العجوز والنارجيلة

حسين راتب أبو نبعة

حسين راتب أبو نبعة

[email protected]

يمشي الهوينى في طرقات البلدة و يتكئ على عصا خشبية و أحيانا يلبس فروة من الصوف ليمد جسده  الذي نخرته برودة الشتاء بالدفء .ملامح الهرم و الشيخوخة بدأت في الأشهر الأخيرة  تدب في أوصاله ، و لم يعد يقوى على المشي الطويل أو ممارسة أعمال متعبة في الحقل. أصبح يعاني من فترة لأخرى من نوبات  ارتفاع ضغط الدم.اعتاد على الاسترخاء قبيل المساء في منزل  قيد الإنشاء لأحد أبنائه مثل قدامى المحاربين يجتر الذكريات و البطولات، و يشير إلى زاوية في المنزل حيث النارجيلة فيقوم أحدهم بتعميرها بنكهة مميزة و يشعل الموقد ببقايا حطب  و أخشاب و أغصان جافة منتشرة في الحديقة. يسحب نفسا عميقاً حتى  تغرورق عيناه وسط الدخان المنفوث، عندئذ يبدأ بالسعال و يقضي أكثر من نصف ساعة على هذه الحال من السعادة الوهمية و تكون الجلسة قد أوشكت على الانتهاء.

على هامش السهرة يبدأ كعادته في سرد قصص عمرها ثلاثين عاما أو أكثر، كانت قصص مكررة غير انه يعشق تكرارها فهي رصيده الوحيد المتبقي في رحلة حياته.الحقيقة تقال بأنه بالرغم من ذلك كان لا يغير في أحداث قصصه و لا يبدل في الشخصيات و النهايات فقد كان يتحرى الدقة في السرد.كان يتجلى في الحديث خاصة عندما يستعرض ما جرى في رحلته الأخيرة لبلاد العم سام و يستطرد في وصف دقائق الأمور في  جولاته في ديزني لاند و يتحدث بإسهاب عن مظاهر الترفيه و الحضارة و النظافة و الوجبات المكسيكية و الايطالية التي تناولها في بعض المطاعم الراقية.

في نهاية السهرة هم ذات ليلة بالمغادرة و هو يتكئ على العصا التي أصبحت له رفيقا في جولاته ، و ما هي إلا لحظات حتى انزلقت على البلاط فتزحلق و ما هي إلا ثوان حتى كان يترنح على الأرض كجثة بلا روح من هول  المفاجأة و الصدمة، رفعه بعض المرافقين من عثرته و انتصب على قدمين متعبتين و هو يعاني من أوجاع شتى في ساقيه اللتين تسلل إليها الروماتيزم في الفترة الأخيرة، المهم نهض من كبوته و هو يلعن اليوم الذي فكر فيه بامتشاق العصا.

لا يدري سر ما جرى في بلاد العم سام ، فقد كان يتجول هناك و يتمشى بجوار المحيط دون أن تلازمه العصا و لم يشعر بحاجة للاستعانة بشئ أو الاتكاء على احد أثناء مشيه بل كان كما وصفه احد أصدقائه كالغزال !

في احد الأيام توجه للمدينة العتيقة التي كان يعشق التجول في أزقتها و أسواقها المعقودة، كان يذهب هناك نهاية كل شهر لاستلام راتبه التقاعدي و يقضي سويعات في الأزقة العتيقة ، يتناول طعام الإفطار في مطعم شعبي قرب دوار المدينة الرئيسي و يعرج على محل حلويات مشهور ثم يشتري بعض الحاجات من السوق. بعد انجاز قائمة المشتريات توقف  لفترة وجيزة أمام محمص قهوة صغير. رحب صاحب المحل به فقد كان زبونا  يعرج  عليه نهاية كل شهر ، حياه وصافحه بحرارة و ناوله كرسيا بلاستيكيا كي يجلس  عليه الى حين إعداد و تجهيز طلبه . جلس العجوز و ما هي إلا ثوان  حتى انزلق الكرسي فوق أرضية المحل الملساء فهبط صاحبنا على الأرض هبوطا مفاجئا سمع له دوي ، نهض من جديد و غادر المحل وسط حالة من  الإخفاق و الذهول و هو يلعن اللحظة التي فكر فيها باحتساء القهوة.