الناجي

انتشر اسمه كالنار في الهشيم بين أفراد جيش المحتل وضباطه كأشرس المقاومين وأذكاهم، فلا أحد من الجند كان يعرف أين ولا متى سينقض عليه الناجي ليتركه جثة هامدة أو أشلاء متناثرة ويغادر بسلام...ظل الناجي لغزا واسما ورقما مخيفا ومحيرا ومطلوبا عند الدوائر الأمنية والعسكرية للمحتل حيا أو ميتا، لذلك طوال الوقت كانت الخطط تجهز في سرية تامة على ضوء المعلومات التي يجمعها المخبرون من أجل رصد مكانه وقتله خاصة بعد أن تأكدوا بأنه لا أهل ولا بيت له فهو مقطوع من شجرة كما قال أحد المخبرين، فيما كان شوق الناجي وانتظاره هو أن يسود الظلام الدامس كل أرجاء القطاع ليتسلل من باطن الأرض كشبح مخيف إلى خيام العدو وحصونه ويجهز على الجميع هناك بلقطة سينمائية لا تتكرر إلا في أفلام الحروب المدمرة...وهكذا تجاوزت شهرته حدود القطاع وفلسطين وامتدت كالهواء إلى أرجاء العالم، وصار كلما شاهد الناس صور قتلى العدو وانفجار دباباته على شاشات القنوات الفضائية إلا وقالوا إنه الناجي، وهناك من كان يقسم بأغلظ الأيمان بأن بصمة العملية وطريقتها وآثارها هي كلها من تنفيذ الناجي.. وكان جل أهل القطاع يعرفون فقط قصته، ويجهلون اسمه الحقيقي وصورته، التي صارت نسيج الخيال وأسطورة من الأساطير التي تثير الغرابة والإعجاب، فقد نسي أهل القطاع ملامحه في زحمة الحياة وكثرة الحروب والأحداث وقسوة الحصار وخيانة الجيران، خاصة بعد أن كبر واشتد عوده وتنقل واستقر في أكثر من بلد عربي من أجل الدراسة أو البحث عن العمل وأسرار أخرى لا يعرفها سواه ارتبطت بنشاطه السياسي المحظور، فغابت بذلك ملامح طفولته ويتمه وجراحه عن الناس تحت وشاح الكوفية الفلسطينية ولباسه العسكري، ولم يعد يظهر منه سوى قامته الممشوقة وبندقيته وهو يواجه العدو وجها لوجه . فلم ينس غسان الناجي لحظة واحدة بأن له حساب قديم عند هذا العدو ولا بد للعدو أن يدفع ثمن هدم بيت أسرته وذكرياته وطفولته فوق رأسه ورؤوس النازحين وأن يكون الثمن غاليا من روحه ودمه، فأصوات الانفجار الممزوجة بالدماء والصراخ والأنين وأنفاس أمه وهي تودع الحياة بجانبه لازال يسمعها لحد الآن ولم تبرد نارها بعد. وكان غسان الناجي الوحيد من تلك المجزرة الرهيبة التي نزلت على المخيم والأحياء المجاورة له في تلك الليلة الممطرة مع آذان الفجر، فقد حمته يد القدر وهو مازال صبيا لم يلج المدرسة بعد، وأخفته عن نيران طائرات المحتل تحت سارية من سواري العمارة المتهدمة، ولم تصل إليه فرق الإنقاذ إلا بعد يومين من البحث والتنقيب، ونقل على وجه السرعة إلى المستشفى وجراحه مازالت طرية تنزف دما، وكان الناجي الوحيد من أهالي المخيم الذي سوي بالتراب وسويت معه كذلك كل الأحياء المجاورة له وصار كل من يرى تلك المشاهد من الأطلال والخراب والدمار يظن بأن التتر مازالوا على قيد الحياة، وبعد شفائه ودفن كل أفراد أسرته وجيرانه وأقرانه في مشهد يصعب على الوصف سلم لمدرسة من مدارس الأونروا لرعايته، وهناك بين النازحين واليتامى ترعرع واشتهر بالناجي بدل غسان الاسم الذي اختاره له خاله تيمنا بالشهيد غسان كنفاني.. ومنذ علم الناجي بقصته ويتمه ورأى جرائم المحتل أمام عينيه، قرر حمل السلاح والإنضمام إلى المقاومة، فأربك بعملياته الفدائية حسابات المحتل وجبروته وأحرجه أمام مستوطنيه وداعميه من الغرب والشرق، فذاع صيته بين المقاومين وأهل القطاع وتجاوز حدود فلسطين وصارت حكايته تروى على كل لسان، فكانت الانفجارات القوية إذا ما حدثت تدون باسمه، وإذا ما وجدت جثت جنود المحتل ملقاة على الطرقات أو بين أشجار الحقول والبساتين قرب السياج الفاصل يقول الأهالي إن الناجي مر من هنا كريح عاتية ولابد للناجي إذا ما مر من مكان ما إلا وأن يترك أثرا يدل على مروره وثورته، وإذا ما سمعت صفارات الإنذار في المستوطنات والمواقع العسكرية للمحتل إلا ويتهامس الجميع حتى الصغار منهم بأن الناجي هناك وسوف يحرق كل شيء ولن يعود إلى القطاع إلا وقد صار الحدث حديث الساعة، فمن أجل تراب فلسطين ولد الناجي وبعث كالفنيق من رماده واحتراقه مرة أخرى ليظل اسمه يطارد العدو في كل مكان ويتردد على كل لسان دون أن تطاله عيون المخبرين وبنادق المحتل وكلابه.

وسوم: العدد 1077