تحت راية الضيم

مثله كمثل محارب أكره على الحرب ، فلما درات رحاها و حمحمت الخصوم وتنادت الأقران ، خاطب نفسه و هو يشاهد الحوادث تتلو أختها أمام ناظريه : ما الذي جاء بي إلى هنا ؟ كيف لي أن أروم الخلاص ؟ هل هذه النهاية ؟

عندما تقدم الكريهة ، يحمى الوطيس و تشتعل الأرجاء ، تُكوى القلوب و تُفتقد الأحباب ، تنادي الأحزان و تصرخ الأفئدة فهي من الهول خلاء ، تُجرَّد المعاني من معاني الصفاء و النقاء ، يطغى الشر الدفيــن الذي ابتــلَّ بالبلاء ، تُمزًّق الأشلاء و تختلط الدموع بالدِّماء ، تتفجر تحت كل قافية أودية نضاخة مفعمة بالإرواء ، إرواء المدر و الحجر و التراب بدماء تَخُطُّ الرُّسوم و تُنشئ الشواهد إلى الأحفاد و الأبناء ، هكذا كانت النفس تحدثه .

و بينما هو غارق في هلعه ، و جازع من هول الخطب ، ناداه صوت من أعماق نفسه : هــلُّم إلى النجاة فوق تلك الربوة و انج بنفسك و لا تلتفت وراءك ، فإذا فعلت أنت ذلك كنت قد خطوت فاتحة النجاة ، فلما سمع هذا الصوت كأنه الإلهام المسدد ، دعا نفسه و معارفه إلى التحكيم في شأن هذا ، كيف أهرب ؟ و هل الهرب سينجيني ؟ و هل هذه من صفات الأبطال ؟ كلا و لكن ......... سوف أموت هنا ؟ أنا مكره ؟ كيف؟

لبث صاحبنا برهة من الدهر يصارع خضم هذا السجال ، و يتأول المحاكمة عن غير وجهها التي هي عليه ، و حجته في هذا كله أنني سوف أموت و كيف أنجو 
فلما ذهب عن صاحبنا الروع ، قال يا ويلتاه أأفر و أنا الباسل النهيك المقدام ؟ كلا و الله لن يكون هذا ، فنظر نظـرة أخيرة في أشلاء الوغى، ثم أقبل على مجنه ، حمل صارمه ، و تأبط قناه ، و لفظ الهوان بزفرة عاتية ، ثم نادى بأعلى صوته يا منية حيهل ، يا كريهة أقبلي فإنني اليوم مقدم و من الموت لا مفر .

خطا صاحبنا أول خطوه شاكيَّ السلاح ، و أقدم يعاند الأبطال ، يثني عزائم الأشرار ، يقوي إحنه ضد محنه ، يلوي الأعناق بشدته ، مدجج كره الكماة نزاله ، لا يستطيعون له ضحضا و لا يقدرون له صرعا .

تفطن بعض المحاربين إلى بسالته و قوة عزمه و لكن الكثير لم يكن ليلقي له بالا .

مرت جل الحوادث و الوقائع و اشتعلت الأرجاء فهذا قاتل و هذا مقتول و هذه أسلحة و هذه دماء ، و هذه أشلاء و هذه فرسان و كان ما كان .

رزق صاحبنا هذا ، قلبا طيبا ، وعقلا واعيا ، ولسانا ذا سلطان على القلوب ، فلقد كان ذا عين بصيرة تكشف الخبايا و المخدرات ، إذا رمى بسهم النقد فإنه لا يخطئه و يصيب به أجرا عظيما ، كان ضعفه الوحيد ثقته المفرطة وحسن ظنه بمن هب و دب ، لا يعرف الشر و لا يعيه ، سوى تلبية النداء إذا نودي إليه .

حدثت المفاجأة التي ما كان يرتقب مثلها ، و أصيب قلبه بزلزلة عظيمة خارت من بعدها أركانه ركنا ركنا ، و ما استطاع أن يستجمع بأسه إلا بعد عنت ونصب

بينما هو والج أبواب الحمام ، إذا به يتفطن إلى أعجب الطرائف ، فقد مُزج المزاح بالجد في هذه الحرب ، نظر بعينه الخبيرة فعلم أن هؤلاء إنما هم دمى ، و أرضهم هذه إنما هي مسرح ، و كل أفعالهم من رأسها إلى كراعها ضرب من التمثيل ، فقد كانت هناك أيد تحرك من وراء الستار المسدول على ناصية المسرح هذه الدمى .

عاش ذليل العجائب حينا من الدهر مندهشا لا يعرف أين هو ، و لا هو في منام أو يقظة ، ينتظر بصيصا من الأمل ينجيه ، أو يخلصه مما هو فيه ، و عاد ذلك الأمل القديم يناديه ، الربوة الربوة ، و عادت المناجاة إلى مجراها الأول ، أافر أم أبقى و لكن هذه ليست كالأولى ، فالأولى شرف البقاء فيها أولى من ذل الهروب ، و الثانية لا تحمل للعار و لا للشرف أي معنى.

علم المسكين أن لا مناص من هذا ، و لا سبيل للتفلت منه ، سوى سلوك الطريق إلى تلك الربوة المنشودة ، و التي كانت من قبل وصمة شنار على أخلاقه و وصفاته .

فطرح كل ما كان له من سلاح ، و اكفهر جبينه من شدة الوجل ، ثم حمل الصبر على كتفه الأيمن و حمل الأمل على الأيسر ، و زفر زفرة عاتية مدوية كهزيم الرعد ، وانطلق إلى الربوة لا يرى غيرها حتى أدركها .

أدركها و قد تفصى العقل من الجسد ، و كلٌمنهما أصابه ما أصابه ، و ألحق به ما ألحق ، و لم يبق في ذاك الجسد سوى شبه روح تسري ، و لم يبق في ذاك الفؤاد ذخيرة ترتجى سوى شعاع أمل ما استقر على نوره ، كشعاع مصباح وضع في مهب الدبور وسط ليلة داجية ، يتوهج تارة ، و يذبل نوره تارات .