السيف والتابوت 2

د. أسعد أحمد السعود

د. أسعد أحمد السعود

نهض من نومه فزعا مرعوبا ،لم يستدرك الاتجاهات في اول وهلة،فرك عينيه ثم مسح وجهه بقوة ليسرع في الاستيقاظ ،كان حلما مزعجا مزلزلا ،لقدغط في نوم عميق لم يعهده منذ زمن طويل ، وفي غير الوقت الذي اعتاد  به .

ضرب رأسه بالعمود الحديدي المذهب المنتصب بركن السرير الايمن بقربه، عدة ضربات خفيفة ،في محاولة منه لاعادة نفسه الى يقظتها القصوى ،ثم أعقبها ضربا بيده على جبينه ليصر على طرد آخر ماتبقى من آثار حلمه المرعب .

راحت يده تبحث عن ابريق الماء المبرد الممزوج بخلاصة زهر الياسمين ، لم يكن الظلام وحده الذي يعيقها في وصولها لمبتغاها ، وانما الارتعاش الشديد الذي تمكن منها كذلك ، ولو انه تمهل قليلا كعادته كل ليلة لاستدرك واستدل على ماكان يريد ، اذ ينادى على أحد من خدمه الخاصين ، ولانتهى كل شيْ   في دقائق لكن الفطنة ظلت غائبة عنه الى هذه الساعة .

كل ما أراد الوصول اليه لم يتحقق بتخبطه في ظلام لم يسعفه بأي معونة أو تدبير ،وما هيمن على كيانه أخذ  يبعث  فيه الخوف شيئا فشيئا،فبدأ يشعر أنه واقع بين مخالب وحش من الرعب لايرحم  ،فالذي عاشه لم يكن حلما فقط وانما عاضده كابوس حقيقي ،لازال جاثما ومهيمنا على صدره ويقينه واعتقاده ، بأن كل ما كان يملكه ويحكم فيه وبه ، قد ذهب الى غير رجعة ،وأنه أصبح وحيدا لا حول له ولا قوة ، ملقى في مكان موحش غريب أشبه بزنزانة مظلمة لايرى فيها شيئاغيرالرطوبة والعفونة ، مكتومة الهواء ،تشرئب النفس فيها حتى درجة الجفاف والاصابة بالعطش الشديد ،ولم تكن ليده الثانية بد غير التشبث بعنقه،  يضغط بأصابعه على حنجرته ليساعد ها على أخذ الهواء وتمرير قليلا من ريقه لمحاربة الجفاف الآخذ بالازدياد .

والذي يزيده ارتعادا وزلزلة، صورة كل مابناه وشيده من مدن وهجر ومخاليف وقرى، بما كان فيها من بشر وشجروبهائم وماحوت من أبنية وقلاع وأسوار، وكل مادب فيها من حياة نشطة باذخة ،ماثلة امام عينيه لايرى غيرها ،مدمرة دمارا أصبحت كالخرائب تسري فيها النيران والحرائق ،من جانب الى آخر ، ومن طرف الى طرف ،تنهب وتأكل الاخضر منها واليابس ،تتفشى الامراض في ارجائها و تعفن الجثث من كل الاجناس والاشكال في الطرقات وبين الخرائب،  تلاحق كل من بقي على قيد الحياة حيوانات كانوا أو بشر،وحتى الخائرة منها ظلت هائمة تبحث عن بقايا غنيمة تفترسها وتسكت بها خوار شهية ، تلفظ وتودع آخر ما بقي فيها من عهد لها بشئ اسمه انساني او وحشي .

وفي آخر محاولة لحصر ماتبقى ما كان قابلا للكينونة في ذاته ،نفض ورمى بآخر ماتبقى من ذاكرته، في زمن كان متاحا فيه بقية من شبه حياة ، لمع وانبرى نداء من بين أنقاض آماله وبعد ان بذل جهدا مضنيا تجرأ على سؤال نفسه!!؟ :

_ من الذي فعل بملكه كل هذا الذي رآه ؟

_من هذا الذي اجتمعت فيه كل هذه القوة لمحو كل شئ في ومضة غفلة منه؟

_من هؤلاء الذين قضوا عشرات السنين يبنون  ويعمرون ويزرعون ، ويروحون ويجيئون، وقد استسلموا فجأة للتدمير والتقتيل والتشتت فتعرضوا للجوع والعطش ،ولم يقوى أي أحد منهم  للدفاع أوالذود عن الحياة التي عاشوها وعمروها بأيديهم !؟.

_ من أنا  ؟ومن كنت ؟ وكيف أصبحت ؟.

لم يخطر بباله أبدا أن أحدا ما سيجيبه على تساؤلاته المترنحة من ظلمات جوفه ، وان لم يتلفظها أوينطقها ،سيما وأن آخر من ودعه وآثر الرحيل عنه ، كان مدفونا بين ملكاته التي شهد على دفنها واحدة تلو الاخرى ، وفي تتابع أيام حياته الباذخة البادية ،فمن هذا الذي تملكته الجرأة فجأة وتمرد على بلادته؟.

هو ذاك المنادي الذي يزداد علو صوته وهو قادم من الشعاب المهجورة المقفرة ،فبعث معه نفسا عميقا يتحرر شيئا فشيئا ،مارا من ظلمات جوفه المنسية ، ثم عبر رئتيه الخاملتين الخامدتين ،ومن ثم مر مرور الفرسان المنقذين من خياشيمه، ثم زفر على أثرها زفرة أطلقت العنان لشئ كان ينتظره بعد ان تملكه يأس قاتل لارأفة فيه أبدا !.

 _ أنا اليقين أيها  اللاهي الغافل النائم ..!..أنا اليقين المغدور فيك، ! أخبرك بالمنسي في آبادك ،أخبرك بالسيف الكامد تحت سريرك ، سيفك المرصع المخبأ في التابوت ، في سردابك الذي ظللت تنام عليه نومك العميق هذا الذي فعل بك كل مافعل !!.

مرت لحظة سكون فوق كل السكون الذي كان مغمورا به ....!

لم يمهل نفسه مرة أخرى، انقض منتفضا هائجا من مرقده بقوة غريبة لم يعرفها ابدا ،وما هو الا زمن قصير كان كافيا لان يكون قاهرا لكل ماكان للظلمة من أشباه ، ممسكا بذاك السيف المرصع كما أخبره اليقين المبعوث فيه  ،بأحلى وأجمل الجواهر البديعة الفريدة ،اشتعل بريقها وأشرق لمعانها مع ما امتزج فيها من خيوط الضوء الخافت الخجل لشمعة تفانت في احتراقها ،لتعلم درب الامكنة الموحشة في هذا السرداب الموغل في القدم ..!.

لم يطأه منذ صغره ، ولاأحد غيره فعل ذلك ،ولا أحد ان عرف يجرؤ على فعل ذلك ،بل وقد دفن في النسيان في مواكب حزينة كمحطات تتابع  وراء بعضها،مقهورة ذليلة ،في طريق لاينتهي !.

جمع كل مابقيت فيه من قوة  بأصابع يده اليمنى وشد بها على مقبض السيف ، والنشوة والحزن واليأس ،كل منهم يزاحم ويصارع الآخر، في حيز مشوه المعالم، وكان يقينه الحائر يبعث بنبضاته، أشبه بالأحرف المرمزة ، وهي تحاول أن تجد أمكنة لائقة بها .

حاول سل النصل من غمده ،فمنعته لفافة جلدية مهترئة مكمورة بالغبار، كانت مشدودة وثابتة في مكانها تحت قبضته الخائرة الحائرة، وسرعان ما فضها، وهو يتذكر ويستعيد صورة أمه وهي تكلمه وتوصيه يوم كان طفلا غضا  متقدا ،يراقبها وهي تقوم بلف ذات اللفافة وتربطها بذات المكان من السيف، ثم تضعه هنا مع أشياء أخرى،لم يعرف كنهها بعد ، وتغلق عليه التابوت ، وقد أشاعت في البلاد في حينها ، وبين من كان بالقصر ، ان من كان في هذا التابوت هو زوجها ،وأبو طفلها ،وصاحب كل هذا الملك، والذي لم يعرف أحد  سواه وأمه ، أن أباه قد ذهب يوما في حرب ولم يعد !!!.