بابيلون ح6

حيدر الحدراوي

[email protected]

طلب ينامي الحكيم ان يجتمع مع جميع الحرفيين , طلب منهم ان يعملوا ليلا ونهارا من اجل صناعة المزيد من السلاح , واصلاح ما يمكن اصلاحه , وركز كثيرا على صناعة قاذفات اللهب , طلب منهم ان يجعلوها سهلة النقل , وخفيفة الحركة .

من جانب اخر , اجتمع مع قادة الثوار , وامرهم بتدريب الثوار الجدد على استعمال السلاح واللياقة البدنية , ووضع الخطط العسكرية للمواجهات المقبلة .

بعد مضي اسبوع من العمل الجاد , قرر ينامي الحكيم التحرك نحو مدينة ايروس البعيدة , على ثلاثة محاور , المحور الاول بقيادته سالكا الطريق الصحراوي , والمحور الثاني بقيادة حالصبيعش سالكا الضفة اليسرى لنهر ترفلا , والمحور الثالث بقيادة وردنياس سالكا الضفة اليمنى لنهر ترفلا .

كانت جيوش الثوار كبيرة , لذا كانت حركتها بطيئة , لكن تملئها العزيمة و الثقة بالنفس , حامت حولهم الوحوش الطيارة , تراقب المنظر من افاق السماء , وترسل الصور الى خنياس , الذي اعلن حالة التأهب القصوى , وامر بإيقاف هذا الزحف بكل الوسائل المتاحة .         

قرر خنياس ان يفتح السدود على نهري ترفلا و هلدج , كان منظر الماء مرعبا وهو يتدفق بغزارة , من المقرر ان يصل الى الثوار بعد يومين من اطلاقه , اي عند وصول الثوار الى مدينة حلداد , سيغطي كل هذه المساحات الشاسعة من الاراضي , مما يعرقل حركة الثوار , ويتطلب منهم ان يسيروا لمسافات بعيدة كي يجتازوا النهر في طريقهم الى مدينة ايروس , او ان يستعملوا السفن والقوارب , التي ليست بحوزتهم , ولا يمكنهم صنعها بهذه السرعة , كما وان ذلك يبعد خطوط التماس بين المحاور الثلاثة لهم , ان بقيت سليمة بعد الفيضان , مما يسهل القضاء عليها , كلا على حدة .

واجهت الثوار في طريقهم مقاومة خفيفة , سرعان ما اجتازوها بنجاح وتفوق , لم يكن في المدن التي مروا كثير من جنود الوحوش , فقد سحبت الحاميات الرئيسية الى ما وراء مدينة ايروس , كما ونالوا المزيد من ترحيب الاهالي , الذين بادروا الى نثر الورود واوراق الشجر عليهم , ابتهاجا بالتحرير والخلاص من سيطرة دامت طويلا .

عسكر الثوار على مشارف مدينة حلداد , بعد ان وصلوها عصرا , لاحظوا انسحاب جيوش الوحوش عنها بالكامل , لكنهم لم يأبهوا لذلك , بل انشغلوا بنصب الخيام وطهي الطعام وتوزيع ادوار الحراسة .

على حين غرة , سمعوا اصوات صراخ وطلبات استغاثة , صادرة من المدينة , كان الظلام حالكا , لم يعلموا بما يحصل , لكن سرعان ما لاحظوا مقدمات الفيضان تغزو معسكرهم , بدأ الماء يتدفق بغزارة , فهرعوا لتسلق الاشجار , تشبثوا بها بكثافة , بعض الاشجار لم تحتمل هذا العدد من البشر , فانحنت , وسقطت , وجرفتها المياه بعيدا .    

لم يكن معسكر وردنياس بأفضل حالا , هو الاخر غزاه الفيضان , فهرع الثوار طلبا لليابسة نحو نهر هلدج , لكن .. حاصرتهم مياه هلدج , واطبقت عليهم .

معسكر ينامي الحكيم كان بعيدا عن الفيضان , وصلتهم الاخبار , لكنهم لم يتمكنوا من تقديم يد العون لرفاقهم , بسبب الظلام , وبسبب الماء الذي توقف قريبا من معسكرهم , تجمع الثوار حول ينامي الحكيم , لأخذ المشورة والرأي :

اللعين خنياس آمر بفتح السدود .

استعمل الماء كسلاح ضدنا .

سلاحا و عائقا لتقدمنا ! .

ما نفعل الان ؟ .   

بمرارة بالغة استطاع ينامي الحكيم ان ينطق :

ستنحسر المياه في الصباح ... عندها نهب لتقديم العون والنجدة لأخوتنا .. لكن ..

لكن ماذا سيدي الحكيم ينامي ؟ .

سيلجأ خنياس الى اغلاق السدود بالكامل حتى تمتلأ بالمياه مجددا ... ثم يعاود فتحها مرة اخرى .

اذا يجب ان ننقذ من نستطيع انقاذه ... وان لا نبقى هناك فترة طويلة ! .

كما ان هناك امرا اخر ! .

ما هو سيدي ؟ .

ماذا لو امر خنياس بشن هجوما شاملا على الثوار في المناطق المنكوبة ! .

عندها ستلقى على عاتقنا مهمتين ... الاولى : انقاذ ما يمكن انقاذه من الثوار والسلاح وغيره ... والثانية : خوض القتال معهم .

نعم ... نعم ... انهم يعلمون ان معسكرنا قد نجا من الفيضان ... لذا سوف يستدرجوننا الى الحرب هناك ! .

ستكون الارض طينية ... لا يمكننا الثبات عليها ! .

بينما هم لديهم من الوحوش الكبيرة ما سيكونون على ظهره  ... ومنها سيضربوننا بقوة ! . 

اختلف الثوار بين المشاركة في حرب قد تكون نتيجتها خاسرة , كما دعاها البعض منهم بــ (  حرب انتحار ) , او جرّ جيوش خنياس بقيادة خنشل الى حيث هم يعسكرون في الصحراء , لكن وماذا عن انقاذ الثوار الغرقى ؟ ! .

قرر ينامي الحكيم تقسيم جيشه البالغ عدده ثلاثون الفا الى قسمين , عشرة الاف مهمتهم انقاذ الثوار , وعشرون الفا يكونون مستعدون لخوض غمار حرب ضروس , فطلب من الجميع الخلود الى النوم والراحة , لانهم على موعد مع عمل شاق في صبيحة الغد .

                 ***************************** 

في صبيحة اليوم التالي , كان الماء قد انحسر , شرعوا بمساعدة بعضهم البعض , واسعاف الحالات الخطرة , لم يكن منهم من يحمل سلاحا , بل فقدوا اسلحتهم , عندما سمعوا صوت المنادي صارخا :

هجوم ... ها هم قادمون نحونا بهجوم واسع ! .

التفت حالصبيعش نحو مصدر الهجوم , فقال :

لا ... ليس الان ! .

الارض الطينية تعيق الثوار من المشي , تقدما او هروبا , بينما كان جيش الوحوش يركبون على وحوشا كبيرة , ثابتة اقدامها على الارض , ومنها يطلقون نبالهم ورماحهم , بالإضافة الى الوحوش الطيارة , التي ترمي اللهب و الحجارة , قال احد الثوار لحالصبيعش :

سوف لن تبقى لنا باقية ! .

سيجد ينامي الحكيم مخرجا لذلك ... اثق به وبحكمته ... ما علينا الا ان نقي انفسنا من الهلاك ! .   

هبّ عشرة الاف ثائر راكبين على الخيول لإنقاذ الثوار , لكن من جهة الخلفية , بينما ينامي الحكيم ومن معه الثوار كانوا يتفرجون على جيش الوحوش الجرار , بما لديه من وحوشا كبيرة :

لم ار مثيلا  لهذا من قبل ! .

يا لضخامة هذه الحيوانات الكبيرة ! .

هل ستكون اسلحتنا هذه نافعة ضد هذه الحيوانات ! .

ستكون ضرباتنا لها مجرد لسعات بعوض ! .

ليتني ذهبت مع الفرقة التي كلفت بالإنقاذ بدلا من الفريق المكلف بالقتال ! .     

كان ينامي الحكيم على العكس منهم جميعا , الجميع كان منبهرا بجيش الوحوش , لكنه كان يراقب ثواره , يستمع الى كلامهم مع بعضهم البعض , فاحصا تعابير وجوههم , مستغرقا في تفكير عميق , حتى تقدم اليه احد قادة الثوار سائلا :

متى سنهاجم ... سيدي ؟ .

الا ترى ان همة وعزيمة الثوار قد تلاشت ... كيف اشن هجوما بقلوب خائرة ! .   

جاء احد الثوار راكضا نحو ينامي الحكيم , يحمل اخبارا غير سارة :

سيدي الحكيم ! .

ماذا ورائك ؟ .

لقد هرب الكثير من الثوار ! .

أمتعض ينامي الحكيم من سماع الخبر , قرر ان يلقي خطابا على الثوار , او على من بقي منهم , فقال بصوت مرتفع :

يا اخوتي الثوار البواسل ... لم آت بكم الى الموت المحتوم ... من يرى منكم في قلبه شيئا من الجبن وضعف القلب .. فلينصرف ... كما فعل الاخرون ... لست بحاجة الى رجالا ضعاف الهمة .. خائري القلوب ... ومن وجد في قلبه الشجاعة والاقدام ... والايمان بالقضية .. فليبق معي ... لست اجبركم على هذا الامر ... واعلموا ان للحرية والسلام ثمن باهض ! . 

انتظر حوالي ساعة من الزمان , كي يعطي الوقت الكافي لمن يفكر بالانسحاب , وايضا يمنحه الوقت الكافي ليبتعد عن ساحة القتال واخطارها , بينما انشغل هو مع قادة الثوار لتدارس خطة الهجوم , بعد فراغهم من الخطة , نهض ينامي الحكيم ليستطلع من بقي من الثوار معه , ويختبر عزائمهم , اخبره احدهم :

ما يقرب من عشرة الاف ثائر قد انسحبوا ! .

هل ابتعدوا بما فيه الكفاية ؟ .

نعم ... سيدي .   

 التفت الى قادة الثوار وقال :

لم يبق معنا سوى عشرة الف اخرون ! .

هذا العدد يكفي لشن الهجوم . 

وقف ينامي الحكيم في قبالة الثوار مخاطبا :

انه الموت بكل اشكاله وعناوينه ... هل ستقبلون عليه ؟ .

صاحوا جميعا بصوت واحد :

اننا له معانقون ... بقلوب كزبر الحديد .

اذا ... الى الامام ! . 

يتبع