رب ضارة نافعة

حماد صبح

المطر يضربنا سياطا لاسعة ، والريح تردنا مصرة للخلف ردا . كنت أترقب انفجار رفيق طريقي ومقصدي في دقيقة أو أخرى . وزاد يقيني  بوشك انفجاره نظراتُه التي يرشقني بها بين لحظة وأخرى . ولم يطل انتظاري . زلقت رجله فتمايل يمنة ويسرة وكاد يقع في الماء الموحل لولا أنه استعصم بعود من نبات الغيلان المتشابك الذي يحتف يمين الطريق ، فرشقني بنظرة غضبى وصرخ  : لم يمت إلا في هذا اليوم ! كل الحروب لم تكفِ لموته ! ألم يكن أحسن لنا لو ركبنا الموتوسيكل ؟!

فأخفيت فمي باللفاع الذي ألفه على رأسي وعنقي حتى لا يرى ابتسامي من غضبه .

قلت : جنون ركوب الموتوسيكل في هذا الجو .

فرد متصاعد الغضب : وجنون الذهابُ للتعزية في رجل يموت في هذا المطر.

_ وهل اختار يوم موته ؟! قريبنا .

_ نموت بسببه ؟!

_ أين نحن من الموت ؟! قل كان الله في عون الذين دمرت إسرائيل بيوتهم !

فتوقف وقال : تسكت أو أرجع ؟!

_ بدأت المطرة تهدأ .

_ والوحل والغدران ؟! قلت لك سأسوق الموتوسيكل ، قلت لا . خفت عليها ولم تخف علينا .

تابعنا سيرنا الشاق الذي زاده تذمره وسخطه مشقة وكدرا . وندمت على إخباره موت قريبنا . سيعلم من شخص آخر ويذهب متى ناسبه الذهاب . لقيته وأخبرته الوفاة وأنني سأذهب لبيت العزاء في الجو العاصف الماطر ، فقال إنه سيصحبني . واستنكر حين قلت له إنني لن أذهب على الموتوسيكل خوف انزلاقها ومواجهتنا ما يضر ، فعرض أن يسوقها هو ، فقلت له إن السير على الأقدام آمن . وفجأة انقطع تذمره ، وسيطر عليه صمت غريب فسرته بانصرافه لخاطرة شعرية ، فهو شاعر، وينشر قصائده في عدد من مواقع الشبكة . خلصني نزول الوحي عليه من سهام غضبه وانفعالاته الساخطة وإن أضحكتني وسلتني سرا .

وباغتني بالتفاتة وابتسامة ، فأيقنت صحة حدسي . يبدو أنه فعلا انشغل بخواطر شعرية مفاجئة . أعرف هذه الحالة عنده من كثرة ما حدثني عنها وكثرة ما لاحظتها عليه في مواقف مختلفة . وغالبا ما يقرأ لي بعض أشعاره قبل نشرها أو بعده ، فأثني عليها بعبارات عامة مما علق في ذهني من دروس الأدب والنصوص في المدرسة قبل أن أتجه لدراسة الجغرافيا في الجامعة .

بلغنا بيت العزاء . وكان العرف والواجب أن نجلس مع أهل البيت وغيرهم من الأقارب في واجهة مجلس العزاء لتلقي التعزية في قريبنا الذي كان من المجاهدين في حرب 1948ومن الجنود المقاتلين في حرب 1956إلا أن ابتلال ملابسنا ابتلالا عميقا اقتحم جسدينا جعل جلوسنا في الواجهة غير لائق ، فدعوته للانزواء في آخر الصف الأيسر من المقاعد ، فرفض وقال إنه يحب مشاركة معدي القهوة على نار الحطب في عملهم ، فأيقنت أنه يحب أن يستدفىء. وفي اليوم التالي أطلعني على القصيدة التي محت  تذمره وغضبه ، وكان مطلعها : " قد مات في الرياح ،

والبرد والمطر ،

لكنني أتيت للعزاء ،

ما همني العناء والخطر ".

فامتدحتها وسع مستواي من التذوق المعزز بالمغالاة في المديح ، وقلت : لمتني على الذهاب للعزاء في المطر . رب ضارة نافعة .

فابتسم وأشعل سيجارة وقال : رب ضارة نافعة . من الصخر يأتي الماء . أقبل أي معاناة من أجل القصيدة.