تويجات منكسرة

جمال الحنصالي

استفاق على صوت بائع النعناع الذي لا يفارق حماره الأعرج وظل وفيا له، ورغم سنه المتقدمة إلا أن صوته قاوم كل الرعشات والرجفات وكان حادا قويّا؛ " نعناااااااع نعنااااااع "، صوت نجح في اختراق طبلة أذن الشاب عبد الرحيم فلم يجد بدّا من الاستيقاظ وقد طلّق رأسه المتعب من الدوران يسارا ويمينا وسادته اليتيمة على الفراش، ووضع نهاية لأضغاث أحلامه المزعجة.

 نهض وفي خاطره مزيج وصايا وألحان أمه المتضاربة والمتمايلة، هي ذاتها الألحان التي سئمها ونفس الوصايا التي تتكرر على مسامعه في كل جلسة عائلية أو لقاء بالأحباب .. حتى صارت كائنات تسكن دواخله وتزاحمه في جنسيته وهويته ..

 يتطلع إلى المرآة وقطرات الماء البارد تسابق بعضها البعض متساقطة صوب فوهة المغسل، تراوغ تجاعيد فتية ما فتئت تحط رحالها على أديم وجهه، أطال النظر بعض الوقت إلى المرآة حيث تسمّر أمامها وأفكار متمردة، للتو، تجوب زقاق باله المنشغل، تنادي بإيقاف النزيف.

 في عجلة من أمره، أعد عبد الرحيم براد شاي بدون نعناع، وقضم قضمتين سريعتين من فطيرة زائلة من الدهون، واستلّ حقيبة السفر من تحت غطاء فراش نومه الدافئ، نظر إلى ساعته اليدوية وكان على علم أن القطار لن يتأخر عن موعده هذه المرّة.

 لم يستقل الطاكسي الصغيرة فالوقت كان كافيا وطوى المسافة الفاصلة بين شقته والمحطة في لمح البصر.

 وهو جالس ينتظر زفير القطار القادم من هناك، وصلته رسالة قصيرة على الموبايل هزت جيب معطفه الجديد، قرأها، كانت من أمه "الحاجة زينب"؛ تلحّ عليه ألا ينسى مجددا باقة الزنابق التي تحبها خطيبته الخرساء وابنة خالته في نفس الوقت، عض عبد الرحيم طرف سبابته معاتبا ذاكرته التي أرخت حبال التذكر وشاخت قبل الأوان.

 نظر يمنة ويسرة، ومن حسن حظه أن أزهار ريحان كانت بجانب قدمين حيث كان جالسا، أجبر بعضها على ترك تربة الحديقة غصبا وتوديع الزميلات قهرا وهو يعلم أن ذات المصير ستلاقيه الأخريات حتما. خنق سياقان الريحانات الأسيرات في ورقة "كلينكس" وقال مع نفسه: "اللهم العمش ولا العمى"!*

 وصل القطار ولم ينكث وعده للمحطة والمسافرين، صعد الشاب بتوءدة وارتمى بجسده المنهك جراء السهر في المقصورة الأولى. ومع أولى هزات محرك القطار اهتزت أيضا أركان أحاسيسه الكسولة، وأدام النظر إليها بعشق فيه الجنون والانبهار والإعجاب وفيه الذهول. فتاة في عمر الزهور حسّن الله وجهها البهيّ حتى كاد يرسل الأنوار الساطعة، وعلى كتفيها تدلى شعرها المرمار الجميل.. عيونها أمواج بحر هائج تحملك إلى حيث لا تدري، وابتسامتها شيء من أوابد التحف وأيام السلاطين الخوالي.

 لم يتردد عبد الرحيم في إلقاء التحية، اقترب فاقتربت، همس فهمست، ابتسم فابتسمت وبدأ الكلام المعتاد شيء قد يكسر روتين تعاقب الأصوات التي يكررها التحام القطار بالسكة الحديدية.

 "المحطة الثانية كازا فواياجور casa voyageur عشر دقائق" عبارة كانت أشبه بالنهايات الدرامية الكلاسيكية، كانت كافية لوضع حد لأحلام ما انفكت تنبت في مروج هواجس الشاب والفاتنة، ساعة من الزمن أفغت فيها الأزهار الفتية في قلب العاشقين المسافرين.

 نزل عبد الرحيم من القطار جارّا حقيبته الجلدية منكسر الخاطر، كان يود مرافقة الفتاة لكنها تأخرت وهي تحاول تثبيت رجليها الاصطناعيتين، راقبها بقلب محروق من خلال نافذة الإغاثة فتراءى له فصل ربيع كان قادما وفجأة هجم عليه الخريف فكان له صادما!

 سار إلى قدره المحتوم وانهزم وعزف لحن أمه ذاته وامتثل، وصل متأخرا والكل في الانتظار، دنتْ منه "الحاجة زينب" وبصوت ناعم قالتْ:

-          أين الزنابق يا ولدْ؟

 بصمت رهيب أخرجها من جيب معطفه المتواري عن الأنظار، وسألته غاضبة:

-          ليست هذه زنابق، وإن افترضنا أنها زهور خطوبة، فلماذا انكسرت سيقانها؟

 ومز بأنفه وردّ متأففا:

-          لقد جلست عليها يا أمي؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مثل شعبي مغربي