مقام الفناء

مقام الفناء ..

محمود القاعود

[email protected]

بدايات النهايات كنهايات البدايات

انسحاب .. قبل الغياب .. عتاب بعد الغياب .. غياب مع الغياب .. لقاء قُبيل اللقاء .. لقاء عند اللقاء .. لقاء فيه الفناء .. فناء معه البقاء !

ثم انسحاب .. أعقبه موت .. أعقبته حياة .. ثم غياب !

تتلاشي من بعيد .. وتعود من جديد ..

لم يكن فى حالة من الهذيان .. يفور داخله بحالة من الوحشة والوحدة .. تتملكه رغبة فى النوم المستمر .. حتى فى النوم لم يكن يشعر براحة .. كان يستيقظ وجبينه يتفصد عرقا .. ورائحة احتراق تتصاعد من قلبه يشعر بوقعها فى خفقان منفلت متسارع يكاد يقضي عليه ..

ندت عنه آهة ألم  .. كأنها البركان الذى يقذف بحممه فى أعلى رأسه .. فى تلك الأثناء كان الضوء الأبيض المصاحب للرنين ينبعث من شاشة هاتفه ليُضيئ حجرته المظلمة ويُضيئ معها قلبه الأكثر ظلمة .. فتخرج الآمال من الآلام .. .. العرق يغمر ملابسه .. كأنه كان يسير فى يوم ماطر .. فتح الهاتف .. وضعه على أذنه .. لم يتحدث ..تنهدت .. عقدت الدهشة لسانه .. باغتته بسؤال .. ألا زلت تذكرنى ؟! لم يعبأ بما قالت .. كانت تُصغي لأنفاسه المضطربة .. يُريد الاستماع لتراتيل الغياب .. خفقات الألم تتراجع .. خفقات الحياة تتسارع .. تابعت بصوتها الذى يميز موجاته ويحفظ حركاته .. وسكناته .. كان الصوت بالنسبة له فيوضات من النور .. تابعت : ماذا يحدث لك ؟ أجابها بنبرة متحشرجة : هو نفس ما يحدث لكِ ! قالت بشئ من المرارة : هل ثمة وجع مزمن فى قلبك مثلى؟ وهل لا تستطيع النوم مثلي ؟ وهل تفكر فى ماضينا مثلي .. وتذكر أيامنا الخالية مثلى ؟  ثم تملكتها رغبة عارمة فى البكاء شعر بها فى تقطع أنفاسها وتهدّج صوتها .. وأخذها النشيج .. الذى جعله يستمع لدقات قلبه كأنها قرع الطبول ! صار يخشي أن يكون ما يستمع إليه مجرد حلم .. يستيقظ منه .. ليجدها لم تحدثه !

حدق فى شاشة الهاتف .. لينظر إلى الاسم .. ثم عاود الانصات .. تأكد أنها هى .. قال بصعوبة بالغة تواكب ذهول الموقف : هل جربتى الموت ؟! هل تحدثتى مع ميت من قبل ؟! ثم أردف .. هو أنا ذا ! طافت به خيالات اللقاء .. والوداع  .. والوعود والعهود .. رجع بذاكرته إلى سنوات بعيدة .. كمن يسير فى الضباب يتلمس النور البعيد .. انتابه شعور لم يعهده من قبل .. ساد صمت موحش بينهما .. قطعته بقولها : أنا التى ماتت .. كنت أظن أنه فى الإمكان نسيانك .. ! كنتُ أراك بقلبي فى كل وقت .. المثل يقول " البعيد عن العين بعيد عن القلب "  لكنك القلب نفسه ! والعين نفسها !

أهو الحلم ؟! وإن كان حلما فهو الحلم الذى انتظره وأتمناه .. ! هكذا هتف فى داخله ..  بينما هى تواصل : قبل أن آراك كنتُ قد يئست من الحياة .. حياة بلا معنى .. حياة بلا حياة !

أهو الاتحاد ؟! إنها تحكى عن حالى  .. ولا يمكن أن يكون الشعور مشتركا إلا بالاتحاد ! هكذا حدث نفسه .. استطردت : كان لوفاة والدي وقع مزلزل .. وعندما رأيتك .. رأيت فيك الأب .. وما هو أكثر من الأب .. !  يقولون أن الحُب دائما بلا سبب .. كنتُ أري أسبابا عديدة جعلتنى أُحبك .. لكن لا أستطيع تفسيرها ..  !عندما قُلت لك ليس كل ما يتمناه المرء يدركه .. كنت أعرف أن عقبات عديدة ستواجهنا .. لكن معك أشعر بأمان لا نهائي .. لا زلت أشعر به حتى الآن من خلال صوتك .. واصلت بصوت مختنق : ما كان يشغلنى ..  .. أعادت العبارة : ما كان يشغلني .. أصاب رأسه تنميل رهيب  شل قدرته على الاستماع أو الكلام .. سقط الهاتف من يده .. فكأنما سقطت روحها إلى مكان سحيق !  كان يناجيها فى اللا وعى .. وكانت تستمع فى الواقع .

كان اتصال الروح أقوي من اتصال الهاتف .. ثم كان لقاء .. أعقبه فناء !

(تمت)