كنت مسافراً

سعيد مقدم (أبو شروق) / الأهواز

[email protected]

كنت مسافرًا (2)

قالت العرب: سافروا تغنموا.

وكان أبنائي يبرمجون طوال السنة لسفرنا في هذا العام،

فمنهم من اقترح أن نسافر إلى شمال إيران ومنهم من قال نسافر إلى شرقه أو غربه، واتفقنا أن نسافر إلى جنوب غربه ثم إلى مركزه، فقصدنا محافظة (ياسوج).

خرجنا من المحمرة ساعة قبل أذان الفجر، صلينا صلاة الصبح قبل أن نصل مدينة معشور التي تبعد عن المحمرة  120 كيلو مترا.

ومن معشور اتجهنا إلى مدينة العميدية ثم ويرافقنا صوت فيروز دخلنا جبال آغاجاري، ثم مدينة رامز إلى أن أشارت الساعة إلى التاسعة صباحا ونحن قد بلغنا مدينة بهبهان.

أفطرنا على ضفاف نهر مارون الذي ينبثق من جبال زاغرس، وبعد أن يدخل الأهواز يصب في نهر الجراحي، لكنهم ولكثرة السدود التي بنوها في هذا النهر، قد جففوا الجراحي؛ حتى رأيته قبل أعوام يلعب فيه الأطفال كرة قدم.

لهذه الأسباب يبيع الغنام -الذي كان يسقي زرعه من مياه الجراحي- غنمه ويهاجر إلى البلد.

خرجنا من بهبهان بعد ساعة واتجهنا نحو گچساران ومنها إلى ياسوج.

ودّعنا حرارة المحمرة التي كانت تفوق الخمسين درجة والرطوبة الشديدة التي نسميها في الأهواز (الشرجي).

الجادة جبلية، تدخل في ممر حُفر في قلب الجبل وتخرج من ممر، تارة

تضيء مصابيح سيارتك وتارة أخرى تطفئها.

اقتربنا من ياسوج، ولا يَفُتْك أن تشتري في أثناء الطريق التين اللذيد الذي يتواجد بكثرة على طرفي الجادة. والفستق الذي لم يزل في قشوره ما يدل على أنه مجني لتوه، والعنب الحالي الذي كأنه من عنب الجنة.

دخلنا مدينة ياسوج ذات الهواء المعتدل عند الساعة الثانية عصرا، بعد أن طوينا أكثر من 600 كيلو متر.

ياسوج، مدينة تحيطها الجبال، يسكنها أكثر من مئة ألف نسمة، أكاد أن أجزم أن كلهم فرس.

دخلنا حديقة تسمى حديقة الساحل، أشجارها خضراء وجميلة والثيل فيها كأنه سجاد أخضر مفروش في ديوان.

والبستاني ممسكا خرطومه يسقي الأشجار واحدة تلو الأخرى والثيل شبرا شبرا، ليس كما يفعل البستاني في المحمرة، يفتح الماء ويتركه في مكان واحد يفيض إلى أن يخرج على الإسفلت، فبدل أن يسقي الأشجار والثيل، يسقي إسفلت الشارع. ولهذا السبب حدائقنا العامة تشبه الصحاري في هجير الصيف، يابسة وقاحلة.

 

جلسنا في ظل الأشجار وكأن مكيفا ينسم علينا هواء باردًا شاعريًا، بينما إن خرجنا في هذا الوقت في الأهواز لأذابت الشمس جلودنا من شدة حرارتها.

فما ذنبنا أيها المسؤولون وعلينا أن نشغل المكيفات ليلا نهارًا لتأتينا فاتورة الكهرباء بعدها تصعقنا برقم نجومي يتراوح مقداره بين المليون والمليونين من الريالات؟

ولعلمكم أعرف في الأهواز عوائل لا تستخدم المكيف أكثر من ساعتين، لأنهم ليسوا قادرين على أن يسددوا فاتورة الكهرباء.

ولكي نختلط مع الناس ونرى سلوكياتهم بتنا في الحديقة مع المئات من المسافرين، كل في خيمته.

دع عنك رخاء بيتك ونعومة مخداته وابني خيمة في الفضاء الطلق، تتمتع بالمناظر الطبيعية، عندها تحس بطعم السعادة في قلبك وتراه في سيماء وجوه أفراد عائلتك.

يوجد في الحدائق جميع ما يحتاجه المسافرون: أنابيب مياه شرب، أماكن لغسل الأواني، حمامات، ألعاب للأطفال.

ولم يجهزوا كل هذا لثواب موتاهم، بل يحصلون كل ليلة على الملايين من أطفال المسافرين وهم يلهون بالألعاب.  

رأينا فئة تمثل في الحديقة والشوارع، يحكي أحدهم قصة ترافقه الموسيقى، ثم ينشد الآخر أشعارًا ترافقه الدفوف، وطبعًا بلغتهم الفارسية؛ وبهذا يحصلون على مبالغ لا بأس بها من المتفرجين.

وكم تمنيت أن تكون في مدينتي فرقة عربية تمثل كهؤلاء في الحدائق والشوارع، ولدينا قصص وأساطير كثيرة وأشعار عُرفنا بها.

فمن بعد (حسان كزار) القاص الأهوازي الذي كان يسجل أساطيره على أشرطة في عهد الشاه البهلوي برفقة الربابة، لم نر قاصًا تابع هذه الطريقة الجميلة.

في الصباح ذهبنا إلى شلالات ياسوج، وكانت شلالات تستحق عناء السفر إليها، طبيعة ساحرة خلقها الله ليرينا آياته، وكيف يفجر عيون المياه العذبة من فوق الجبال لتنزل تاركة في مسيرها أثرا أخضر خلابًا من الأشجار المختلفة، خاصة أشجار الجوز!

في هذه المناظر الشاعرية، إن هاجمك الاكتئاب والحزن، تسلحك شلالاتها بالبهجة والفرح وهي تومئ لك في كل آن أن افتح عينيك لنملأ صدرك سرورا. 

ترتفع هذه الشلالات من سطح البحر 2200 مترا.

رأينا تمثال (رستم) بطل أسطورة الشاعر الإيراني (فردوسي) في أكثر من مكان، رأيناه في الميادين وعلى أبواب المنازل وفي الحدائق.

 يقال أن فردوسي كان يكنّ حقدا للعرب وقد هجاهم في أشعاره، وحاول أن لا يستخدم كلمة عربية واحدة في ديوانه الذي يضم بين دفتيه أكثرمن خمسين ألف بيت من الشعر.

 

ذهبنا بعد ذلك، إلى مكان خلاب يسمى (سي سخت) ومعناه بالعربية (ثلاثون صعوبة). ويعني أنك تواجه ثلاثين صعوبة في طريقك.

 يبعد سي سخت عن ياسوج 30 كيلو مترا، لكن طريقه جبلي مخيف خطر؛ فيه منحدرات صعبة، الجادة ضيقة تتعرج بك يمينًا وشمالا، تصعد منحدرًا لم تطو من قبل مثله، ثم ينعطف بك 180 درجة. فإن لم تكن سائقا متمكنا فلا تذهب لهذا المكان الذي أخافت منحدراته زوجتي وابنتي وولديّ.

لكنك إن تخطيت الخطر ووصلت بسلامة، ستعوضعك عيون الماء والشلالات والبساتين المتنوعة كل تعبك في السياقة، بساتين الخوخ والعنب والعرموط.

وإن شئت ادخل محافظة (دنا)، إنها محافظة لا تخلو من الجمال الطبيعي الذي أهداها الله.

مكثنا في ياسوج يومين ثم شدينا الرحال نحو (شيراز).

فإن كنت مهمومًا، سافر؛ فإن مناظر السفر الجديدة ستبدد همومك من دون أدنى شك.

كنت مسافرًا (3)

يقول الشاعر:

لا يصلح النفس ما دامت مدبرة           إلا التنقل من حال إلى حال

خرجنا من محافظة ياسوج الإيرانية عصرًا واتجهنا نحو شيراز.

ما انفكت الجبال تحيط بنا، والجادة تسير في مسير منحن وكأنها أفعى تتلوى، وتارة تجعل سيارتك تتسلق الجبال، ثم تنحدر بك وكأنك تهوى من ارتفاع. لكن الاخضرار يكسوها من أعلاها إلى حضيضها ما يجعلك تدفن همومك تحت صخرة من صخور هذه الجبال العالية وتضحك للحياة.

علينا أن نطوي 145 كيلو مترًا لنصل إلى شيراز، ولا نستطيع السير بسرعة عالية، فالسرعة هنا ونظرًا لصعوبة المسير تتراوح بين الأربعين والسبعين كيلو مترًا في الساعة لا أكثر.

وصلنا إلى منطقة تسمى (شول)، وقد انبهرنا بكثرة بساتين العنب فيها، فأشجار العنب الجميلة غطت باخضرارها الساحر يمين الجادة وشمالها، ولم تستثن حتى الجبال. والفلاحون يعرضون عنبهم اللذيذ للسيارات المارة على طرفي الجادة.

والمناخ معتدل لا بارد ولا حار، وكأن الشمس التي كانت تحارب جلودنا في المحمرة فترميها بحمم من نار من شدة أشعتها، هي في صلح ووئام تام معهم هنا .

قالت أم شروق متنهدة:

إن الله أعطاهم ما أعطاهم من جمال الطبيعة.

قلت في شيء من العتب: وأعطانا لغة الضاد والكرم.

دخلنا شيراز ساعة قبل أذان المغرب، مدينة بشوارع عريضة وطويلة، مزدحمة بسياراتها الكثيرة جدًا، تذكرت مثلنا الأهوازي الذي يقول:

 (ترش الملح، ما يطيح بالقاع) أي ترش الملح فلا يسقط منه شيئا على الأرض.

يسكن في شيراز ما يتجاوز  1500000 نسمة.

وهي مدينة جبلية، الجبال تحيط بها من كل جانب.

اتجهنا بعد تعب يوم بأكمله إلى (زيبا شهر) حيث توجد حديقة للمسافرين، وما إن وصلنا حتى نصبنا خيمتنا ونمنا حتى الصباح.

في الصباح ذهبنا إلى حديقة تسمى (باغ إرم)، سعر تذكرة هذه الحديقة 20000 ريال إيراني، دفعنا 100000 ودخلنا.

هذه الحديقة الخلابة مملوءة بأنواع الأشجار العالية منها والهابطة، أشجار السرو والرمان والليمون والزهور المختلفة.

يمكننا في الأهواز أن نخصص حديقة نغرس فيها النخيل ونجعلها مكانًا سياحيًا يزورها المسافرون إلى الأهواز في أيام الربيع، ولدينا من النخيل أنواعه وأقسامه. نكتب على كل نخلة نوعها ونعرض شكل تمرها. حتى نستطيع أن نبيع التمور على السياح في هذه الحديقة فننعش اقتصاد بلدنا.

أفطرنا ثم اتجهنا إلى مقبرة حافظ الشيرازي، وحافظ شاعر غزلي قرأنا أشعاره في جميع مقاطع الدراسة وحتى في الجامعة.
أتذكر قول أحد معلمينا في الأدب الفارسي وهو يمجد هذا الشاعر فيقول: كتابي المقدس بعد القرآن هو ديوان حافظ الشيرازي!

لحافظ الشيرازي مكانة مرموقة لدى جميع الفرس حيث يصفونه بـ (لسان الغيب) وقلما تجد فارسيًا لا يحفظ بعضًا من أشعاره.

معظم الفرس يزعمون أنهم يتنبئون بديوان هذا الشاعر، ووجدنا عند باب مقبرته أكثر من خمسة شيوخ يبيعون وريقات تسمى (فال حافظ) أي تنبؤ حافظ. والمضحك أن بالأمس جاءت رسالة على جوالي من شركة الاتصالات تدعوني أن أتنبأ بديوان حافظ كل يوم، وسوف لا يكلفني هذا التنبؤ كثيرا : 1000 ريال في كل يوم!

وجدنا في مقبرة حافظ أجانب كثيرين جاؤوا من دول أوروبية، وتذكرة الدخول إلى هذه المقبرة لنا 20000 ريال وللأجانب 150000 ريال.

توجد في ساحة مقبرة هذا الشاعر عدة محلات، مكتبة صغيرة، محل لبيع الصناعات اليدوية والريفية ومحل لمصور يعكس الصورة التي يلتقطها من الزوار على إناء.

سألت البواب عن عدد زوار حافظ في كل يوم، لكنه تحفظ عن الإجابة؛ وجهت السؤال له ثانية:

هل يصل عددهم الألف؟

أجابني: بل أكثر من ألف.

نحن أيضًا لدينا شعراء كبار ورموز لهم مكانتهم الأدبية، قدماء ك (شهاب الدين الموسوي المعروف بأبي معتوق الحويزي)

 ومعاصرون كـ (ملا فاضل السكراني). فهل تدعمنا الحكومة كما دعمت حافظ الشيرازي لنشيد مزارات لهم يزورها السياح؟!

ولولا دعم الحكومة، لما أصبح لحافظ هذا الصيت الذائع وهذه السمعة والشهرة.

كتب الكثيرون حول حافظ الشيرازي وغزله، منهم الكاتب مرتضى مطهري الذي طبع كتابه لأكثر من عشر مرات.

وانظر إلى كتابنا الأهوازيين إذا ما أرادوا أن ينشروا كتابًا، احتاروا، في أية مكتبة عربية يعرضونه للقراء ليبيعوا ألف نسخة منه أو ألفين؟! وقد تبقى هذه النسخ القليلة لسنين يغطيها الغبار في رفوف منازلهم.

توجد في شيراز حديقة عامة وسيعة اسمها (بارك آزادي) تغدينا فيها، وقد رأينا في هذه الحديقة كثرة المتسولين والبائعين المتجولين من نساء ورجال.

ولا بد أن تتغدى ولو مرة وجبة كباب، فكباب شيراز معروف ليس في شيراز فحسب، بل في جميع مدن إيران.

وزرنا بناية (حمام  وكيل)، شيد هذا الحمام كريم خان زند في القرن الثاني عشر للهجرة، يبلغ طوله 120 مترًا وعرضه 80 مترًا وفيه تماثيل كأنها حية من أناس تمثل لك طقوس أعراسهم واستحمامهم وقضائهم ...

وما لفت انتباهي، ترميم قسم من هذا الحمام التراثي الذي مضى على بنائه قرون، ما جعلني أتذكر تدمير الآثار التي توجد في الأهواز وكان آخرها تدمير قصور شيخ خزعل على يد مسؤولين كان من واجب الحكومة أن تمنعهم من محوهم آثارنا العربية وأن تنصب مسؤولين أقل حقد على تراثنا العربي الأهوازي.

وفي نفس المنطقة يوجد سوق يسمى (بازار وكيل) التقليدي، شيد هذا السوق بأمر من كريم خان زند أيضًا، وفيه ما تشتهي الأنفس من جديد وعتيق، من ملابس وأوان وصناعات يدوية وريفية. في سقف هذا السوق أشكال هندسية جميلة رسمت على وفق قواعد معينة، تجولنا فيه لأكثر من ساعتين.

كنا نتكلم مع بعضنا بلغتنا العربية، ويشيرون نحونا بأصابعهم يخبرون بعضهم: انظر لهؤلاء الأجانب.

ويؤسفني أن أقول أن لدى معظمهم نظرة عنصرية تجاه العرب، ولا شك أن الإعلام الإيراني وحتى النظام التعليمي مسؤولان عن هذه النظرة الاستعلائية؛ فالعرب في هذين القاموسين كانوا يئدون بناتهم في الماضي وهم وهابيون كفرة في الحاضر!

ثم مضينا إلى مسجد وكيل وقد بني بدستور من كريم خان أيضًا. والشيرازيون بل الإيرانيون أجمعهم يفخرون بهذه البنايات التي شيدها في القرن الثاني عشر الهجري كريم خان زند.

وأنا أتمشى في البنايات الجميلة التي بناها كريم خان زند تذكرت أيضًا هجومه على الفلاحية وتدميره السد العظيم الذي شيده شيخ سلمان الكعبي آنذاك، والذي أحال صحاري الفلاحية إلى مزارع وسيعة أصبح العرب من خيرها أغنياء.

ثم ذهبنا إلى مقام يقع بالقرب من سوق وكيل ويسمى مقام (شاه چراغ) ولم تكن زيارة هذا المقام ضمن برامجنا، يقال أن شاه چراغ هو أخو الإمام الرضا عليه السلام الذي يوجد مرقده في مشهد خراسان، ووجدنا فيه الزوار ومعظمهم شيرازيون. 

في آخر يوم تواجدنا في شيراز، زرنا مقبرة سعدي الشيرازي وهو شاعر فارسي معروف، ثم ذهبنا إلى حديقة كبيرة تسمى (باغ دلگشا)؛ يقال أن قدمة هذه الحديقة ترجع إلى قبل الإسلام، وفيها أشجار النارنج المثمرة، مساحتها تبلغ ستة هكتارات. وفي ساحتها متحف فيه أساور النساء القديمة، أنواع الصخور، الملابس المحلية والحربية القديمة، الخطوط المختلفة، السيوف والمسدسات، الساعات والعملات ...

تجولنا في شيراز خمسة أيام ممتعة ثم ودعناه تاركين وراءنا غبطة ليست بهينة واتجهنا نحو اصفهان.

فلا تجعل أيامك روتينية ولحظاتك مملة، ولا تبق حابيًا بين بيتك ودائرتك؛ فتسلقك على الجبال غدا ضروريًا.

فاترك جدران مكتبك القاتمة وشق الطريق نحو الاخضرار.