وَمْضُ الذكرى

حيدر قفه

جلستُ أستمطر رحمات هذا الشهر الكريم... رمضان... بكل عَبَـقِهِ وزَهْوِ المؤمنين به، وفرحةِ العابدين بلقائه... ظهري يؤلمني مُنذراً بقرب الرحيل، ورجلي تستجيب لضربات وجعه... فتراني أَعْرُج... وهل هذا هو النذير الوحيد؟! ألم تأتِ "بُشرى" حفيدتي؟ ألم يَستَشْرِ الشيبُ في شعري حتى وصل إلى القلب؟! ألم يتنكرْ لي جسدي فأرى أعضاءه تتمرد على رغباتي، فتتركني أتحسَّرُ على ليالٍ كانت مسرى الروح إلى بارئها، تخدمها في ذلك ساقان لا يملاَّن الوقوف بين يدي الرحمن؟!... لو كان البكاء يُعيد شيئاً لجعلتُه دَيْدَني، لكن قدر الله ماض لا محالة...

تذكرتُ في جلستي تلك رسالةً من شقيق الروح... جاءتني في رمضان... مضى عليها أعوام وأعوام... كان"حمد"يومها في قمة تجرده الروحي... يشعر مثلي بتفاهة هذه الدنيا... فَنَظَرَ حوله... فلم يرَ إلاي يبثه أوجاعَهُ وهمومَهُ... وهل هَمٌ أوجع من ضياع العمر في غير طاعة؟! وهل يشبعُ العُبَّادِ من الوقوف في حضرة الوهاب؟!

اغرورقتْ عيناي بالدمع... وأخذتني حالةٌ من الوجد... وشدني حبلُ الذكرياتِ... وتَسَلْسَلَ بي شريطُ التَّداعيات... وبدأت أرجع إلى الوراء... متى عرفتُهُ؟!

خرجتُ من المسجد بعد خُطبةٍ... فقال صديقنا: هذا فلان... وهذا فلان... فَتَمَّ التعارف بيننا... حركةٌ آليةٌ تحدثُ في الحياة آلاف المرات، لكن أَيّها التي تبقى وتموت الأخريات؟! ومنذ ذلك اليوم وهو يقترب مني وأنا أقترب منه... رَغَدُ العيش لا يجعلك تعرف معادن الرجال، فالذهب لا يُمَحِّصُهُ إلا النار!! وجاءتِ النارُ فأحْمَشَتني... لكنها أظهرت لي كيف يكون الصدقُ إذا خالط القلب! وكيف يكون الذهبُ إذا تخلَّص من ترابه!

عندما تساقطت عن عودي أوراقُهُ جميعها... كان عليَّ أن أُعيدَ النَّظَرَ في كثير من المُسَلَّماتِ التي أمضيتُ أربعين سنةً من عمري أُسَلِّمُ بها... وتدور عيناي في محجريهما بحثاً وتَثَـبُّتاً من الحقائق وحدها... فالزَّبَدُ لا بقاء له...

كان إذا شعرَ بضيقٍ مَلَكَ عليه أقطارَ نَفْسِهِ، مرَّ بي... فركبنا سيارته نجوبُ طُرق الدوحة الخارجية... نتحدث... نتحدث... نتحدث... حتى إذا اقتربَ مدفعُ الإفطارِ افترقنا... كلٌ إلى بيته... وكل إلى برنامجه... لكن الروح تبقى معلقة بِصنْوِها...

وتمضي الأيام... ويقع المحذور... والنفوس بما فيها تفور... وتقذف بي الأنواء آلاف الأميال... وإذا به يطرق بابي... لم يكن بيتي قد تَعَرَّفَ على الكهرباء يومئذٍ... فأسْرَجْنَا... وعلى ذُبَـالَةٍ مُرتعشةٍ سهرنا نتبادل الأشواق، ونبث الأحزان للفراق... كانت نفسُهُ تتوق إلى العُلا، ونفسي تخاف عليه من الزَّيف المُجَلَّلِ بالوهم، فأُحذره من الظِّلِّ الذي لا يُعرفُ إلا في وجود الشمس!! فيقول: قدري هكذا... فماذا أفعل؟ فأقول: الجأ إلى مولاك الذي سواك... يحميك من الزَّيْف إن أحاط بك، ويكشف عن بصرك، ويُنَجّيك من الخوف.

هل رباط الروح أقوى من رُبُطِ أَغْرَاضٍ زائلة؟ قالوا: الدنيا مصالح... قلتُ: حاشا الأتقياء... فَوُجهتهم الله وحده... اقرأوا التاريخ إن شئتم... ولا تقولوا تغير الزمان... فلله في الأرض أولياء لا يعلمهم إلا هو... ولن يُخْلي الأرض من مَثَلٍ تتجدد به ثِقةُ المؤمنين في بقاء الخير في أمةٍ قَدَرُها أن تكون الأخيرة.

وتركض بنا الأيام، وأنا لا أرى منه كُلَّ يومٍ إلا خيراً، كان عَفَّ اللسان، نظيف الجَـنَانِ، ثابتَ الأركانِ، ولا تُطَوِّحُهُ كلمةٌ هنا أو هناك، ولا قالَةٌ يُلقيها مُتَـزَلِّفٌ يخدمُ لحْظَـتَه...

هواتفه الشهرية لا تنقطع... تسألني... وتتفقد أحوالي... طائرتهُ إن مرّتْ في سمائي استحتْ أن تَعْبُرَ دون أن تنزلَ به فألقاه ويلقاني... أفرح بأولاده وبناته وهم يلعبون مع السلحفاة تحت شجرة التين... وينشرحُ الصدر إذا جاء بزوجه وأخواته إلى بيت ضئيل دفعتُ فيه عرق السنين...

لم يكن يشتري كتاباً نادر الوجود إلا اشترى مثله لي... ولم أكن أقرأ كتاباً إلا أرشدته إليه... فكان التوافق لا يغادر روحينا... حتى وقعت الواقعة... في أحد أسئلته يسألني عن بعضي... أنكرتُ معرفة أخباره... أَحسَّ بأن هناك شيئاً في حياتي يمُضُّني... يأتي... وتعود بنا السنون إلى الوراء... لأيامٍ خلت كنا نركب السيارة لا ندري كيف تسير بنا... والحديث مُنَاقَلَةٌ بيننا... فنركب سيارتي هذه المرة... ونسير في شوارع عَمّان إلى غير هدف... وسميرنا الليل البهيم... وأضواء تتلألأ هنا أو هناك... يُصِرُّ أن يعرف سبب هذا الحزن الكظيم الذي خيم على حياتي... فتخرج أحزاني من القلب الموجوع تَدُبُّ على مهل... وكان القلب موجوعاً من بعض دمي... يسمع... يستوعب... ثم تنهال عليّ بَلْسَمَاتُ روحه... تخفف عن وقع الفاجعة... قصص... حكايات... مواقف متشابهة... لست وحدك من أَمَضَّهُ سوء تصرف من أحد أولاده!!

الحق أقول لكم: شعرتُ براحة عجيبة تسكن قلبي... تتملكني بعد جولتنا تلك... قد يقول قائل: هذا بَذْلُ كلامٍ يُحسنُه كلُ أحدٍ... والكلام لا يساوي شيئاً... المهم للأفعال لا للكلام... فالكلام بضاعة رخيصة!!

ضحكتُ في سري ضحكة الواثق... تذكرتُ... مواقفَ عمليةً مُكْلِفَةً وقفها معي بالطول والعرض... لم يَمُنْ... لم يشتكِ... لم يترددْ... لم يتأفف... كم دفعتُ به إلى عرين الأسد ليحضر لي منه شيئاً أهمني... أو لينفع به بعض قلبي... قد عجزتُ أنا عن تحقيقه!! لو كان غيره لهاب... لتردد... لنكص على عقبيه... لوضع ألف عذرٍ وعذرٍ مصدات في الطريق يراها مبرراً لتخليه... ولَتَمَلَّصَ ناجياً بنفسه من شَهْقَةِ غريقٍ كُنْـتُه مراتْ ومرات... لكنه لم يفعل... بل فعل الذي يُحمد...

يلبس عباءته... يتسلح بإيمانه... في يُمناه الحق... وفي يُسراه هويته... فتفتح له الأبواب، وتُلَبَّى له الحاجات... فيعودُ لي بَسَّامَ الثغر... متواضع النَّحْرِ... يتلألأ وجهُه بالبِشر... ثم لا يستطيل... ولا يُذَكِّرُ بالجميل... ولا يفرحُ فَرحَ الغرير، لكنه الحامد الشاكر لمولاه... الذي لا يمنع رِفدَهُ عَمّن قصد حِماه...

كان ينسى كُلَّ انتماءِ إلاّ أنه ابن آدم وحواء، وقد ترك خلف ظهره كُلَّ مواضعات أهل الأرض التي يرفعون بها الطينَ ليكونَ غيرَ الطينِ... من مال... أو سلطان... أو أسرة... فأحببتُه!! وازدادت روحانا تماهياً، حتى كان فعلهُ ترجمةً لما يدور في خلدي ولا ينطلق به لساني... يسبق بالفعل كل أملٍ عندي قبل أن يولد، وربما وَلَّدَ هو الأملَ فيَّ، بإلحاحه وإصراره، وتفتيح الأبواب التي كنت أراها موصدةً أمامي...

قلت لأبنائي: خرجت من دنياي التي أوشكت الأيام على تقويض خيامي منها بعشرة أخوة... هم أعمامُكم الذين لم تلدهم أمي... هم كنوزي إذا تفاخر الناس... حَسْبُك من النعيم أن ترفع هاتفَك فتقول: أَخْ... فَيَتَصَدَّع لأخِ رأسكِ عشرةُ رؤوسٍ صادقةٍ في مودتها لك... في توجعها من أجلك... قالوا: يا أبت... من هؤلاء العشرة؟ سَمِّهم لنا... جَلِّهم لنا... قلتُ: شقيق الروح، والرجل الذي تعاهدنا على أن نلتقي في مستقر رحمته فيسأل كُلٌّ منا أخاه... فهو في الوفاء بوعده قد شَمَّرَ ساقيه وذراعيه، وخافض الرأس حياءً أن يُدِلَّ بما أولاه مولاه... و... قالوا: حَسبُك... حسبك... فقد عرفنا سائر الأسماء، فهي هِجِّيرَاك إذَا ناجيتَ ربَّك جائعاً أو طائعاً، وقد نُقِشتْ على أغشية قلوبنا... قلت: وأيناكم منها؟! فلم أرَ منهم إلا غفلةَ الغَرِيرِ، وطيشَ الطَّريرِ، ورأيَ شباب طري الإيهاب!! فتوجع القلب حَزَنا وكمدا...

قال حمد: لا تحزنْ... كما تعود الفرس إلى شَطَنها... ستعود خيولك إلى مضمارها... هي أيام هُوجٌ عُوجٌ، تُريك انكسار العود في الماء لكن إذا اشتدت الظلماء كان الرجال هم الرجال... أقول: نزل كلامه برداً وسلاماً على كبدي... فما أحلى أن ترى امتدادك ينمو أمام عينيك... وأحفادك يدرجون بين يديك... قلت لبعض دمي: إذا أوجعك قلبُك... وضاقت بك الدنيا... وتكالب عليك أشباهُ رجالٍ لا خلاق لهم... فانزع قلبَك من موضعه... وتوكل على الله... وألقِ به في يَمِّ عَمِّك ولا تخلف ولا تحزن... فإن أُغلق بابٌ... فتح الوهابُ ألفَ بابٍ وباب.