فنجان القهوة اليتيم

حملت الفنجان بكلتا يديها ، ولم تبالي بسخونته ، لشدة رغبتها بشرب القهوة

في هذه الساعة من الأصيل ، لم يخطر ببالها ولم يحظر لذهنها ما الذي دفعها

لأن تشتري قليلاً منها وهي عائدة من العمل في هذا اليوم ، بالرغم من أنها

ليست من روادها ، فلم تشاطربها أحداً من قبل ،لا في البيت ولا في العمل

ولا بأي مكان خلال عمرها، والتي أنهت منها ستة وثلاثين سنة منذ مايقرب

من شهرمن الآن .

لم تدري أيهما وصل لعمق شغفها أولاَ ، طعمها أم رائحتها ، و اختلطت

الرشفات المتتابعة معها ، وهي تسائل نفسها ، أتغبّها غباً كالماء ، أم

تشربها كما تفعل مع الشاي ..؟ ..ذلك لأنها أحست بصعوبة في بلعها ..!

وما كادت تستقر لجواب حيرتها ..حتى قض سكون وحدتها، رنين جهاز

المبايل أمامها وكأنه يصرخ صراخاً على غير عادته ..! ومن شدة ذهولها

المفاجئ الغريب ، فلت الفنجان من يديها ، وتهاوى على الأرض متحولاً

إلى خليط من الحطام مع سائل القهوة لم تعهده من قبل ..!

-        آلو .. مرحباً ..

-        مرحباً ..السيدة مريام ..؟

-        نعم .. أنا مريام ..

-        مرحباً بك سيدة مريام ..أنا نديم ...كيف حالك

-        بخير ..هل من خدمة ..؟

-        نعم ياأستاذة .. أنا نديم زميلك أيام الجامعة ، زميل الأسئلة الكثيرة

والمجادلات والنقاشات ..ألا تتذكرينني ..هل نسيتي نقاشات نديم

التي لا تنتهي ....؟ !

وقفت مريام جامدة لاتتحرك وهي تشخص بنظرها على تناثرحطام

 الفنجان  بين قدميها  ، والمبايل على أذنها ، فلم تنبس  ولم ترد عليه

والصدمة والإندهاش يتملكانها ، وصوت المتكلم لازال يردد النداء ...

-        آلو ..آلو ...سيدة مريام ..سيدة مريام .. أسف جداً ..لقد أزعجتك

يبدو أنني اتصلت في وقت غير مناسب ..أكرر اعتذاري ..

 تقبلي تحياتي ..سلام ..     

وهنا استجمعت مريام ذاكرتها ، واستدركت آخر الكلمات ، ونادته على

عجل :

-        نديم ..نديم .. انتظر..

 وسكتت برهة ثم تابعت :

-        نعم ..نعم ..تذكرت كل شئ ..أهلاً ومرحباً بك استاذ نديم..

ما أخبارك ..أين غبت كل هذه السنين ، وأين أنت الآن ، ثم كيف حصلت

على رقم مبايلي ؟

-        لن أطيل عليك أستاذة مريام .. القصة باختصار : منذ اسبوع

وأنا أتردد إلى إدارة الجامعة هنا لتقديم طلب التدريس فيها في مقرر القانون

الدولي ، بعد أن حصلت على درجة الدكتوراه فيه من فرنسا مع خبرة عمل

ثلاثة سنوات ، ولكني تفاجأت بالإضراب الشامل للمدرسين والطلبة والمشاكل

المعقدة الملحقة بها ، فعزمت على التراجع والعودة إلى فرنسا ، وأثناء لقائي

بمديرة العلاقات العامة وشؤون  الطلاب الاستاذة كامليا ، ذكرتني بك وعن

تلك الأيام ، وهي التي زودتني مشكورة وبإلحاح مني برقم مبايلك ، وكذلك

على بعض من زملائك الطلاب ، وقد اتصلت بهم أيضاً ، قبل أن أتملك

الشجاعة وأقتحم مبايلك الخاص لأتصل بك الآن ، فأرجو العفو والسماح

منك  ..!

-        لا عليك ..أهلاً وسهلاً بك دكتور ,, مبروك لك الدكتوراه .. لقد

فاجأتني فعلاً وعدت بي لأكثر من عشرة سنوات إلى الوراء قسراً ..!

-        علمت أنك عدت الآن بعزيمة إلى الدراسة كما حدثتني الاستاذة

كامليا وزميليك في المقرر سامي وهشام .. وفي مناسبة هذا الحديث ، فإني

أريد أن أرجع معك أيضاُ قسراًعلى حد قولك ، إلى تلك الأيام ، وكلي أسف

من أن كل ظني كان عندما انقطعت عن الدراسة يومها وطال غيابك ، أنك

 قد تزوجت فلم أجد حيلة  من السؤال عنك أبداً ..!

-        عملت خيراً من أنك لم تسأل ، لقد طويت تلك الأيام إلى غير

رجعة .!

وعادت مريام واستدركت الحديث وتابعت :

وها قد عدت أنت وعادت بك الأيام طوعاً وسألت ، ربما لن تجد ما يختلف

 كثيراً عن تلك ، إن لم يكن أسوأ ..!وإن كان وعلى مايبدو لم تتصل إلاّ وقد

حصلت على معلومات شبه كاملة عني ، فلست أدري لعلّه خير ، وعلى

 كل أعلمني عن موعد عودتك إلى فرنسا لعلي أراك في الجامعة ، سعدت

كثيراً باهتمامك وسؤالك يادكتور نديم ، دكتور المجادلات والنقاشات والأسئلة

التي لا تنتهي ..!

وسؤالي الأهم لك الآن والذي لم نتطرق إليه وإن كان حشرياً: زوجتك فرنسية

أم من البلد ..؟

-        الحقيقة ليست من هنا ولا من هناك .. لازلت أعزباُ فالدراسة لم

تمنحني وقتاً لذلك نهائياً ..!

-        ياللعجب  ..!

-        وما العجب في ذلك ..؟

-        هل كنت تصنع القهوة بنفسك ولنفسك ..؟

ساد بينهما ضحك وتسامر ..ثم سكون لبرهة عادت مريام وسألته :

-        هل لك أيها الدكتور أن تشرح لي باختصاركيف تحضر فنجان من

القهوة لذيذة الطعم ..؟

-        إذا لم تكوني جادة فاعذريني ، لأني على عهد بك لاتشربيها ،  وأما....

وسكت وتوقف ولم يتابع ..!!

تابعته هي سائلة :

-        وإذا كنت جادة في سؤالي ؟

-        عليك أولاً أن تجيبي إذا سمحت على سؤال لي قبل ذلك ، وبكل

طيبة خاطر ، هل ممكن ..؟

-        تفضل

-        هل نستطيع أن نسافر سوية إلى فرنسا ..!!!

وسوم: العدد 833