النذير

محمد الخليلي

[email protected]

البرد القارس يجعل الجميع يقرع سناً بسن ، والكل يريد اللواذ بالمدفأة الحمراء المهترئة ...  لاضير في اهترائها مادامت تعطي قليلَ دفء.

بدأ الأطفال يتجاذبون المدفأة والأم تزجرهم قائلة : انتبهوا فهذه مدفأة متحركة وليست ثابتة كالتي كنا نستعملها في بلدنا  قبل نزوحنا إلى هنا ، فحذار من اللعب بالنار ، والمثل القديم يقول :  ( لاتلعب بالنار فقد تحرق أصابيعك ) ألا يكفينا يابنات أننا هُجِّرنا قسراً من بلادنا ؟ وفجأةً وجدنا أنفسنا إذ هربنا من دوي المدافع والدبابات والحوامات الذي لازمنا شهوراً طويلة ليل نهار وجدنا أنفسنا لاشعوريا مقذوفين خارج حدود بلدنا الحبيب مع طوفان الكتل البشرية التي كانت تنزح تحت جنح الظلام هربا من الذبح والاغتصاب ؟!؟

يردف الأب بلهجته الريفية البسيطة : نعم يابُنياتي أتردن أن نحترق بنار المدفأة بعد إذ نجانا الله من نار الحاكم الظالم ؟ اهدأن فالمدفأة كفيلة بأن تشع بالحرارة للجميع ؛ فالغرفة كأنها زنزانة انفرادية في سجن فلسطين بدمشق ، أو قل علبة كبريت فارغة مغشوشة كالتي يتنجها مصنع الكبريت الفاشل في بلدنا . ياالله كم اشتقت لبلدي ونواعيرها .... صدقت ياحبيبي يارسول الله فحب الأوطان من الإيمان ، ولقد التفتَّ بعنقك الشريف مودعاً مكة مهجَّراً منها  ، ولكنك بأمر الله قائلا والله إنك لأحبّ البلاد إلي ولولا أن أهلك أخرجوني ماخرجت . ونحن ياحبيب الله لم نخرج من بلدنا إلا هرباً بديننا مثلك يانبي الله ، آه كم أشتاق إلى جرعة ماء من العاصي ووالله لوددت أني أستحمّ فيه فأغسل ماعلق على جسمي من درن الحياة والهجرة .

وتحطَ عبرتان سخينتان على وجه الشاب الفتيِّ ، فتمسحهما له زوجه بكفها المرهف الغض الأسمر قائلة : يارجَّال وكِّلْ أمرك لله فالفرج قريب ولعل الله يكتب لنا أجر الهجرة كما الرسول وصحبه ، فيتنهد أبو عبدو ويرسل زفرات حرَّى قائلاً : حسبنا الله ونعم الوكيل ، اللهم صبِّرنا وتقبل أعمالنا ولاتحبطها بقنوط أو استعجال، فتقاطعه أم عبدو : أيْوَه هيك بدي ياك ياابن عمي ياتاج راسي ، فأنا لاأريد أن تراك البُنيات ضعيفاً أمامهن ، فنحن الكبارَ علينا أن نصابر ونتجمَل ولا نبدي أثراً من وَجْدنا أمام أولادنا ليعيشوا الحياة الطبيعية وكأنهم في بلدهم ، ومن قال لك إننا سنمكث هنا أبد الدهر ، الفرج آتٍ لامحالة  ، أم تظن أن (شبيحة الأسد) سيخلدون ؛ إذاً كنا سنرى بين أظهرنا فرعون وهامان وقارون ؟!؟

طبع أبو عبدو قبلة ساخنة على يد زوجته مقاطعاً إياها :  لك الله ياحبيبتي والله لولا الله ثم أنت لقضى علي الوجْد حنيناً إلى الديار .

وبينا أبو عبدو وزوجه منشغلان بالغزل الدافىء ودفأ الصوبة الحمراء والتي جعل دفئها وجناتهما حمراً كلونها ولون شعلتها الممزوج لونها بالزرقة ، كانت الصغيرتان تتجاذبان المدفأة في حين كانت عايدة ضيفتهم التي أتت لعزائهما باستشهاد أقار بهما في حماة قد أخذت دور الأبوين في تقريع البنتين كي تنفكا عن فعلتهما المشينة تلك ولكنهما لم تنصاعا ، بل زاد أوار الخلاف بينهن فصرن يتصارعن حول المدفأة والوالدان منهمكان في ذكريات الوطن الجريح وازدادت مشاعرهما لهيباً وما شعرا إلا والنار قد أكلت جزءً من الغرفة الصغيرة بعد أن انكفأت المدفأة فصارت رأسا على عقب وبدأ وقودها يضطرم في الأثاث المهترىء البيسط الذي لايكاد يغطي نصف مساحة الغرفة.

 لم يشعرا ابتداء بأن ثمة حريق قد التهم ثلثي البيت ، فهما واجمان من هول ماحدث ، ودار في خلد الأب ، أهي نار الشوق والحب التي كنا نتحدث عنها لتوِّنا ، أم نار أتون الحرب في سوريا قد امتد أوارها لتحرقنا في منفانا ... ياالله كم من أذرعٍ لشبيحة النظام وكم هي طولى ذراعهم لتمتد إلينا هنا ؟! أم أن هذا مشهد من أهوال القيامة ؟ أيعذبنا الله لأننا خرجنا من وطننا جبناً ؟ كل تلكم الأفكار ازدحمت في فكر الأب المبهوت ولم يفق إلا على صوت الأم تصيح به :  احمل البنات ياعدنان فقد كدن أن يمتن .

كانت الأم قد ألقت بالكبيرة من الشباك خوفا من أن تلتهما النار ثم أتبعتها بأختها ثم قفزت عايدة ضيفهما التي جاءتهم للتعزية فلعلها اليوم تصبح معزَّاة ، ووقف الأبوان على الشباك بعد أن أُوصد الباب تماما من ضغط جحيم النار التي أتت على كل البيت ، وما البيت إلا غرفة ومطيبخ وحمام لايكاد يتسع لشخص بمفرده ، قال لها ارمي نفسك قبلي فروح فداء روحك ، قالت : لا والله إن روحك أعز عندي من روحي وأمسكت به وساعدته على القفز ولكنها شعرت بإعياء وحرارة شديدتين فلم تعد رجلاها تحملانها على القفز ولايداها على التمسك بحلق الشباك المتهالك الآيل للسقوط . صاحت بأعلى صوتها عندما لمست بيديها طرف الشباك المعدني من شدة حرارته فقد ازدادت حروقها حرقا جديداً في كفيها ، وما أن نزعت يديها من على لهيب الشباك حتى وجدت مزعاً من لحمها قد استبقاها الشباك ذكرى شاهدة على هول ماحصل .

تسلق أبو عبدو الشباك ونادى أين أنت ( يادارين ) لمَ لمْ تلقي بنفسك خارج جهنم ، وما أن أطل بعينيه من أسفل الشباك الذي يكاد يهوي لشدة انصهاره حتى رأها تترنح على شرفة الشباك فهي لم تقوى على التدلي خارجه ، فقد أعياها التعب والحر الشديدين بُعيد أن أنقذت الجميع خارج جهنم ، تعلق عدنان بكلتي يديه بالشباك ثم علق نفسه بيد واحدة وأرسل الأخرى إلى داخل اللهيب ليشد حبيبته إلى الخارج . أمسك بيمناها فإذا بلحمها المشوي يلتصق بيده ، أمسك بالأخرى فازداد اللحم لصوقا ؛ لأن اليسرى كانت لاتزال داخل سقر . وأخيرا أفلح بأن يمسك يديه بيديها ويسحب جُلَّ جسمها المترنح الواني ليرتطما بالأرض المبتلة بدموع السماء . أحسا بعد دقائق ببرد المطر يخفف من حمأ حر الحُطمة التي نجيا منها بمعجزة . ثم دخلا بغيبوبة جديدة لم يفيقا منها أيضا إلا على صوت سيارة الإسعاف التي حطمت صمت الليل الرهيب وأضاءت بضوئها الأزرق الدوار الحارة كلها لتختلط بطيف الألوان التي شكلته الجحيم المتسعرة التي أكلت جدران المنزل كما رثَّ أثاثه ، وأي منزل هذا وهو غُريفة ومُنيفعاتها ؟ المهم أنهم نجوا جميعا .

كان يفيق عدنان تارةً ويغيب عن الوعي طورا وكلما صحا سأل الممرض المرافق في السيارة عن زوجه وبنياته ومرة يسأل عن الضيف بنت عم زوجته ومرة ينسى .

حملق عدنان بعينيه على قارمة المشفى الذي وقفت أمامه سيارة الإسعاف ، وفرك عينيه مرتين وأكثر ، ثم أغمي عليه ، ثم أفاق وقد أخرجوه من السيارة على نقالة ، ركَّز بصره على القارمة ونسي حر الحروق وذهل عن زوجه وأولاده ، وعادت إليه فكرة القيامة تراوده ، هل قامت الساعة حقاً ؟ وإلا لماذا عنونوا هذا  المشفى باسم مستشفى النذير ، أنحن هنا محتاجون  إلى نذير يذكرنا بالآخرة ؟ أم إلى بشير يبث فينا الأمل ؟

ذهل أبو عبدو عمن حوله وانشغل بالسرير الحديدي شديد البرودة الذي ألقوه عليه وكأنه شُوال بصل ... ياالله أين حرارة الحريق من هذا البرد القارس ؟ أمشفى هوْ ، أم ثلاجة موتى . ليت شيئا من دفء جهنم التي اكتوى بها قبل أقل من سويعة يخفف من زمهرير السرير .

سمع ملاكا من ملائكة العذاب في المشفى تقول : بنتان نَفَقَتا الآن ؛ بنت جاءت من مدينة  في الشمال ، والبنت التي دخلت لتوها  مع عائلتها المشفى قبل قليل أعني البنتين المحروقتين .

كانت تحتاج مودة البنت الصغيرة الغضة إلى جهاز تنفس وقاية لها مما استنشقته من غازات الكربون المحترق ، ولكن بطىء إجراءات  الدخول جعلت الأكسجين في صدر البنية يتلاشى إلى حد الاختناق ، فلفظت أنفاسها الأخيرة في غرفة الطوارىء ولما تنتهِ إجراءات الدخول لغرفة العناية المركزة بعدُ ولا قبلُ . صعدت روح مودة لتلحق بروح (سوريا) البنت الأخرى التي فارقت مشفى النذير قبلها بدقيقات لذات السبب : حالة اختناق ... إجراءات مشددة لعدم دخول المحروق حتى يدفع ذووه التأمين النقدي الكافي وزيادة ، أضف إلى كل هذه القائمة السوداء ملائكة العذاب ، وما أدراك ماملائكة العذاب في المشفى النذير .

بصوته الواني سأل عدنان زوجه كيف البنات ؟ فلم تجب دارين لأنها كانت في غيبوبة فأجابته عايدة أن البنتين ماتتا ظنا منها أن اللتين ماتتا هما بنتاهما ، فدخل عدنان في غيبوبة جديدة مديدة وما أفاق إلا على وهج الشمس يلسع خديه المحترقين ولكن برودة المشفى السيبيري القارس كان يخفف من حر الحروق والشمس معا ، فضحك في داخله محدثا نفسه : تبريد مجاني وتدفئة مجانية ؛ فقط تكبس الأزرار لتنعم بحر الحروق أو قر السرير المعدني الذي يصدر موسيقات عجيبة كلما تحرك المريض يمنة أو يسرةً ، ثم أردف نفسه محدثا إياها ( شر البلية مايضحك)

ولمَ لاأضحك وقد فقدت ابنتي وربما زوجي ؟ أجيبيني يادارين هل أنت على قيد الحياة ؟ أم قد لحقت بابنتيك ؟ أجابت بصوت متهدج ممزوج بالحسرة واللوعة معا : أنا هنا والتي توفيت هي مودة وبنتٌ مهاجرة أخرى وليس ابنتنا (رحمة) فهي كما قال لي الطبيب الضخم ذاك وأشارت بإصبع وحيد سليم بكلتي يديها إن رحمة  ابنتان أحسن منا حالا جميعاً .

رمق أبو عبدو ذاك الجبل المتحرك بنظرة خبيثة كادت أن تذيب تكتلات الشحم المتراكم على كرشه وأردافه وإلياته . نعم إنهما ليستا مجرد إليتين بل إليات بعضها متراكب فوق بعض وصاح به : يادكتور متى سندخل نذيركم ؟ نظر إليه الطبيب شذراً ، وقال بعد أن تلحق بابنتك . فانهال عليه المحروق بالسباب والشتائم التي لم يتلفظ به من قبل قط . فلم يعره الجبل انتباها فهو إنما ربَّى ذلك الذي ربَّاه من أوزان كالمصارعين اليابانيين إلا بسبب قيلة : طنِّشْ تعشْ تنتعشْ ، بل ضحك الجبل ضحكات هيستيرية كالمخمورين  مردفاً : سيارة الدفن على أتم الاستعداد وهي أسرع خدمة مجانية عندنا هههههههههه

نظر أبو عبدو إلى الساعة فإذا هي التاسعة صباحا فصرخ ياالله : لقد مضى علينا تسع ساعات ونحن نموت في غرفة الطوارىء . ثم عادت إليه حالة القيامة فحلم بأنه واقف على الأعراف لاهو في جنة ولا في نار ، ينتظر جميع الذين يمرون من جانبه وأمامه ووراءه ومن بين يديه ، فيقول متحسراً ياليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيما . استدار بصعوبة بالغة إلى ملاك الرحمة مستجدياً وقد خفَّف من نبرة صوته : أيها الدكتور الجليل انظر إلينا بعين عطفك ، فنحن عائلة كاملة -  أستغفر الله هلك منا واحدة ، فأدخلونا للعلاج ، قبل أن نهلِك نحن طراً . سُمعت قهقهات الطبيب أزيزا كالرصاص المنهمر من فوهة بندقية وهو يربت على كرشه قائلا : ليس قبل أن تدفعوا التأمين ، بعدين لست أنا الذي وضع قانون المشفى وأموره المالية ، إن أنا إلا عبد مأمور ثم أردف يقهقه ويتمتم : لويش زعلانين ، إي والله أنتو بمشفى مافي زيو بسويسرا ثم عاد إلى هستيرياه في الضحك ، فقاطعه أبو عبدو يارب رجعنا لبلادنا ويكفينا ذل ومهانة ، فانتفض الجبل وكأن زلزالا اقتلعه من أوتاده مقاطعاً : اخرس أيها الوغد إن أنتم إلا مصاصوا دماء هنا ، لم تبقوا لنا كسرة خبز أو شربة ماء أو مذقة لبن ، يخرب بيتكن هل أنتم قوم يأجوج ومأجوج ؟ نصف مليون مشرد متسول ونحن نعلفكم ليل نهار ، لقد ارتفعت إيجارات البيوت ، فأنا على سبيل المثال منذ سنة لم أستطع تزويج ابني الوحيد فريد لأنه لايوجد شقق فارغة فكلها استعمرها المهاجرون

 الله لايوفقكم ، حتى المستشفيات مكدسة بجيفكم ، ياسيدي أقول لك شيئا ؟ ارجع إلى جحيم بلدك الذي منه هربت ولتكتوِ بناره ثم عدْ فحدثني هل نار جهنم معجلة أم مؤجلة ، بل هي معجلة لكم  أيها الأوغاد ، ولماذا تطالبون بالحرية ثم تهربون من بطش سيدكم وتلجأون إلينا ؟ ألسنا خير من ركب المطايا   وأندى العالمين بطون راحِ ؟ اسمع أيها المحروق لتعلم أننا رزقناكم بعد فقر وأطعمناكم بعد مسغبة ، وسقيناكم بعد صدى وحملناكم بعد عري وآويناكم بعد تشرد وآمناكم بعد خوف ، ولتعلم أننا فينا معشر (الفلانيين) قد نزلت فينا الآية لإيلاف قريش إيلافهم .

خرسَ أبو عبدو بعد هذا السيل من النعم التي غمره بها  الطبيب الرازق وانتظر دورأهله في الاستشفاء الذي شعر بأن ثوانيه تمرّ عليه سنينا .

وبعد ساعات طوال عراض نُقلت عايدة ودارين إلى غرف العمليات بعد أن كانت هلكت ابنتهم مودة والبنت التي بحذائها (سوريا العمرية) .

كانت حروق أبي عبدو وابنته رحمة متوسطة ؛ لذا تحامل على جراحه وأصبح يمرِّض زوجه وابنة عمها بعد خروجهما من العمليات .

لكن ماكان يقلقه أيضا طفل في الثانية ماتفتأ أمه تذرع الممر جيئة وذهاباً وهي تحاول هدهدته لتخفِّف عنه حرَّ حروق ساقه . ولشدة فضول الرجل حملق في وجه الأم سائلا : ماالخطب ياأختاه ؟

أجابت أم فياض أمّ الطفل الحريق والعبرة تختنق في حنجرتها : أبوه الذي حرقه ......

ولكن كيف ؟؟؟

ولما تبدأ أم فياض بالجواب حتى انهال الطبيب الجبل بسيل الشتائم على أبي عبدو : أيها الحشري ماشأنك والمرأة ، حلْ عنها يارجل ولاّ بدك تتزوجها كمان ههههههه عشان طلبت التفريق ؟هههههههه

رمق أبو عبدو الجبل المتحرك بنظرة شذر ولم يطق جواباً جزعاَ على زوجه وقريبتها من أن ينتقم منهما الطبيب السقيم ، وابتلع ريقه ثم عاد بنظره إلى أم فياض متسائلا : أبوه ؟!؟

قالت : نعم إن أباه مريض نفسي ومرة أفاق فياض منتصف الليل لمرض ألمَّ به فاستشاط أبوه غضبا وألصقه بالمدفأة .

قاطعها أبو عبدو بصوت جنوني : اللعنة ،  المدفأة ثانية

أحرقت كل عائلتي ونصف عائلة  قريبتي  ثم فياض أيضاً ؟!؟  ثم بدأ يهذي ثانية : لعلها القيامة هذه ، إذ ليس بدّ من أن جهنم تفوح بفيحها على المهاجرين السوريين ، ثم أردف من أين هاجرتِ ياأم فياض ؟

قالت  :من حلب .

 ومن أين أنتم أتيتم ؟

 قال  : من حماة ثم ساد وجوم طويل لم يقطعه إلا هدير الطبيب الجبل وهو يصيح بأعلى صوته وبين يديه مريض يتلوى ألماً في ذات المهجع الذي يقبع فيه أكثر من خمسين مريضاً يموت فيه كل يوم مثنى وثلاث ورباع  ، يرى الأحياء السقيمون الآخرين وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة فيموتون قبل الموتة الأخيرة ميتات وموتات : صرخ الجبل الأشم : اخرسا ياأبناء المشردين الشحادين السوريين المهينين فلقد صممتما آذاني بحديثكما المقرف وأقسم لو فاضت روح هذا المريض بين يديَّ كما كل يوم فسأكتب في التقرير أن سبب الموت المتكرر بين يدي الرحيمتين هو ثرثرة السوريين اللاجئين الشحادين المقرفين .

صام أبو عبدو والحلبية عن الكلام خوفا من بذاءة الطبيب الجبل التي تزيد طردا كلما اقترب موعد انتهاء ورديته . ولم يقطع وجومهما إلا دخول زوج ابن عم زوجته وصرخته التي ملأت ردهات المشفى النذير أنت طالق طالق طالق .

ابتدره أبو عبدو قائلا : ماالخطب أيها النسيب ؟

قال : كيف أعيش مع عايدة وهي على تلك الحال ؟

ثم أردف أنت طالق  أيضا من ولديك محمد و حلا وو

ولم يقطع رغاءه إلا جلجلات الطبيب الجبل :  ههههههه أول مرة أسمع رجلا يطلق زوجه من أولاده ، ياللكم من متخلفين أيها الشحادون ؟ ! رجل يحرق ابنه وآخر يطلق أولاده هههههههه

نظرت عايدة إلى كل من حولها من الأحياء المرضى والأموات والذين على الدور سيموتون تفتش عن جواب فقد أعياها اللسان مذ انعقد فحار الجميع جواباً إلا من الطبيب الذي حلَّ وقت رواحه فصار ينعق كالبوم  : مبروك طلاقك من زوجك وأولادك أيتها السورية المقرفة ، حُق لزوجك طلاقك إذ كيف يعيش مع جيفة ؟!

فانبرى له أبو عبدو : ماجيفة إلا أنت أيها القذر .

قال الطبيب ملاكُ العذاب لولا أن موعد دوامي حلَّ  ، وأني في شوق كي أهزأ زوجي وأمي لهزأتك ياابن المشردين ولكن غداً دورك أنت ومن معك من أبناء الشحادين ولا تنسَ أننا ملائكةَ الرحمة لولانا لانقبرتم من قرون ههههععع  ثم أخرج نخامة سوداء بحجم الطير من صدره الذي سوده النكوتين وزرعها في الأرض ثم دعس عليها وجعل يلون بها أرضيه المهجع ، وأخرج لفافة تبغ يدوية وأشعلها وملأ الكون بدخانها القاتم مسترسلا : يحق لي الآن التدخين لأنني خارج الدوام ثم نفث سحابة في وجه أبي عبدو وأكمل شطرها على وجه زوجه ومن تجاورها  ثم انطلق كالفيل الهندي مرسلا نخامة أخرى من الشباك في الطابق الرابع ولعلها أصابت رأس شخص في الطريق أسفل المشفى النذير .

اجتمع كل من في القاووش على عايدة مهنئيين وكذلك لأم فياض مبشرين !! قالتا والدهشة تعروهما : أبشير ذلكم أم نذير؟

قالوا بصوت واحد : إن المعايير قلبت والمفاهيم حورت ؛ فمشفى البشير نذير ، وأصبح طلاق عايدة بشيراً لأنها تخلصت من عدو نفسها ، وطلاق أم فياض الذي ستطلبه سعداً لأنها استغنت عن عدو أولادها .