توثيق لكتاب الاغاني السودانية

هذا الكتاب يعتبر محمده وسنه حسنه لتوثيق لمسار الاغنية السودانية العربية التى لا زالت ترزخ تحت ستار المحلية الساكنه فى قلب القارة الافريقية منذ عهود مضت ولكن استاذنا معاوية يسين  قد افرد ضياءا ونورا يهتدي به خريجي الجامعات والمعاهد وسدد فراغ المكتبة السودانية ذات التاريخ الغير مدون بل هو فى صدور الرجال ... فهو جدير بالاطلاع لجهد الكاتب فيه وتقديم صورة لو فيها كثيرا من الخيال وعبقريته فى تناول الموضوع وذلك لقله المصادر التى اعتمد عليها ...

( 1 )

الكتابُ الذي أعنيِ هو كتاب "مِن تاريخِ الغناءِ والموسيقى في السودان" – الجزء الثاني (1940-1999)- تأليف الأستاذ معاوية حسن يسن، من منشورات مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي أكتوبر 2012. ما أنْ بدأت تصفّح هذا الكتاب، حتى قفز إلى ذاكرتي كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وهو الكتاب الذي قال عنه ابن خلدون :

(.. وكتاب الأغاني ديوان العرب، وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعوّل بهِ على كتابٍ في ذلك فيما نعلمه..). 

وتقول مُقدمة كتاب الأغاني أنّ 

(.. موضوعه، الحديث عن الشعرِ العربي الذي غنّاه المغنون مُنذ بدءِ الغناءِ العربي وحتى عصره، مع نسبة كلِّ شِعرٍ إلى صاحبهِ، وذكر نبذٍ من طرائف أخباره، وتسمية واضعِ اللحنِ، وطُرقِ الإيقاع، والأصبع الذي يُنسب إليهِ، ولونِ الطريقة، ونوعِ الصوتِ، وكلِّ ما يتصل بذلك..) 

وما كتاب معاوية يسن بأقل قدراً من كتاب الأغاني الشهير، إلا باقتصاره على الأغاني السودانية فحسب.

هذا كتابٌ جامعٌ حوى أفيد ما يمكن أن يحرز عن تاريخ غناء المدينة في السودان. وما يلفت حقا هو أن ولعنا بالمشافهة قد أضاع الكثير مما يشكل تاريخاً كان ينبغي الاعتناء به، فنوثق ما نقدر عليه، إذ فيه ما يتصل بتحوّلات البلاد الاجتماعية والسياسية على نحو جليّ. تناول فيه مؤلفه الأستاذ معاوية، تاريخ الغناء في الفترة الزمنية الواقعة بين 1940 و 1999. تلك فترة شهدت نشوء الحركة الوطنية ومقاومة الاستعمار، ثم مراحل إدارة البلاد بأيدي بنيها، وتراوحتْ أحوال البلاد خلال ذلك من النجاحات المتواضعة إلى العثرات المؤقتة، ثم أكثر إلى الإخفاقات الفادحة في العقود الأخيرة . من هذه الإخفاقات لا شك محاولات طمر أنواعٍ من الغناء السوداني، بمبررات تبسيطية مُمعنة في السذاجة. لا أريد أن آخذك إلى السياسة، وإن كان الغناء وكثير أجناس الإبداع، هيَ ممّا تراءَى في مرايا السياسة . ولا أخفي هنا اعتقادي أنّ جميل الإبداع هو ممّا يخرج من رحم المعاناة، ومن مظلمات الدنيا، تلك التي أفرزتها الأقدار، أو استصنعها البشرُ بأيديهم، لا بأيدي غيرهم. 

( 2 )

للأستاذ معاوية يسن فضل التوثيق الدؤوب لحركة الغناء والموسيقى والشِّعر، ممّا وقع خلال الفترة التي أرّخ لها (1940- 1999)، ولقد أشار إلى ذلك الدكتور عبدالله علي ابراهيم في مقدمته الضافية لهذا العمل التوثيقي، مُنوّهاً بالمُهمّة العسيرة التي اضطلع بها الأستاذ معاوية في ملاحقة تفاصيل ما يتصل بالغناءِ والمغنين وأهل الموسيقى، في بيئة لم تكن تحفل كثير احتفال بكتابةِ تاريخها أو توثيقه ورصد تحوّلاته. والحالة اليتيمة للتوثيق ربَّما هي ما وقع تسجيله بالوسائل التي كانت سائدة وقت وقوع حركة الغناء تلك، من اسطوانات حجرية تُلعَّب على فونوغراف يُدار يدوياً، يستوردونه من مصر ويحمل ماركة انجليزية معروفة، بما ترجمته (هاتش. إم . في. ) أي "صوت سيده". 

ولعل لمصر أكثر الفضل في التحديث النسبي في العقود الأولى من القرن العشرين، لظاهرة غناء السودان وموسقته. من آيات التأثر بالغناءِ المصري في تلك الفترة ، دخول الآلات الموسيقية مثل "الرِّق" والعوْد والكمَان و"القانون" لاحقا. ولم يقتصر الأمر على الآلات وحدها، ولكن بلغ التأثر حتى في شكل تنظيم "التخت" وتوزيع أدواره، ويحدثك معاوية كيف طوّر المطرب إبراهيم الكاشف تنظيم وتوزيع ألحان أغانيه على نسق "التخت المصري" الذي رآه عند فرقة مصرية زارت مدينة وادمدني في ثلاثينات القرن الماضي. وأكثر من ذلك، فقد جرى رصد استلاف أساليب من الغناء الشائع على نطاق واسع في مصر، غير أن أهل الغناء من السودانيين حافظوا على لونية غنائهم وعلى نكهته الخماسية. تمدّد التأثير إلى التغنّي بقصائد مما تغنّى به المغنون في مصر وبعض أقطار العالم العربي، وتحضرني قصيدة "عروس الروض يا ذات الجناح يا حمامة"، للشاعر المهجري اللبناني الياس فرحات. تغنّى بالقصيدة مطربٍ حجازي من جدة اسمه حسن جاوا، ولأنّ الحاج محمد أحمد سرور كان من أوائل الذين هاجروا للعمل بالسعودية في ثلاثينات القرن الماضي، فقد رجّحتُ أن يكون قد استمع إلى تلك القصيدة بصوتِ حسن جاوا في الحِجاز، فطوّعها بأسلوبه وَ"سودن" لحنها الذي سمعناه على الأسطوانة الحجرية، وهو ذات اللحن الذي ردّده بعده عددٌ من المطربين في سنوات لاحقة عبر أجهزة الإعلام السودانية، ورسخ في وجدان المستمع السوداني.

( 3 )

ذلك يقود إلى ظاهرة التغنّي بقصائد بالعربية الفصحى. ولو نظرنا في أحوالِ الغناءِ في مصر لرأينا كيف نمتْ الصداقة بين أمير الشعراء أحمد شوقي والمطرب محمّد عبد الوهاب، ولرصدنا أيضاً ذلك الغناء الجميل باللغة الفصيحة الذي جاء من رجل اسمه أبو العلا محمد، وهو مُطرب مصريّ مُعمّم ويحمل لقب شيخ ، ولعلّ أشهرها قصيدة "أماناً أيّها القمر المطلُّ.." للشاعر ابن النبيه ، ولجمال القصيدة واللحن فقد تغنّت بها السيدة أم كلثوم والمطربة المصرية القديمة فتحية أحمد والموسيقار المصري الكبير الرّاحل محمد عبد الوهاب. ثم تجد أن عبد الكريم الكابلي قد دندن بذات اللحن قبل سنوات طويلة، مُحتفظاً بنكهته السباعية في تسجيلٍ نادرٍ قلّ أن تجود به إذاعة أم درمان. ومطالع القصيدة هيَ:

أمانـاً أيُّها القمـر المطــلُّ أمن جفنيك أسيـافٌ تسـلُّ

يزيد جَمَالُ وجهِكَ كلّ يومٍ ولي جسدٌ يــذوب ويضمحلُّ

ومَا عرف السّقامُ طريق جسمي ولكــنْ دلّ من أهــوى يدلُّ

يميل بطرفهِ التركي عنـّي صدقتم إنّ ضيقَ العينِ بُخلُ

إذا نشــــرت ذوائبـــه عليــهِ ترى ماءً يــرفّ عليــه ظــــلُّ

يظلّ الكابلي مِن أعمدة الغناء العروبي في السودان بلا شك.

وقد كاتبني صديقي عمر السَّوري حول غناءِ السودان، قبل سنوات قليلة، فذكرتُ في رسالتي إليه فقرة تتصل بحديثي هذا، لا غبار إن أوردتها هنا: (يجيء إلى الذاكرة أمير الشعراء أحمد شوقي وصداقته القوية مع محمد عبد الوهاب فخرجتْ دُررٌ برّاقة لفظاً ولحنا . أنظر معي أيها الصَّديق، كيفَ تقرّب الأخطلُ الصغير- بشارة الخوري - لعبد الوهاب ليلحن له "يا ورد من يشتهيك"، أو السيدة فيروز وهي تتغنَّى بقصيدة "عاقد الحاجبينِ" لقريبها الأخطل الصغير أيضاً، ولسعيد عقل وهو يمتدح لها مكة والحجاز: "غنّيتُ مكةَ أهلها الصِّيْدا.."، وهو المسيحي الذي شبّ في روابي البقاع وحضنته زحلة. وإنك تسمع طرباً يأتيك من كاظم الساهر ، هذا البلبل العراقي ، "يتوئم" نفسه مع نزار ، ومن ماجدة الرومي ، بنت "صور"، تُبدع أكثر في غنائياتها العربية الفصيحة ، ومن مارسيل خليفة وملازمته لصوت الرَّاحل درويش، تلك الملازمة الخلّاقة المُمتعة، فلا تملك إلّا أن تهتز أعماقك وتفرح . .)

( 4 ) 

قصدتُ أن أؤكد أنَّ الغناءَ غناءٌ، الفصيح مِنهُ والعامّي، تذوب إنْ سمعته مع رقته، ويأسرك سحرُه . وإنّي لأعجب إذ أجد مطرباً قديماً راسخَ القامة مثل الحاج محمد أحمد سرور- وقد كان يمتهن مهنة متواضعة- يُبدع في أدائه لقصيدة "الحمامة" للياس فرحات ، لترفعه إلى مصاف المطربين الكبار الذين أدوا القصيد العربي الفصيح بمخارج حروفٍ واضحة ولوّنوها بتلك الجمالية العالية. ولولا خشيتي ممن سيجرح شهادتي، لقلت أنَّ أداء سرور لهوَ أكثر ألقاً وأغنى تطريباً من اللحن الأوّل الذي وضعه الحجازي حسن جاوا، في عقود القرن العشرين الأولى. ثم تجد محمّد عبدالوهاب يتغنّى بجميل شعر أحمد شوقي ، قصيدته "جارة الوادي"، أو قصيدته :

خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرّهن الثناءُ

كما لحّن عبدالوهاب وتغنّى بنماذج زاهية من بدائع الشعر الفصيح لإيليـا أبو ماضــي وللأخطـــل الصغيــر( بشارة الخوري)، ثم في مراحل حياته الأخيرة، يلحّن لأمِّ كلثوم أشعاراً للبناني جورج جرداق "هذه ليلتي"، وللشاعر السوداني الرّاحل الهادي آدم "أغداً ألقاك..؟"، وهي قصائد فصيحة وغاية في الجمال المُموسق. توزّعت أعمال عبد الوهاب الموسيقية بين القصائد العامية والفصحى، كما ترى .

عنّ لي أن لو توسّع صديقنا معاوية يسن، فضمّن كتابه تحليلاً ومقارنة بين الغناء بالشِّعر العامي والغناء باللغة الفصيحة، وتبيان إن كان ذلك مظهراً من مظاهر التحوّلات السوسيو- ثقافية، أو لها تماسها مع المكوّنات المؤثّرة في تشكيل الهُويّة وعناصر الانتماءِ أو الاعتزاز بالثقافة العربية. . وأشخص ببصري فأرى الغناء الفصيح وقد انزوى في مصر إلى عتمة فلا يُرى، ولا تبين آثاره إلا عند بعض مُغنيّ العراق والسودان وبعض أهل الشام. .

( 5 )

وأكثر ما شدّ انتباهي في الكتاب هو ذلك الفصل الذي عنيَ فيه المؤلفُ بتبيان حركة الغناء والموسيقى، وما له مِن تداعيات على سؤال الهُويّة ، ونعلم أنّ السودان في ستينات القرن العشرين، قد شهد تيارات في الشِّعر استجدتْ تحت لافتة "الغابة والصحراء"، ضمّت شعراءَ كبار مثل محمد المكي إبراهيم والرَّاحل النور عثمان أبكر والرّاحل محمّد عبدالحي، وعرّاب التيار الحقيقي كما نعلم، هو الشّاعر محمّد المهدي المجذوب. من جهة التشكيل، رَسَخت أعمالٌ تشكيلية لفنانين كبار مثل أحمد شبرين وإبراهيم الصلحي في "مدرسة الخرطوم"، والتي رَصَد ملامحها الأجنبيُّ الآخر، قبل أصحابِها في كلية الفنون الجميلة في تلك السنوات. 

لم تكن حركة الغناء والموسيقى ببعيدة عن أجواء تلكم التيارات ، خاصَّة والسودان ظفر باستقلاله باكراً وقبل شعوب كثيرة في القارة الأفريقية، وصار لزاماً الركون إلى عناصر تعمّر وجدان بنيه بانتماءٍ يعزّز مكانة البلاد في فضائها السياسي والثقافي. بعد قمّة عدم الإنحياز في باندونغ في 1955، تجد تاج السر الحسن في قصيدته "آسيا وأفريقيا"، يوثق تلك اللقاءات الحميمة بين شعوب في آسيا وأفريقيا، ظلّتْ ردحاً مِن الزّمن تحت نير الاستعمار، وما أنْ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى توافق المجتمع الدولي على مواثيق واتفاقيات أنهتْ عهود الاستعمار، وأكدتْ حقوق الشعوب في نيل استقلالها وحقها الأصيل في تقرير مصائرها. حينَ أنشد عبد الكريم الكابلي تلك القصيدة ولحنها بأسلوب الأوبريت ، تحلّق وجدان السودانيين حول تلك المبادئ، والسودان حديث عهد باستقلاله، فزاد ذلك من إحساس بنيه بما يربطهم بالشعوب من حولهم. وفيما جرت حوارات الانتماء مُلتبسة وكأنّها في أركان معتمة، انزلقتْ البلاد إلى نزاعها التاريخي بين شمال السودان وجنوبه، فكان سؤال الانتماء حاضراً يعكس تلك الحيرة بين واقع الانتماء الأفريقي، وهو أكثر من انتماء جغرافي ، والانتماء إلى الثقافة العربية وهو أكثر من تاريخ. ثم جاء طرح "السودانوية" ، فهل أخرجتنا من حيرتنا أم أغرقتنا في رمالها وغاباتها من جديد. .؟ 

دعوة معاوية لكم أن تنظروا في أدب الغناء والموسيقى السودانية، في الأغاني التي تخيّرها المطربون في العقود التي تتالتْ بعد الاستقلال، سترون كم راوحنا بين الانتماءين وما اطمأن الوجدان، وإلا فما الذي يفسر خروج جنوب السودان إلى فضاءٍ أفريقي، وكأنّ شمال السودان هو شمال "عروبي" مَحض. . .؟

( 6 )

وإني إذ أختم مقالي عن كتاب معاوية يسن، كان لا بدّ لي من الإيماء إلى غياب الأغنية السودانية عن فضاءٍ عربي كان الظنّ أنها جزءٌ منه. وليتَ معاوية توسّع في تبيان إنْ كانت اللهجة السودانية من الحواجز التي منعتْ عبور أغاني السودان إلى فضائه العروبي. 

لقد تابعتُ على حسرةٍ، كيف أطلقتْ مغنية لبنانية جيء بها مُحكِّمة في برامج تشجيع المواهب التي شاعت في كثيرٍ من القنوات العربية هذه الآونة، قولاً أقصتْ عبره مشاركة صبيّة من السودان، بزعمها أنّها لا تفهم هذه اللهجة السودانية..! 

عجبتُ لها أيّما عجب، فإنْ كان لابدَّ من تعليق، فلي أن أورد التعبيرات التالية :

"العجاج – المطرة – جبرين – وليّة - نسوان- عكاز.."

ولا أملك إلا أن أقول للمُغنيّة اللبنانية الظالمة: إنّ هذه التعبيرات، إنْ رأتها غريبة وَصعُبَ عليها فهمها ، هيَ ممّا ورد في شعر أبي الطيّب المُتنبي، لا مِن لهجة أهلِ السودان! ولربّما أميلُ هنا إلى التفسير الذي ورد على لسانِ المطرب الكبير حمد الرّيّح، وأورده معاوية يسن في كتابه، من أن في الأمر شبهة عنصرية لا أكثر . .

كتاب الأغاني لصديقنا معاوية السوداني، ممّا يَجدر أن يُقتنَى، وهو سجلٌ حافلٌ بالكثير من الذي ينبغي توثيقه عن تحوّلات فنِّ الغناءِ السوداني ، من شعراءٍ وموسيقيين ومطربين...

وسوم: العدد 676