الأعمى الذي تحدّى نابليون

وقف الأستاذ خالد، بقامته المديدة في الصفّ، وأشار بإصبعه إلى اللوح الأسود الذي كتب عليه: درس اليوم: المجاهد البطل سليمان الجوسقي.

ثم قال:

- وكان من الأبطال المكافحين - يا أبنائي - رجل أعمى كان يعيشُ في مصر، جاء من الريف المصري، ودرس في الأزهر الشريف، وعُرِفَ بذكائه الحاد، وبإمكاناته الضَّخمةِ التي تُؤَهّلُه لقيادة الجماهير، وتُرشِّحه ليكون زعيماً شعبيّاً قريباً من قلوب النّاس..

سأل الطالب كمال:

- هل كان الشيخ سليمان قويّاً؟.

أجاب الأستاذ خالد:

- نعم.. كان الشيخُ سليمان الجوسقيُّ قويَّ البُنية، وكان ذا مقدرةٍ فذَّةٍ على إدارة الأمور الموكولة إِليه، وكان شيخ العميان في القطر المصري كلّه.

سأل الطالب أحمد:

- متى كان هذا يا أستاذ؟.

أجاب الأستاذ خالد:

- قبل مئتي عام تقريباً يا أحمد.

وسأل الطالب كمال:

- ما معنى أنه صار شيخ العميان في مصر يا أستاذ؟.

أجاب الأستاذ خالد:

- يعني أنه صار قائداً لهم، وكان يعرفهم جميعاً، صغاراً وكباراً، فقد أحصاهم، ورتّب أمورهم، ورعى مصالحهم، وتفنّن في تصريف شؤونهم،وحلِّ مشكلاتهم، ومناقشة قضاياهم، حتى أصبح موضع ثقتهم جميعاً، يأتمرون بأمره، وينتهون عمّا ينهاهم عنه، ولا يقطعون أمراً بدون استشارته، فكان بحقٍّ أباهم الرحيم، وأخاهم الكبير، وسيّدهم و قائدهم وخادم مصالحهم في الوقت نفسه.

وعاد أحمد يقول:

- نريد معرفة كّل شيء عن هذا الشيخ الأعمى.. عن هذا الرجل المثير.. ذي الشخصيّة المثيرة.

قال الأستاذ:

- إذن.. أعيروني آذانكم جيّداً، واسمعوا ما أقول:

وُلِدَ الشيخ سليمان الجوسقيّ في قرية كبيرة عامرة من قرى مصر، قرب مدينة "بلبيس"، اسمها "جَوْسَق" وإليها نسبوه فقالوا: الجوسقيّ.. ونشأ وترعرع فيها وفي أحضان أسرته التي كانت تحنو عليه بسبب العاهة التي أصيب بها، أعني عاهة العمى، وبسبب مخايل الذّكاء، التي ظهرت عليه في وقتٍ مبكّرٍ، وتعلّم - كسائر أترابه من أطفال الريف المصري - في "الكُتّاب" وحفظ قسطاً من القرآن الكريم، ثم أرسله أبوه إلى الجامع الأزهر في القاهرة ليتعلّم فيه، وليكون أحد مشايخ القرى، إِماماً وخطيباً ومعلّماً في "كُتّاب".

فسأل عادل:

- هل هذا كلّ ما كان يطمح إليه طلاّب الأزهر وآباؤهم يا أستاذ؟.

أجاب الأستاذ:

- نعم يا عادل.. هكذا كانت مطامح الأهل، أمّا الطلاب، فعلى قدر عزائمهم وذكائهم يكون طموحهم.

سأل عادل:

- لماذا يا أستاذ؟.

أجاب الأستاذ:

- بسبب الجهل، والفقر.

قال فؤاد:

- ليتنا نستمع إلى الأستاذ، فقد يكون في كلامه أجوبة لما نسأل عنه.

فتابع الأستاذ كلامه عن الجوسقي الطالب الأعمى:

- ولكنَّ الفتى سليمان كان طالباً مجدّاً، وذا شخصيّةٍ قويّةٍ لفتت إليه الأنظار، وجعلته مُقدّماً بين الطلاب.. وكثيراً ما كان الطالب سليمان يثير بعض المسائل والمشاكل بسبب أسئلته التي تُحرج بعض مشايخه في عُمقها أو طرافتها أو غرابتها، فيُضحِكُ زملاءه الطلاب حيناً، وتتسبَّب في توبيخه من قِبَلِ أساتذته حيناً آخر، ولكنّها كانت في سائر الأحوال تبعث الخوف منه، والاحترام له في نفوس الجميع..

سكت الأستاذ خالد لحظة، كان يتفرّس أثناءها في وجوه الطلاب، ثم استأنف كلامه:

- كانت مصر تئن تحت وطأة المماليك الذين كانوا يحكمونها، كما يحكم أيُّ غريبٍ البلاد والشعب.. كانت مصر تتبع شكليّاً للإمبراطورية العثمانية، وكان الأتراك الذين يحكمون البلاد العربية من "إستانبول" يعتبرونها ولايةً تابعةً لهم، فيعيّنون لها والياً وقاضياً، ولكنَّ المماليك كانوا يتصرّفون بها وبثرواتها ومقدراتها.. يظلمون أبناء الشعب المصري، ويتسلطون عليه ويسلّطون أتباعهم على الفلاحين والمساكين، يسرقون أوقاتهم، وينهبون أرزاقهم، ويصادرون ممتلكاتهم، دون أن يحسبوا أيّ حساب للشعب المصريّ المقهور الذي كان يتطلع للخلاص من ظلمهم وحكمهم الجائر، ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً، فهو شعبٌ جاهل فقيرٌ أعزل، لا يملك من أمره شيئاً، وليس لديه القيادة التي توعّيه، وتسعى إلى تخليصه من حكم هؤلاء المماليك.

فسأل أحمد في انفعال:

- والسلطان في إستنبول؟، أما كان يسمع بمظالم المماليك؟.

أجاب الأستاذ في امتعاض وألم:

- السلطان هو الذي عيّنهم على مصر، أو أقرّ لهم بحكم مصر، وقد فطن الطالب سليمان إلى كلّ هذا، وحاول أن يثير هذه القضية أكثر من مرّة مع أساتذته، ولكنّه كان يُؤمَرُ بالسكوت، فهي أكبر منه ومنهم، ولا ينبغي لطالب فقيرٍ أعمى أن يَشغَلَ نفسه بها، فقد تُسبّب له الطرد من الجامع الأزهر، وربّما دسّ إليه المماليك من يضربه ويهينه، بل إنهم لن يتورّعوا عن قتله إذا عرفوا أنه قد يزعجهم في قابل الأيام..

سأل أحمد:

- وسكت سليمان؟ أمّا أنا فأموت ولا أسكت على الظلم.

تلفّت الأستاذ خالد حواليه، ثم قال:

- دعونا مع الشيخ الجوسقي أرجوكم.

تغامز الطلاب وتهامسوا وهم ينظرون إلى أستاذهم، ثم قال أحمد:

- نعم يا أستاذ..

استأنف الأستاذ خالد كلامه عن الطالب الأعمى المشاغب وقال:

- ولكنّ الفتى سليمان أسرَّ في نفسه أمراً، وراح يغذّيه وينمّيه لدى زملائه الطلاب الفقراء عامة، والعميان خاصّة.

سأل أحمد:

- كيف؟.

قال الأستاذ:

- كان سليمان يدرك أنّ الطلاب العميان غالباً ما يكونون من الفقراء البائسين، وأنهم بحاجة إلى من يخفف عنهم بؤسهم وتعاستهم، وإلى من يرعى لهم شؤونهم، فبادر الطالب سليمان إلى ذلك، فتقرّب إليهم، وتحبّب إلى قلوبهم، وصار يبثّ فيهم روح التمرد على الواقع المهين الذي يعيشونه، فوثقوا به، وألقوا إليه زمام أمورهم، حتى صار مرجعهم الذي يرجعون إليه في حل مشكلاتهم، يُخبّئون عنده نقودهم القليلة، ويستشيرونه فيما يشترون ويقرؤون ويحفظون، وكانوا يجدون لديه الحلول المناسبة لكل مشكلة، حتى صار شيخهم، وما عادوا ينادونه إلاّ باسم الشيخ سليمان.

قال فؤاد:

- ليت عندنا مثل هذا الطالب الأعمى ليقودنا، وسأكون أنا أول جنديّ عنده.

فضحك أحمد وقال:

- صدق من قال:

أعمى يقود بصيراً لا أبا لكموا قد ضلّ من كانت العميان تهديه

وضج الصف بالضحك، وضحك معهم الأستاذ، وبعد أن سكت عنهم الضحك تابع الأستاذ كلامه:

- كان يقول لهم:

"يجب أن نجاهد لنحرر الشعب المصري من حكم هؤلاء المماليك الظالمين".

وكان العميان يستغربون كلامه ويسألون: "كيف". والطالب سليمان يشرح لهم، ويبثّ في نفوسهم روح العزّة والكرامة والتصميم على الكفاح الدامي لتحرير مصر من حكم الغرباء.

قال أنس:

- يا سلام.. أعمى ولكنه يرى أكثر من "المفتّحين".

وتابع الأستاذ يقول:

- وعندما أنهى الجوسقيّ تعليمه في الجامع الأزهر، وانتقل إلى الحياة العملية، قام بتنظيم أمور العميان في سائر المدن والقرى المصريّة، يُرتّب لهم حياتهم، ومفردات عيشهم، يوزّعهم على الأحياء والقرى القريبة والنائية، ويعلّمهم كيف يتعاملون مع الناس، حتى الشحّاذة رتبها لهم، وكان هؤلاء العميان يطيعونه فيما يأمرهم به، وفيما ينهاهم عنه، وكانوا يُعطونه ما يزيد عن حاجتهم من مال، ليدّخره ويثمّره لهم. وكان هو يفرض على الشَّحاذينَ منهم ضريبةً مُعيّنة. فكان يأخذ نسبةً محددة ممّا يشحَذونه من الناس، وهم راضون. يُزَوِّجُ هذا، ويشتري أو يستأجر بيتاً لذاك، ويرعى مصالح الجميع، وكأنه ملك العميان في القطر المصري كلِّه.

انتبه الجواسيسُ لهذا الشيخ الأعمى الذي صار له نفوذٌ كبير على العميان، حتى شكّل منهم جيشاً جرّاراً في طول البلاد وعرضها، وجمع الأموال الطائلة ممّا كان يأخذه من العميان، وما كان يُتاجر به، وبنى العمارات، وأنشأ عدداً من المطاحن والمعاجن والمخابز، حتى صار كبارُ المشايخ والوجهاء يستدينون منه، وكان يُقرِضهم قروضاً حسنة، لتكون له دالَّةٌ عليهم، ولِيُذِلَّهم ويُحرجهم أمام أبناء الشعب عندما يريد. وكثيراً ما كان هؤلاء يضيقون به، ويحسدونه على ماله ونفوذه، ويكرهون كبرياءه، فهم لم يعهدوا في أيّ أعمى أن يكون سيّداً ثريّاً مطاعاً، وهم المبصرون، ينظرون فلا يرون حولهم إلاّ المنافقين وأصحاب المصالح.. كان هذا يثير نقمتهم عليه، فلا يتحفّظون في الجهر بما ينقمون عليه، ولكنّ الشيخ سليمان كان لهم بالمرصاد، يُلَقِّنُهم دروساً في العزّة والكرامة، ويأبى أن يذلَّ لهؤلاء الذين كانوا يُثيرون غضب المماليك عليه، فيشكونه إلى أُمرائهم، ويُحذّرونهم من تعاظم شأن هذا الأعمى الذي ينوي الشرَّ بهم جميعاً، فهو يكيد لهم، ويسخر منهم، ويَزعم أنهم مماليك عبيدٌ وليسوا أحراراً، وكثيراً ما كان الحُمقُ يركب بعض هؤلاء المماليك، فيتعرّضون له ولأتباعه العميان ويُؤذونهم، وهو صابرٌ على إيذائهم، يتحيّنُ الفرصة التي يُذلّهم فيها، ويُعبِّئ أتباعه بالحقد عليهم، والتأهُّب لليوم الذي يثأرون فيه لكرامتهم المُهدَرَة، ولأموالهم المُنتَهَبة..

قال عدنان:

- شيء جميل.. جميل جدّاً.

تابع الأستاذ خالد حديثه:

- كان الشيخ سليمان يُعِدُّ العُدَّة، ويسعى لتطهير مصر من هؤلاء المماليك الدُّخلاء، الذين نشروا في البلاد ألوان الفساد، فكانوا وأتباعهم يسطون على الأعراض، وينهبون الأموال، ويُذلُّون الفلاحين البائسين، ويقهرون الرجال، حتى لا يفكّر واحدٌ منهم بالعمل على تخليص البلاد والعباد منهم، والولاة الأتراك ينظرون فلا يُحرِّكون ساكناً ضدّ هؤلاء المماليك، وكان همُّ الشيخ الجوسقي وهاجسه تكوين جيش من الشعب المصريِّ ينقضُّ عليهم في يوم من الأيام، إذ لا أمل في تحرير الوطن من الغرباء إلاّ بجيش من أبناء الوطن نفسه، ولكنّه كان يجدُ العقبات تقف في وجه طموحه هذا.

وكانت زوجته أمُّ داود تُغذّي طموحه هذا، وتُمنّيه بأن يكون سلطاناً على مصر، فليس في مصر كلِّها من يستحقُّ أن يكون سلطاناً عليها غير الشيخ سليمان، الرجل الذكيِّ الألمعيِّ الشديد البأس، والقادر على قهر أعداء الشعب. وكانت تقول له:

- اعمل وثابر على العمل يا شيخ سليمان، ولا تيأس، ولا تضعف، واعتمد على الله. فما اعتمد مجاهد على الله، ووثق به الشعب، إلاّ انتصر بإذن الله.

ولكن.. وقبل أن يخطوا الشيخ خطوته التالية في تشكيل جيش الشعب من عامّة المصريين، بعد أن بدأ بتشكيل جيش العُميان - جاء نابليون بونابرت بأُسطوله وجيشه وعلمائه ومعدّاته وأسلحته الحديثة الفتّاكة، وغزا مصر، وتمكّن من دحر جيش المماليك الذي فرَّ أمام عُدّته الحربية، ورضي من الغنيمة بالهزيمة.

وراح نابليون يعمل بعقليّة المستعمر، ويتصرّف كتصرّف سائر المستعمرين.. يُخرّب ويُدمّر ويقتل ويحرق المحاصيل الزراعية، وينشر الفساد الأخلاقي.. وانطلق جنوده يعيثون فساداً بأرض مصر، يُذلّون شعبها، ويعتدون على الأعراض. ويدوسون المقدّسات، وينتهكون الحرمات، فدخلت خيولهم إلى صحن الجامع الأزهر، واعتدوا على علمائه وعلى طلاب العلم فيه، وقتلوا المصلين، وسَخروا من دينهم ومن عاداتهم وتقاليدهم وعبادتهم، حتى إنّهم جعلوا الجامع الأزهر وعدداً من مساجد القاهرة والمدن والقرى مرابط لخيولهم، في استهتارٍ واستهانةٍ بهذا الشعب الذي زعموا أنه شعبٌ ذليل خاضع لا يعرف القتال، ولا كيف يدافع عن وطنه وعن عقيدته وعن عرضه، مثلهم في ذلك كمثل أسلافهم من الأتراك والمماليك الذين كانوا يزعمون أيضاً أن الشعب المصريَّ شعبٌ مسالمٌ مستسلمٌ لا يقوى على ردِّ العدوان عليه. متواكلٌ، يدع أمر الدفاع عن أرضه إلى غيره.. إلى المماليك الذين ولّوا الأدبار أمام الفرنسيين. بل إنّ الفرنسيين هؤلاء كانوا ينهبون الكتب والمخطوطات والآثار، ويقطعون في كلِّ يوم رؤوس خمسةٍ أو أكثر من المصريين في القاهرة وحدها، ويطوفون بها في شوارعها، إرهاباً للناس وتخويفاً..

صاح عدنان:

- أعوذ بالله من هؤلاء الفرنسيين المتوحّشين.

فيما تابع الأستاذ حديثه:

- كان الشيخ سليمان يراقب الأمور عن كثبٍ، فيغلي الدّم في عروقه للحال المهينة التي وصل إليها وطنه وأبناء شعبه..

كان يجتمع في داره في القاهرة بزعماء المحافظات والوجهاء والمشايخ، فيتدارس معهم الأوضاع، ويستشيرهم فيما يجب أن يفعلوه لصدّ المستعمرين الفرنسيين الجدد، وكان يستمع إلى كلّ واحدٍ من هؤلاء طويلاً، ثم يعطي رأيه فيما يجري، وفيما ينبغي أن يفعلوه، ثم يُصدِر أوامره ويطلب منهم أن يتقيّدوا بتنفيذها بدقّةٍ، وكانت خطّته تتلخص في أن يستعد شباب المدن والقرى المصرية، وكلٌّ في مكانه، ولا يُسمح لأهل أيّ بلد في التصدي لهؤلاء الغزاة ما داموا عُزّلاً من السلاح..

كان يقول لهم:

"قولوا لأبناء الشعب أن يبقوا في أماكنهم، وأن يتحصّنوا ويتسلّحوا بكل ما يقع تحت أيديهم من أنواع السلاح، من الحجارة والعصيّ والسكاكين والفؤوس وما إلى ذلك من أنواع السلاح..".

وكان يقول للشباب:

"سنّوا فؤوسكم وسكاكينكم وأمواسكم جيّداً، لتقاتلوا أعداء دينكم ووطنكم".

وعندما كان بعض المتحمّسين وأصحاب النظر القاصر يطالبونه بالثورة الفورية، والقتال مع المماليك ضدّ الفرنسيين، كان يجيبهم بحزم:

"لا.. لا يجوز أن نفرّط بشبابنا هكذا.. عليكم بالصبر إذا أردتم أن تنجحوا في طرد الغزاة.. أمّا المماليك فدعوهم يقاتلوا وحدهم. ليبوءوا هم وحدهم بالفشل، أمّا إذا قاتلنا معهم، فستكون النتيجة أن نبقى على ما نحن فيه من الذّلة والمهانة منذ قرون.. سنبقى شعباً ضعيفاً يشتري جيشه من أسواق العبيد.. ثم إن مصر صارت مُلكاً لهؤلاء المماليك العبيد منذ سلّمناهم زمام الأمور عندنا، وطلبنا منهم أن يدافعوا عن أرضنا، وتخلّينا لهم عن شرف الجهاد.. ولو كان أولئك المماليك يحسبون لنا أيّ حسابٍ، لوزّعوا علينا السلاح، ودرّبونا على استعماله، ولكنّهم مستعمرون كالفرنسيين، يريدوننا عبيداً لهم.. لا يثقون بنا، ولا بقدرتنا على القتال".

سكت الأستاذ خالد لحظات.. كان يتفرس - كعادته - في وجوه طلابه، ليرى أثر كلامه فيهم، فلما رأى إصغاءهم واهتمامهم بهذه الشخصيّة الفذّة، تابع يقول:

- لقد كان الشيخ سليمان الجوسقي يؤمن بالكفاح المُسلّح الواعي طريقاً وأسلوباً وحيداً لتحرير أرض مصر من مغتصبيها، إذ لا يدافع عن الوطن إلاّ أبناؤُه؛ فأبناء الشعب هم وقود الثورات، ولا بدّ لنجاح الثورة من قيادةٍ مُدبّرةٍ حكيمة تُوفّر لعناصره كلَّ أسباب القوة من السلاح والتدريب والتخطيط والمال، وكان يقرأ قول الله تعالى: "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدوّ الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم" فيبادر إلى تعبئة الشعب تعبئةً روحيةً، فيذكّرهم بتعاليم الإسلام الداعية إلى الحرية والعزّة والكرامة، ولا تتأتّى هذه المعاني إلاّ بالجهاد في سبيل الله، والجهاد يكون باليد وباللسان وبالقلب، والجهاد يكون بالدفاع عن الشعب والأرض والعرض، وكان يُذكّرهم بأمجاد أسلافهم وأجدادهم وعظمائهم.. وكان يُعبّئُهم نفسياً ومعنوياً، وينفخ فيهم روح الثورة والقتال، فيخاطبهم:

"يا أحفاد خالد وعمرو والقعقاع.. يا أحفاد صلاح الدين..".

فتمتلئ نفوسهم بحبّ الجهاد لطرد الأعداء من مصر..

فهتف أنس في انفعال:

- الله أكبر.. ما هذا الرجل‍‍‍‍‍‍!.

وتابع الأستاذ:

- وكان يشرح لهم عوامل القوّة الواردة في قوله تعالى: "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة..".

وهكذا حتى كان لتحريضه أبناء القاهرة على الثورة، أن ثار الشعب في القاهرة ضدّ الفرنسيين، بعد هزيمة المماليك، وكان يمكن لهذه الثورة أن تنجح لو أنّ سائر المدن المصرية ثارت مع القاهرة، ولكنها لم تفعل، وسارع الفرنسيون إلى البطش بأبناء القاهرة، فأحرقوا المحلاّت التجارية بعد أن نهبوها، وهدموا البيوت على رؤوس ساكنيها، وانتهكوا حُرمة المساجد، ودمّروا عدداً منها، في وحشيّةٍ ألهبت المشاعر، وجعلت الشعب يستعدّ للثأر والانتقام.

سأل عدنان في انفعال ظاهر:

- والشيخ سليمان لا يحرّك ساكناً؟.

أجاب الأستاذ:

- بل كان الشيخ سليمان يستخدم جيشه السِّرّي من العميان في إيصال تعليماته وأوامره إلى الوجهاء والمشايخ وزعماء المدن والقرى، يحثّهم على الاستعداد للمعركة الفاصلة مع المستعمرين الفرنسيين، كما كان يُكلّف بعضهم باغتيال الجنود الفرنسيين، وكان يقوم العميان بأداء واجباتهم في سرّيةٍ وذكاء، واستطاعوا أن يقتلوا عدداً كبيراً من جنود الاستعمار.. يلتقطون السُّكارى منهم وهم خارجون من الحانات بعد منتصف الليل، حتى ضجّ قادة الجيش الفرنسي، واستطاع نابليون معرفة بعض الرؤوس التي كانت تُحرّض على الثورة ضدّه، كما عرف أنّ الشيخ سليمان الجوسقي هو الرأس المدبر، وهو قائد جيش العميان الذين يقومون بعمليّات القتل والاغتيال لجنوده، فثارت ثائرته، وأمر بإلقاء القبض على المشايخ الذين ظنّ أنّهم زعماء الشعب. وكان من بين هؤلاء هذا الشيخ: الأُعجوبة سليمان الجوسقي.

سأل أحمد:

- هل اعتقل نابليون العميان أيضاً؟.

أجاب الأستاذ خالد:

- سجن بعضهم، وقتل عدداً كبيراً منهم، وأمر ضباطه أن يأتوه بشيخهم الذي نظّمهم هذا التنظيم الدقيق.

وعندما مَثَلَ الشيخ سليمان بين يَدَي نابليون، أُعجب به نابليون وبدهائه وبذكائه الخارق، فطمع به، وراح يُناوره ويحاوره ويعرض عليه عُروضاً مُغرية، لعلّه يستطيع كَسبَهُ إلى جانبه، فشيخٌ أعمى مثله يتمكن من تشكيل جيش ضخم من العميان في سائر البلاد المصرية، جديرٌ أن يكون كسباً كبيراً له فيما لو استطاع إغراءه بالمنصب والجاه والمال، ولكن خاب فأل نابليون في استمالة هذا الشيخ القائد الأعمى الذي وقف صامداً في وجهه كالطَّود الأشم، لا يُبالي بترغيب أو ترهيب، بعد أن خسر المئات من جنوده العميان الذين قتلهم نابليون، وبعد أن فقد أكثر أتباعه والمتعاونين معه ممّن قتل بعضهم نابليون وشرّد وطارد بعضاً آخر..

كان الشيخ سليمان يستمع إلى عروض نابليون بونابارت في شموخ واستعلاء، وكان يُعلّق على كلّ عرض ساخراً ومستهزئاً بالعرض وصاحبه، حتى نَفِدَ صبر نابليون الذي أحسّ بالهزيمة أمام هذا الأعمى، وهو الذي قهر جيوش أوروبا وملوكها، ولكنّه تماسك قليلاً وأراد أن يداعب أحلام الشيخ سليمان، فعرض عليه أن يكون سُلطاناً على مصر كلِّها، وزعم له أنه لم يجد في مصر من هو في مثل كفاءته وقوته وقُدرته على تسيير الأمور. وتظاهر الشيخ الأعمى بالقبول.

وأدار الأستاذ عينيه في تلاميذه، فرآهم مشدودين إليه، وعيونهم متعلّقة بلسانه وشفتيه، فتابع يقول:

- ومدّ الشيخ سليمان يده إلى نابليون، كأنه يريد أن يبايعه، ويعلن رغبته في التعاون معه، وابتسامة ساخرة ترتسم على شفتيه، ومدّ نابليون يده فرحاً، ظنّاً منه أنه تغلّب على هذا الشيخ الأعمى، وكسبه إلى جانبه، حتى إذا أمسك الجوسقي بيد نابليون بيده اليمنى، لطمه بيده اليسرى لطمةً صبّ فيها كل ما في نفسه من آلام وأحزان وثارات وأحقادٍ على المستعمرين الغزاة، فجُنّ جنون القائد المنهزم نابليون، قاهر الملوك والجيوش، وصاح في نزق وصراخ شبيه بالعويل: "اقتلوا هذا الشيخ الأعمى.." هجم حُرّاس نابليون على الجوسقي البطل، وقتلوه. فصاح نابليون من جديد: "ألقوا جُثّته مع جثث أصحابه في نهر النيل، لتكون طعاماً للأسماك".

فصاح أحمد:

- وهكذا انتهت حياة هذا البطل يا أستاذ؟.

أجاب الأستاذ:

- وهكذا - يا أبنائي - انتهت حياة الشيخ البطل سليمان الجوسقي في الجنة مع الأنبياء والشهداء والصالحين.. لقد كانت حياةً حافلةً بالجدّ والاجتهاد والعمل والجهاد في سبيل الله والوطن والشعب، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول:

"من قُتِلَ دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد".

والذي يقول:

"سيّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمامٍ "أي حاكم" جائرٍ فأمره ونهاه فقتله..".

توقّف الأستاذ خالد عن الكلام لحظات، وشاهد أثر كلامه في طلابه.. رأى انفعال بعضهم إلى حدّ البكاء.. رأى حماستهم الشديدة ضدّ الظلم والظالمين، وضدّ الغزاة المستعمرين.. ورأى تعاطفهم مع هذا البطل، فلم يملك نفسه من أن يشاركهم في مشاعرهم النبيلة هذه ثم قال في عزم وتصميم:

- سمعتم قصة هذا البطل.. فهلاّ سألتم أنفسكم وسألتموني: ما المطلوب منكم؟.

المطلوب منكم - يا أبنائي - أن تكونوا كأجدادكم جِدّاً وعملاً وجهاداً، فأرضكم تتعرّض للغزو من قبل اليهود الطامعين، وشعبكم يستصرخكم لتكونوا أمثال خالدٍ وسعدٍ والمثنّى والمعنّى وسليمان الحلبي والكواكبيّ وهنانو وسليمان الجوسقي، لتكونوا أبطالاً ميامين، تذودون عن أرضكم وتدافعون عن عقيدتكم وعروبتكم، وتصدّون هجمات المستعمرين الجدد، الذين تدفعهم مطامعهم وأحقادهم إلى غزو وطنكم، وإذلالكم، ونهب ثرواتكم وخيرات بلادكم، لتكونوا عبيداً لهم أو كالعبيد.

فصاح أنس في شدّة:

- خسئوا.. خسئوا..

وقال عدنان:

- إذا قتلوا سليمان الجوسقي، فقد جاء بعده سليمان الحلبي، وثأر للجوسقي ولمصر بقتل قائد الفرنسيين: كليبر.. ونحن لهم بعون الله وقدرته.

المراجع:

1- القرآن الكريم.

2- الإمام النووي: رياض الصالحين.

3- عبد الرحمن الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار.

4- عبد الرحمن الجبرتي: مظهر التقديس، بذهاب دولة الفرنسيس.

5- علي أحمد باكثير: الدودة والثعبان.

6- ياقوت الحموي: معجم البلدان.   

وسوم: العدد 729