الحلم والحقيقة

محمد عميرة – القدس

[email protected]

تبدو إحدى قرى مدينة إيلياء مظلمة في شمس نيسان - مثل أخواتها في ربوع الأرض المباركة  - بسبب سحابة سوداء بطيئة الحركة منذ عقود ، وفي إحدى بطون أودية هذه القرية الخضراء الجميلة ذات الطرقات الكثيرة الضيقة والمتعرجة ، وبين بيادر القمح وأشجار التين والزيتون والبيوت ذات القباب القديمة التي اقتبست شكلها من حضارة ولّت لكنها حتما ستعود بإذن الله ترعرع الشاب وحيد .

وكان وحيدٌ وحيدا في كل شيء ؛ في أفكاره وفلسفته للحياة وعشقه وخياله وحتى شكله ، لكنه لم يكن وحيدا في وحدته .

ومن ينظر إليه يشعر أنه يألفه ، وبالرغم من أنه في مقتبل عمره إلا أنه يبدو أكبر  لقد أثقلت عاتكه تجارب الحياة وتعاستها وظروف بلاده ،  وبلادة القرى المجاورة الراقدة والتي تستمتع وترقص على معاناته ربما لأن همها الوحيد من سيفوز بكرة القدم .

لم ير في حياته ما رآه أترابه من فرح وبهجة وأحلام الربيع ، بل رأى الوجه الآخر لها منذ نعومة أظفاره وتساءل : هل نعيم الإنسان في شقائه ؟ على كل حال فعنده الإستعداد لمواجهة المزيد من الشقاء مستأنسا بمقولة أن الأعشاب التي تنمو في حرّ الشمس ومواجهة الرياح هي أشدّ وأقدر تحملا من الأعشاب التي تنمو في بيوت الزجاج والظل .

أيامه التعيسة ولدت أياما أتعس تعوّد منها القسوة ، ومن قست عليه الأيام والليالي فلن يتأثر بقسوة الناس عليه الذين تحتضنهم تلك الأيام والليالي .

كانت نفسه ممتلئة بالمعاني التي لا يستطيع ترجمتها إلى كلمات لأنه لو فعل لفقدت معناها ؛ لذا في نفسه أبقاها باقيا أكثر وقته صامتا في وحدته تحت ظل شجرة أيامه القليلة الأوراق والظلّ يفكر كيف جاء الإنسان إلى الدنيا باكيا والناس حوله فرحون به وكيف يغادرها صامتا والناس حوله باكون ، فالحياة ربيع وخريف وكتلة متناقضات ، ثم ما يشغل فكره هل نحن في الكون العظيم كله هذا لوحدنا أم أن هنالك مخلوقات أخرى تقبع في مكان ما خلف زماننا ومكاننا ، وحتى لو كان ذلك فكيف الوصول والإتصال ؟.

وهل يوجد في العوالم الأخر ظلم وسفك دماء للمسلمين كما على كوكبنا والعالم الظالم ينظر ويصمت على الظلم والقهر .

كان وحيد ابن الربيع في ثوب الخريف ذو نفس خضراء وقلب رقيق شاعري وجسم قويم وعقل مثقفٌ عاشقٌ للمعرفة ، فاختلط حسن ظاهره بباطنه ؛ لكن مسحة الكآبة الصامتة في عينيه والحزن المعكوس من داخل نفسه على وجهه هما الخريف الذي حجب ربيعه ؛ ربما بفقدانه شيئا عزيزاً لبس هذا الثوب . وهذا الشيء المفقود هو أحد أسرار ذاته المعنوية وعزاؤه أن شعبه فقد ما هو أغلى منذ عقود .

السراب

جلس وحيد في إحدى دروب الحياة في الجهة الشمالية منها غارقا في وحدته ومستمتعا بشعوره أنها تخفف من كآبته ، وبينما هو كذلك وقعت عيناه على التي ظنّها ليلاه وأنها مهديّهُ المخلص ؛ كانت فريدة وليست كأترابها فيها جمال عنفوان الربيع وشجاعة الفتى وعيون المها وسرّ الشرق وسحره .

كما يطير الطفل فرحا بلقاء أمه وكما يطير الغريب بأرض الغربة فرحا بلقاء صديق حميم قديم ، وكما الأسير يطير فرحا  بتحريره من قفصه وعذاب سنينه ؛ طار بها وحيد فرحا .

هل ساقتها الأقدار إليه أم أنه نداء الطبيعة والفطرة ، فقد رأته وحيدا واستقطبها انزواؤه فحامت حوله كفراشة استقطبها نور بدر حزيران ثم غازلته مغازلة أنثى حديثة عهد بغزل ، ورمت قلبه بسهم حاد  مُزيّنة هذا السهم ببسمة خفق قلبه لها خفقة استقبلها قلبه للمرة الأولى .

ومضت ولم تتكلم وأي كلام أبلغ مما فعلت ! صحا وحيد من سكرته التي مرّت في ثوانٍ عديدة وتنهد بحسرة ؛ إذ كيف السبيل إليها ومن هي ؟

بعد عودته أطفأ النور ربما لأن نفسه استنارت بأحلام وردية ولم ينم إلا قليلا ، وفي الصباح سأل بعض جيرانه عن أوصافها فحزن ، فقد كانت من قرية مجاورة لقريته وهي على خصومة مع قريته ومن المحال أن تكون له .

اسودت الدنيا تارة أخرى في نفسه ولكنه تجلّد ، ومضت الأيام ثم عاد إلى المكان الذي رآها فيه لعلها تمر به ، وقد حدث . فصار يقبض انامله ويطلقها ويتساءل : ماذا سأقول لها ؟ كيف أبدأ بالحديث لكنها بادرته بالسلام فسلم على استحياء وأخبرها عن اسمه وقريته فحزنت لأن أباها سيرفض بشدة وودعته متاسفة ومحزونة .

وهكذا انتهت قصة حب قبل بدايتها ومضى كل في طريق ، لكن جسده الذي مضى فقط ، وروحه ظلت متعلقة بها .

ومضت الشهور والسنين ، وكان يتعذب بعشقها فهو يريدها هي وأين يجد مثلها ؟ حاول نسيانها فلم يستطع بل ازداد بها غراما . وهي ربما لا تعلم ولا تشعر به .

شيء صعب على الإنسان أن يرى أملا يحسبه الأمل الأخير له ويعتقد أن سيحققه فيـُخذل ، كالظمآن في الصحراء يرى ماءا فيها ولمّا يصله لا يجد شيئا بل كان سرابا .

العمل

قرر وحيد في هذا اليوم أن يسير في الزحام مع الأنام لعله ينسى فتاته ، ربما العمل أنسب شيء للنسيان وأن يرضى بما كتب الله له ، لكن أكثر الناس يبدون ساخطون فالسّمناء يريودون أن يصبحوا نحفاء والنحفاء لا تعجبهم نحافتهم وذات الشعر الأسود تصبغه بالأشقر والشقراء تصبغه بالأسود وذو الشعر الأجعد يملسه وذو الشعر الأملس يجعده ! ماذا اصابنا ؟ أليس الله اختار لنا أشكالنا فهو أحسن الخالقين ويختار لنا ما هو أنسب لنا . فكأن هذا التوتر الخارجي والصخب في الأعراس كذلك يعكس توترنا الداخلي وضعف إيماننا .

على كل حال كان وحيد يستغرب وجود هذة الفئة من الناس لكن حب الفضول ومحاولة تغيير حياته دفعاه لمخالطتهم .

جلس آخر النهار فوق تلة مليئة بالأشجار هادئة حيث فقط همس الورق بسبب مغازلة نسيم الهواء العليل له وفوقه سماء زرقاء صافية زينت زرقتها وسكونها أسراب أطيار تمرح في بحر الهواء . هنا اختار الجلوس بعيدا عن الأنام ، ولسوء الحظ مرّ به راعي أغنام فدفعه حب الفضول إلى التحدّث مع وحيد فدنا منه الراعي المتفرس وسلم عليه وجلس بقربه ونظر في وجهه وقال : أرى على مـُحيـّـاك الصبيح مسحة من الكآبة ممزوجة بشيء من الجَلّد ، وعيناك – والعينان مرآةُ النفس – غريبتان غامضتان فمن أنت ؟

أجاب وحيد مبتسما ابتسامة خفيفة : أنا ابن الحزن الدفين في أعماق نفسي منذ سنين .

قال الراعي : لا بدّ أنك أضعت شيئا عزيزا يرحمك الله يا فتى ؛ فما هو عسى أن أساعدك ؟ وخاصة أننا في زمن ضياع البلاد والعباد ؟

قال وحيد : نعم يرحمني ويرحمك الله أنا انتظر هذه الرحمة وأظنها قادمة وظنّي إن شاء الله هو ظنّ الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم . لقدت فقدت نفسي نصفها وعقلي وقلبي كذلك فأنصافي تبحث عن مُتمّماتها على أرض ضاعت منذ عقود لكنها ستعود .حينئذ قال الراعي مغادرا : إما أنه مجنون يهذي أو أني لم أفهمه لأنني استطعت أن أقرأ في وجهه للوهلة الأولى مسحة الكآبة ؛ لكن مرآة نفسه بدت لي غريبة .

 في اليوم التالي وقبل بزوغ شمس الصباح الذهبية أفاق وحيد من نومه على زقزقة العصافير متمنيا أن يفيق على صياح الديكة ، ثم فتح النافذة المطلة على التلال والوديان مغتبطا بهذا الهدوء الذي يستمتع به والناس نيام ومتأملا هذا الفجر الذي سيليه الشروق الذي رآه طالما يشرق ، وفجر نفسه لم يشرق بعد . أفاق مرة أخرى لكن من تأملاته مقررا البحث عن عمل وأن يسير حيث تسوقه قدماه لعله يجد عملا ليوم واحد فيكفيه شهرا ، وانتشر مع السّاعين في مناكبها ، وأوقفته قدماه بعد طول مشي أمام بيت كبير من طابقين الثاني منهما غير مكتمل البناء والأول مكتمل ويبدو كالقصر .

أمام هذا البيت توجد كمية من الحجارة الرخامية ويبدو أن صاحب هذا البيت قد عاد من أمريكا بعد طول غياب ،  ويريد إكمال الطبقة الأخرى كما يبدو ثريا .

التفت وحيد فرأى صاحب البيت يسقي الزهور في الحديقة ويحتسي فنجانا من القهوة بيده الأخرى فرد عليه السلام وسأله إن كان يريد عاملا .

أجاب صاحب البيت  ببساطة  وثقة : نعم أريد عاملا يرفع لي هذه الحجارة إلى الطابق الثاني .

سأل وحيد : كم مترا هذه الحجارة الجميلة – ما شاء الله - ؟

ردّ صاحب البيت : مائة متر وكل متر ترفعه أعطيك نصف دينار يعني خذها مقاولة بخمسين دينار فهل توافق .  نظر وحيد إلى الحجارة نظرة تحدّ ساخرة وقال : بالطبع موافق .

بدأ العمل متأكدا أنه سينتهي منه في أسرع وقت ممكن فهو يحب عمل المقاولات ، وأثناء عمله جرح جرحا بسيطا فجلس يضمده ورآه صاحب البيت فأسرع إليه بالدواء وجلس بجانبه وقال له : استرح قليلا العجلة من الشيطان هل أنت حزين من هذا الجرح هل يؤلمك ؟ قال وحيد : لا ليس من جرح الجسد أحزن وأتألم فهو يلتئم بسرعة ولطالما جرحت مع أترابي أثناء اللعب فالتأمت جراحي لكن جروح النفس لا تلتئم .

قام صاحب البيت وأحضر له عصير البرتقال معجبا به ومتعجبا منه  وموصيا إياه

بالحذر أثناء العمل  فشرب الكأس وكانت الشمس قد توسطت السماء ، ولما مالت الشمس نحو الغرب كما الغزالة بعنقها نحو وليدها أنهى وحيد عمله ، وأراد صاحب البيت أن يعطيه ضعف الأجر لكنه رفض بشدة إلا أن يأخذ حقه فقط كما الإتفاق فأخذه وانصرف شاكرا ومشكورا .

لم يتعب وحيد من العمل إنه يحب العمل الشاق فكلما ازدادت المشقة ارتاحت نفسه كأنه يخفي وراء هذا سرا ... ربما نفس السر الذي لا يجعله يتألم من جراح الجسد .

أو ربما ليشغل فكره عن آلام نفسه فيوجهها إلى آلام جسده فكأنها أخف عليه من آلام نفسه تماما عكس الذي يجرح في جسده فيُشغِل فكره بشيء آخر لينسى جرح جسده

ويمكن شفاء جراح النفس بعد أن تدوسها عجلة السنين الطوال بمساعدة كابح الذاكرة فتلتئم تلقائيا.

وتمضي الشهور ويأتي أيلول .

الرؤيا

أقبل شهر أيلول على الناس فللأرض فيه رائحة سحرية خاصة بعد أول شتوة فيه ، وكان وحيد ينتظر هذا الشهر اللطيف ليذهب في رحلة مع نفسه إلى ما وراء الطبيعة أو إلى شاطئ البحر ، وكان قد أعدّ مساءا حقيبة جعل فيها بعض متطلبات الرحلة ، ولم ينس القلم والورقة لعله يرى في الطبيعة ما يوحي إليه بفكرة أو خاطرة جميلة يغذي بها فؤاده ، وكذلك جعل في الحقيبة علبة عصير ورغيف مع تمرات تغذية ً لجسده .

وفي  الصباح وبعد احتساء فنجان من القهوة الصهباء انطلق إلى الشاطئ ، ولما وصله كانت الشمس قد ارتفعت قليلا في السماء .

وعلى قارب صغير قديم قرب الشاطئ اختار وحيد الجلوس ليستريح ويتأمل البحر والسماء فتمدد على القارب وما كاد يفعل حتى أخذته سنة من النوم ثم صار في سبات .

وفي منامه رأى أنه يسير في طريق ضيق يؤدي إلى كوخ على رأس جبل فدفعه حب الفضول إلى الصعود إلى هذا الكوخ الغريب الوحيد ، فنفسه الغريبة تألف الغرابة فسار في هذه الطريق حتى وصل باب الكوخ فطرقه،وفتح له الباب شيخ كبير ورحب به .

قال وحيد بعد التحية : حب الفضول وغرابة هذا الكوخ ووحدته في هذا المكان دفعاني إليه .

قال الشيخ : أهلا بك على كل حال أيها الفتى ، فقد اشتقت إلى الحديث مع الناس إجلس واحكي معي أي شيء .

ارتاحت نفس وحيد لهذا الشيخ الطيب وأفرغ كل ما في نفسه في جعبة الشيخ ، وأخبره عن ليلاه التي فقدها ، فربما يجد عنده بعض العزاء ولو بكلمات قليلة فالشيوخ قد مرت عليهم وجوه العبر وتجارب الحياة .

قال الشيخ : شيء عجيب غريب ما تقول ، فلقد جاءتني فتاة هاربة من تقاليد وعادات زمنها قبل سنة وتشكو ما تشكوه أنت وتبحث عن فتاها لعلها تجد به ما يعوضها عن كل شيء فاتخذتها بنتا لي وقد ذهبت قبل مجيئك إلى النبع لتملأ الجرة ماءا فيا لعجائب القدر .

كان وحيد قد عزم على مغادرة الكوخ قبل أن يخبره الشيخ عن هذه الفتاة ولكنه عندما سمع ما سمع صمّم على البقاء حتى عودتها .

قال الشيخ : استرح واشرب كوبا من لبن وأنا أريد الخروج قليلا لبعض شأني فانتظرني حتى أعود .

قال وحيد : في رعاية الله سأنتظر .

جلس وحيد في الكوخ وروحه هائمة خارجه ودقات قلبه تُسمع من خارجه متمنيا عودة الفتاة قبل الشيخ ، وبعد مضي فترة من الزمان أبصرها وحيد حتى كاد يغمى عليه أما هي لما رأته فقد أغمي عليها ... إنها نفس الفتاة التي حامت حولة مرة كالفراشة ، الفتاة التي فيها جمال عنفوان الربيع وشجاعة الفتى وعيون المها وسحر الشرق وسره شيء عجيب غريب .

كانت قد هربت من أيامها تبحث عنه حتى وصلت هذا الشيخ بعد طول بحث فاستقرت عنده لعلها تنسى فتاها التي تناسته مرة ولم ينسها أبدا .

وبعد أن صحت من غيبوبتها كانت شاحبة قليلا حكى لها ما حكاه للشيخ وهي حكت له ما حكت للشيخ وبعد ذلك ودونما عتاب وكلام ألقى برأسه على يديه وذرف دموعا هي مزيج من فرح وحنين وشوق ولقاء وهي ذرفت نفس الدموع .

وبينما هما كذلك سمعا وقع أقدام الشيخ يقترب من الكوخ وطرق الباب فارتبكا فقالت للفتى بسرعة : سأنتظرك ... سأنتظرك عند القارب الآخر الجديد خلف القارب القديم على شاطئ البحر واختفت .

ثم صحا على الطـّـرقات التي ربطت الرؤيا بالحقيقة والحقيقة بالرؤيا ، إنها طرقات أحد المتنزهين على شاطئ البحر وليست طرقات الشيخ في الرؤيا على باب الكوخ ، وكان يطرق بالمجداف على قارب وحيد لينبهه ، ففعل .

وعندما نبهه من نومه وجد أن الشمس ما زالت مرتفعة قليلا في السماء ووجد آثار الدموع الغريبة على وجنتيه فمسحهما وذرف مكانهما دموع الحسرة والألم - رفيقه منذ سنين-  وتناول علبة العصير والتمر والرغيف فلم يستطع الأكل فأبقاهما في القارب وتناول ورقته وقلمه ليدوّن رؤياه وحين وصل في الكتابة إلى آخر الرؤيا وهي أنها قالت له سأنتظرك ... سأنتظرك على شاطئ البحر عند القارب الآخر الجديد خلف القارب القديم خفق قلبه والتفت خلفه . حقا يوجد قارب جديد ولكن أين هي ؟؟؟

مشى بترقُب وحذر إلى ذلك القارب ، وما إن وصله حتى وجدها خلفه ، حقا هي حقيقة وليست رؤيا ، إنها تلبس ثوبا بنفسجيا ، مدت إليه يدها ومد يده ، وعندما تلامست يداهما أدرك أنها حقيقة ، وذرفا الدموع التي ذرفاها في الرؤيا وطارا معا ينشدان أنشودة الأمل والفرح والمحبة  والحرية والسلام لكتابة عقدهما على أرض اللا حرب واللا  سِلْم.