حكاية حيّان وسوءة الوالي

أبو المنصور

حدثنا معلم بن فهمان بن جهلان المشرقي عن أبيه عن جده أنه قال:

كان والدي حيّان مزارعاً بسيطاً يعمل في استصلاح الأراضي: يقلع صخورها، يحرق أشواكها، يقلّب تربتها، يشذّب أشجارها ويغرس فيها ما شاء الله له أن يغرس. وكان هو كبير إخوته، وبالرغم من أنهم كانوا دائما ما يتنازعون ويتشاجرون، إلا أنّه كان يحفظ ودّهم ويُديم وصلهم على خيرٍ في طبعه أصيل وكرمٍ فيه وجودٍ وخلقٍ نبيل. وكان في المدينة والٍ طويل اليد ذائع الصيت، وما أعلمه أن الناس على بعد المدة نسوا اسمه ولكنهم قط لم ينسوا فعاله!

وكان أن خرج الوالي يوماً في رحلة صيد إلى أحراج المدينة... وهناك.. ابتعد الوالي عن حرسه بعض الشيء ليقضي حاجته مستمتعاً بهدوء الطبيعة وجمالها مطمئناً إليها أيما اطمئنان.. وعندها حدث ما لم يكن في الحسبان.. سمع الوالي خشخشة فارتاع وظنّ أنّه الثعبان.. ولكن.. ما لبث أن ظهر له سبعٌ كأنه الشيطان، ودنا من الوالي مكشراً عن أنيابه محمحماً مهمهماً ، فتملّك الوالي الرعب ودفعه دفعاً إلى الهروب والفرار مقتحماً الأشواك مصطدماً بالأشجار، ولكنّه فر عاري الجسد، إذ ليس في ذهن "جناب السبع" انتظار "جناب الوالي" ليستر عورته ويواري سوءته.

وأطلق الوالي لساقيه العنان، وتبعه السبع سيّد الحيوان، وبين تعثر الوالي في الأشواك والأغصان، ومكر السبع اللاهث الطمعان، وصل الإثنان إلى حقلٍ يعمل فيه والدي حيّان. هنا استنجد الوالي.. ولكنّ والدي لم ينتظر استنجاده، بل سبق نداءه فأغاثه، وهوى على السبع بفأسه بأصابه وتركه يوّلي يجر أذيال الخيبة والخسران. هنا أحسّ الوالي بالأمان، والسكينة والاطمئنان، وأعرب لأبي "حيّان" عن جزيل الشكر والامتنان وستر ما كان من جسده قد بان وعاد إلى حرسه وموكبه عزيزاً غير مهان.

ولكنه.. وكعادة كل غرور، عاد ورأسه تدور، كأنها فيها تغلي القدور، وأخذ يقلّب الأفكار ويمحص الأمور..: أيعقل أن يمنّ على الوالي فلاحٌ بسيط ؟!! وأن يرى عورته وضعفه وعلماً به يحيط ؟!! إنّ ذا ليسلط عليه كلّ مغرضٍ وسليط.!! فدعا حين وصل القصر سدنته وكهنته، ووزراءه وسحرته، وقال:

إنّي أتاني في المنام هاتفٌ بيّن الكلام أعطاني الرمح والحسام وحذرني من فلان وفلان، ومن فلاحٍ اسمه حيّان، يدّعي أنّه شهمٌ همام وأنّه من أشجع الشجعان.. وإنّه في حقيقته لمحتالٌ خوّان وعميلٌ لعدوّنا الجبان. فانظروا ما العمل فأنتم أصحاب الرأي والشان.

فأسرع الجميع يلهجون بالثناء على صاحب الكشف المؤيد من السماء وأطلقوا ألسنتهم بالمدح والإطراء والنفاق والرياء، وبثّوا ثعابينهم في الناس في دهاء حتى قال بقولهم العوام الأغبياء: أطفالهم، شيوخهم، الرجال والنساء.. فالوالي رفع عن عينيه الغطاء وعلم ما يدور في السر والخفاء وعلى يديه سيظهر الفلاح والنجاء حتى ولو سالت بسببها كالأنهار الدماء.. ولم يعد في القوم عقلاء، حتى أعمامي أقرب الأقرباء، كانوا من الجهلاء، وهاجموا والدي وآذوه أيّما إيذاء.

وقبل أن يساق فجراً في الوثاق مضيّقٌ عليه الخناق إلى قاطع الأعناق والعين في دموعها والقلب في احتراق، صبّرنا ووعظنا وقال: يا أولادي، أحبّوا أعداءكم وتمنّوا لهم الخير.. ولكنّ أعداءه لم يحبّوه ولم يتمنّوا له الخير... حتى كان ما كان وزالت بعد الغمة الهموم والأحزان والحمد لله العزيز الحكيم الكريم المنان.