ابن الشهيد

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

قال لي صديقي عامر وهو يبتسم :

هذا الشخص الذي سنلتقيه غداً أو بعد غد، لن تقدر إلا أن تعجب به وتحبه ويدخل قلبك بلا استئذان ... وفضلاً عن ذلك فهو شخص ليس غريباً عنك ، بل هو حقيقة ابن صديقك وزميلك ... وأخيك !

فأجبته باستغرابٍ شديدٍ:

- ومن صاحبي ذلك الذي تتكلم عنه بالله عليك ؟

- ابن عمي ... أسعد !

قفزت ذاكرتي ربع قرن إلى الوراء أو يزيد وأنا أضرب على جبهتي، وأستحضر صورته في ذهني، بعد أن فاجأني صديقي عامر بهذا الخبر الذي صعقني ...

ونكأ في ذاكرتي جراحات أليمة وعميقة، كنت أظن أنها قد اندملت ، فإذا بها تنفجر من جديد كأنه جرح غائر قد انفتق، وتدفق منه دم أحمر ساخن غزير ، بعد أن  ترك آثار طعناته في صدري، وآلامه في قلبي، وعذابه في ضميري، وحسرته في نفسي .

ثم أضاف :

- وكيف لا وهو والد شهيد ... وابن شهيد ...

استشهد أباه في غياهب السجن، وقد اعتقلوا والده بينما كان طفلاً صغيراً لا يتجاوز العاشرة من عمره منذ ثلاثة عقود مضت، على أيدي المحتلين المجرمين العتاة،  بحجة كونه معارضاً لاحتلالهم الطائفي البغيض، ومتمرداً على نهج الفساد والاستبداد ، وسياسة القمع والعسف والإجرام التي اتخدوها لهم ديناً ومسلكاً  .

منذ ساعة اعتقاله وحتى لحظتنا هذه لم يرد عنه خبر، ولم يعلم أهله وزوجته وأقرباؤه شيئاً عن أخباره وأوضاعه وأحواله، وإن وردتهم وشوشات من هنا ، وترددت همسات حزينة من هناك عن إعدامه في سجون ظلمهم وزنازين أغلالهم ، ولكنهم لا يملكون أي خبر أو تأكيد : متى ولِمَ وكيفَ أعدموه منذ ربع قرنٍ أو يزيد ؟ .

وأما بكره الذي لم يعانق العشرين من عمره، فقد استشهد منذ بضعة أشهرفي إحدى معارك البطولة والفداء، التي خاضها ضد المجرمين من جحافل الاحتلال وميليشيات الارتزاق والنفاق، التي تقاتل إلى جانبه ضد شعبٍ حرٍ، يدافع عن أرضه وعرضه وكرامته .

لم يطل الأمر كثيراً، مساء الغد اتصل صديقي عامر ليبلغني بالموعد لمقابلة هذا الشاب، ويدعوني لمرافقته إلى هذه الزيارة التي يجتمع بها في لقاء ودي وأخوي مع مجموعة من الشبان الناشطين، الذين حضروا من الميادين وساحات الوغى ، فأجبته على الفور موافقاً ومرحباً بمثل هذا اللقاء ، لما يمدّني به من تفاؤل وأمل، ويعزز إرادتي وينشط همتي، بوجود تلك الشموع المضيئة التي تحترق لتضيء لنا الطريق .

لم يكن ابن الشهيد وحده بل كان معه مجموعة من الشباب الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن معتقدات الأمة وكرامتها حتى تنال استقلالها وحريتها ... ضد المجرمين المحتلين العتاة، أعداء الدين والقيم والأخلاق والإنسانية .

كان بين المتواجدين مع تلك الشموع المنيرة، شاب في الثلاثينيات من عمره طويل القامة ضخم الهامة قوي الشكيمة، رغم ما يظهر من خلال حديثه، عفويته وبساطته وطيب قلبه وإخلاصه ، إلا أن ما لفت نظري، حركته وهو يسير ببطء ويميل على أحد جانبيه ، وذلك الانتفاخ والنتوء على بنطاله فوق ركبته وقد علق به بصري يتفحصه ويتابع حركته ، وبعد أن جلس على الكنبة مواجهاً لي لاحظ نظراتي الباحثة والمتفحصة حول رجله فبادرني بالكلام وهو ينظر نحوي قائلاً :

- لعلك تستغرب ذلك الانتفاخ فوق ركبتي والنتوء الذي يبدو لك، وتبحث عن سبب حركتي ... ثم أضاف دون أن ينتظر مني جواباً : إن رجلي هذه بساق صناعية ، ومفصل الركبة الصناعي هو الذي يظهر عليك بارزاً من فوق البنطال ! .

ولما علمت أنه قد فقدها في المعركة ضد الأعداء المحتلين المجرمين ، ومازال على العهد ماضٍ في مسيرة الجهاد رغم تلك الإعاقة التي تسببها له ساقه ، فخجلت من نفسي ودعوت له بالشفاء والعافية وأن يكتب له الأجر في ذلك ويعوضه الله خيراً عن ساقه التي سبقته إلى الجنان إن شاء الله ، فثنى هو والآخرون على كلامي وهم يرددون : آمين .

لم يكن هذا صاحبنا الذي كلمني عنه صديقي ، بل كان هذا أحد أقاربه المدعوين معه ... ثم حضر صاحبنا – ابن الشهيد -  والذي كلمني عنه صديقي عامر ، فقدمه لي صاحبنا وهو يشير إليه قائلاً ... هذا ابن صديقك وصاحبك الذي كلمتك عنه ! 

فاندفعت نحوه أرحب به وأحييه بحفاوة وأنا أهش في وجهه مبتسماً  ومخاطباً :

- أبا أسعد ؟ !

- نعم ... هو بذاته ! . 

كان عناقاً طويلاً شعرت فيه أني أعانق أباه ، ولم يكن القياس بعيداً فهو فلذة كبده وقطعة من جسده وأثرٌ منه بعد رحيله ... وسرح بي الخيال وأنا أغمض عيني فوق كتفه لأستحضرالمشاهد القديمة التي كانت بيني وبين والده بجلاء ووضوح .

بللت دموعه ثيابي وهو يقول : ينتابني شعور غريب لا أستطيع مقاومته كلّما التقيت بأحد أصدقاء والدي، وكأنني أراه في ذلك الشخص أو أرى بعض آثاره .

جلس بجانبي على الكنبة ملاصقاً لي، ليسألني عن والده ويستفسر مني عن بعض الأمور عنه ، ويطلب مني أن أحدثه عن كل ما أعر فه عنه من مواقف كانت بيني وبينه .

سرحت ذكرياتي بعيداً وأنا أستجمع خيوط بعض المواقف لأستحضرها  له ، وهو يتابعني بشغف واهتمام شديدين، ويقف يسأل حيناً ويستفسر تارةٍ أخرى عن كل واقعة وحدث وحركة كنت أمر عليها، خلال سرد تلك الذكريات البعيدة التي نكأت الجراح، وفتحت بوابة أسىً كبير وحزن عميق كابدناه في تلك الحقبة السوداء الكالحة، من ظلم الطاغوت وإجرام الجلادين وعسف الزبانية .

دفعوا بي إماماً لأصلي بهم العشاء وأنا أتهرب منهم وأخجل على نفسي أن أقف إماماً لهذه الكوكبة المباركة بين مجاهد ومصاب وجريح وناشط ... وأخ شهيد وابن شهيد ... ووالد شهيد .

وبعد أن قدم مضيفنا العشاء ورتبنا بعض الأمور ، ودعناهم منصرفين وعلى أمل أن نلقاهم الأسبوع القادم وأن تتكرر هذه اللقاءات ويستمر هذا التواصل .

قبل مضي الأسبوع ، وقبل موعد اللقاء الجديد اتصل بي صديقي عامر ، كنت أظنه يتصل بي ليذكرني بالموعد بعد غد ...

ولكنني صعقت عندما زفّ لي الخبر، والأسي يعتصر فؤاده وأنا أقرأ الدموع تنهمر من عينيه ، التي أراها من خلال موجات صوته العميقة المؤثرة ...

صديقك الجديد وابن صديقك ( أبو أسعد ) قد استشهد اليوم بينما كان خارجاً من صلاة الجمعة أمام باب المسجد قرب سيارته، بسيارة مفخخة وملغومة فجروها عليها وبمن حوله ...

بعد ثلاثة أيام اتصلت زوجته بقريبها عامر، تطلب منه أن يرسل أحد معارفه ليستلم الأموال التي سلمها له ليوزعها على الأيتام والأرامل، ومعها الجداول التي جهزها ... أبو أسعد.

أبا أسعد : غفر الله لك، وأنزل رحمته الواسعة عليك، وأكرم مثواك وأحسن نزلك وأعز وفادتك، وتقبلك شهيداً في فردوسه الأعلى، مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ... وجميع شهداء المسلمين ...

اللهم آمين ... آمين .

إنه ليس شهيداً ... ولا ابن شهيد ، ولا والد شهيد ، ولكنه ...كلهم معاً ... قد اجتمعوا فيه سويّاً:

شهيد ... وابن شهيد... ووالد شهيد .

ذرية بعضها من بعض .