ليلة في كنبل...

ليلة في كنبل...

أحمد الشحرور

إنها العاشرة ليلا ... أو هكذا تشير الساعة القديمة التي يتعلقها عمي في ساعده الأيسر ... الجو مظلم جدا .. بالكاد تستطيع أن ترى أصابع يدك تقودنا الخبرة بالأرض والمعرفة التامة بالوهاد والتلاع والأودية ... انطلقنا ثلاثتنا أنا والعم والكلب مارس .. أبدو حائرا ومرتكبا أتوقع كل شيء غيث عابر ..أو سبع كاسر وأسوأها أن لانجد بغيتنا وهي التيس والخروفان... أسير في الخلف لأتيح لنفسي حرية التفكر أو على الأقل التنبؤء بالمستقبل الغامض وعلى مقربة مني يسير "مارس " يداعبني كعادته لكن مداعبته هذه المرة كانت من العيار الثقيل ... لا أستطيع أن أتحملها ...أخذت أزجره .. فلا ينزجر لكنه ظل يقوم بحركاته البهلوانية المزعجة فأفسد علي خلوتي .. فخليته والتحقت بعمي ... عبرنا محيط "القيعة".. كان الجو خريفبا بامتياز ..لكنه هادئ... لا تسمع صوتا ولا تبصر نارا ...الدنيا من حولنا تغط في النوم كما بيدو.. كنا نسير بسرعة شديدة ... حتى خيل إلي حينها أن "التارحييت" تسير معنا ..تماما كما يخيل لراكب السيارة ... أحسست بنوع من التعب والإعياء لكن قرب "لملازم " خفف عني بعضا من ذالك .. وبينما الأحاسيس والخيالات تنازعني .. إذ بعواء مرعب ينبعث من الجبل ... أخذ الكلب ينبح فاختلط الصوتان فلم أميز شيئا نظرت خلفي رأيت البرق يلمع لمعانا شديدا يضيء في الأفق ففهمت سر إسراع عمي وفجأة تركنا الكلب وذهب يطارد عواء الذئاب... حينها أحسست بالوحشة و بدأت اقدر قيمة مارس .. كرفيق يعتمد عليه في هذا الجانب .. أتسائل في نفسي _ ونحن نسير بسرعة شديدة _ ترى لو وجدنا عدوا آخر .. من سيطارده ؟ أنا الخائف ..أم عمي الصموت شيء يحتاج إلى التفكير ... وقد يبدو ساذجا لحد الضحك ... لكنه مهم عندي أو عندنا ...

انقطع صوت مارس ولم ينقطع الصوت الآخر .. ظللنا نمشي ..ونمشي .. فقطعنا المرحلة الهامة من الطريق ...أسير مع العم لا أترك يمنته ولا يسرته .. لا أتخلف عنه ولا ابحث هذه المرة عن الخلوة ولا أريد أن فكر في أي شيء أجنبي عما نحن بصدده.. ثقلت عليَّ نعالي ويبس ريقي ... كنت أحمل "البيدون " الصغير في يدي أمسك بعلائقه... لكن الشراب يتطلب وقوفا ولا أحب ان أقف .. تركت هذه الفكرة الجنونية متصبرا على مرارة العطش أنتظر وقفة قد تكون وقد لا تكون .. مجرد حلم أو خيال .... سمعت رفس اقدام خلفنا ولاهث يلهث بشدة .. وقف شعري .. وأخذتني رعدة شديدة وكدت أطير خوفا .. ولكن عمي لم يخفف سيره ولم يلتفت وراءه وكأن شيئا لم يحدث .. قلت لعله تمرس هذا فصار كالعادة بالنسبة له، ... وفجأة عرفنا القادم .. ولم يكن كأي قادم ..إنه صديقنا .. المشاكس "مارس" أخذ يطوف بنا كأنه يتفقدنا يحرك ذيله اللطيف ..حينها فقط التفت عمِّي .. أوقد شمعته سلطها على "مارس" ...ياللهول ..المسكين ملطخ بالدماء من إخمصه إلى أصغر أظفاره ..أخذ العم يتفحصه.. وقرر أن نعود أدراجنا ,, سألته -ولم أكن سؤولا -إلى أين ؟. قال: نتبع أثر "مارس " لعله أحاط بما لم نحط به .. ، رجعنا نأثر تلك الطريق .. كان الشوط بعيدا وكان مارس في غاية الفرح والسعادة والنشاط يسابقنا حتى إنه ليخلط علينا أثره القديم بالجديد ... وفجأة وقف مزمجرا ..كأنه أسد .. أرسلنا الضوء تجاهه كان الأمر مرعبا ومهولا حدث ما لم نتوقعْهُ .. كان الأسف يطوقنا والحيرة تأسرنا التيس والخروفان في أسوء منظر .. حالة يرثى لها بين مخنوق مشقوق البطن متطاير المصار والأحشية ... ومن لا تعرف معالمه لولا الرأس والقرنان ... وقفنا وما في الحزن شك لواقف وقفنا نتأمل أشلاء القتلى متطايرة في كل مكان كأنها أشلاء المشركين يوم بدر .. تألم عمي كثيرا وحق له أن يتألم فتألمت لألمه وحزنت لحزنه برورا له وأشفاقا عليه ! !! ثم عدنا نندب حظنا العاثر ...