في العيد

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

في العيد

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

صديقان حميمان جمعتني معهما مقاعد الدراسة ومرابع الطفولة وقطعنا معا المرحلة الإبتدائية ثم الإعدادية ولم نبتعد كثيرا عن بعض في المرحلة الثانوية  ثم قذفتنا الحياة في طرقات شتى فمن تابع دراسته الجامعية ومن اكتفى بوظيفة أمنتها له الشهادة الثانوية ومن راح يضرب في الأرض هنا وهناك يلتقط رزقه وشاء القدر بعد كل هذه السنوات الطويلة أن نلتقي في المسجد في صلاة العيد  فكانت الفرحة فرحتان فرحة العيد وفرحة اللقاء بعد طول غياب وافتراق حيث نبشنا الذكريات وتصفحنا اوراق الماضي الجميل على عجل وتواعدنا على الزيارة  وهكذا كان

زرت صديقي الأول هشام سألته عن أحواله  عن دراسته عن تحصيله العلمي  فضحك باستهزاء وقال : دراسة .. تحصيل علمي ! أتـريدني أن أسير في طريق الفقر وأطرق أبواب المسؤولين أتسول عندهم وظيفة لا تسد جوعة جائع سامحك الله ! أنا حتى لم أحصل على الشهادة الثانوية  ولكني انخرطت في سوق العمل الحر واجتهدت وصيرت حتى تمكنت من جمع ثروة أخذت  أتاجر بها  وأتنعم بخيراتها  فعندي الآن سيارة  وعمارة من ثلاثة أدوار وهذه الفيلا التي نحن فيها الآن

و كأنه بهذا الشرح والإطناب لفت نظري إلى المكان الذي أنا فيه  فوجدت فعلا أن الغرفة تشي بما يقول  وتصدق ما يدعي فهي فاخرة بأبوابها ونوافذها  فاخرة بأثاثها وستائرها

  قدم لي صديقي هشام القهوة بادىء ذي بدء في فنجان أحسبه من اللؤلؤ محمول على صينية لا تشك أنهامن أنفس المعادن  فبدأت الهيبة  هيبة المكان تأخذ بتلابيبي و تستولي على مشاعري  ثم أخذ يتابع حديثه الذي يقطع الأكباد سماجة

أملك كذا من النقود وعندي كذا من الدكاكين وتزوجت ابنة أحد التجار  ولكنه بات لا يدانيني في الثروة والتجارة ورزقت ثلاثةأولاد شابان وصبية ثم التفت إلى الباب ينادي على أولاده كي يتعرفوا علي ويسلموا على صديق والدهم القديم  لقد كانوا في غاية الأناقة تظهر عليهم أبهة الغنى وآثار النعمة بادية للعيان قدمهم والدهم لي بمزيد من الفخر :

هذا الكبير شادي ونناديه شوشو وهذا جان ونناديه جوجو وهذه ليان ونناديها لولو قلت يا سلام  ــ وأنا أضحك ــ لاشك أنت هش هش أليس كذلك ؟ قال : بالضبط هكذا يناديني الأولاد بابا هش هش وضحكنا بل تصنعنا الضحك ثم بدأت سؤال الشابين عن دراستهما وأين وصلا فوجدتهما كأبيهما لا يلقيان بالا إلا للمصروف الباذخ الذي يتقاضيانه من والدهما وعن طريقة إنفاقه ومكان صرفه في ( كافيتريا كذا... وكباريه كذا.. )

أما البنت لولو فكانت ترفل في أثواب الدلع والجمال الاصطناعي المتعوب عليه جدا  وكانت في حديثها المقتضب معي تختار العبارات الأجنبية بلهجة ممجوجة نفر منها سمعي وعقلي  فقلت في نفسي : الحمد لله على الصحة والعافية

وملعون أبو الغنى والمال إذا كان سيودي إلى هذه الحال )  وبعد ( الميرسيه والهاي والجود باي ) خرجوا وبقينا وحدنا فسألني : ماذا تعمل يا ناظم ؟ قلت له: كما تعلم أنا اخترت طريقي منذ البداية  انتسبت لدار المعلمين وتخرجت معلما وما زلت في هذه الوظيفة , قال: كيف أحوالك ؟  كيف تتدبر أمورك ؟ هل الراتب يكفيك ؟ثم عاد للحديث عن نفسه وعن بذخه ومقدار مصروفه اليومي , وأشد ما ساءني منه كلمة كان يتلمظ بها وهو يلفظها   : أنا مصروفي اليومي على نفسي فقط يساوي راتبك الشهري بكامله )

قلت في سري : يـــاه ... لقد صارت الدماء تغلي في شراييني ولا بدّ لي من الانصراف قبل أن أصاب بداهية  أكبر من هذه الداهية التي أنا فيها فاعتذرت بالحاح وخرجت وأنا أتنفس الصعداء وقد نسيت أن أطلب منه زيارتي ولو مجاملة

  ولا ادري لماذاتمّثل أمامي صديقي الآخر فؤاد فأخذت أحدث نفسي وانا أسير في الشارع : أعوذ بالله هل أزور فؤاد أيضا !! هل هو مثله أم أحسن حالا أم أسوأ ؟

مالي وهذه الترهات سأذهب إلى بيتي إلى عشي وأمتع نفسي مع أولادي وعيالي . فهم الثروة وهم الغنى وهم المال ثم قلت والفضول يجذبني في كل لحظة إلى جهة : لقد وعدته ولا بأس من زيارته فإن فؤاد لا شكّ مختلف عن هشام , فحملت عصا الترحال ويممت باتجاه فؤاد الذي كان يسكن في الجهة الأخرى من المدينة على مسافة ركوب حافلتين

 وبعد عناء انتظار الحافلة وزحمة الركاب وصلت إلى حيث حدد لي المكان , مكان سكناه وكان وصفه لي دقيقا بحيث وصلت إلى البقالة التي أشار لي وسألت البقال فأومأ لي الرجل بيده وأشار بأصبعه إلى باب الشقة التي يسكنها فؤاد وما إن رآني في الباب حتى صاح من الفرحة :  من ؟ ناظم .. أهلا وسهلا ثم ضمني وشمني حتى أخجلني ثم أدخلني إلى شقة متواضعة إلا أن كل شيء فيها جميل ومرتب يبعث على الاطمئنان وراحة النفس ويدلّ على ذوق رفيع , ودلفنا معا إلى غرفة لا تختلف عن باقي الشقة في بساطتها وأناقتها وهو لا يفتأ يرحب بي ويؤهل

لقد بدأنا نتذكر الماضي وأيامه ونقف على شاطئه ونغوص في أعماقه ونحن نرشف القهوة التي خيّل إلي أني لم أتذوق مثلها من قبل لذة وطعما ونكهة  ولما سألته عن حاله وإلى أين وصل قال : الحمد لله لقد درست المحاماة  وأنا أعمل الآن محاميا والحال مستورة تزوجت وعندي ثلاثة أولاد ( محمود .. وفاضل... وحسام ) هم خير ما في الدنيا بعد التقى والعافية وأمهم خير منهم .

يا سلام ... ما شاء الله .. لقد أعجبني شرحه وبيانه بحيث أنني لم أستطع أن اعقد في مخيلتي مقارنة بينه وبين هشام ذلك المنغمس في الغنى والمال , فقلت له مجاملا : وأنا كما تعلم اخترت التعليم وأنا سعيد  بهذه المهنة والحمد لله وكذلك تزوجت ورزقت بولدين وبنتين هم ذخري في الحياة بعد تقوى الله كما قلت  والحمد لله

ونحن غارقان في استذكار الماضي واستعراض الحاضر إذ دخل علينا الفتيان الثلاثة او قل الأمراء الثلاثة ما شاء الله

فأسرع قائلا : هؤلاء الأولاد الذين حدثتك عنهم , سلموا على عمكم ناظم يا اولاد إنه صديق قديم وأخ غالي من أيام الدراسة الأولى .

سلّم الأولاد علي الواحد تلو الآخر بأدب جم وجلسوا بهدوء بينما راح الوالد يقدمهم لي : هذا الكبير محمود وهذا فاضل  وهذا الصغير حسام , قلت : ما شاء الله  بارك الله لك فيهم ونفعك وأقربهم عينك , التفت إلى محمود مجاملا وسائلا :كيف حالك يا محمود   إلى أين وصلت في الدراسة ؟ قال ولم يرفع نظره عن الأرض : أنا الآن سنه اولى في كلية طب الأسنان , قلت : وأنت يا فاضل ؟ قال : انا في الثاني ثانوي علمي , وأنت ايها الأمير حسام ؟ قال : أنا في الأول ثانوي علمي أيضا قلت : ما شاء الله   بارك الله فيكم  ونوّر دربكم وكتب لكم النجاح مطردا بفضله وكرمه

مع كل هذا ما يكاد هشام يغيب عن خيالي حتى يعود هو وأفراد أسرته فأقول : شتان .. شتان بين اولاد الغني والمال وأولاد القناعة والرضى والدين

لقد لاحظ صديقي فؤاد شرودي بين الفينة والفينة فسألني عن السبب فاغتنمتها فرصة كي استأذن منه متعللا بان أهلي لا يعلمون مكاني وقد تأخرت عليهم  ووعدته بأن أعود لزيارته في القريب العاجل بإذن الله دون أن أنسى التأكيد عليه لزيارتي أيضا وخرجت وأنا في سعادة لاتوصف أتقلب في فسحات من الإعجاب وأجواء الرضا والأدب الرصين.