السينوغرافيا..

السينوغرافيا..

فن تشكيل الصورة المسرحية

د. كمال يونس

[email protected]

د.كمال يونس ومحاولة وضع النقاط على الحروف في قضية فنية مثيرة للجدل

ـ لما كان المسرح هو فن التفاعل الحي ، وسر حيويته كامن في التفاعلات الداخلية لمكونات المسرحية بدءا من النص ( الفكرة ـ المضمون ـ صياغة الحوار ـ الإرشادات الداخلية المرافقة للنص كما أراد له كاتبه ) ، والعرض على خشبة المسرح في صورته التي ارتضاها القائمون بالعمل بقيادة فنية للمخرج ، يخفى بين طيا ته ـ ما بين النص والعرض ـ ذلك التفاعل الحي بين المؤلف ( كاتب  النص الأدبي والذي يسميه مسرحية من أجل عرضه على الجمهور في المسرح  ) ، والمخرج (المنفذ للنص  فنيا في صورة عرض مسرحي ) ، واضعين في الاعتبار تلك المساهمات الخلاقة الإبداعية     للممثلين ، ومصممي الديكور ، والإضاءة ، والأزياء ، والمؤثرات البصرية ، والصوتية ، والموسيقى التصويرية للعرض ، وألحان أغانيه ، وأشعار الأغاني ،ومصممو الجرافيك، ومخرجو المشاهد السينمائية أو المصورة بتقنية الفيديو ، ومساعدو الإخراج ، وغيرهم من الفنيين المختفين وراء الكواليس من عمال الديكور والإضاءة وغيرهم ، الذين يتضح أنهم كلهم عناصر فاعلة لا غنى عنها في التنفيذ الفعلي للعرض المسرحي ، الذي هو نتاج عمل جماعي محكم لكل من أفراده قل أو صغر شأنهم ، بدوا للجمهور أو احتجبوا عنه ، وقد اتحد الجميع فنيا من أجل مخاطبة الجمهور ، محاولين إقامة جسر بينهم وبينه ، وسبيلهم في هذا صورة العرض ، أو تصميم مشاهده وتجسيدها ، حيث يختلط العنصر البشرى الحيوي الحي ( الممثلون ) مع الجماد من مرئيات ومسموعات  ، بذلا لأقصى جهد في استثارة المشاعر الداخلية للجمهور والاستحواذ على كامل وعيه وانتباهه على الأقل طوال مدة العرض ، ليصدق اللعبة ، ويعيش مدة العرض وكأنه داخل الحدث ، ويتبقى في نفسه بعد ذلك ما يتبقى كل حسب استشعاره ما قدم في العرض ، إذن يمكننا التوصل إلى معنى مصطلح السينوغرافيا حيث كانت تعنى قديما تزيين الخشبة المسرحية ( منصة العرض ) ، وصولا إلى المعنى الكبير لها حيث يمتد ليشمل قاعة العرض بمنصته ، وأماكن جلوس الجمهور ، وحتى من أول بوابة المسرح.

 ـ ولكن السينوغرافيا المفهوم الدلالة الوظيفة صار أحد المصطلحات التي يدور حولها جدل كبير ، ولقد تنوعت وجهات النظر حوله وفقا لكل مفهوم كل كاتب من حيث النظرة إليه من زاوية متفهمة ودرجة إدراك طيفه الوظيفي ، مما أحدث تباينا واضحا في تناول وتداول المفهوم الخاص بها ، بل وأصبحت مثار جدل وخلاف في الوسط الفني خاصة ما بين مصمم الديكور ومخرج العرض ، بل أن بعض المخرجين ينسب لنفسه السينوغرافيا والإخراج ،وشاعت الحيرة وتباين استخدام المصطلح في الكتابات النقدية ، وحتى بداخل أكاديمية الفنون ذاتها ، واحتفظ المسرح الغربي بوظيفة محددة للسينوغراف ( مصمم مشاهد العرض = مصمم الصورة المسرحية ) ، وأبرزته كعنصر فاعل مستقل ،وهو ما يشير في رأينا إلى ذلك الفنان المبتكر الخلاق متعدد الخبرات ، صاحب الرؤية الفنية الواضحة ، والملم بتقنيات العرض المسرحي ، والذي يهدف من عمله إلى تحميل العرض المسرحي بالجماليات اللازمة ليظهر في أبهى صورة فنية ، ولكن تلك الوظيفة بمهامها تطغى على ما توارث وتعارف المسرح العربي عليه من  جوهر وظيفة المخرج  ،  وهو ما لا نتفق فيه مع من يحددون لمصمم السينوغرافيا دورا يتعدى به دور المخرج من وجهة نظرنا ، وفى رأى د.خليل فاضل أن (السينوغراف)هو الرجل الخبير بالرسم والتصوير والنحت والعمارة والمنظور، الذي يبتكر ويصمم وينفذ ما يتاح له من أشكال معمارية فنية وكل أنواع الديكور اللازمة للمسرح" وغيره من الفضاءآت ، فهو – السينوغراف – أو – المخرج - الذي يمارس عمله على إيجاد الخطاب المناسب – وفق رؤيته – كي يبثه إلى المتلقي، من خلال تلك الفضاءآت، ومن خلاله يلعب دوره الذي يريد، ورأى الناقد المسرحي  أحمد قشقارة الذي يحدد دور السينوغراف بقوله "والدور الأهم الذي يقع على عاتق السينوغراف هو إقامة علاقة محددة بين مكونات الخشبة والممثل من جهة , وبين العرض المسرحي برمته والمتفرج من جهة أخرى ولا شك أن هذه العلاقة تتمظهر وتتغير تبعاً لطبيعة العرض أولاً , وتبعاً لشكل المعمار المسرحي ثانياً "، ورأى الناقد عامر مصطفى الربيعي أن السينوغراف شخص يهتم ويعنى بدرامية الصورة المسرحية ، ليحتل مكانة تشكيلية درامية جمالية ، ليخلق قطعا حيوية تثير الإبهار و الاستمتاع ، لا يشترط أن يكون مصمم الديكور سينوغرافياً ، لكن يشترط بالسينوغراف أن يلم بتصميم الديكور والفن التشكيلي ، حتى اصبح السينوغرافي مساهماً في العملية الإخراجية ، خاصة المخرج لا يستوعبها أو يعمل بدكتاتورية،وأرى في هذا أن تلك التعريفات تتوه بها  مهام وحدود عمل المخرج في المسرح العربي، مما لا يجعل المخرج يحتمل وجود السينوغراف معه، خاصة أن العرض المسرحي يحمل رؤية واحدة لمخرج العرض الذي استوعب رؤى المشاركين في العمل ، وتكون مثار خلاف على افيشات العروض ،إذن أين المخرج ودوره المنوط به؟!!!.

 وعانينا في المسرح العربي من ترهل و سوء التعامل مع الكلمة ،مع أن الواضح تماما من مناقشة معنى السينوغرافيا المصطلح الحائر بين المخرج ومصصم الديكور في مسارحنا ، ونرى أن السينوغرافيا هي العرض المسرحي ، والعرض المسرحي ما هو إلا سينوغرافيا ، ذلك لأن  جوهره هو الصورة المسرحية الناتجة من التفاعل الفني بين مكونات العرض المسرحي ،وانصهارها في رؤية واحدة ،ورأينا هذا مرده إلى البحث والدراسة في الكتابات المسرحية الغربية ، والعربية ، لمحاولة وضع النقاط على الحروف في تلك القضية الملتبسة ، لعل المسرحيين يصلون إلى اتفاق حول استخدام الكلمة كمصطلح ،في وقت يحرص فيه الكثير من الأكاديميين على الكلمة المستوردة من الغرب المورد والمنبع الأساسي لهذا الفن ، دون مراعاة استيعاب الفكر العربي لاستخدام هذا اللفظ  ،  من أجل إرساء معنى الكلمة من حيث كونها مصطلحا فرض نفسه على الساحة الفنية المسرحية  .

 السينوغرافيا كمصطلح لها عدة تعريفات متباينة ،منها  التعريف الشمولي لها بأنها  تشكيل فني يحدد أطر العرض المسرحي ( الزمان ، المكان، الحدث) استنادا للنص المسرحي وطبيعة وحكاية مادة العرض ،  أو إدخال النص المسرحي الأدبي إلى مجال الفنون البصرية والسمعية بحيث تدركها الحواس ماديا بالرؤية  والسمع ، ومعنويا عن طريق الفكر والتفاعل ، أو تكوين لوحة تشكيلية حية مباشرة ذات رد فعل مباشر يهدف إلى توحد الجمهور والعرض ، أو تلك العناصر المادية والروحية والحواسية التي تهدف إلى تخليق الحدث دراميا ، أو التفصيلي المختصر الذي يعرفها بأنها  نتاج  ومحصلة  ذلك التفاعل الأدبي ( النص ) و الفن المسرحي ( العرض ) ، أو أنها تشكيل العرض الذي هو صورة النص ، وصورة عالم اجتماعي ،  أو ذلك الذي يبحث في تفاصيل المصطلح استنادا إلى مكوناتها ووظيفتها ومحصلتها النهائية ،  فيعرفها بأنها نتاج ذلك التفاعل بين مكونات العرض الفني كلها  = صورته التشكيلية الإبداعية التي هي في جوهرها  إسهامات لفنون عدة يستخدمها المشاركون في العرض كل حسب تخصصه ، و قد  ارتضوا لها أن تقدم  للجمهور مستهدفة حواسه ، سمعيا ( الحوار والموسيقى والأغاني والأشعار ) ،وبصريا ( أداء تمثيلي ، أزياء ، ديكور ، إكسسوارات ، إضاءة ، والتقنيات الحديثة والتي يهجن فيها المسرح بالسينما ، واستخدام تقنيات الفيديو وامتزاج الصورتين المسرحية والسينمائية في العرض المسرحي) ، بغية إحداث صورة ذهنية عاطفية عقلانية في إطار جمالي ، تصل من خلالها رسالة وهدف ومضمون العرض للجمهور، وهو ما يتفق مع تعريف د.كمال عيد أبرز الأكاديميين والمنظرين  للمسرح العربي بأنها " تعني الخط البياني للمنظر المسرحي حرفيا هذا ضمن التعبير المسرحي،  أما الفلسفي فيعني علم المنظر الذي يبحث في ماهية كل ما على خشبة المسرح  ، وما يرافق فن التمثيل المسرحي من متطلبات ومساعدات تعمل في النهاية على إبراز العرض المسرحي جميلا، كاملا ،  متناسقا ومبهرا أمام الجماهير.

وأيضا ذلك التعريف للدكتور جميل حمداوى حيث قال :"إذا كان الديكور مفهوما جزئيا فإن السينوغرافيا مفهوم عام يجمع بين الديكور وكل المكونات البصرية والسينمائية التي تعرض على خشبة العرض. ويعكس لنا المكون السينوغرافي نوع الرؤية الإخراجية وطبيعتها، كما يبين لنا الفضاء المؤثث ومكوناته التشييئية ودواله اللغوية المحملة برؤيويته في علاقتها التفاعلية والتواصلية مع الجمهور.

وهو أيضا ما يتفق في مضمونه مع  رأى د.خليل فاضل في مقالة بعنوان  السينوغرافيا وإشكاليات التعريف والمعنى ، حيث عرف السينوغرافيا بقوله: هي فن تنسيق الفضاء، والتحكم في شكله بغرض تحقيق أهداف العرض المسرحي (.....) الذي يشكل إطاره الذي تجري فيه الأحداث". وهو تعريف واف وشامل ولا يترك الفرصة لأن تنفرد واحدة من مكونات العرض بالمعنى وإنما كل ما يحقق الصورة المسرحية بكاملها أمام المتفرج، وبعكسه ستصبح السينوغرافيا ناقصة بغياب واحدة من مكوناتها

إذن أهم أهداف السينوغرافيا ( الصورة المسرحية ) وركيزة عملها هي تخليق وابتكار متعة فكرية وفنية من خلال عالم جمالي تتناغم فيه الدلالات آلتي أفصحت عنها رموز العرض ، ليضع المتفرج العرض ككل في بؤرة اهتمامه وينظر إليه بعين الاعتبار ، وهو ما يطلق عليه ببساطة التفاعل الإيجابي مع العرض .

 مما سبق يتضح أن نحدد ونعرف إطار عمل السينوغرافيا  بأنه ما يتحدده من معالم وسمات بواسطة مفردات اللغة المسرحية الفنية ودلالاتها بطابع تشكيلي واستعارى ، يحاول تكثيف الانفعال والشعور مع العرض ، وتلك الأطر إنما هي نفسها أطر العرض المسرحي الثلاثة الزمان والمكان والحدث الدرامي،  لتتضح على إثرها نوعية العرض الفنية ، وطبيعة العلاقة بين الأشخاص.

 ولزاما  يجب تحديد أدوات السينوغرافيا الأساسية القديمة منها وما استحدث باستحداث التقنيات ودخولها في الخدمة لصالح صورة العرض المسرحي ، بدءا من النص موضوع العرض  ومادة التجسيد الفني ، والتي هي محور العرض ،الذي يؤدى على خشبة المسرح أو منصة العرض، وأحيانا يمتد ليشمل كل معطيات المكان مثل العروض التي تقام في أماكن أثرية ذات طابع تاريخي ، وعناصر تجسيد العرض التي تشمل التمثيل بكافة أدواته ، الديكور ،الإكسسوارات ، الإضاءة بألوانها ودلالاتها وحرفية استخداماتها ، الموسيقى التصويرية للعرض ، وألحان أغاني العرض ، والمؤثرات الصوتية ، وأشعار الأغاني ، والاستعراضات الموظفة دراميا ، واستخدام السينما والفيديو والتقنيات الحديثة التي تسعى للاستفادة من تقنيات السينما في المسرح .

 وهذا ما يراه الناقد المسرحي السوري  أحمد قشقارة إذ يقول : السينوغرافيا تشمل مجموعة من العناصر كالأزياء والإضاءة والمؤثرات السمعية والبصرية والإكسسوارات إضافة إلى الديكور الذي يصبح إحدى مفردات السينوغرافيا .

لذا  أرى  أنه يجب أن يتوافر لأدوات السينوغرافيا الثراء الفني من حيث إدراك قيمتها، ووظيفتها الدلالية والجمالية كل على حدة ، ومع بعضها البعض على المستوى الكلى ،  فيتحقق لها  الانسجام والتوافق  والترابط لإبراز جماليات العرض ككل.

 ولكن السينوغرافيا ( الصورة المسرحي= صور مشاهد العرض) ليست نوعا واحدا ، فهناك أولا : السينوغرافيا الذهنية سينوغرافيا النص الأدبي، ما بين قدرة الكاتب على استثارة خيال القارئ  بصفة عامة أيا كان، ليساعده على تكوين صورة ذات أطر خاصة بالعمل الأدبي المقروء ، من حيث الزمان والزمان والحدث والانفعالات الدرامية للأشخاص ، أو على وجه الخصوص سينوغرافيا  تحفز تثر المخرج وتجعله يتصدى لإخراج العمل وتقديمه مسرحيا ، وسينوغرافيا متخيلة لكل من المساهمين في العمل كل على حدة حين يعهد إليه بالعمل في العرض لتجسيد هذا النص الأدبي بعد قراءته.

وثانيا : السينوغرافيا ( الصورة ) التنفيذية الفنية ، بما فيها من اتحاد الرؤى المختلفة للقائمين على تنفيذ العمل ، تحت قيادة المخرج ،بدءا من المؤلف الذي يطوع نصه ما أمكن لرؤية المخرج الدرامية بغية التجويد الدرامي ، ثم تلك الإسهامات لفريق العمل الفني كل حسب تخصصه ، ولما كان العمل في المسرح جماعيا ، وفيه الرأي والرأي الآخر،  ولكن تظل الرؤية التي ارتضاها المخرج ليقدم عليها العرض على أرض الواقع  لها الأهمية القصوى بعد أن تتوحد الرؤى المختلفة في رؤية واحدة متعددة الإسهامات .

 وخلاصة القول أن السينوغرافيا هي تصميم مشاهد العرض المسرحي ، أو الصورة المسرحية ،وهى المحتوى التشكيلي الفني للعرض ككل ، الذي يستمد قيمته الفنية من براعة تقنيات صورته التي ظهر عليها للجمهور ، وأرى أن المسرح العربي لم يستوعب للآن وجود السينوغراف ( مصمم الصورة المسرحية ) نظرا لما فيها كما أوردنا من تعد سافر على الدور الأصيل للمخرج ، حامل لواء رؤية العرض مسرحيا ، والمسؤول عن صورته النهائية .