صندوق أسود

يسري الغول

[email protected]

وصل الازدحام في القاهرة إلى عنق الزجاجة؛ فقرر السائق تغيير مساره نحو الطريق الدائري، إلى أن وصلتُ المطار متأخراً، وقد كانت الموظفة على وشك الانتهاء من مهمتها، فاستوقفتها على عجل، واعتذرت بكلمات سريعة ومبعثرة حتى وافقت على إصدار التذاكر، ثم خرجنا معاً نحو صالة (G8) وصولاً إلى مقعدي الذي فوجئت باحتلاله من عجوزين طاعنين في السن، فلم أعر ساكناً بل تجمدت مبتسماً حتى جاءت الموظفة ذاتها بابتسامة مصطنعة طالبة مني الجلوس بالمقعد المتوفر بجوار قِمرة الطائرة. 

فعلت مرغماً، منتظراً الإقلاع إلى فضاء الغربة. ثم أغمضت عينيّ لأستريح من زحمة الأحداث في مخيلتي، حتى تناهى إلى مسمعي شهقات أنثوية رائقة. نظرت فإذ بها الفتاة التي أصدرت التذاكر وأمرتني بالجلوس بجوارها.

ابتسمتُ فردت بأحسن منها، رغم أنني كنت موقناً بيني وبيني من أنها تحمل في داخلها كرهاً لي، ولحقائبي وجواز سفري ذي اللون الأسود.

أدرت وجهي نحو شباك الطائرة، متأملاً المكان وهو يختفي بين السحب حتى جاءت الإشارة للمضيفات بالعودة مجدداً للعمل؛ فقمن جميعاً عدا فتاتي التي تجلس بقربي، حتى ثارت غريزة الأسئلة في جوفي لكنني أحجمت عن ذلك ثم أخرجت رواية كنت على وشك الانتهاء منها، وشرعت بالقراءة متجاهلاً الضجيج وغمزات المضيفات لزميلتهن المتأففة. وحين انتهيت من القراءة جاءني صوتها مستفهماً:

-       هل أعجبتك الرواية؟

أثارت استغرابي، وعدت أتلعثم مرة أخرى، دون إجابتها بوضوح. فكرَرَتْ سؤالها والابتسامة لا تفارق وجنتيها. قلت:

-       إنني مولع ببهاء طاهر، بكل حكاياته وخيباته.

ضحكت، فصارت كتفاحة شهية:

-       يبدو أنك قرأت له كثيراً من الأعمال.

-       نعم.

أشحت بوجهي نحو شباك الطائرة، مستذكراً رواياته "قالت ضحى" و"شرق النخيل"، وفي داخلي بركان من الأسئلة: هل من الممكن أن ألتقيها مجدداً؟

همهمات جارتي قطعت سكوني، فعدت ببصري نحوها.. قالت:

-       يراودني شعور بأنك كاتب وأديب أيضاً. 

-       ههههه، لديك حدس غريب.

ابتسمت فتابعت:

-       إنكم سرعان ما تتأثرون بعوالم مصطنعة وتغيبون عن الحقيقة.

لم أنبس بكلمة، وبقيت أتأمل شفتيها الزهريتين، حتى أيقظني سؤال مفاجئ:

-       هل لك أن تنصحني بأكثر عمل راق لك؟ أقصد لهذا الكاتب تحديداً.

أغمضت عينيّ، وفي مخيلتي تعتمل الصور والأحداث. ثم أردفت قائلاً:

-       جميعها.

فضحكت بغنج، ثم قالت:

-       يا بكااااش. أريد عملاً واحداً فقط يروق لي.

-       ............ .

-       لست بالقارئة الجيدة، لكنني أحتاج شيئاً مسلياً حين انتهي من ورديتي.

-       لم أعرفك عن كثب حتى أحدد ما يروق لذائقتك يا سيدتي.

تضحك.

-       إذن قل لي عن أجمل قصة قرأتها للأستاذ بهاء.

-       ربما، كانت أجملهن بالنسبة لي، قصة بالأمس حلمت بك.

-       إذن سأحضرها وأقرأها.

ظلتْ تتحدث وأنا سارح في عوالم الأخير، كيف له أن يصنع كل هذا الزخم من الحكايا والأحداث بنكهة مميزة. وكيف حالفني الحظ بأن أتنقل مثله بين ربوع العالم تحاصرني المطارات ودوائر الهجرة حتى اقتحم خيالاتي محمود درويش حين يقول: "أما أنا فأنزلني هنا، فلقد تعبت من السفر".

سألتني جارتي عما يختلج في عقلي وصدري، فأخبرتها بقصيدة درويش ومعاناته في السفر، كأي لاجئ فلسطيني، ثم قلت بحزن:

-       لعل درويش لم يعرف طعم معاناة المسافرين في غزة.

قطبت جبينها كأنها تستفهمني، فتابعت:

-       إننا في غزة لا نملك مطاراً، لذلك نسافر من خلال القاهرة.

-       ...............

-       ولا بوابة للعالم لدينا سوى معبر واحد، يفتح كل شهر مرة أو مرتين، فيتكدس المسافرون على الجانبين بانتظار ولوجه ليواصلوا دورتهم في الحياة.

تساءَلتْ عن الأسباب، فلم استطع الإجابة، وإنما واصلت هذياني:

-       وحين أعود من رحلتي إلى الكنانة، فإنني أضطر كغيري للبقاء محتجزاً بالمطار لحين فتح معبر رفح، ومن ثم العودة إلى غزة.

***

صوت المضيفة قطع حوارنا، راجياً من الجميع البقاء في أماكنهم وربط الأحزمة جيداً حيث أن الطائرة ستواجه بعض المطبات الهوائية. أثناء ذلك، تعثرت يد جارتي أكثر من مرة لتمسك بيدي، فاعتذرتْ بينما ندت عني ابتسامة بلهاء. وحين استوت الطائرة تعلقت عيانا جارتي بمشجب الصمت والحيرة، فقلت لها قاطعاً ذلك الطريق:

-       قرأت لبهاء طاهر ذات مرة قصة لن أنسى أحداثها ما حييت.

تابعت الفتاة حديثي باهتمام، فأسندت رأسها ووجهت عينيها نحوي.

-       ... فاز ذلك الشاب باليانصيب، فقرر أحدهم أن يسرق منه تلك الورقة، ثم صعدا إلى قمة جبل، حيث يقضي ذلك الشخص معظم وقته، وتحدثا عن الحب، فأخذت الحكاية منحى آخر، حين أجاب الشاب: نعم، لقد أحببت. أحببت أختي التي كانت تشتري لي السكاكر، وكلما مررنا بجوار مقبرة القرية، تحملني لاهثة لأن الموتى يستيقظون بعد المغرب، يتزاورون فيما بينهم. هكذا كانت تظن، حتى جاءها الموت دون أن تبلغ العشرة أعوام فيدفنها أبي بمقبرة القرية.

يومها بكيت، وصرت أتعجل غروب الشمس كي أذهب نحو ضريحها، أنتظر خروجها ولا تفعل، فأنادي وأصرخ وأبكي عليها: لقد أخبرْتِني بأنهم يخرجون من أكفانهم فأين أنت الآن يا حبيبتي؟ أجيبي؟

طفرت دموع رفيقتي، حتى جاءتها إحدى المضيفات وفي عينيها دهشة ملونة. طلبت منها دخول القِمرة ففعلت. وقد كن يتهامسن فيما بينهن، فطلبت إحداهن من رفيقتي استبدال المكان، لكن الأخيرة رفضت وقررت العودة لمرتعها. وحين جاءت كانت متوردة الجبين، وشحتني بغمزة ثم هتفت:

-       إيه يا عم، أنت حتقلبها غم ولا إيه.

قررت أن أعتذر لها، لكن لساني كان أسبق من أن يقدم تلك الوجبة المجانية، فهذيت:

-       لعل كل واحد فينا لديه ما يكفي من المآسي، فما أن نفتح الصندوق الأسود داخل قلوبنا حتى نكتشف بأنا مقابر من جحيم.

غنت لي:

-       روح، حبيبي روح، شو بدك فييّ ... شو اللي جابك ع بالي.

قالت:

-       ألديك متسع من الوقت لأفتح لك صندوقي الأسود؟ فلعلك تكتبها يوماً في قاموس حكاياتك.

كنت لحظتها أشعر بأني أعرفها منذ وقت طويل، فلغتها وإيماءات جسدها جعلتني منجذباً إليها بشكل تام.

-       ألديك متسع من الوقت أم...؟

-       ههههه، ما يزال هناك قرابة الساعتين للوصول، كلهم لك سيدتي.

عدلت من جلستها، ثم أعادت خصلات شعرها إلى الوراء قليلاً، وانطلقت تهيم في حكايتها:

-       كان اسمه بهاء، يشبهك إلى حد كبير، لكنه عصبي ومتشنج دائماً، تزوجني بعد رحلة حب في الجامعة، سافرنا إلى كثير من الربوع، وقضينا شهر العسل بباريس والشهر الذي يليه في البندقية والذي يليه في مدريد. ظلت علاقتنا وطيدة ورائعة إلى أن مل الوحدة فذهبنا إلى أحد الأطباء لنعرف أسباب تأخر الحمل، ليكتشف بعد ثلاثة أعوام من زواجنا بأنه لا يمكن له أن ينجب أبداً، وبأن مشروع الأطفال حلم من المستحيل بلوغه. فتركني على قارعة الحياة أندبه.

غارت عيناها في وجهي والدمعة تسقط رغم أنفها:

-       قرر هجري لأنه لا يريدني ضحية لمعاناته، فرفضت. أخبرته أنني سأكون سعيدة معه، ولن أتركه ما حييت كالكلام الذي تسمعه بالأفلام. حتى استمر الحال بنا عشرة أشهر، كان خلالها متمرداً متوتراً مجنوناً، إلى أن فوجئت ذات صباح بورقة الطلاق وتنازل عن الشقة على سُفرة الطعام.

-       ...............

-       أتدري ماذا كنت أفعل؟

-       .................

-       لاحقته في العمل والبارات والمقاهي التي يرتادها دون أن يعود حتى مللت.

استثارتني حكايتها، فسألتها:

-       وهل مللت حقاً؟

-       ربما، لكني ما زلت أحبه، ويكفيني أن أراه كل صباح كي أحيا.

-       إذن لا تتركيه؟

-       كيف وقد تجاهلني وأحرجني في مواقف وأماكن عدة.

-       ألست تريدينه؟ إذن يجب أن تدفعي الثمن، وستنتصرين.

-       .................

-       إنني موقن من أنك ستحصلين عليه، فهو يحبك، هكذا تقول الحكاية، وهكذا تقولين أنت.

-       لكنني أخشى أن يعود لإهانتي مجدداً أمام أصدقائه ويطردني ككل مرة.

-       فقط حاولي، ولن تخسري شيئاً.

-       وكم من المرات يجب أن أحاول. أخبرني يا سيد بهاء.

-       هههههه، أنا ياسر يا عزيزتي.

ثم متابعاً:

-       ما دمت بهاء، فحاولي وسأعود لك. (أغمزها بطرف عيني اليمنى). 

***

الطائرة كانت قد أوشكت على الهبوط قبل أن تصافحني ثم تمضي إلى حكايتها وصوت في قيعان روحي يقهرني بسؤاله:

-       هل من الممكن أن ألتقيها مجدداً؟