احتضارٌ أمامَ قُضبان الحَديد

د.سمر مطير البستنجي

احتضارٌ أمامَ قُضبان الحَديد

د.سمر مطير البستنجي

"أمّ تتمزّق…وسجينٌ يَستَصرِخ"....!!!

قلبٌ يسير على الأرض لا قدمان..وجسد ناحل أرهقه الزمان لا يَقوى على المَسير.. فيطير على جناح الشوق إلى ذاكَ المكان ،إلى حيث تركَ مِزقة منهُ . إنّها أمّه..!أمّ ذاكَ الأسير الذي عشق الوطن فأصبح في زُمرة المُجرمين - فمن الحبّ ما قَتل- تَستعطف الساعات المسير كي يحين موعد اللقاء..فما عادت تستطيع تَحمُّل وخز الشّوك في أحشائها بعدما ملّ منها الصبر وارتحل....

اقتربت من المكان المُجلّل بالموت تَستجمِع قُواها ،تُحاول أن تَهزمَ ضَعفها البادي على مُحيّاها.

وقفت تكاد تبتلعُ قُضبان الحديد وروح تَعصِفُ بين جَنبيها...ألمٌ أنطَقها..فأخذت تُناديه بصوت نائِح يُلوّنه الأسى:

ولدي كبدي أين أنت يا حبيب الدار؟؟

 تموتُ ألف مرّة في كل لحظة انتظار ،تُبحر عَبرَ مرافئ الهُموم ، تَذوب بينَ عَتمةٍ ونار..تُكرر النداء بصوت يجلّله المَرار,تكادُ أن تَنهار..تنتظر متى سيأتي دورُها كي ترى قرّة عينها حبيب الدّار؟

لَمْ تُطق الانتظار..فراحت تُفتش عنه في كل مكان حولها..تسأل الزوار، تسأل المقاعد والجدران؛تسأل حتى القضبان.....تُطلق لنَظراتها العَنان والقلب يتوقَدُّ بالحنان والأسى يُذيب الفؤاد والوجدان..

كِلاهُما يَحترق..كلاهُما يَحلُم بميلاد جديد..يُمنّيانِ النّفس بأحلام اللقاء ،كلاهما يَتجرَّعُ كأس القَهر وهما لا يَعلمانِ بأنَهما يَنقُشانِ على صَدرِ التّاريخ حِكاية النّصر العَذِب..و يَرسُمانِ بالدّم شِعارا للفَخر ... ويَعزِفانِ الحَان المَجد على قيثارة الألم ،رُغم الإحتِضار.

ساقَهُ الجّلاد باديَ الأحقاد ...نَظرتْ إليه عَبرَ أستار العيون الموشّحة بالضَباب تَكاد لا تَراه تُصغي السمعَ لِخُطاه.. تُبدي التَبَسُّمَ والأحشاءُ تَلتهِب ..حَيّتهُ باحتراق ، تمنّت لو تفعل الأقدار فعلتها أو تأتي الأرض بزلزلةٍ تقتلعُ القضبان وتُحطِّم الجدران كي تَضُمُه وتُريح النّفس من سِياط الحَنان ..كي تُضَمّد الجروح كَي ترُّد لحبيبها المعلّق المصير الرّوح .

أرسلت إليهِ عَبرَ القُضبان كلمات زاخرة بالشوق يَهُزُّ أساها أركانَ المكان: حبيبي يا بَهجةَ الوجدان :

إنْ غبتَ عن عيني يغيبُ عَني النور..

لا عَيشي في سلام لا عيشي في سُرور

ولا غَدي يُطاق..

لو غِبتَ عَن عَيني موجودٌ في الأعماق..

أراكَ في الأحلام أراكَ في الآفاق...

أبكيك في حنان أبكيك في اشتياق ..

فأسأل الأحباب واسأل النجوم..

وأسأل السراب ..

لِما هذا العذاب..؟؟

لما هذا الفراق..؟؟

نَظرَ في عينيها نَظرة المُشتاق وقال في اختناق :

أماهُ لا أُطيق القَيد والحديد...

لَكَمْ أنا مُشتاق لِحضنكِ السعيد ....

أُهادِنُ الأيام أُصادِقُ الأحلام أُحارِبُ الآلام..

أرجو لها صَبرا ،

لكم انا مشتاق للدار للرِّفقة.. للسّهل للآفاق

لاخوتي الصغار للأهل للأصحاب

لكم أنا مُشتاق للسهل  للمروج..

أتمنى أن أعود...

أقبِّلُ الضّياء وأزرار الورود..

لا شيء يا اماه هنا غير الخراب ،

وليلنا طويل مصفّد الأبواب..

أُصارِعُ الأوهام وأشباح السراب..

اسائل الأقدار اسائل الأطيار

لِما أنا هُنا لا أهل لا أحباب..

أتوقّد كالشرار وأهُمُّ بالفِرار فتعاندني الاقدار

فأسأل في إصرار:

لِما أنا مُجرم..

فحبيبتي أرضي عِرضها عِرضي

ما نَفعُها الحياة إن بِعتُها أرضي

فَسجني كِبرياء وميتَتي عَطاء..

مِن أجلها أهوى الموت والفناء..

مِن أجل أنْ أبقى مالِكاً أمريْ..

 فعشيقتي ارضي كالروح في صدري ...

فليَفهَمَ الغَدّار أَني قويّ البأس شامخٌ جبّار ،

 حُريتي قرار...

سأبقى كالشّرار كجمرٍ فوقَ النّار..

لا تثنيني وعود او يخدعني قرار

لا تبكي يا اماه..

 فالموت في سجني فيهِ مَرضاتي ..

وحبّي للاوطان أسمى غاياتي ...

إنْ كانَ إجرام فلتشهدي أمي  ولتَشهد الدّنيا

 أنيْ أنا المُجرم قَد بِعتُه ذاتي...

فلتصبري أمي غداً أنا آت...

 أُغني أغاني النَصر أرفعُ راياتي..

غداً أنا آت...

غدا أنا آت..

وانتهت الكلمات المُلتهبة بعدما أحرقت المكان والزّمان..وجاء السّجان ليقبِض على فريستِه.وغابَ الحّبُ عن ذاكَ المكان.

قَبّلت أمّه القضبان بعد أن غَسلتها بالدموع ،وغادرت المكان كَليمةَ الوجدان تَحلم باللقاء الآتي ،تُتمتِمُ رغم الوَهنِ والأحزان ، يُردد كل شيء صداها ، حتى ا لصمت حتى الجدران:

"حقا يا بُنيّ, صَدَقتَ يا بُنيّ ,كلّنا فِدى الأوطان..كلّنا فدى الأوطان"..

وعاد الأسير البطل (قتيل الحُبّ ) إلى زنزانته بعد أن شَحنتهُ أمه بشيء من طاقةِ البقاء..وَغَذّتْ روحهُ بغذاء مَذاقهُ الصّبر .عاد يُنشِدُ ويُتمتم..رغم الألم والانتحار:

الصّبر يا أمي فغدا أنا آت

اغنّي أغاني النصر، ارفع راياتي..

فليَعلمَ الجبان أنّي فِدى الأوطان

أنّي فِدى الأوطان.

حُبّي لكَ وطني أسمى غاياتي..

إن كان إجرام فلتشهدي أمي ولتشهدِ الدّنيا..

أني أنا المُجرم قد بِعتُهُ ذاتي..

قد بعته ذاتي.

وافترقا من جديد وأُسدِلَتْ خَلفَهُما سَتائِرُ الشُّعور ..وتَبَلّدَ الوجود..وغَدا كل شيءٍ بارد حائر مُكفَهِرّ...وتَوارى عنهُما كلّ شيء حتى الحياة ذاتها ؛كلّ الحياة...ومات حَولهما كلّ الأشياء والأحياء.. وماتت القصة كألف قصّةٍ قَبلها..

فيالَ قسوة الحياة حين تغدو مجرد أحداث تأتي وتذهب ،تتسمّر على بوابات الزمن المنسيّ..ريثما تموت وتتحول بفعل الزمان الى رُفات ..مجرّد رفات وبقايا ذكريات.