوق عن بلاده ووصف ربوعها، فالشاعر «مصطفى البابي الحلبي» يحن إلى «الباب»([89]) مدينته، وكان في بلاد الروم، فيروح يصف جمالها الخلاب، وطبيعتها الساحرة، فترابها عبير، ونسيمها عليل، وماؤها عذب نمير، ويسح في كل مكان، ورياضها ملتفة أغصانها، وهي تكسب الأراضي ظلاً ظليلاً، وطيورها تصدح بأنغام كمزامير داود عليه السلام حين يتلو الزبور، وقد خلف هذه الديار، وبات يعاني الأرق والعنت في غربته في بلاد الروم، يقول في ذلك:

وعَيْشاً رقيقَ الحواشِي نضيرا

 

تذكَّر بالبابِ ظبياً غريرا

ثَراهُ تراه يفُتُّ العِبيرا

 

وفي سفحِ تَيْماءَ وادٍ أَغَنَّ

وماءً نميراً ورَوْضاً مَطيرا

 

نسيماً عليلاً وظلاً ظليلاً

ويلطِمُ فيه الغَديرُ الغَديرا

 

تعانقُ فيه الغصونُ الغصونَ

كألحانِ داوُدَ يتلو الزبورا

 

وللوُرْقِ صَدْحٌ بأفنانِها

نعمْ ودفنْتُ الهنا والسرورا

 

هنالِكَ خلَّفْتُ صَفْوَ الحياةِ

وقد كانَ من قبلُ ليلي قصيرا ([90])

 

أكابِدُ في الرومِ ليلي الطويلَ

وهكذا عبر شعر الشوق والحنين عن الآلام التي تعتلج في قلب المغترب البعيد عن أهله وأحبته وهذه قضية اجتماعية سادت في هذا العصر، وقد مازجه أحياناً أمور سياسية على ندرة، كما كشف عن أسباب الاغتراب والشوق وأنواع هذا اللون الأدبي وسماته في عصر الدول المتتابعة.

رابعاً-العلاقة بين الرجل والمرأة :

الحديث عن العلاقة بين الرجل والمرأة داء الشعراء شيباً كانوا أم شباناً إذ لابد أن يستهلوا قصائدهم به، سواء كانوا يعانون الوجد أم كانوا يقلدون .

وقد برّر النقاد للشعراء هذا الاستهلال، لأن الحديث عن الحب برأيهم يساهم في انطلاقة الشاعر، إذ يحرك مكامن وجده ، ويفتّح القلوب إلى سماعه، ولهذا وقف الشعراء على الأطلال، وصوروا الحبيب الهاجر، وعبروا عن عواطفهم تجاهه..

ولكن هذه العلاقة يجب أن ننظر إليها بمنظار أكثر واقعية ووعياً، فليست المرأة موطن غزل للخليل دائماً، بل ربما كان جلّ الغزل برأيي نابعاً من خيال الشاعر، ولاسيما الغزل المادي ذلك لأن المجتمع كان إسلامياً، ويعاقب على اقتراف المنكرات، و قد تكون المرأة المتحدث عنها زوجة ودوداً، أو رمزاً للحبيب المصطفى r، كما في مستهل المدائح النبوية، أو رمزاً للملك الضائع([91])، أو وسيلة تعبير عن العواطف الحميمة بين الأصدقاء والعلماء والمدرسين، ولهذا لم أعنون بـ «شعر الغزل» وإنما بـ «العلاقة بين الرجل والمرأة» في المجتمع لأنه برأيي تعبير أصدق وأكثر واقعية.

وقد يعترض معترض يحسب كل كلمة حب غزلاً، ويتهم العصر وأبناءه بالانحراف والانجراف في تيار المجون، كما حدث في دراسة الغزل في العصرين الأموي والعباسي، لكني أرى أن كثيراً من شعر الحب تفيض فيه مشاعر الرجل نحو زوجه دون أن يعيّنهاغيرة منه، ولأن الفقهاء حرّموا التغزل بامرأة معينة، وفي هذه الحال تكون العلاقة سامية نظيفة، وتنم عن الوفاء،إذ للزوجة مكانتها في الفؤاد فهي شريكة العمر وأم الأولاد ولاسيما إن كانت ممن تتمتع بخلال طيبة .

 هذاعبد الرحمن باكثير([92]) يحظى بفتاة أحلامه بعد طول تشوّف وانتظار، بدت خلاله لبعدها عنه في صورة من جفا حبه، وقد أثلجت صدره بمرآها الفتان حين زارته بلا إثم   ولا حرج، وكأنه يشير بذلك إلى ليلة زفافه، وها هو الآن يتملى صورتها أمام ناظريه، إنها صغيرة السن، عريقة النسب، طاهرة الذيل، محجبة عن الأعين، لم يرها أجنبي قط،  وكان حولها رجال أشاوس كالأسود بل هم أقوى، يحمونها بسيوفهم ورماحهم الكثيرة، وهي إلى ذلك ذات قوام رشيق، تختال في مشيتها كالغزالة، وعيناها ساحرتان، وقد حاول كثيرون أن يحظوا بها فما اسطاعوا إلى ذلك سبيلا، على الرغم مما بذلوه من مهر نفيس إلى أن أهديت إليه عزيزة مكرمة، فلم يعد يخاف جفوتها وما أسعده الآن بها.

صورة واقعية للحياة الزوجية تكشف عن مكانة الزوج في قلب بعلها، وتتخللها عفة القول، وصدق المرمى، إنه يقول فيها:

وفت صبَّها بعد الجفا غادةٌ عَذْرا

 

ومذ لامها قالت لعل لها عذرا

وزارتـــــــــــــــه لكن بعد طول تشوق

 

إليها، ولا لومٌ عليها ولا وِزرا

وأطفَتْ ببرد الوصل حُرَّ فؤاده

 

فبات، ولا يشكو بعاداً ولا حرّا

مهــــــــــاةُ فــــــــــــــلاةٍ غــــادةٌ عربية

 

عقيلة حيٍّ كالضراغم بل أضرى

عــــزيـــــزةُ قومٍ مستحيلٌ وصالُها

 

ولو بذل العشاق أنفسهم مهرا

مُحَجَّبــــــــــَةٌ عن أن تُنالَ بناظرٍ

 

جعلْن لها بيضَ الظُّبا والقنا خِدرا

رَداحٌ كساها الحُسْنُ حُلَّتَه كما

 

بمقلتِها هاروتُ قد أَوْدَعَ السِّحرا

لها اللهُ خَوْدٌ حين تخطو تخالُها

 

من التيه والإعجاب مائلةً سكرى([93])

وقد يقول قائل إن الشاعر لم يصرّح بأنها قرينته ، ولكن كيف يصرح وغيرته تمنعه أن يكشف للملأ عن مفاتنها ؟ ولعل شعره هذا قد أودعه في طيات صحفه الخاصة، ثم خلفه في تراثه ليحكي للأجيال موقف الأزواج، بل إني أرى أن معظم ما قيل في المرأة من شعر الغزل يدخل في باب الحياة الزوجية في مجتمع إسلامي محافظ، وقد يكون الكلام من صنع الخيال والتقليد الشعري، ولاسيما أن كثيراً من شعراء العصر كانوا من الفقهاء، وقد علم هؤلاء أن الغزل في مطالع القصائد في غير معينة لاحرج فيه ، قالوا: «أما الغزل بسعدى وليلى وغير ذلك مما هو من سنة الشعراء في افتتاح القصائد مما لا إفراط فيه، فهذا ونظيره لا بأس به إن شاء الله، والأمر فيه متسع لإقرار الرسول r فعل كعب فيقاس مثله عليه، والله أعلم» .  كما أن الرسول r استمع إلى شعر حسان بن ثابت، ولم يمنعه من الحديث عن الظاعنات([94]). ولهذا كان الشعراء يعَــمّون أسماء زوجاتهم إلا ما ندر، حين يكون الحديث عفاً لا حرج فيه، ولا يحصل به مفاسد ظاهرة أو باطنة .

 وكما وجه الشاعر عنترة شجاعته في معلقته إلى من أرادها زوجا له، وجه حسين بن الجزري قصيدته لقرينته ليعبر فيها عن حبه الجم لها إذ يقول :

ســــلـي يابنــــةَ القومِ عني أخاك    غَــــــــــداة لقِيــــــنا جيوشَ العِدا

وقـد حجبَتْ من قَتــــــــــام ذُكا      وشِمْـــــــنا بظلمـــــائِه الفرقــــــــدا

وحسبُك عِلْـــــــما بيوم تَبيـــــــ     ـــــــد فيه الحيـــــــاةُ ويبـــــدو الردى

وفرَّ عِــــــــداك الجبانُ الفرارَ   وضلَّ ، هُدِيْــــــتِ ، سبيلَ الهدى

أأحجمْتُ أم كنتُ ممن يقولُ     لعينيك مالي وروحي الفدا ؟

ولســـــتُ امـــــــرأً إن رأى يومَـــــــه -    الحِمـــــــام تمنّى بقــــــاءً غدا

وما فضـــــلُ طولِ حياةِ الفتى     إذا لم يعشْ أبــــــــــدا سرمدا([95])

   فالشاعر يريد لزوجته أن تعجب به رجلا قويا خاض غمرات الحروب الشرسة وانتصر فيها، وأن تزداد به تعلقا لأنه بطل لايهاب الموت ، كيف والمرء لابد راحل لامحالة .

وفي بعض المواقف العسيرة، وحين يتعرض أحدالزوجين للخطر، تعتلج المشاعر في القلوب وتفيض على الألسن عبارات الألم كالتي قالها الشاعر «عبد الجليل الطباطبائي» إذ أحسّ إثر سماعه بقصف الزبارة مدينته في قطر، وكان بعيداً عنها، بلذع الألم، وراح يصف لنا زوجه وحبه لها، ولم ينس أن يعبر عن إعجابه بمفاتنها الجسمية . وقد يقول قائل: وهل يرضى امرؤ أن يتحدث عن زوجه… وإني أرى أن دواوين الشعراء تفيض بالحديث عن الزوجات وعواطف الشعراء نحوهن، لكن الشاعر القديم قلما صرح كما صرح الطباطبائي، وقد استدعى الظرف الطارئ هذا التصرف منه ولهذا راح يقول:

لفي لاعجٍ بين الأضالعِ لاهبِ

 

لكَ اللهُ إني من فراقِ الحبائبِ

هوايَ ولا مُصْغٍ للاحٍ وعائِبِ

 

هوايَ زَباريٌّ ولست بكاتمٍ

أشمُّ الغوالي من مَهَبِّ الجنائبِ

 

أتوقُ إذا هَبَّ الجنوبُ لأنني

ومِنْ دونها قد حالَ قرعُ الكتائبِ ([96])

 

نأَتْ دار مَنْ أهوى وعَزَّ مَزارُها

ثم يروح ينعت لنا زوجته نعتاً مادياً يكشف عن سبب إعجابه وتعلقه بها، فهي بيضاء اللون، ممتلئة الجسم، وهي تسلب فؤاد سامعها بأحاديثها الجذابة الشيقة، يقول في ذلك:

من القُرْب من حسناءَ هيفاءَ كاعبِ

 

بها حِزْتُ آمالي وما كنْتُ راجياً

بسهمٍ من الألحاظِ للصبِّ صائبِ

 

رصوفٍ أنوفٍ ناهدٍ غادةٍ رمَتْ

بديعةِ حسنٍ من بناتِ الأعاربِ

 

من الخَفِراتِ الغُرِّ غنجاءَ بَضَّةٍ

بحسنِ حديثٍ ساحرِ القلبِ سالبِ

 

لها مَبْسَمٌ ألمى شهيٌّ مُعَسَّلٌ

ولا يكتفي الشاعر بذلك بل يروح يتحدث لنا عن سماتها المعنوية حديثا إيجابياً، فأخلاقها الكريمة أهّلتها لأن تكون زوجة صالحة، فهي تعامله بالمودة والمحبة، وتطيع أوامره، وتحفظ نفسها في غيبته، كما تحفظ أسرار الحياة الزوجية، ولئن حاول بعض أهلها أن يفسدوا العلاقة بينهما فإنها تأبى أن تستمع إلى وشاية ضده ،ولهذا فهو حريص على مودتها ولا يرغب في غيرها أحداً.

ولكن القدر فرق بينهما لا لكراهيته لها أو سأمه منها، ثم دعته الظروف أن يقترن بأخرى، وهنا انقلبت الصورة الإيجابية سلبية لأن الثانية كانت قبيحة المنظر، مشوهة الخلقة ،سيئة الأخلاق، وكأن الله سبحانه قد جمّع فيها العيوب كلها، المادية منها والمعنوية، فجبهتها مرتفعة، وعيناها غائرتان، وأنفها مقوس أفطس، فضلاً عن رائحتها الكريهة، ومع ذلك فهي معجبة بنفسها راغبة في المزيد من الدلال والتودد، وهي - برأيه – لا تستحق أي خير أو أن ينجب منها ولداً، لسوادها وقبح خَلْقها وخُلُقها، يقول:

ولا عن قلًى لكنْ لسوءِ المذاهبِ

 

على الرُّغْمِ قد فارقْتُها لا ملالةً

ولا ساغَ لي يوماً لذيذُ المشارب

 

ففارقْتُ طِيْبِ العيشِ بعد فراقِها

ودامَ بنار البُعْدِ عنها معاقبي

 

لحى اللهُ دهراً ساءَني بفراقِها

تُرَوِّعُ في وجهٍ عبوسٍ مغاضِبِ

 

وعوَّضني عنها بسوداءَ فاحمٍ

مشوهةٌ حازتْ جميعَ المعايبِ

 

خلائقُها سَوْءَ ى، قبيحةُ منظرٍ

وقد غارتِ العينانِ تحت الحواجبِ

 

فجبهتُها قعبٌ عميقٌ إذا انكَفَا

بذاك فليس النَّتْنُ عنها بذاهبِ

 

ولو حِيْكَ درعٌ من عبيرٍ ودُرِّعَتْ

وأَعْقَمَها من كل تالٍ وعاقِبِ

 

فما لي وللسوداءِ لا دَرَّ درُّها

هذه المفارقة بين زوجتي الطباطبائي تصور حال الزوج بين اثنتين واحدة يحبها، وهي بعيدة عنه وأخرى ينفر منها وهي تعيش معه، وهذا الوضع الاجتماعي يكثر عند أناس كثيري التنقل والترحال، وهو ينم عن نفس قلقة بين الواقع والأمل .

وهذا زوج آخر وهو الشاعر «عبد العزيز الدريني» تزوج بثانية ليسعد بينهما فكان الأمر على خلاف ما توقع إذ بدأ الشجار بين الأزواج، والتنافس على الإنفاق، حتى غدا لا يستطيع إرضاء أيٍّ منهما لأن إرضاء واحدة يسخط الأخرى، ولهذا نصح الرجال بالعزوبة، أو « بواحدة »فحسب ، يقول في ذلك:

عسى بزواجِهنَّ تُسَرّ عيني

 

تزوجْتُ اثنتَيْنِ لفرطِ جهلي

أَنْعُمُ بين أكرمِ نعجتَيْن

 

فقلت أعيشُ بينهما خروفاً

عذابٌ مؤلمٌ بين اثنتين

 

فجاءَ الحالُ عكسَ الحالِ دوماً

فلا أخلو من إحدى الساخطَيْن

 

رضا هذي يحرك سٌخْطَ هذي

نقارٌ دائمٌ في الليلتين

 

لهذي ليلةٌ ولتلك أخرى

من الخيراتِ مملوءَ اليدين

 

إذا ما شئْتَ أن تحيا سعيداً

فواحدةٌ تكفّي عسكرَيْن ([97])

 

فعشْ عزباً وإنْ لم تَسْتَطِعْهُ

وهذا البوصيري يصور حال زوجه التي لم تحتمل الفقر فراحت، بتأثير أختها، تشاجره شجاراً عنيفاً وتضرب وتوبخ طوال الليل؟!… لا لذنب قام به إلا ضيق ذات يده، يقول في معرض شكواه إلى أحد الوزراء:

والأختُ في الغَيْرَةِ كالضَّرَّةْ

 

ويومَ زارَتْ أمُّهمْ أختَها

وصبْرَها مني على العِشْرَةْ

 

وأقبلَتْ تشكو لها حالها

كذا مع الأزواجِ يا غِرَّةْ

 

قالت لها كيف تكونُ النسا

تخلُّفٍ منك ولا فَتْرة

 

قومي اطلُبي حقَّك منه بلا

ثم انْتِفيها شعرةً شعرة

 

وإن تأبّى فخُذي ذقنَه

فإن زوجي عنده ضَجْرَةْ

 

قالتْ لها ما هكذا عادتي

طلَّقني، قالتْ لها: بَعْرةْ

 

أخافُ إن كلمْتُه كِلْمةً

فجاءَتِ الزوجةُ مُحْتَرَّةْ

 

وهوَّنَتْ قدريَ في نفسها

فاستقبَلتْ رأسي بآجُرَّةْ

 

فقاتَلَتْني فَتَهَدَّدْتُها

من أولِ الليلِ إلى بُكْرة

 

ودامتِ الفتنةُ ما بيننا

أن ينظرَ المولى له نَظرة ([98])

 

وحقُّ من حالتُه هذه

وقد وصف الشاعر حسين الجزري زوجته ونعتها بالكارهة وعلل سبب نفورها أنها لما رأت شيبه أدركت كبره وعجزه، وذلك لفارق السن على ما يبدو بينهما وراحت تذرف الدمع، وتنفث الحسرة، ونأت عنه حتى بات يتمنى لقاءها ولو طيفاً، يقول في ذلك:

فأمسَتْ تُنَهْنِهُ دمعاً سريعا

 

رأَتْ شيبَ فَؤْدِي سريعاً بدا

وإن الصديعَ سيمحو الهَزيعا ([99])

 

وقالتْ أوايلُ وَخْطِ الصديعِ

وإن لكل شبابٍ شفيعا

 

وإن لكل مشيبٍ قِلًى

مَزاراً وتَمْنعُ حتى الهُجوعا ([100])

 

وبِتُّ أَوَدُّ ولو طيفَها

وأرى أن الشاعر كان مبالغاً كثيراً في وصف إعراض الزوجة، ولاسيما أنه قال عن شيبه إنه «سريعاً بدا» وهذا يعني أنه لم يبلغ مرحلة الكبر، ولكن المبالغة من سمة الشعراء لأنهم أناس ذوو أحاسيس متوثبة دائماً.

وعلى أي حال فإنهاصور تنم عن واقع نوع من العلاقات السلبية منهابين الرجل والمرأة، وهناك بعض الشعراء ينأون عن الغزل ولا يريدون أن يذلوا أنفسهم أمام المرأة، أو يضيعوا أعمارهم في اللهاث وراءها، كما لا يحبون أن يعيشوا في جو مشوب بالمنكرات بحيث يصيرون في موضع تهم ولوم ورقابة من الأتقياء والعقلاء، وهم يرون أن الحب تعب ودموع ووسواس، وهو يسبب الخبال ويؤدي إلى العذاب، أو إلى إنفاق الأموال فيما لا طائل وراءه، ولحياة النقاء التي ألفوها منذ شبابهم أحب إليهم، وقد اتخذوا طريق الهداية والوقار سبيلهم، وارتاحت نفوسهم إلى هذه العيشة الهنيئة البعيدة عن المرأة، يقول «مصطفى اللقيمي» ([101]) في ذلك:

فما لي مرامٌ في مساقِطِ طَلِّهِ

 

دعوني من روضِ الغَرامِ وظلِّه

بسعيٍ إذا يقضي عليه بجهلهِ

 

أهل عاقلٌ يرضى ضياعَ زمانِه

يكونُ بها لومٌ عليه بفعلِه

 

فهل غيرُ سَيْرٍ في مسالكِ ريبةٍ

تمزِّق عرضاً عَزَ إدراكُ وصلِهِ

 

وهل غيرُ ذكْرِ المرءِ في أَلْسُنٍ غَدَتْ

وسُهْدٍ ودمعٍ لا نفادَ لطِلَّه

 

وهل غيرُ وجدٍ مع حنين ولوعةٍ

ولومِ أخيْ عَذْلٍ يسيْءُ بعَذْله

 

وهل غيرُ واش أو رقيبٍ مُنَغِّص

خصيبٌ فهل أغشاهُ إبانَ مَحْلِهِ

 

تركْتُ الهوى حيثُ الشبيبَةُ ظِلُّها

وأبدل جداً للوقار بهزله ([102])

 

أ أعدل عن طرق الهداية للهوى

وهذا آخر وهو الشاعر «حسين بن جاندار البقاعي»   اكتوى بنار الحب فراح ينصح بالبعد عنه، ويذكر أنه جربه وخبره فوجده ظلماً للنفس وعبودية للحر، وهو كالسم الممزوج مع العسل وفيه الصدود والهجران، يقول في ذلك:

فعَدْلُ الهوى جَوْرٌ وحُرُّ الهوى عبدُ

 

نصحْتُك جَهدي لو قبِلْتَ نصيحتي

فما نالُهمْ إلا القطيعةُ والصَّدُّ

 

لقد عالج الحُبَّ المحبون قبلَنا

إذا أنه كالصابِ دِيْفَ به الشَّهْد ([103])

 

على أنني جَرَّبْتُهُ وبَلَوْتُهُ

وقد يبلغ بعض الشعراء الكبر فيحاولون أن ينعتقوا من الحب ومعاناته لأنه لم يعد يليق بهم، فالشاعر «محمد التقوي» ([104]) يضيق ذرعاً من تعلقه بالحب فيصفه بأنه الموت الزؤام، ويدعو نفسه إلى ترك هذه السيرة، كما تنصحه ناصحة بذلك، وتبين له أنه آلام كآلام الجراح وخسران مبين، وأن عليه أن يدعه بعدما لاح الشيب في فوده، ولمع بياضه، وانتشر كانتشار ضياء الصباح، يقول في ذلك:

لغير الوجدِ بالخُوْدِ الرَّداحِ

 

كأنّ اللهَ لم يخلُقْ فؤادي

فكم جَدٌّ تولَّدَ من مُزاحِ

 

أفِقْ يا حِبُّ ليس الحُبُّ سهلاً

بليلِ عَوارض كالصبحِ ضاحِ

 

وقائلةٍ أرى نجماً تبدّى

وتمرَحُ في بُرُوْدِ الاِفتضاح

 

أبعدَ الشيبِ تمزَحُ بالتصابي

وتَفْنِيْدٌ يحيدُ عن الفَلاح ([105])

 

فدعْ حُبَّ الغواني فهو غِيٌّ

وهذا البوصيري يطلب منه شاعر أن يستهل قصائده بالغزل على غرار ما يفعل الشعراء فيبين له أن هذا لم يعد يناسبه بعدما كبر سنه وتغير حاله يقول:

عُوْدَ الشبابِ الرطبَ عادَ يبيْسا

 

أمكلِّفي نظمَ النسيبِ وقد رأى

شيخاً أبدَّ مُعَمَّراً منكوسا ([106])

 

أما النسيبُ فما يناسبُ قولُه

ومثله الشاعر «أسعد البتروني»([107]) إذ ترك هذا وقال:

أرومُ به مواصلةَ الغواني؟

 

أبعدَ الأربعين خضابُ شيبٍ

فهذا من أكاذيب الأماني ([108])

 

وأرجو أن أكونَ به فتِياً

كما ذكرت لم تكن عبارات الحب دائماً موجهة نحو خليلة ما، فبعض الشعراء تغزل غزلاً رمزياً ولاسيما في المدائح النبوية فعلي بن إسماعيل المتوكل([109]) ذكر أشواقاً وحباً عبر بها عن تلهفه لرؤية ديار المصطفى r وذكر منها الجزع وحزوى، يقول في ذلك:

وقد لاحَتْ له وَهْناً بُروقُ

 

أيكتمُ ما بِه الصبُّ المشُوْقُ

يُؤَرِّقُ جفنَه البرقُ الخَفوقُ

 

وهل يُخفى الغرامُ على وَلوعٍ

جرى من جفنِ عينيهِ العقيقُ

 

ويسلو أُهَيْلَ الجزعِ صبٌ

فلسْتُ من الصبابةِ أستفيقُ

 

إليكَ إليكَ عني يا عذولي

طَروبٌ لا يَمَلُّ ولا يفيقُ ([110])

 

فإن قلبي إلى باناتِ حَزْوى

وبعض شعر الحب كان موجهاً للعلماء والأساتذة فقد ذكر محمد خليل المرادي([111]) في كتابه سلك الدرر أن صالح الداديخي([112]) أرسل إليه قصيدة ينم فيها عن حبه له وإعجابه به بعد أن سمع بخلاله الكريمة، وقد أحب موسى ربه حين سمع صوته، يقول:

وَرْدِ من نحوِه فعَطَّر لُبّي

 

رَشَاٌ بالشآمِ شِمْتُ عبيرَ الـ

ـعِ جزاها العُتْبى بلا دخلِ عتبي

 

كان عشقي له بجارحةِ السَّمْـ

قبل رؤياهُ هائمُ العقلِ مُسْبي ([113])

 

فأنا اليومَ موسوِيُّ الهوى من

  وشبيه بذلك شعرالشوق والحنين إلى الأهل والأحبة كما في قول «عمر  التيمي»([114])، فقد قال مشتاقاً بعدما فارق أهله:

على ما مضى من مُدّةِ النأيِ من عُمري

 

أبى الدمعُ إلا أن يفيضَ وأن يجري

وقد بَعُدَتْ دارُ الأحبةِ من عذرِ

 

ومالي إن كَفْكَفْتُ ماءَ محاجِري

ولا شوقَ إلا ما يُهَيَّجُ بالذِّكْر

 

أما إنه لولا اشتياقٌ لذِكرِكُمْ

فؤادي على البلوى إلى عمل الشعر ([115])

 

لما شاقني نظمُ القريضِ ولا صبا

وإذا كان الشعر غزلاً فإن بعضه جاء تقليداً للقدامى، إذ يقف فيه الشاعر على الطلل كما وقف القدامى، ويصف الرحيل كما وصفوا، وقد تكون حياته بعيدة عن هذه الأجواء، ولكنه يفعل ما فعله السابقون ليشير إلى مقدرته في الإتيان بمثل ما أتوا، فالشاعر «شمس الدين بن المنقار» يستهل مدحة له بالوقفة الطللية فيحيي ويذرف الدمع كما حيّا وذرف من سبقه، ويذكر فتاته التي كانت تتبختر فيه ثم رحلت عنه، وفي قوله:

ودمعيَ بالمكتومِ قد باحَ سائِلُهْ

 

وقفْتُ على رَبْعِ الحبيبِ أسائِلُهْ

أما هذه أوطانُهُ ومنازِلُهْ

 

وقلْتُ له مني إليك تحيةً

ومالَتْ لدى مَرِّ النسيمِ شمايلُه

 

أما ماسَ في روضاتِها بانُ قَدِّهِ

طوائحُ دهريْ فيك ثم زلازِلُهْ

 

فما لك قد أصبحْتَ قَفْراً وطوَّفَتْ

سنا برقِ شمسِ الدينِ ثم هواطِلُهْ ([116])

 

فقال سرى عني الحبيبُ وفاتني

والملاحظ في هذه الأبيات التقليدية قلة عددها، وانتقالها السريع إلى المديح، لأن الشاعر كان على مايبدو كمن يؤدي مهمة شعرية، ولم يكن يعبر عن شوق دفين يعتلج في فؤاده.

وقد يكون الغزل حقيقياً ، وفيه ينم الشاعر عن إعجابه بصفات مادية ومعنوية توفرت في فتاة أحلامه.

فمن الصفات المادية التي استرعت انتباهه جمال عينيها اللتين تنفدان إلى قلبه فتقتلانه كما يقتل السيف الهندي، وقد عبر «محمد الحرفوشي»([117]) عن هذا بقوله:

ما ليس يفعلُهُ الهِنديُّ عيناها ([118])

 

واهاً لها من فتاةٍ إنْ رَنَتْ فعَلَتْ

وقد يعجب بتورد خديها، وطول قوامها وذبول عينيها، يقول «رجب الحريري»([119]) :

بَهَرَ الغزالةَ والغزالَ الأَوْطَفا

 

يا مَنْ بطلعتِه وسِحْرِ جُفونِه

     

يحميْهِ نرجسُ ناظرٍ أنْ يُقْطَفا ([120])

 

وبوَرْدِ خدٍ فوقَ بانةِ قامةٍ

وبضياء وجهها ورشاقة قوامها الذي يبدو كالغصن في تحركاته، يقول «عطاء الله العاني»([121]) :

بدرٌ يُعيْرُ البدورَ حُسْنا

 

غصنٌ يُعيرُ الغصونَ ليناً

وإن تثنّى رأيْتَ غصنا ([122])

 

إذا تجلّى رأيْتَ شمساً

وبحلاوة مبسمها وحديثها، يقول الشاب الظريف:

ونيرانُه في مُهْجتي وقيدُهُ ([123])

 

حلاوتُه في ثغرِه وكلامِه

وبرائحتها العطرة، وأسنانها التي تبدو كالدرر في فم باسم كالياقوت، يقول الشاعر «محمد الصبان»([124]) :

من اليواقيت عن ثغرٍ من الدُّرَرِ ([125])

 

وعَرْفِ عنبرِ خالٍ وابتسامِ فمٍ

وبشعرها الفاحم، ويشبه الشاب الظريف شعرها الأسود الذي تناثرت فوقه دموعها بالليل تضيء فيه الشهب، يقول:

وهكذا الليلُ فيه تظهرُ الشهب ([126])

 

يا شعرَهُ كم دموعٍ فيكَ أنثرُها

وهذه الصفات التي ذكرها الشعراء هي الصفات التي رددها السالفون، ولا جديد فيها، فضلاً عن أنها صفات شكلية تتابع معظمها كأنه من محفوظ الشعراء ويشبهها في ذلك السمات المعنوية التي لفتت انتباههم من فتيات أحلامهم، وكذلك ما نعتوا به أنفسهم تجاههن.

فالمرأة منعمة مترفة لا تحتاج إلى العمل، ولذلك تنام حتى الضحى، ولا تلقي بالاً لإعجاب المتيم بها ،يقول حسين البقاعي:

بحالِ ساهٍ في الدجى ساهِرْ ([127])

 

يا هلْ تُرى يدري نؤُوْمُ الضحى

  وهي تصد عنه ومع ذلك يسيء العذال إليه، ولكنه لا يبالي بذلك، يقول حسن بن الأعوج[128] :

وهي في حالةِ الرضى غضبانَةْ

 

يا عجيباً إني أريدُ رضاها

فدَعُوْهُ فينا يُطيلُ لسانَه ([129])

 

لست أخشى في حبِّها من عَذُول

ويقول محمد الحرفوشي في تأبي الفتاة عليه :

سمحَتْ بوعدٍ، أو بطيفِ خيال ([130])

 

وياليتها إذ لم تَجُدْ بوصالِ

وقد يخاف من اللائمين، يقول حسين الجزري:

وأُقْصِيْهِ عني والمزارُ قريبُ

 

أحجُبُ مَنْ أهواه خوفَ وشاتِهِ

على القلب من حبٍّ عليه رقيبُ ([131])

 

ولم أرَ في الدنيا أشدَّ مضاضةً

والشاعر يتخيل فتاة أحلامه طيفاً يزوره فيقترب منه شوقاً إليه، وينأى عنه لشدة تأثره، يقول إسماعيل الحجازي :

خيالٌ في الدجى منه طُرُوْقُ

 

وربَّتَ ليلةٍ قد زار فيها

ويُبْعده من القلبِ الخُفُوق([132])

 

وباتَ تشوُّقي يُدْنيهِ مني

وهو يذرف الدمع حزناً عليها، ولكنه يكتم حبه بين أضلعه، كما فعل الشاعر «محمد صادق البتروني»([133]) :

وباح عن سِرِّهِ المكتومِ ما افتضحا

 

دمعٌ بتذكارِ أحبابٍ له سَفَحا

بين الضلوعِ وشوقٍ زَنْدُهُ قُدِحا ([134])

 

آثار لاعجَ حبٍ كان مُنْكَتِماً

والشوق يلح عليه فكأنه نار تأجَّجُ في أحشائه، ويشغل لبه بالتفكير فيها، وهي لا تبالي يقول «أبو بكر بن محمد»([135]) في ذلك:

نارٍ تأجَّجُ في الأحشاء ذي شُعلِ

 

أبيتُ والشوقُ يذكي في الفؤاد لظى

وأنتُم عنه في لهوٍ وفي شُغُلِ ([136])

 

ويصبحُ القلبُ لا يلهو بغيركُمُ

والبرق يذكره بها، والرسائل وهديل الحمائم كذلك، يقول إسماعيل الحجازي:

من جانبِ الأحبابِ خاطِف ([137])

 

ويشوقُني برقٌ بدا

ويقول جعفر الأُدْفُوِّي ([138]) :

قد تقضى فبتّ أجري الدموعا ([139])

 

أذكرتني الورقاءُ حديثاً بليلي

وهو يسهر الليل في ذكراها ، بينما هي تغط في نومها يقول سرور بن سنين الحلبي[140])):

لمكتحلِ الأجفانِ بالنومِ راقد ([141])

 

لحى اللهُ طرفي ماله الدهرَ ساهراً

ويقول ابن الجزري في ذلك أيضاً:

لم يزُوْهُمْ حبيبُهُمْ

 

ويحَ أهلِ الهوى إذ

تتجافى جنوبُهم ([142])

 

فهم طولَ ليلِهم

وهو لايصرفه عنها أحد، يقول إسماعيل الحجازي:

ـرِ فُني عن الأشواقِ صارِفْ ([143])

 

ما حُلْتُ عنك وليس يَصْـ

ويحس بأثر فراقها في قلبه كمن احتسى خمراً صرفاً فسكر، فتخدرت أضلاعه وبات كالصريع أو كالمجنون المخبول، يقول حسين البقاعي في ذلك:

إذا شُدَّ منه مِفصَل هاضَ مِفْصَلُ

 

كأني غداةَ البَيْن حاسِيْ سُلافةٍ

إليه الردى مما يَعُلُّ ويَنْهُلُ

 

تناولَها صرفاً ليحيا فقَرَّبَتْ

نقاً وكِلا أرجائِه يَتَهَيَّلُ

 

إذا رفعوه خرَّ مُلقًى كأنه

لِما شرِبَتْ من عقلِه الراحُ أَخْيَلُ ([144])

 

يعاوِدُه طوراً جنونٌ وتارةً

وينحل جسدُه ويذرفُ الدمع غزيراً من أجلها كالطوفان لا يكاد ينجو منه أحد، فضلاً عن السهر والذكريات، يقول محمد الحرفوشي:

ينجو الورى من سَحِّها المتوالي

 

ومدامعي لولا زفيري لم يكدْ

وسُهادُ جَفْن وادِّكارُ ليالِ ([145])

 

ونحولُ جسمٍ واحتمالُ مكارهٍ

وهكذا شابه هؤلاء الشعراء العذريين في هذه المعاني، وإن كانت المبالغات كثيرة.

وقد يصف الشاعر علاقته بمن يحبها فتكون محوطة بالعفة والوقار، فهي كما يحب «حسن الأعوج» في صون في خدرها:

بسهمِ لحاظٍ يجعل القوسَ حاجِبا ([146])

 

ربيبةُ خِدرٍ يحرسُ الحسنُ وجهَها

  وذات حجاب يمنع أعين الناظرين عن جمالها الفتان كما في قول مصطفى البيري([147]) في عربية محجبة:

بمنسوج دُرٍّ أَحكَمَتْ نسجه حَبْكا

 

فتاةٌ حذار الناظرين تلفَّعَتْ

تعيرُ حجابَ الشمس إن برزت هَتْكا ([148])

 

من العربيات التي من خبائِها

حتى إن الشاعر لا يعرف، بسبب الحجاب، واحدة من أخرى، وهو معجب بهذا الحجاب الساتر، يقول «مصطفى الزيباري»([149])  في ذلك:

صَدوفٌ أم كَنودٌ أم نُوار؟

 

أَ أَيَّتُهُنَّ إذ تبدو نَوارُ

ومحمودٌ من البدرِ السِّرار ([150])

 

برزْنَ من الخُدورِ مُحَجَبَّاتٍ

أما هذه الفاتنة فقد غدت طعمةً للذئاب، فشوهت صورتها عنده الشاعرفتح الله النحاس، فصدّ عنها بعدما دنست عرضها لمعاشرتها الخبثاء، يقول:

حتى غدا طعمةَ الذئابِ

 

كان غزالاً فشوَّهوه

مذ صارَ وجهاً بلا حجاب

 

حجبْتُ طرفي ومِلْتُ عنه

لاحتجْتُ للماءِ والترابِ ([151])

 

عاشَرَ مَنْ لو يَمَسُّ ثوبي

وأما الشاعر «جعفر المعتلي»([152]) فيتمنى أن يرى محبوبته ولكنه يخاف من الرقباء أن يسيئوا إلى سمعتها،فيقول:

ليس قتلي في هواكمْ عجبَا

 

لسْتُ أخشى الموتَ في حبِكم

أن يقول الناس قولاً كذِبا ([153])

 

إنما أخشى على عرضِكُمْ

) والشعراء يتبعهم الغاوون أم ترَ أنَّهم في كلِ وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون( [الشعراء-224-226]، ولو فعلوا لرجموا أو طبق عليهم الحد في دولة لا تسمح لأحد أن يهتك عرضاً، ولقد كاد الخليفة سليمان بن عبد الملك أن يحدّ الشاعر الفرزدق بالرجم لولا هذه الآية، وقد أمسك نصراني في عهد السلطان «لاجين» عند امرأة وكان يشرب خمراً فحكم عليه بالقتل، فحاول أن يفتدي نفسه بمال فلم يقبل السلطان منه وأحرقه، فقال الشاعر شهاب الدين محمود يمدحه في ذلك مبيناً أنه لم يخش في الله لومة لائم، ولقد قتل الخائن المشرك فطهر الأرض من بغيه، وأخاف أمثاله، وكان فعله هذا حفاظاً على دين الله، وأعراض الناس أن تهتك، يقول في ذلك:

في اللهِ فابْشِرْ فُزْتَ عند لقائِه

 

أنت الذي لم يَخْشَ لومةَ لائمٍ

لله غيرِ مشاركٍ في رائِه

 

وغضبْتَ للإسلامِ غضبةَ ثائرٍ

أن الإلهَ وأنتَ من رُقَبائِه

 

أخفى سُراه إلى الحريمِ وما درى

إشراكَ بالرحمنِ فوق سمائِه

 

جمعَ الخيانةَ والخنا في الأرضِ والـ

ورأيْتَ أن القتلَ دون جزائِه

 

فأَمَرْتَ أمراً جازماً بحريقِهِ

في النارِ إذ هي مُنْتَهى نظرائِهِ

 

طهَّرْتَ من دمهِ الثرى وقَذَفْتَهُ

يلقى خيالَكَ واقفاً بإزائِهِ

 

أرعبْتَ أهلَ الشركِ منك وكلُّهُمْ

من فتكِ شرِّ عبيدِه بإمائِه ([154])

 

ما غِرْتَ إلا للإلهِ وخَلْقِه

ولكن بعض الغزلين وصفوا ليالي ماجنة ،ومن هؤلاء«محمد بن تاج الدين الكوراني»([155]) ،وبعضهم نأى عن الشرع الحكيم باستخدام ألفاظ الدين في غير مجالها الطبعي، فالشاعر «عبد الرزاق البيطار»([156]) يقول في قلة ورع:

وما رُمْتُ لي ديناً سواهُ ومَذْهَبا ([157])

 

ألفْتُ الهوى طفلاً وكَهْلاً وأشيَبا

وما الذلُّ إلا أن تكون مُخَيَّبا ([158])

 

فما العزُّ إلا بالحبيب وعطفِهِ

فالبيطار جعل الحب دينه ومذهبه، وعلى الرغم من أن كلمة الدين تعني العادة أحياناً، ولكن: )ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب( ([159]) كما أنه رأى العز مع المرأة والذل في خيبة أمله منها، وأسوأ منه قول«محمد الشيباني» ([160]) وقد رأى النظر إلى المحبوبة قبلته وآيات نور تقرأ في الصلاة:

آياتُ نورٍ للصلاةِ تُرَتَّل ([161])

 

يا قبلتي في حاجِبَيْك نواظري

فآيات الله هي دلائل قدرته، ومع ذلك فلا تستحب هذه الكلمة في هذا المقام.

ويطلب «الحسن البوريني»([162]) من الله سبحانه بلا استحياء أن يجعل الحب حكماً، وأن يعطي جنود إبليس في الحب قوة ونصراً، وذكر انه أجاب رسول الهوى، وطلب من المولى جلّ جلاله أن يجعل محبوبته تصله!… وذلك في مثل قوله:

مُطاعاً وكلَّ البرايا أسارى

 

إلهي أدِمْ حاكمَ الحُبِّ فينا

على قوةِ الصابرينَ انتِصارا

 

إلهي جنودُ الهوى أعطِها

ولم ألْقَ منذ دعاني اختيارا

 

إلهي أجَبْتُ رسولَ الهوى

بصبحِ الوفا والتلاقي نهارا ([163])

 

إلهي أَعِدْ ليلَ هُجرانِه

فالشاعر يستنجد بالله ليديم له أهواءه وفتنته، وهو يخبره بلا حياء بمعصيته، وأنه أجاب رسول الهوى لا رسول التقى ومع ذلك يقول «الشهاب الخفاجي» إن هذا أسلوب لطيف من أساليب الفصاحة، وهو نقل الكلام من طريق إلى آخر كاستعمال ما عهد استعماله في الدعاء والمناجاة في التغزل كما هنا([164]) .

ويشبهه في ضعف الوازع الديني الشاعر «أحمد بن فرح» ([165]) في قوله :

وحُزني ودمعي (مُطْلَقٌ ومُسَلْسَلُ)

 

غرامي (صحيحٌ) والرجا فيك (مُعْضِلٌ)

على أحدٍ إلا عليكَ المُعَوَّلُ

 

وأمري (مَوقُوْفٌ) عليك وليس لي

و (منقطعاً) عما به أَتَوَصَّلُ

 

أقضي زماني فيك (مُتَّصِلَ) الأسى

إليك سبيلٌ لا، ولا عنك (نَعْدِل) ([166])

 

فرِفْقاً (بمقطوعِ) الوسائلِ ماله

فقد استعمل مصطلحات الحديث الشريف كالصحيح والمعضل والمطلق والمسلسل والموقوف وجميع ما وضع بين قوسين في موطن الغزل "

وهكذا عبّر شعر العصور المتتابعة عن علاقة الرجل بالمرأة زوجة يعجب بها قرينها، أو يمل عشرتها، أو تكره البقاء معه، كما أبدى صفحات إيجابية حيث كشف عن تعقل بعضهم في علاقتهم مع المرأة، إذ نأوا عن اللهو وعن الانشغال بها، وكان بعضهم قد أعرض عنها لكبر سنه، وأبدى بعضهم حبّاً رمزيّاً في المدائح النبوية خاصة، أو كان حبهم موجهاً للعلماء والأساتذة، وكان بعض الشعر الغزلي تقليداً متبعاً كالوقوف على الأطلال، أو يأتي في مستهل القصائد، وفيه يبدي الشاعر ما يعجبه من جمال المرأة المادي أو المعنوي، كما يبدي عواطفه نحوها فيكون الحب أشبه بعواطف العذريين.

كما كشف الشعر عن إعجاب الرجل بالمرأة العفة ذات الحجاب، وندد بمن دنس عرضها.

وقد أوضحتُ أن بعض الشعراء انحرفوا عن جادة الشرع حين فاهوا بأقوال لا يرضاها الله ورسوله في معرض غزلهم، والشرع الحنيف أسمى من أن تستخدم عباراته في مواطن كهذه.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن علاقة الشعراء بأمهاتهم كانت نبيلة وقائمة على الإعجاب، بل إنهم أعجبوا بكل امرأة قدمت خدمات للآخرين فكانت عضواً نافعا في المجتمع، ولها فيه دور فعال، قال الشاعر العشري في أمه التي كانت ملاذا لليتامى والضعفاء :

وكانت غياثا للأرامل إن عدا     زمان وللأيتام والضعفاء وردا([167])

وهذا الشاعر العُماني الحَبْسيّ يشيد بفضائل السيدة شيخة اليعربية لإعانتها الفقراء والمحتاجين، وإكرامها الضيوف  فضلا عن جليل خلالها فيقول في معرض رثائها :

كانت تعـــــمُّ السائلين بمالهــــــــا     وأرى سـواها حين يُسأل يَنْهر

والضيفَ تكرمه، وكلُّ محدِّث     بالخير يذكرها الزمان ويشكر

ولها خصال المحمدات سجية    فالآن قد صارت حديثا يذكر([168])

خامساً- ظاهرة المكيفات: (ما حلّ منها وما حرم)

لم تكن كلمة مكيفات تعني ما نعنيه اليوم إذ كانت تطلق على ما حل وما حرم كالقهوة والشاي والدخان، والخمرة والمخدرات، وبدهي أن الأولى غير الثانية، وأن الدخان غير الخمر والمخدرات، وسأتحدث عن هذه الأنواع من خلال ما خلفه شعر الدول المتعددة ، ومواقف الشعراء منها:

1-القهوة :

   وهي لا ضير فيها ولا حرمة، لأنها لا تسكر ولا تفتر([169]) وقد تعاطاها المتصوفة لتساعدهم على السهر والذكر، ولكن الدولة العثمانية وقفت منها ومن الدخان موقفاً متشدداً إذ قتل السلطانان عثمان بن أحمد (1028-1032هـ) ومراد الرابع بن أحمد (1032-1049هـ) شاربيهما سياسة، وأمرا بإغلاق الأماكن التي يتعاطاهما الناس فيها لأن كثيراً من المفاسد كانت تحصل باجتماعهم فيها([170]) .

أما العلماء الشعراء فقد تعددت مواقفهم تجاه القهوة بين محلل ومحرم، وإن كان المحللون لها أكثر، «فنجم الدين الغزي» لما سئل عنها بين أنها لاتسكر ولكن الدور التي تحتسى فيها تجمع أولي الفساد ، ولا يستطيع المرء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد يخوض مع الخائضين ، ولذا عليه أن يتناولها في داره وأن يذكر اسم الله عليها ، شأنها شأن أي شراب طهور. يقول:

إنها لا تفيدُ في النفسِ شهوة

 

قهوةُ البُنِّ لا تكونُ حراماً

هي منها تدارُ عادِمَ نَخْوَةْ

 

غير أن الذي يجيءُ بيوتاً

وكلٌّ يلهو فيتبعُ لهوَه

 

إذ يرى المُرْدَ والمعازِفَ والنردَ

خشيةَ أن يعدَّ ذلك هفوة

 

ثم لم يقوَ أن يغيرَ نُكْراً

خطَّه المصطفى وعرَّجَ نحوه

 

كلُّ هذا مخالفٌ لطريقٍ

عوك إليه ولو بآَكَدِ دَعْوَةْ

 

فاجتَنِبْهُ ودَعْ طوائِفَ تد

حَسْوَةً قد أرَدْتَ أو ألف حَسْوَة

 

وإذا شئْتَ شُرْبَ قهوةِ بُنٍّ

لم تشُبْ صَفْوَها بمُوجِبِ صَبْوَةْ

 

فليكُنْ ذاك وسط بيتِك مهما

وتوثَّقْ منه بأَوْثَقِ عُرْوَةْ ([171])

 

واذكرِ اللهَ أولاً وأخيراً

أما الشاعر «غرس الدين الخليلي»([172]) فيراها حلالاً لأنها لا تسكر العقل ولذلك فهو يسفه رأي من يحرمها:

إذا شاهدْتَها في الحان فاجْرِ

 

فرأيي الآنَ يا مَنْ رام نُصْحي

أُسّفِّهُ قولَه من أهل عصري

 

وكلُّ مخالِفٍ فيها فإني

وليستْ مُرَّةً بل طعمُ تَمْرِ

 

فلا غَوْلٌ ولا تأثيمَ فيها

  وقد علل بعضهم شربه لها، إذ جعل بها الشفاء من أدواء الصد، يقول ابن الجزري:

وامزُجِ القهوة عُوْدا

 

اسقِني قهوةَ بُنٍّ

،غَمِ تَمْحو وهي سَوْدا ([173])

 

فهي للصفراءِ والبَلْـ

وأما إبراهيم المبلط([174]) فيرى فيها شفاء من الأدواء النفسية فضلاً عن الجسدية، يقول:

فيها شفاءُ النفسِ من أمراضِها

 

يا عائباً لسوادِ قهوتِنا التي

تحكي سوادَ العين وسطَ بياضِها

 

أفلا تَراها وهي في فنجانِها

وقد وصفها الشعراء ووصفوا ساقيها وإناءها ولونها وحبابها ورائحتها، «فأبو المواهب البكري»([175])  يذكر الساقي ذا الوجه المنير الذي يشابه الظبي في حركاته وكأن لون القهوة وطعمها يشبه دم الغزال ذا الرائحة المسكية:

وقد سرَّني فيها الغداةَ صَبُوحُ

 

أقولُ وقد دارَتْ بناديَّ قهوةٌ

إذا زفَّها ساقٍ إليّ صَبيحُ

 

أصورةُ غزلانٍ بفنجانِ قهوتي

دمٍ طفح المسك الذكي يفُوح ([176])

 

أم الظبيُ حقاً قد تردّى به فمن

 

2- الدخان:

 وقد منعه السلاطين أحمد (1012-1026هـ) وعثمان ومراد الرابع وإبراهيم بن أحمد، وأغلقوا المقاهي التي يتعاطاه الناس فيها، وكان السلطان مراد يتخفى ويسير في الشوارع ينظر أحوال الرعية، وعلم يوماً أن في مدينة «أدرنة» قهوة لا زالت مفتوحة، فصلب صاحبها ليردع الناس عن الفساد الذي انتشر بين العامة، كما بث الوعاظ والعلماء لينشروا الروح الدينية، ويحذروا الناس من مخالفة الأوامر فيها([177])، وكذلك فعل ولاة الأمور في أرجاء الدولة.

وقد وقف العلماء من التدخين مواقف مختلفة، فهناك من فسّق شاربه، وحرّم تناوله، كالعلامة «أحمد السفاقسي»([178]) وهناك من أباحه كالعلامّة «الدحلاني»([179])، وحجته في ذلك أن التفسيق يقتضي عدم صحة زواج شهد عليه مدخن، لأن العدالة شرط من شروط الزواج، وذكر أن المحرمين لا دليل لهم من القرآن والسنة، وإنما استندوا إلى بعض الأقيسة المجهولة. المحتملة، وتوقف «أحمد السالمي» ([180]) عن الإفتاء فيها لتعارض الأدلة برأيه .

أما الشعراء فقد أبدوا من الدخان مواقف شتى فمن محرم لها مستنكر كالشاعر الشيخ «محمد المسوتي»([181]) ، وقد ندد بها لأنها تضرو تخدر الأعصاب، وتؤذي الملائكة، وشاربها يخالف ولاة الأمر، يقول في ذلك:

قال بها جمعٌ من الأعيان

 

اعلمْ بأن حرمةَ الدخان

والتبغُ ضرَّارٌ كما ستَعْلَمُ

 

وذاك كلُّ ما أضرَّ يَحْرُمُ

تخديرُهُ، والنهيُ من خليفة

 

كذاك من حجتِهم في الحرمة

وذامنَ اْسوأ الفعالِ المهلِكة([182])

 

ومثله الإيذاءُ للملائكة

بأن ذا الدخانَ يوجبُ الضررْ

 

وعن ذوي الطبِّ تواترَ الخَبرْ

تعيَّنَ الأخذُ به بلا مِرا ([183])

 

والخبر المنقولُ إن تواترا

وقد اجتمع القاضي «محمد بن محمد الحميدي» مع القاضي «شهاب الدين الخفاجي»، فأراد الثاني أن يدخن، فمنعه الأول طاعة للسلطان، فقال الخفاجي:

ليأتُوا بالدخانِ بلا تَوانِ

 

فديتُك جدْ بإذنٍ للندامى

وهل عُوْدٌ يفوحُ بلا دُخانِ

 

تريدُ مُهَذَباً لا عيبَ فيه

فأجاب الحميدي على الفور:

على لومي لأبناءِ الزمانِ

 

إذا شُرِبَ الدخانُ فلا تلُمْني

كمثلِ المسكِ فاح بلا دخان ([184])

 

من الإخوان أهوى طيْبَ خُلْقٍ

وقد وصف بعضهم مجالس شرب الدخان كما وصفت مجالس الخمر وكؤوسه، إذ تحدثوا عن الغليون وعن دخانه المتصاعد وعن تأثيره على النفس، فالشاعر «أبو المواهب البكري» يبين أنه يخدر الأعصاب ويطفئ نار الحزن، وهو يود شربه من فتًى كالغزال في قوامه ورشاقته، يقول في ذلك:

حتى أُخَدَّر منه وهو إغْشاءُ

 

هاتِ اسقِني التبغَ إن تبغِ الصفا سَحَراً

قد زانَهُ قامةٌ بالحُسْنِ هيفاءُ

 

واستجل أنوار شمعٍ من يَدَيْ رشأٍ

يوماً، يكونُ لها بالقُربِ إطفاءُ ([185])

 

لعل نارَ أسًى بالبعدِ قد وقدَتْ

 

3- المخدرات:

 وهي من المكيفات التي لا خلاف في حرمتها وكانت قد انتشرت بين المتصوفة الذين يسمون «الفقراء» وقد أمر السلطان «لاجين» بمنعها ومنع الخمرة، وعاقب شاربهما بالتجريسة وهي التشهير به بالضرب والتوبيخ في الشوارع العامة، ولذلك يقول الشاعر «محمد بن دانيال»:

أو أن تحاولَ قَطُّ أمراً مُنكرا

 

احذرْ نديمي أن تذوقَ المُسْكِرا

وتزور مَنْ تهواه إلا في الكرى

 

لا تشربِ الصهباءَ صِرْفاً قرقفا

اشربْ متى مارُمْتَ سُكْراً سُكَّرا

 

أنا ناصحٌ لك إن قبلْتَ نصيحتي

من أن تراه بالمُدامِ تغيَّرا

 

والرأي عندي ترك عقلِك سالماً

يا ذا الفقيرُ يكونُ جنبُك أحمرا

 

إياك تأكلُ أخضراً في عصرِه

واشربْ من اللبنِ المخيضِ مكرَّرا

 

والمْزرُ يا مسعودُ دعْه جانباً

فالوقتُ سيفٌ والمراقبُ قد درى

 

وبني حرامٍ احفظوا أيديكم

فيه تنالون النعيمَ الأكبرا ([186])

 

توبوا وصلّوا داعيَيْنِ لملكِه

فهو يحذر من جميع المنكرات التي شدّد السلطان لاجين في العقاب عليها: الخمرة والبغي، وشرب المخدرات والسرقة، وينصح بشرب السكريات لترك العقل سالماً من التخدير، ولأن السلطان سيراقب ويعاقب بقوة، وعلى الشعب أن يتوب إلى الله سبحانه ويدعو لملكه، وبذلك ينال النعيم المقيم.

ولم يكن الناس يتعاطون المخدرات إلا ما ندر، وقد ذكر المؤرخون أن «قنصوة الغوري» آخر سلاطين المماليك أضاع دولته بسبب المخدرات، فقد قرب إليه شخصاً أعجمياً، فصار هذا يعمل له معاجين مكيفات، فلم يعد يبالي بتدبير أمور المملكة، بل ربما كان يستعمل الحشيشة، ثم زين له هذا العجمي الاتفاق مع الشاه إسماعيل الصفوي حاكم العجم «إيران حالياً» ضد الدولة العثمانية حتى وافقه على ذلك، ولكن دخول السلطان سليم الأول إلى البلاد أنقذها من الوقوع في قبضة الفرس([187]) .

وقد وقف الشعراء من المخدرات مواقف شتى، فمن كاره لها عارف بأضرارها الجسيمة «كفتح الله بن البققي»([188])، إذ يقول:

لقد خَبُثَتْ كما طابَ السُّلافُ

 

لحى الله الحشيشَ وآكليها

بغاءٌ أو جنونٌ أو نَشاف ([189])

 

وأصغرُ دائِها والداءُ جَمٌّ

وكذلك كان «محمد الأبياري القباني»([190]) ، يحذر من البرش وهو نوع من المخدرات، بعد أن تفشى في مصر وأهلك الحرث والنسل، وضعفت القوى العاملة بضعف الأجسام، يقول في ذلك:

به غَدَتِ الأرواحُ والمالُ في أَرْشِ

 

لقد حلَّ في مصرَ بلاءٌ من البَرْشِ

وأُهْلكَ ذاك الحرثُ والنسلُ بالبرش ([191])

 

وكان بها حرثٌ ونسلٌ فمُزِّقوا

وفي الطرف الآخر نلقى «محمد العرضي» يجد به وكان على ما يبدو مدمناً عليه في أيام هتكه ولهوه، تحذيراً لآلامه، وكان يقول :

بفرحةِ نشوانٍ وغِبْطَةِ مسرورِ

 

وما كانَ أكلُ البَرْشِ مولاي كي أرى

فكان لآلامي به بعضُ تخدير ([192])

 

ولكنني كنْتُ السليمُ بينِكُمْ

لكن هذا الشاعر تاب إلى ربهوأناب وصار يقول:

وتسويلُها الإيقاعَ في زَلَّةِ القدَمْ

 

أيا رَبِّ نفسي أتعبَتْني حظوظُها

فما أنا إلا السنُّ يقترعُ الندم ([193])

 

فيا رَبِّ إنْ كنْتُ الشقيَّ بفِعْلها

وكذلك كان فتح الله بن النحاس يحتسي المخدرات ويعيش عيشة البطر، وكان الله قد آتاه جمالاً أخاذاً «فاندرج في مقولة الكيف أمداً» ثم تاب على يدي الشيخ «نجم الدين الحلفاوي»([194])  وتخلى عن صحبة السوء، ورحل إلى دمشق فمصر متعلماً، ثم انتقل إلى أرض الحرمين الشريفين معلماً وبها توفي، وقد خلف لنا قصيدة سميت الأفيونية وهي في مديح شيخه المذكورإذ استهلها بتبيان أضرار المخدرات، لأن شاربها يجلب لنفسه الموت الزؤام، يقول فيها:

فَلْيُلْقِ بين يديهِ نقدَ حياتِه

 

مَنْ يُدْخِلِ الأفيونَ بيتَ لَهاتِه

عزُّوهُ بعد حياتِه بمماته

 

وإذا سمعْتم بامرئٍ شربَ الردى

لا تعذِلوهُ فذاك من عاداتِه

 

أو قيلَ مَلَّتْهُ الصحابُ ومَلَّهُمْ

أفيونُ أنحلَهُ وحلَّ بذاتِه

 

لو يا بثينُ رأيْتِ صبَّكِ قبلما الـ

ضِ الزهرِ مثلَ الظبي في لفتاتِهِ

 

في مثل عمرِ الوردِ يرتعُ في ريا

ورفعتِ بدرَ التَّمِّ عن عتباتِه

 

لرأيْتِ شخصَ الحُسْن في مرآتِه

والآن صارَ الكيفُ بعض صفاتِه

 

حُسْنٌ ولا كَيْفٌ يخالطُ ذاتَه

لم يُبْقِ للرائينَ غيرَ سِماتِه([195])

 

و(الكيفُ) مثل الحقدِ إن يكُ بامرئٍ

فالشاعر هنا يبين الأضرار الجسمية والنفسية للمخدرات على محتسيها، فهي تجلب له الردى، وتغير ملامح جسده، إذ ينحل ويضيع رواؤه ونضارته وتودي برشاقته وتنئي عنه الصحاب ويمله أحب الناس إليه، مما يؤثر على نفسيته وحياته وعلاقته بالآخرين ([196]).

وتعد هذه القصيدة فريدة من نوعها إذ نلمح فيها النزعة الفردية والإنسانية في آن واحد فهي تحكي آلام الشباب الضائع الذي ينساق وراء لذة ساعة، وهو لا يدري أن هذه السعادة، إنْ هي إلا لحظات تومض في حياته سريعة ثم تخبو، ويخبو معها بريق الصحة بعد أن يقع في حبائل المخدرات. واستهلال مدحة العالم الذي تاب الشاعر على يديه بهذا الحديث يشير إلى أهمية التقوى في الخلاص من هذه الأضرار والآثام، ولذلك نرى ابن النحاس يقول في القصيدة نفسها:

لم يلقَ غيرَ العفوِ عن هَفَواتِهِ

 

مولى إذا الجاني أتاهُ بهَفْوةٍ

يخلو لسانُ المرءِ من فَلَتاتِه

 

لا غَرْوَ أن يكبُو الجوادُ وقلَّما

     

4- الخمرة:

وكان الشعراء يصفونها كالقدامى، إذ يتحدثون عن حاناتها والندامى فيها والسقاة، وغالباً ما يكون الساقي فتاة كالغزال في قوامها وفي عينيها الناعستين، كما ينعتون آلات السقيا، ويحكون عن النشوة التي يحسون بها وأقلها كما يقول الشاعر «أحمد بن محمد الكواكبي» ([197]) ميل الرأس وهو يدعو إلى شربها مع أناس كرماء ذوي أخلاق حسنة ، ويطلب منهم أن يكثروا حتى يحسوا بالنعاس فتميل رؤوسهم من شدة تأثيرها . يقول :

فاجعلْ حديثَك كلَّه في الكاسِ

 

وإذا جلسْتَ إلى المُدام وشربِها

ابنُ الكرامِ لبنتِ كرمٍ حاس

 

واجعلْ نديمَك فيه غيرَ مقصِّرٍ

إلا بطيبِ خلائقِ الجُلاّس

 

الخمرُ طيبةٌ وليس تمامُها

وسْنانَةٌ كالنرجِس النعاس

 

ومديرُها رشأٌ كأن عيونَه

فأقلُّ فعلِ الخمرِ مَيْلُ الراس ([198])

 

فاشربْ ولا تقنعْ بحَسْوِ قليلها

     ومما يذكر هنا أن السلطان الملك الظاهر أمر بمنع شرب الخمرة وشدد فيها حتى قتل شاربها، فقال البوصيري مشيراً إلى ذلك:

وصَيَّرَ حَدَّها حَدّ اليَماني

 

نهى السلطانُ عن شرب الحُمَيّا

 

سادساً- سمات الأدب الاجتماعي:

مما سبق يتبين أن الأدب الاجتماعي حكى حياة الشعب موظفيه وفقرائه، وبين ما يعانون منه وأشاد بمن يخلصهم من المآسي والفقر، وحذر من استخدام أهل الكتاب في المهن نتيجة كثرة الأضرار التي نجمت عن ذلك، ولعل أكثرها سرقة الأموال، وتسلم مناصب هامة في الدولة وإيذاء المسلمين وإذلالهم بسبب أحقادهم.

أما شعر الإخوانيات فقد نم عن علاقات طيبة بين أبناء المجتمع، فهو يعبر عن المودة بين الأصدقاء تلك التي تبدت في الهدايا والشكر عليها، وفي المواساة أيام النكبات والمداعبات ،، وفي تقريظ كتب الأحبة، والرسائل المتبادلة، علمية كانت أم على شكل ألغاز.

ويمكنني أن أعد شعر العتاب والاعتذاريات من الإخوانيات لأنهما يعبران عن الرغبة في طلب العفو والصفح لتكون القلوب نقية صافية.

ولعل شعر الغربة والحنين من أهم ما يكشف عن الأوضاع الاجتماعية بل والسياسية أحياناً يدعو إلى الاغتراب الرغبة في طلب العلم أو في منصب مرموق، أو للبحث عن لقمة العيش نتيجة وضع اجتماعي مترد، أو عادة سيئة كالثأر، أو إحساس بالضيم السياسي، أو بسبب الثورات والحروب، وقد تبدى من خلال ذلك شوق إلى الأهل والأحبة والديار، وإلى مرابع العلم وأساتذته، وكان المشتاق يذكر لحظات الوداع أو يعبر عن فرحة اللقاء، وقد يذكر ما يسبب له الحنين كرؤيا البرق وهبوب النسيم وسماع هديل الحمائم، وغالباً ما يمتزج الشوق إلى الأهل بذكر الديار ووصفها، كما يمتزج الحنين بالإخوانيات، وبالشكوى أحياناً.

ومن الأوضاع الاجتماعية أيضا الحديث عن العلاقة بين الرجل والمرأة، وهذه تكون زوجة ودوداً وقد تكون امرأة نفوراً ولاسيما حينما يقترن الرجل بمن هي أصغر منه سناً، وتبدو عليه علائم الشيب والعجز. وبعض الشعراء نأى عن الغزل بمن لا تربطهم بها علاقات الزوجية حفظاً لدينهم وفكرهم وكرامتهم، ولذلك نراهم يحذرون من الحب وآهاته ومعاناته، ويبينون أنه غي وبعد عن الصواب.

وكان بعض شعر الغزل رمزياً يعبر عن حب الرسول r، أو عن إعجاب بالأساتذة، وقد جاء بعضه تقليداً للسابقين ولاسيما عند الشعراء الذين ذكروا الأطلال والرحيل.

وقد يكون الغزل حقيقياً وحينذاك يلفت انتباه الرجل صفات مادية ومعنوية، وهي هي الصفات التي يرددها الشعراء القدامى من طول قوام، وسحر عينين، وسواد شعر، وابيضاض وجه، وكذلك الترف والصدود، والدموع والآهات، والرقباء والعذال، والتذكر والطيوف.

وقد يذكر الشعراء عفة المرأة التي يعجبون بها وصونها في حجاب يحرسها، وكان شعر الغزل عند آخرين يميل إلى المجون أو ينحدر في هوة الغواية، وقد بدر عند بعضهم كلمات ومعان غزلية لا يرتضيها الشرع، وهي تنم عن قلب نأى عن ذكر الله، وضعف وازعه الديني.

  وهناك شعر في المرأة الصالحة أما وعضوا نافعا في المجتمع .

أما شعر المكيفات فقد حكى ما حلّ منها وما حرم، كالقهوة والدخان والمخدرات والخمرة، وبين مواقف الشعراء وولاة الأمور الإيجابية منها والسلبية، ولعل قصيدة ابن النحاس الأفيونية في طليعة هذه الأشعار لما فيها من نزعة فردية واجتماعية بل وإنسانية أيضا ، إذ حكت أضرار المخدرات، وبينت أهمية التقوى ومعاشرة الصالحين في الخلاص منها، والتوبة عنها.

([1]) محمد باشا العظم (1143-1197هـ) والي حلب في سنة 1177، أحسن ولايتها وأبطل فتح حانات القهوة ليلاً لما فيها من منكرات، كما أبطل بدعة الدومان عن حرفة الجزارين، والدومان اسم لمال يستدان من الجزارين بأضعاف مضاعفة من الربا، وطريقة وفائه أن يباع اللحم بأوفى الأثمان جبراً وقهراً حتى هجر الناس اللحم أغنياء وفقراء: إعلام النبلاء 3/276.

([2]) إعلام النبلاء 3/276-277 .

([3]) العقود/10-11 .

([4]) كمال الدين أحمد بن محمد البكري (653-718هـ) شاعر من العصر المملوكي. ينظر له في أعيان العصر 1/317.

([5]) أعيان العصر 1/317.

([6]) ديوان البوصيري/208 .

([7]) شرف الدين عيسى بن المحب النابلسي المعروف بالناسخ شاعر من القاهرة سجن (ت732هـ) لتزويره الخطوط، ينظر له في أعيان العصر 3/720.

([8]) أعيان العصر 3/722.

([9]) أعيان الشيعة 2/246 .

([10]) أحمد بن محمد بن حسن الكواكبي (1054-1124هـ) شاعر حلبي وكان من المدرسين ومن أسرة علم وشعر. ينظر له في سلك الدرر 1/175.

([11]) المرجع نفسه 1/179 .

([12]) ديوان البوصيري/177 ، الوافي بالوفيات 3/108 .

([13]) هو تقي الدين عبد الملك بن أحمد الأنصاري الأرمنتي (632-722هـ)، مفتٍ ومحدث: أعيان العصر 3/170.

([14]) أعيان 3/172.

([15]) أعيان العصر 1/351 .

([16]) السوس: حشرة تأكل الحبوب.

([17]) ديوان البوصيري/124 ، وقد مر معنا عند الحديث عن الهجاء تنديد البوصيري بالنصارى واليهود لسرقتهم أموال الدولة ، ينظر ص 236  ، وينظر لمثلها في ديوانه أيضا 116-215، وفيها يضيق بسرقتهم وتغلغلهم في وظائف الدولة ذات الأهمية .

([18]) ينظر من شعر أمين الجندي /106-107 .

([19]) العقود/23-24.

([20]) المهدي بن أحمد بن الحسن بن الإمام القاسم (1029-1092هـ) حاكم اليمن كان شجاعاً وغزير العلم وله مؤلفات: الأعلام 1/112.

([21]) محمد بن إبراهيم السحولي شاعر يمني عاصر الإمام المهدي: مجموع بلدان اليمن وقبائلها 3/515 .

([22]) مجموع بلدان اليمن وقبائلها 3/515-516 .

([23]) كما فعل سلامة موسى حين اتهم الأدباء القدامى بأنهم أدباء القصر لا الشعب: الالتزام

([24]) العصر العثماني /265 وينظر لفن الرسائل الإخوانية في النقد الأدبي - عتيق /223 .

([25]) أعيان العصر /303-304.

([26]) المرجع السابق نفسه.

([27]) ينظر لمثل ذلك في أعيان العصر 2/20-25 إذ تكثر الرسائل والإجابات بين اثنين.

([28]) أحمد بن إلياس الملقب بالأرجاني الصغير أو بالقاموس الماشي كردي الأصل. ينظر له في سلك 1/82 .

([29]) العيث مصدر عاث: أفسد بغير رفق: لسان العرب مادة عيث.

([30]) الدواجي ج والمفرد داجية: الظلمة . لسان العرب مادة دجا.

([31]) ينظر لذلك سلك الدرر 1/92-96.

([32]) الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد الباجوري (1198-1276هـ) ، شاعر مصري كان رئيس الجامع الأزهر: حلية البشر 1/7 .

([33]) المرجع نفسه 1/11، وينظر لمثلها في أعيان العصر 4/496-498.

([34]) الرحلة الطرابلسية /37 .

([35]) الرحلة الطرابلسية/36 .

([36]) عبد القادر السنوسي الدحاوي شاعر من الجزائر من القرن الثالث عشر الهجري: طلوع سعد السعود 1/361.

([37]) طلوع سعد السعود 1/361.

([38]) على الرغم من أن الألغاز تعد في علم البيان لمشابهتها الكناية في الإخفاء وستر المراد ، ولأنها تقوم على وضوح الدلالة ، إلا أنها تحوي إلى جانب اللغز تقريظا وثناء ، ويشترط فيها أن يلمح المرسل إلى كلمة اللغز ليسهل استخراجه واستنباطه ، وقد جاءت بعض ألغاز العصر أشبه بالقصائد في طولها وفي منهجها ، ينظر للألغاز في : أبجد العلوم 2/98، والبديعيات /135

([39]) فتح الله بن عبد الواحد الداديخي شاعر من دمشق وقاض (ت1139هـ) ينظر له في سلك الدرر 3/277 .

([40]) سلك الدرر 3/277 وجوابه في ص277-278. وقد مر عند الحديث عن المدائح أن هذه الأنواع غدت من أنواع وأسباب المديح أيضاً .

([41]) إسماعيل بن تاج الدين المحاسني خطيب الجامع الأموي بدمشق: سلك الدرر 3/250.

([42]) سلك 3/253 ومثلها في المرجع نفسه 1/208 و 2/165 وفي ديوان العيدروس 63 ، وينظر لإخوانية جاءت على شكل رسائل علمية ، أو تقريظ للكتب عند الحديث عن المديح في هذا الكتاب  .           

([43]) لم أر في شعر الاعتذاريات في هذا العصر نزعة المدح والتكسب كما كانت عند النابغة الذبياني في اعتذاره للنعمان بن المنذر، بل كانت تنم عن رغبة في توطيد العلاقة بين طرفين حالت بينهما ظروف ما، ولهذا جعلته من شعر الإخوانيات .

([44]) إسماعيل بن عبد الحق الحجازي (950-1001هـ ) كان قاضيا في دمشق ورئيسا للأطباء : نفحة الريحانة 1/265 ، والخلاصة 1/407.

([45]) خلاصة 1/406، نفحة 1/63 .

([46]) محمود بن رمضان شرف الدين بن والي الليل شاعر مملوكي: ينظر له في أعيان 5/367.

([47]) أعيان 5/367-368 .

([48]) نفحة الريحانة 2/491، وخلاصة 4/96 .

([49]) محمد بن أحمد القاسمي الحلبي (ت1054) شاعر حلبي عاش مدة في بلاد الروم ، الخلاصة 3/376. الإعلام 6/259. شذرات الذهب /526 .

([50]) ريحانة الألبا 1/93، ومثلها في تراجم الأعيان 1/105.

([51]) خلاصة الأثر 1/321، ونفحة الريحانة 2/547.

([52]) الدغل، الفساد: لسان العرب 2/393.

([53]) الديوان /171 ، العقود الدرية/60 . وعَضَل: ضيق: لسان العرب 4/361 .

([54]) الديوان /159والعقود الدرية /51.

([55]) رثاء النفس والكتاب يشرح القصيدتين ، ومختارات من الأدب العربي /60

([56]) فتح المتعال/533.

([57]) العقود الدرية /181، الخلاصة 2/84 .

([58]) العقود /67 .

([59]) إعلام 6/162.

([60]) العقود/155.

([61]) هو عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ (ت1293هـ) شاعر من زعماء الحركة الوهابية ومن أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب مؤسس الحركة الوهابية، ينظر له في مشاهير علماء نجد ص115-116.

([62]) مشاهير علماء نجد /115-116.

([63]) ديوان الأمير الصنعاني /43-46.

([64]) خلاصة الأثر 3/449، الكشكول 1/24، نفحة الريحانة 2/294.

([65]) ابن الشحنة هو أبو الفضل محب الدين عبد الباسط بن محمد المعروف بابن الشحنة (ت903) رحل إلى القاهرة ليسمع الحديث الشريف وصار قاضي القضاة: إعلام النبلاء 5/338.

([66]) إعلام النبلاء 5/338.

([67]) احمد بن محمد المنلا الحصكفي (937-1003هـ) شاعر حلبي وفقيه له مؤلفات عديدة: الأعلام 1/235 وتراجم الأعيان 1/172 وهدية العارفين 6/264 وشذرات الذهب 7/440. والكواكب السائرة 3/109.

([68]) تراجم الأعيان 1/185، وينظر لمثلها في سلك الدرر 4/163 .

([69]) شمس الدين محمد بن الحسن الصائغ (645-720هـ) شاعر وإمام عروضي من دمشق: أعيان العصر 4/397 .

([70]) أعيان العصر 4/399.

([71]) تحفة الأدباء /347-350.

([72]) عبد العزيز بن حمد آل معمر شاعر من الدرعية هاجر إلى البحرين بعدما نكبها إبراهيم باشا في عام (1234هـ): تاريخ نجد /41هـ علماء نجد خلال ثمانية قرون 3/340.

([73]) الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب آل الشيخ (1193هـ-1285هـ): عالم وشاعر من الدرعية، نفاه إبراهيم باشا إلى مصر مع زوجه وابنه عبد اللطيف، بعد ما استولى عليها وقضى على الحركة الوهابية فيها: علماء نجد خلال ثمانية قرون 1/181.

([74]) علماء نجد خلال ثمانية قرون 3/340.

([75]) نفح الطيب 1/94  ، وديوان أحمد بن المقري 1/91.

([76]) العقود/35، ومثلها لابن الجزري في العقود 1 /4 والخلاصة 2/83 و 3/74.

([77]) صادق بن عبد السلام البتروني شاعر حلبي توفي في أوائل القرن الثاني عشر الهجري ينظر له في سلك الدرر 2/199 وذيل النفحة /358.

([78]) إعلام النبلاء 6/409، وذيل النفحة /358.

([79]) نفح الطيب 1/39، وديوان أحمد المقري 1/27.

([80]) نفحة الريحانة 2/601 ومثلها لابن النحاس في العقود 2/75.

([81]) الشاعر عبد الله بن محمد بن علي المعروف بابن شهاب التدمري شاعر حلبي (ت116-1186هـ) متصوف: إعلام النبلاء 7/62، وسلك الدرر 3/104

([82]) إعلام النبلاء 7/62.

([83]) شمس الدين محمد بن يوسف الحرزي (ت711هـ) ،صيرفي بالجزيرة : أعيان العصر 5/318.

([84]) أعيان 5/320.

([85]) حسام الدين درباس بن يوسف الحميدي (ت710هـ) شاعر وأمير، وكان ذا رئاسة وحشمة: أعيان العصر 2/353.

([86]) أعيان العصر 2/353.

([87]) إبراهيم بن يحيى العاملي شاعر من البقاع في لبنان اشترك في ثورة خاسرة ضد الدولة العثمانية فهرب إلى دمشق : أعيان الشيعة 2/247.

([88]) أعيان الشيعة 2/247-248.

([89]) الباب: اسم منطقة تابعة إلى حلب ولا زالت إلى يومنا هذا.

([90]) نفحة الريحانة 2/448، العقود /35.

([91]) في كتاب خصوبة القصيدة الجاهلية يدرس المؤلف مطالع القصائد، ويرى أنها رمز لفكرة يدور حولها النص الأصلي، فغزل امرئ القيس رمز للملك الضائع، وحياة اللهو التي كان يحياها في جنباته، ورحيل أم أوفى في قصيدة زهير تشير إلى أثر الحرب في إفناء البشرية والتفريق بينهم، وهكذا.

[92] ) عبد الرحمن بن عبد الله باكثير ( ت957هـ) شاعر من الحجاز له كتاب تنبيه الأريب : منائح الكرم /271

[93] ) منائح الكرم / 272-274

[94] ) الالتزام الإسلامي في الشعر / 147

[95] ) العقود الدرية / 65، ومثلها في علماء دمشق وأعيانها في القرن الثاني عشر الهجري  2/ 198

([96]) القصيدة كلها في ديوان السيد عبد الجليل /2-5 .

([97]) الأدب الصوفي في مصر/183 .

([98]) ديوان البوصيري/119 ، الوافي بالوفيات 3/108-109.

([99]) الصديع: اسم للصبح لسان العرب مادة (صدع). ويقصد به الشيب. الهزيع: صدر من الليل: لسان العرب مادة هزع، وأرادت به الشعر الأسود.

([100]) العقود/111 .

([101]) مصطفى بن أحمد اللقيمي (1105-1178هـ) شاعر من مصر كان عابداً زاهداً: سلك الدرر 4/154.

([102]) سلك الدرر 4/160-161 .

([103]) الصاب: عصارة شجر مر، وربما أضعف البصر: لسان العرب مادة صاب، وديف: خلط. لسان العرب مادة ديف. والأبيات في خلاصة الأثر 2/90-91 ونفحة 2/384-385.

([104]) محمد التقوي الحراكي تقي الدين محمد بن أبي بكر (ت1061هـ) شاعر حلبي من الأشراف: الخلاصة 4/304.

([105]) خلاصة 4/305 .

([106]) منكوس : النكس قلب الشيء ورده، وجعل أعلاه أسفله ومقدمه مؤخره، أي صار بدل القوة ضعفاً، وبدل الشباب هرماً، وقيل هو الهرم : لسان العرب مادة نكس. والأبيات في ديوانه /123 .

([107]) أسعد بن عبد الرحمن البتروني (ت1093هـ) شاعر حلبي وكان والي إفتاء حلب. إعلام النبلاء 6/350.

([108]) نفحة الريحانة 2/607.

([109]) علي بن إسماعيل المتوكل حاكم اليمن (ت1096هـ) البدر الطالع /441 والشعر في الصفحة نفسها.

([110]) المرجع نفسه.

([111]) محمد خليل المرادي (1173-1206هـ) شاعر من دمشق ومؤرخ له كتاب سلك الدرر: وينظر في مقدمته للترجمة له.

([112]) صالح الداديخي بن إبراهيم شاعر حلبي من شعراء القرن الثاني عشر الهجري : سلك الدرر 2/209-210.

([113]) المرجع نفسه.

([114]) عمر بن عيسى التيمي شاعر وقاض مصري (ت 721هـ) أعيان العصر 3/645 .

([115]) أعيان 4/646 .

([116]) خلاصة الأثر 4/120 وإعلام النبلاء 6/161، وينظر لمثلها في ذيل نفحة الريحانة /340  .

([117]) محمد بن علي الحرفوشي (ت1059هـ) شاعر من دمشق هاجر إلى حلب ثم إلى بلاد العجم، وصار ذا منصب رفيع عند الشاه عباس: خلاصة 4/49، أعيان الشيعة 10/23.

([118]) نفحة الريحانة 1/200 .

([119]) رجب الحريري الحجازي (ت1091هـ) شاعر من حمص عاش أمداً في حلي، ينظر له في نفحة الريحانة 2/409 وإعلام النبلاء 6/337 .

([120]) إعلام النبلاء 6/338 .

([121]) عطاء الله العاني (ت1110هـ) شاعر وأمين الفتوى بحلب: إعلام النبلاء 6/393 .

([122]) ذيل نفحة الريحانة /353، إعلام النبلاء 6/394 وسلك الدرر 3/364 .

([123]) ديوان الشاب الظريف /126 .

([124]) محمد أبو العرفان بن علي الصبان الشافعي شاعر مصري من القرن الثالث عشر : حلية البشر 3/1391 .

([125]) حلية البشر 3/1391 .

([126]) ديوان الشاب الظريف /51 .

([127]) خلاصة 2/92، نفحة 2/385 .

([128]) حسن بن الأعوج (ت1019هـ) شاعر من حماة وكان أميرها : الخلاصة 2/45 .

([129]) خلاصة 2/46، نفحة 2/426.

([130]) خلاصة 4/50، نفحة 1/198 .

([131]) خلاصة 2/83، العقود /35 .

([132]) علماء دمشق وأعيانها في القرن الحادي عشر الهجري 1/15.

([133]) محمد صادق بن عبد السلام البتروني كان من أعيان حلب، ذيل نفحة الريحانة /357 وإعلام 6/408 .

([134]) المصدر نفسه.

([135]) أبو بكر بن محمد شرف الدين (ت744هـ) قاض وكاتب سر بدمشق: أعيان العصر 2/12 .

([136]) أعيان 2/15 .

([137]) نفحة الريحانة 1/64 .

([138]) جعفر بن ثعلب الأُدْفُوّي شاعر فقيه ونحوي (ت749) أعيان العصر 2/152.

([139]) أعيان العصر 2/155 ، وينظر للورقاء في خلاصة الاثر 3/438 .

([140]) سرور بن سنين الحلبي شاعر حلبي كان يمدح آل سيفا في طرابلس الشام (ت1020هـ): ريحانة الألبا 1/111 وإعلام 6/181 .

([141]) إعلام 6/185.

([142]) أي تتجافى جنوبهم عن المضاجع: كناية عن عدم النوم، وفيها اقتباس من القرآن الكريم، والأبيات في العقود /163 .

([143]) نفحة 1/64 .

([144]) نفحة 2/388 .

([145]) خلاصة 4/50 النفحة 1/199 .

([146]) نفحة 2/422 .

([147]) مصطفى البيري بن محمد البتروني شاعر حلبي (ت1148هـ): سلك الدرر 4/201 وإعلام 6/456 .

([148]) سلك الدرر 4/203.

([149]) مصطفى الزيباري (ت1094) : شاعر حلبي: إعلام النبلاء 6/383 .

([150]) إعلام 6/411، نفحة 2/640، وينظر لمثلها في أعيان الشيعة 9/247.

([151]) الديوان والعقود/72 .

([152]) جعفر بن محمد بن عبد العزيز المعتلي شاعر مصري (611-696هـ) أعيان 2/157 .

([153]) أعيان العصر 2/157 .

([154]) أعيان 4/174-175 .

([155]) نفحة الريحانة 2/613-614.

([156]) عبد الرزاق البيطار شاعر من دمشق (1253-1335هـ) مؤلف كتاب حلية البشر: تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري 1/341 .

([157]) من معاني الدين: الحساب، والطاعة، والإسلام والعادة والشأن: لسان العرب مادة دين .

([158]) تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري 1/341 .

([159]) سورة الحج /32 .

([160]) محمد بن أحمد الشيباني: نفحة الريحانة 2/622 .

([161]) المرجع نفسه .

([162]) حسن بن محمد البوريني (963-1024هـ) عالم وشاعر من دمشق ،له مؤلفات : معجم المطبوعات 1/602

([163]) ريحانة الألبا1/47 .

([164]) المرجع نفسه.

([165]) أحمد بن فرح أبو العباس شهاب الدين اللخمي ولد 625 شاعر مصري ومحدث: أعيان العصر 1/309 .

([166]) أعيان 1/310-311 .

[167] ) ديوان العشري / 110

[168] ) ديوان الحبسي / 518

([169]) ينظر كتاب الخمر والمخدرات /155-169

([170]) خلاصة الأثر 1/104 لطف السمر /66، إعلام النبلاء 3/203 .

([171]) الكواكب السائرة 3/35، ومثلها في 2/198 للشاعر علي الشامي .

([172]) غرس الدين الخليلي من شعراء القرن الحادي عشر الهجري : الخلاصة 3/246 .

([173]) العقود الدرية 1/66، ريحانة 1/122 .

([174]) إبراهيم المبلط شاعر مصري كان شيخ الوراقين في القاهرة له ديوان شعر: ريحانة 2/122 .

([175]) أبو المواهب محمد بن محمد البكري (ت1037هـ) شاعر متصوف ، وكان أستاذاً في الأزهر : ريحانة الألبا   2/ 223 والخلاصة 1/145 .

([176]) ريحانة 2/226 .

([177]) شذرات الذهب /49 : تاريخ الدولة العلية /136، من أعلام الفكر /199.

([178]) أحمد السفاقسي عالم من العصر العثماني (ت1085هـ) له تذكرة الإخوان في الرد على من قال بحلية الدخان : تكملة شذرات الذهب /134، إعلام النبلاء 6/205 .

([179]) الدحلاني أحد فقهاء الحجاز في القرن الثاني عشر الهجري : الإعلام 3/204 .

([180]) أحمد السالمي عالم (ت1040هـ) تكملة شذرات الذهب /140 ، إعلام النبلاء 6/205.

([181]) الشيخ محمد بن عبد الله الطرابيشي الشهير بالمسوتي (ت1338هـ) له رسائل نثرية في الدخان : الإعلام 7/559 .

([182]) من أسوأ: وصل الشاعر همزة القطع حين نقل حركتها إلى آخر حرف الجر (من) وذلك للضرورة الشعرية.

([183]) الإعلام 7/560 .

([184]) ريحانة الألبا 1/279-280 .

([185]) نفسه 1/280 .

([186]) أعيان العصر 4/174 .

([187])كان الشاه إسماعيل الصفوي يلقب بالصوفي وقد اتخذ شعار التصوف ستاراً له ،وحاول أن يبث الدعاة لملته في أرجاء الدولة العثمانية، ولكن السلطان سليم الأول كشف نواياه فحاربه، فلما أعان قنصوة الغوري الشاه الصفوي فتح السلطان سليم الأول بلاد الشام ومصر بعد معركة مرج دابق وقتله في 922هـ. ينظر لذلك الحروب العثمانية الفارسية /48-61 . وتاريخ الدولة العلية /80، ولقنصوة الغوري في إعلام النبلاء 5/368 .

([188]) فتح الله بن أحمد بن محمد البققي شاعر من العصر المملوكي قتل لأنه مستخف بالدين، وزنديق مرتد  : أعيان العصر 1/356 

([189]) أعيان العصر 1/357 .

([190]) محمد الأبياري القباني شاعر مصري من أبيار قرب كفر الزيات : ريحانة الألبا 2/128 .

([191]) ريحانة الألبا 2/129 .

([192]) خلاصة 4/89 والسليم بمعنى اللديغ تفاؤلاً وهي استعارة عنادية تفاؤلية وينظر لها في علوم البلاغة/     .

([193]) خلاصة 4/102، والإعلام 6/314 .

([194]) نجم الدين الحلفاوي خطيب الجامع الكبير في حلب كان معروفاً بتقواه وخلقه (ت1054هـ) : الخلاصة 4/181

([195]) العقود 2/52-54، وإعلام النبلاء 6/254 .

([196]) وينظر لهذه الأخطار أيضاً في سيكولوجية الإبداع / 182-183و237 إذ يبين أضرار المخدرات على الجهاز العصبي فالاسترخاء تتبعه حالة توتر عصبي، كما تؤثر هذه المكيفات على مخيلة متعاطيها، وقد يصاب بالبلادة الذهنية، وعلى سلوكه وإنتاجه، وقد تتلاشى قدرة المتعاطي نهائياً بعد حين .

([197]) أحمد بن محمد الكواكبي شاعر حلبي (ت1124هـ) : ذيل نفحة الريحانة /341 سلك الدرر 1/177 .

([198]) سلك الدرر 1/177 وذيل النفحة /341 ، وذكرت هنا ما يتعلق من الخمرة بالأوضاع الاجتماعية ، وستذكر   ثانية عند الحديث عن فن الوصف .

وسوم: العدد 668