قصة الساندويتشة

حارثة مجاهد ديرانية

حارثة مجاهد ديرانية

* قيل لي في صغري إن الساندويتشة سميت باسم مبتكرها، ولعلكم عجبتم -كما عجبت- أن يعطى ابتكار يبدو في ظاهره بالغ البساطة كل هذه الأهمية، ولكني أنبهكم أن تعجلوا كما عجلت لئلا نكون من الباخسين، إذ من منا من يعرف ما حدث حقاً حتى وصل هذا الابتكار العظيم إلينا؟ ها هي ذي القصة لمن أحب أن يعرف منكم.

*   *   *

خرج العمدة من بيته مسرعاً مهرولاً وهو يرتدي معطفه قاصداً سيارته، ولحقت به زوجته تصيح به من ورائه: "لكن، جون، ما زال نصف الطعام في طبقك!"، رد عليها العمدة جون وهو يتابع هرولته: "فيما بعد عزيزتي، لقد داهمني الوقت وأكاد أتأخر عن موعدي"، ومر في طريقه بجاره ألفريد وهو يمشي مسرعاً وقد ارتدى بذلته، فعرف من ثيابه أنه خارج هذا المساء ليصرف وقت فراغه الثمين في نشاطه المفضل: حضور مسرحية غنائية! حيا العمدة جاره مجاملاً وهو يمر به: "هل أكلت جيداً يا ألفريد؟".

"ثلثي الطبق، ومع ذلك ستضيع علي أول دقيقتين من المسرحية!".

"ثلثي الطبق؟ حسناً هذا جيد في هذه الأيام، مع التضخم!"، وركب كلا الرجلين سيارته ومضى كل منهما في طريقه.

لو أنك قدر لك أن تنال قسطك اليومي من الطعام هذه الأيام، لعدك الناس من المحظوظين الكبار، وبات اطمئنان الرجل على صاحبه أن وقته كفاه كي يأكل طعامه وشرابه خير أساليب المجاملات الاجتماعية للبلاد، ذلك ما استحالت إليه تحية الناس في ضاحية وينشستر الصغيرة مؤخراً على الرغم من صمودها -أمام التغير- زمناً بعد سقوط لندن وغيرها من المدن الكبار. من يتصور أن هذه الضاحية التي لا يتوقف الناس فيها عن التراكض وكأنهم في خلية نحل كانت بلدة نائمة قبل خمس سنوات وحسب! فما هي إلا أن دخلتها يد الثورة الصناعية حتى استحالت الضاحية الهادئة إلى مرجل عملاق يغلي بالحياة والإنجاز والمشاغل، وكلما دخلت الثورة الصناعية أرضاً دخلتها بصفقة: الحياة الرغيدة مقابل الوقت، ولم تزل أوقات الناس مذ ذلك الحين تضيق بهم حتى اضطروا أن يقتطعوا من أوقات طعامهم وشرابهم ليعطوا العمل حقه الجديد.

لا بد أن أبناء الجيل الصاعد سيصعب عليهم أن يصدقوا أن أجدادهم عاشوا في عالم كانوا يجدون فيه من الوقت ما يكفي لتناول وجبة كاملة دون أي خوف من ضيق الوقت. بذلك كان العمدة جون يفكر وهو في طريقه إلى اجتماع وجهاء المدينة الذي نظمه من أجل علاج هذه المسألة تحديداً. وقبل أن يبلغ العمدة مركز الاجتماع توقف بسيارته فأقل معه رجلاً نحيلاً يضع نظارة.

عندما دخل العمدة وزميله قاعة الاجتماع كان الحضور الذين سبقوه متحلقين حول الطاولة، نظر أحدهم إلى ساعته ثم قال بعدما تنحنح قليلاً: "الثامنة إلا دقيقة واحدة، كالعادة في الموعد تماماً!".

قال العمدة رداً على الإطناب: "طبعاً، على المرء أن يحترم أوقات الناس المشغولين"، ثم قال: "والآن إلى الخطاب كيلا نأخذ المزيد من أوقاتكم الثمينة"، وبحركة درامية، أخرج العمدة لفيفة من جيبه فانفردت حتى كادت تلامس الأرض! كانت نظرات الفزع التي لاحت على وجوه حضور العمدة هي بالضبط ما أراده من حركته المسرحية، وبعد أن متع العمدة نفسه بهذا المنظر ثانيتين أو ثلاثاً وهو يخفي ابتسامته وراء لفيفته الطويلة استرجع مظاهر الوقار وقال: "ما لي أراكم فزعين يا جماعة؟ حسناً، إن هذه كانت مسودة خطابي الأولى، غير أني نظرت فأدركت أن الوقت لن يكفينا لأسمعكم كل هذا الكلام، ففكرت في اختصار الكلام إلى النصف"، وشق العمدة نصف لفيفته ورماها على الأرض، وبقيت وجوه حضوره فزعة كما كانت، وبقي زميل العمدة صامتاً وعلى وجهه ابتسامة هادئة، قال العمدة متابعاً كلامه: "ولكني رأيت أن الوقت لن يكفيني هكذا أيضاً، فقلت أكتفي بربع نصف الخطاب"، وشق العمدة ثلاثة أرباع النصف الذي كان في يده ورمى به على الأرض. "وبعد عدة محاولات يائسة على المنوال نفسه،" كذا قال العمدة قبل أن يمزق ورقة الخطاب إلا بقية صغيرة بالكاد تكفي فقرة واحدة. "لم أجد في النهاية بداً من الاستسلام إلى هذه القصيصة الصغيرة كي يكفينا ما بين أيدينا من وقت".

ومرت لحظة صمت قصيرة قال العمدة بعدها في انفعال: "الوقت، الوقت، دائماً الوقت! دعوني أسألكم سؤالاً بسيطاً، سيد مايكل، متى كانت آخر مرة تمكنت فيها من إنهاء صحنك كاملاً قبل ذهابك إلى عملك في الصباح؟".

أطرق السيد مايكل لحظة وقال: "دعني أر، حسناً أظن أني تمكنت من إنهاء طبقي مرة أو اثنتين السنة الماضية، ولكن ليس أي مرة خلال هذه السنة".

"أترون؟ هذه هي المسألة، الوقت دائماً غير كاف!" بذلك أكمل العمدة كلامه. "انظروا إلي مثلاً، لقد أتيتكم هذا الصباح إلى الاجتماع ونصف طعامي لا يزال في الطبق، ولو أن مثل هذا الاجتماع كان قبل ست سنوات وحسب لأتيتكم وأنا أمشي إليه الهوينى في استرخاء، لقد عايشنا -أيها السادة- الانتقال بين عصرين اثنين، إذ كنا نعيش في سعة من الوقت وراحة البال، فلما جاءت الثورة الصناعية إذا بالدنيا غير الدنيا، وإذا بنا نقضي أوقات نهارنا كله في الركض من مكان إلى آخر، ثم لا تجدوننا نفلح في قضاء مشاغلنا بعد ذلك كله..".

وهنا انفعل أحد الحضور وصاح مقاطعاً العمدة: "ما تقوله هو عين الصواب يا سيد جون، دائماً ما كنت أقول للجميع من حولي إن هذه الثورة الصناعية شر ينبغي علينا أن نخلص بلادنا منه!".

وبدأت البلبلة، وانقسم الحضور إلى فريقين بين مؤيد ومعارض. صاح العمدة منهياً النقاش: "الهدوء يا جماعة!"، وبعدما صمت الجمع تنحنح العمدة وتابع يقول: "ليس التخلص من الثورة الصناعية ما قصدت، إن سيطرة الثورة الصناعية على ثقافتنا الحديثة قد صارت أمراً واقعاً من مصلحتنا تقبله ولا فائدة من معاندة القدر وإعادة عقارب الزمن إلى الوراء، وإني أقترح -بدلاً من ذلك- أن نستخرج الحل من الواقع الجديد نفسه، من الثورة الصناعية التي ستكون سلاحنا الذي سيعيننا على معالجة مشكلتنا بتطويعها واختراع ما يحمل عنا شيئاً من أعبائنا فيجعلنا في بحبوحة من الفراغ، ومن أجل تحقيق هذه الغاية -وهنا نظر العمدة إلى زميله ذي النظارة الذي دخل معه أول الاجتماع- جئتكم اليوم بضيفنا العالم الكفء دونالد ساندويتش، أحد خيرة رجالات المملكة المتحدة في الاختراعات الحديثة، وقد وصلنا بالفعل إلى إبرام اتفاق يقوم ساندويتش بموجبه بالاعتكاف في مخبره ست سنوات كاملات على نفقة الحكومة البريطانية، يخرج بعدها للناس باختراعاته التي ستعيد إلى مواطني بلادنا ما فقدوه منذ سنين عديدة: الوقت".

وبنهاية هذه الكلمة الدرامية كانت الأعين موجهة إلى ساندويتش، وعلى الرغم من بعض المتشككين في المجلس فإن الفكرة راقت تماماً لمعظم الحضور.

في تلك الأثناء كان ألفريد جالساً على أحد مقاعد المسرح يستمع إلى الممثل وهو يقول: "أنا أفكر، إذن أنا موجود".

وبينما كان العمدة وجاره يستعدان للنوم مع حلول المساء، كان ساندويتش سهراناً في مختبره وهو يتأهب لست سنوات من الاعتكاف في عزلة كاملة عن العالم.

*   *   *

"هذا لا يصدق، لقد أنهيته كله للمرة السابعة على التوالي خلال أسبوع!"، ورد العمدة ببسمة ودية على هذه التهنئة من زوجته، ألم يكن الأمر يستحق التهنئة بالفعل؟ لقد مضى من قبل ذلك أكثر من عام كامل دون أن يتمكن العمدة ولا غيره من كادحي بلدة وينشستر الصغيرة -بل قل ولا حتى في إنكلترة بأسرها- من إنهاء طبقه حتى مرة واحدة، ثم ها هو الآن يأكل وجبته كاملة غير منقوصة للمرة السابعة خلال أسبوع. وكل الفضل في ذلك يعود إلى الابتكار البديع للشعيرية سريعة التحضير، وكان فخر الشركة المنتجة أن عشرين فثمانين خير من ثمانين فعشرين، ترمي بذلك إلى أن النسب المئوية بين تحضير الطعام ووقت أكله قد انعكست، إذ بينما كان الناس يقضون قرابة أربعين دقيقة في طهي طعامهم ثم عشراً لالتهامه، صاروا اليوم يحضرون الشعيرية في أقل من ثلاث دقائق ثم يأكلونها في أقل من عشر!

قال العمدة بعدما مسح فمه وشاربه بمنديله: "كل هذا حسن جميل، وأما الجانب السيء من الموضوع فهو أني لا أدري كيف سأواجه صاحبنا ساندويتش بعدما ضيع سنتين من عمره من أجل أن ينقذ العالم من ضيق الوقت"، ونظر العمدة إلى التقويم، وكان يشير إلى اليوم العاشر من أيار، 1904، ثم حمل معطفه وهو يقول: "ولكن علام الخوف الآن؟ لدي الكثير من الوقت لأفكر خلاله كيف سأحل هذه المشكلة". وصفق الباب خلفه وذهب يمشي إلى اجتماعه وهو يمتع عينيه بالمنظر الجميل لحدائق منازل وينشستر المنسقة البديعة بعدما مضت أعوام وهو لا يكاد يلاحظها من ضيق الوقت.

ولم يلتق هذه المرة بجاره ألفريد وهو يهرع إلى مسرحيته متأخراً، ذلك أن ألفريد كان أنهى طعامه من الشعيرية السريعة في الوقت المناسب وانطلق باكراً إلى مسرحيته، وهو الآن جالس على أحد المقاعد يشاهدها من بدايتها لأول مرة منذ عدة سنوات. قال الممثل وهو واقف على خشبة المسرح: "أنا أعمل، إذن أنا موجود"، ثم تجمد لوهلة وقد لاحظ نفسه، لا، لم تكن هذه هي الجملة الصحيحة، لا بد أنها كانت جملة أخرى غيرها، وحرك عينيه إلى جمهوره يستنجد به وهو محافظ على وضعية جسمه، فلما رآهم كما هم مصغين مطمئنين قرر أنه مخطئ في مخاوفه بكل تأكيد، وعاد يكمل مسرحيته.

أطفأ ساندويتش آلة اللحام ورفع غطاء خوذته وأخذ ينظر إلى مخترعاته وهو غارق في أفكاره، ها قد عاد ألم الجوع ليقطع عليه عمله مرة أخرى! لقد أنجز شيئاً معقولاً حتى الآن، ولكن لولا حاجته للأكل لكانت إنجازاته تضاعفت خلال هاتين السنتين! كان ساندويتش حاقداً على وجباته بحق، ولكن ما نفع هذا الحقد وهو مجبر على إطعام نفسه في أي حال؟ وقام إلى طاولة طعامه -وهو يفكر في ألم كم من مرة سرقت الوجبات من وقته الثمين وهو يعالج ألم جوعه- وتناول رغيفاً من الخبز المحمص (التوست). كان من عادة ساندويتش -كما هي عادة بقية المواطنين الإنكليز- أن يدهن على رغيف الخبز المحمص طبقة من الزبد ثم أخرى من المربى (المعقود) ويأكلها بالشوكة والسكين كيلا يلوث أصابع يديه بالدبق، ولكن بلغ من استغراقه في أفكاره هذه المرة أنه انتبه فإذا به قد دهن الزبد على رغيف والمربى على رغيف آخر! وانتاب الغضب سانوديتش، ها قد ضاع المزيد من وقته الثمين! وبينا هو كذلك يفكر ما يصنع، إذا بفكرة شيطانية تخطر بباله! ماذا لو أنه أمسك بقطعة الرغيف التي غطاها المربى وأطبقها على صاحبتها التي دهنت بالزبد، بحيث يلتقي المربى بالزبد من جهة الداخل ويظل السطحان الظاهران نظيفين ناشفين؟ وما كاد يصنع ذلك حتى انطلق مسروراً عائداً إلى عمله وطعامه في جانبه على طبق، وطفق ساندويتش يعمل على اختراعه فيتناول من طعامه لقمة فيعود إلى عمله، وهكذا دواليك..

*   *   *

خرج العمدة من بيته مهرولاً مسرعاً وزوجته تلحق به وهي تذكره بأن نصف طعامه لا يزال في طبقه ولكن دون جدوى، وحيا في طريقه جاره ألفريد الذي كان ينطلق متأخراً إلى مسرحيته الغنائية بعدما اضطر إلى التضحية بقسم من عشائه هو الآخر، ها قد دارت الدورة مرة أخرى ووجد الناس أنفسهم حيث كانوا قبل أربع سنوات. حتى الشعيرية السريعة التي فتن بها الناس قبل سنتين فقدت مفعولها اليوم، فقد تضاعفت مشاغل الناس حتى بات جعل ثلاث عشرة دقيقة في اليوم لطعام الناس وشرابهم مشروعاً منهكاً بحد ذاته، وذلك على الرغم من ظهور بعض الاختراعات الحديثة التي حملت عن الناس شيئاً من أعباء يومهم، لقد بلغ الوضع حداً لا يطاق بالفعل!

وبعد المشهد السابق بثلاثين دقيقة كان ألفريد جالساً في قاعة المسرحية والممثل يصيح: "أنا جائع، إذن أنا موجود!"، وشك الممثل في نفسه للحظة، وطاف بعينيه على جمهوره بحثاً عن أدنى إشارة استنكار، فلما وجد أنهم لم ينكروا عليه ما قال اطمأن قلبه وذهب يكمل أداءه المسرحي. وفي ذات الوقت كان العمدة جون يكافح في قاعة اجتماعاته كي ينتهي من اجتماعه بما أراد من نتائج في الوقت المحدد.

وبينما كل هذا الكلام يدور على سطح الأرض، كان ساندويتش يحيا حياة مختلفة في مخبره تحت الأرض، يعمل دون جوع أو انقطاع وقد وضعت في جانبه قطعتان من الخبز مطبقتان إحداهما على الأخرى وبينهما حشو من المربى والزبد.

*   *   *

رفع العمدة رأسه وأخذ يراقب المفرقعات النارية وهي ترتفع في السماء ثم تنفجر ناثرة أجمل الألوان فوق ضاحية وينشستر، كان العمدة يراقب المفرقعات من شباك سيارته، وقال رجل من وجهاء المدينة كان يقله معه: "ها قد أتى اليوم المشهود، اليوم سترفع رأسك بإنجاز صاحبك"، ورد العمدة: "آه نعم، صحيح"، وفكر مع نفسه أن العبء الملقى على كاهل ساندويتش كبير جداً، فقد تقدمت الدنيا كثيراً خلال الست سنوات الأخيرة.

كانت السيارة تنطلق إلى أكبر مسارح المدينة حيث كانت تؤدى المسرحيات الغنائية التي يحبها ألفريد. لما بلغ العمدة ورفيقه المسرح وجداه غاصاً بالناس كما لم يغص من قبل قط، وشق الاثنان طريقهما بين الحشود حتى بلغا الغرفة الخلفية لخشبة المسرح حيث قابل العمدة صديقه العالم كي يتهيآ للعرض المنتظر.

أخيراً تمكن ألفريد من بلوغ مقعده بعد كفاح مرير، ورد على سؤال زميله في المقعد المجاور بأنه اضطر إلى ترك نصف طعامه في الطبق كي يصل العرض في موعده. وقد صنع، ولم تمض غير لحظات حتى أشعلت الكشافات وظهر العمدة وهو يحيي أهالي ضاحية وينشستر وضيوفها من المحافظات المجاورة، وبعد خطاب قصير عن كفاح الإنكليز مع ضيق الوقت وقدوم ساندويتش اليوم ليحل المشكلة تنحى العمدة عن خشبة المسرح تهيؤاً لظهور العالِم المنتظر مع اختراعاته.

وانكشف الستار عن العالم دونالد ساندويتش وقد وقف وسط قرابة عشرين جسماً غطيت بغلالات تحجب ما تحتها عن أعين الناس، تبسم ساندويتش وقال وهو يضع يده على أول اختراعاته: "حسناً أيها الناس الطيبون، أعلم أنكم لا تملكون الكثير من الوقت لكي تسمعوا خطباً مطولة لذا دعونا نبدأ العرض فوراً، اسمحوا لي أن أقدم لكم.."، وسحب الغلالة سريعاً فانكشف جهاز كأنه صندوق مكعب له من الأمام في وسطه كوة مدورة، صاح ساندويتش: ".. غسالة الملابس!"، ووجم الجمهور في الحال من المفاجأة وهم يطلقون "أوه" ضعيفة، كان من الواضح أن ساندويتش قد فسر ردة فعل الجمهور -خطأً- على أنها دهشة من اختراعه المبتكر، وارتبك العمدة ومال على أذن ساندويتش وهو يقول: "حسناً يا ساندويتش يبدو أنه اختراع عظيم بالفعل ولكن.. حسناً كيف أقولها لك، لقد.. لقد اخترع أحدهم في غيابك شيئاً شبيهاً بهذا الاختراع إلى حد ما بالفعل".

قال ساندويتش: "اختراعاً شبيهاً إلى حد ما!"، كان المسكين مصعوقاً، "شبيهاً إلى أي حد؟". ورد عليه العمدة في أسف أن التشابه يكاد يكون تاماً.

"هيا يا ساندويتش،" بهذا راح العمدة يحاول تطييب خاطر صاحبه، "هذا هو الاختراع الأول فحسب، لعل الاختراع التالي أن يكون شيئاً جديداً من نوعه".

لم يبد على ساندويتش أنه اقتنع تماماً، ولكنه مشى رغم ذلك إلى الاختراع التالي ووضع يده عليه وهو يقول بحماسة أقل مما سبق: "الاختراع التالي، بدلاً من المكواة العادية المستهلكة للوقت صممت من أجلكم.."، ورفع الغطاء: "مكبس كي الملابس البخاري!"، وانكشف الغطاء عن مكبس كبير للملابس توضع فيه قطعة الملابس وتمد جيداً ثم ينزل المكبس عليها مرة واحدة وينتهي الأمر، كان اختراعاً رائعاً دون شك، ولكن كانت توجد مشكلة أخرى غير هذه، ومن أجل هذه المشكلة كان العمدة غارقاً في حرجه وهو يقول لساندويتش: "شكراً جزيلاً لك سيد ساندويتش، أحسب أن من الأفضل أن نلقي نظرة على الاختراع التالي". وفهم ساندويتش ما أوحت به جملة العمدة وقام وهو في قمة الامتعاض إلى الاختراع التالي.

وعلى هذا المنوال جرت الأمور، وبعد كشف تسع أو عشر اختراعات أخرى من اختراعات دونالاد ساندويتش، أيقن الجميع أن الأمر ميؤوس منه، وأن كل اختراع صممه ساندويتش كان قد اخترع مثيل مطابق له خلال السنوات الست التي قضاها في مختبره، وخلال هذا الجو المشبع بالإحباط تمتم ساندويتش بأن الأمر منته فيما يظهر، وقرر أن يلهي نفسه بالعبث بأحد اختراعاته، ففتح صندوقه وتناول طعامه بإحدى يديه ومفتاحه الإنكليزي بالأخرى، فما كاد يفعل ذلك ويقضم قضمة من طعامه الجديد حتى فغر جمهور القاعة أفواههم وهم يطلقون "أوه" جديدة كانت أكثر حماسة من كل ما سبقها، وشده العمدة وسأل في ذهول: "ما هذا!".

رد سانوديتش باستهتار: "ليس شيئاً ذا بال، مجرد جهاز كاشف يستعمل الموجات فوق الصوتية لرصد آليات العدو عن بعد".

قال العمدة: "آه لم أكن أتحدث عن الرادار، ولكن عن هذا!"، وأشار إلى ما يمسكه في يده من طعام.

كان الجمهور يراقب في اهتمام شديد وأعينه مسمرة معظم الوقت على طعام ساندويتش، وتقدم العمدة من ساندويتش وأخذ طعامه فرفعه وهو يقول بطريقة درامية: "هذا هو اختراعك العظيم يا صديق عمري، هذا هو ما قدمته للبشرية!".

"هل تقصد أني ضيعت ست سنوات من عمري من أجل اختراع صنف من أصناف الطعام؟"، كان ساندويتش مقهوراً ويشعر بأنه ضحية نكتة سخيفة.

"أنت لا تفهم، ست سنوات من عمرك، ستوفر آلاف السنين من أعمار الناس حول الكوكب!".

وضجت القاعة بأعظم تحية في تاريخها للعالِم العظيم دونالاد ساندويتش الذي وقف وهو ينظر إلى جمهورها مشدوهاً كالأبله. وأما باقي القصة فأظنكم تعرفونه، إذ لم تمض سوى أشهر قليلة حتى كان ابتكار ساندويتش العظيم قد اكتسح إنكلترة كلها (ممهداً بذلك لاكتساح العالم بأسره)، واختر من تلك الحقبة أي طرقات إنكلترة شئت فامش بها ساعة الغداء تر العمال والموظفين وهم يخرجون ساندويتشاتهم من صناديقها ثم يأكلونها بينما هم يتابعون أعمالهم دون انقطاع، فإذا عادوا إلى منازلهم كانوا في سعة من الوقت يقضونه مع من يحبون، وهكذا كان ابتكار ساندويتش (البسيط في ظاهره) لحظة فاصلة في تاريخ تقدم البشرية. ولقد كوفئ الرجل على ذلك خير مكافأة، إذ من منا يذكر اليوم من هو مخترع السيارة، أو من كان أول من صنع تلفازاً؟ وأما الساندويتشة فأمرها مختلف، ذلك أنها تذكرنا دائماً وفي كل مرة نأكلها بها بالرجل العظيم الذي أهداها إلينا أول مرة.