الملف الأخضر

حسين راتب أبو نبعة

حسين راتب أبو نبعة

[email protected]

جامعة الملك عبد العزيز

كلية المعلمين بمحافظة جدة

أبو ياسر رجل  طويل القامة طيب القلب حنطي اللون طيب القلب  نقي السريرة. عاش بهدوء و طمأنينة حتى جاء يوم شعر فيه بضيق في الصدر و بحة في الصوت و سعال  لم يعهده من قبل ، اتجه لأقرب مشفى عملاً بنصيحة طبيب المركز الصحي المجاور. كشف عليه الأخصائي ، انتابته مخاوف من وجود أشياء خطيرة فطلب منه على الفور عمل تخطيط للقلب .أظهرت الصور وجود انسداد كبير في شرايين القلب و ثمة خطورة تصل إلى الموت. في الساعات القادمة كانت تحيط بأبي ياسر أجهزة و أنابيب و هو كعادته يرتجف من فكرة العملية .الجو مشحون و أصدقاؤه وأحباؤه يتقاطرون  و يتجمعون في البهو المجاور لغرفة العناية المركزة، كانت الأخبار التي تتسرب من غرفة العناية تبعث على الاطمئنان ، فقد نجحت القسطرة ووضعت له شبكة.

  تنفس الصعداء و حمد الله على نجاح العملية و لم تؤرقه كثيرا المبالغ الكبيرة و المصاريف التي تكبدها. مر شهران أو ثلاثة  تتابعت الأيام برتابة حتى تفاجأ  بألم شديد في ساقيه فانطلق مذعورا إلى المسشفى ، خضع لفحوصات دقيقة و تحاليل و حصل على موعد جديد لإجراء جراحة جديدة و قسطرة لشرايين  رجليه إذ تبين وجود انسداد.

-         ما سبب هذه الانسدادات يا دكتور ؟

-          السيجارة التي في يمينك!

لم يقتنع ابو ياسر كثيرا بما قاله الطبيب، صحيح انه يدخن علبتين تقريبا غير انه لم يتخيل أن تصل الأمور إلى هذا الحد.أشار إليه بعض الخبثاء إلى أن الانسداد ربما كان بسبب  المنسف حيث عرف عنه انه كان مغرما بهذه الأكلة الشعبية، هز رأسه مصدقا !

" ربما كان بالإمكان الاستغناء عن بعض سجائري أما المنسف فلا"همس في أعماق نفسه المكلومة ، و ظل دخان سجائره يعبق في المكان.

في اليوم المحدد للعملية ذهب مبكرا للمشفى و قام بإجراءات الإدخال الروتينية و تم إيداعه في الغرفة 303 ، قاسوا الضغط و قوة الدم و سجلوا قائمة بالأدوية التي يتناولها و طلبوا منه الامتناع عن الطعام حتى موعد العملية، و أخيرا أتوا بالروب الأخضر إيذانا باقتراب لحظة الانطلاق لغرفة العمليات.يضع أشياءه في قسم الأمانات و يتأمل عقارب ساعة الحائط ، يقرأ بعض الآيات القرآنية بحثا عن طمأنينة و سكينة و يتمدد على سرير متحرك فينطلق به الممرض عبر ممرات المشفى ، يدخل به أحد المصاعد و ما هي الا دقائق حتى كان عند مدخل غرفة العمليات بانتظار الدور.وضعوا ملفا أصفر اللون على سريره و أدخلوه على عجل غرفة العمليات، كان بكامل وعيه و أثناء تجهيزه نظر الى الملف ثانية فانتبه إلى إن لونه اصفر فاقع و تذكر إن ملفه الأصلي ذو لون اخضر، شعر بتوتر ،انتابته شكوك في كل ما يجري. في هذه الأثناء تقدم الجراح ، مسك الملف ووضعه جانبا و قال: لا تخف فعمليات قسطرة القلب  أمور عادية هذه الأيام!

-         ماذا؟ صرخ أبو ياسر باستهجان  ، و قال بصوت يشبه الصراخ : أنا بحاجة لقسطرة في رجلي اليمنى أما قسطرة القلب فأجريتها قبل فترة. أصيب الجراح بالدهشة فقد كان على وشك القيام بخطأ طبي قد يطيح به، تأمل في الملف ثانية و قال متسائلا : إذن أنت لست بالسيد إبراهيم؟

-         عفوا أنا...حاول الجراح الاعتذار و لملمة الموضوع غير أن نوبة من الخوف أقرب إلى الجنون انتابت أبي ياسر، نهض من سريره و أطلق ساقيه للريح، كان حافي القدمين، ظل يركض و يركض ووراءه انطلق عدد من الأطباء و الممرضين و الفضوليين من الزوار، تبعه صحفي فضولي كان في المكان يزور صديقا له  أخذ له صورة ربما تسعفه في سبق صحفي طال انتظاره، قفز من الشباك و هبط في حديقة المشفى....اختفى في احد أحياء المدينة. في اليوم التالي ظهر الخبر في الصفحة الأولى و فيه تفاصيل عن المريض الهارب و الصورة التي التقطها الصحفي تزين الخبر. تكثفت حملات البحث و التفتيش و أخيرا تم العثور عليه يرتجف  في احد الأبنية تحت الإنشاء، لم يكن الأمر سهلا ، ساد القلق و لم تهدأ الأمور إلا بعد أن عالجوه بإبرة مهدئة.